الظواهر النفسية في الشعر العامي العراقي

(١) سادية المعشوق ومازوشية العاشق

المشكلة جروح الأعزاز أعزاز
من تنلجم بيهن صيح هنيالي

هذا البيت العامي الذي اشتهر كثيرًا، وأخذ الشباب ينشرونه على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، ويرددونه مستشهدين به أثناء حديثهم مع معشوقيهم وكذا أصدقائهم، هذا البيت وغيره كثير يعبر عن مازوشية متجذرة في الشخصية العراقية، وقبل التوسع في الموضوع دعونا نعرفكم بمصطلح المازوشية.

تعني المازوشية بمصطلحات الطب النفسي: اضطرابًا جنسيًّا يستهدف الحصول على المتعة الجنسية عن طريق الشعور بألم بدني أو نفسي أو كليهما، وهذا يعني أن المازوشي لا يحصل على اللذة والرعشة الجنسية إلا بعد أن يقوم الطرف الآخَر بإيقاع الألم فيه، وهو مصطلح يعاكس تمامًا مصطلح «السادية» الذي يعني أن الفرد لا يشعر باللذة إلا بالحاق الأذى والألم بالطرف الآخَر.

إلا أن هذا المصطلح لم يبقَ مقتصرًا على المسألة الجنسية، بل توسَّع فيما بعد وأصبحت له مصاديق عدة منها أن السادية تُطلَق على الحاكم الذي يستمتع حين يفرط في استخدام القوة تجاه شعبه، بينما المازوشية تطلق على ميل الفرد لأن يكون مظلومًا مُعرَّضًا نفسه للإهانة والإذلال.

نميل إلى الاعتقاد بأن السادية والمازوشية سلوكان مكتسبان يتم تعلمهما من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد، باستثناء السلوك المضاد للمجتمع (السيكوباث) الذي هو نوع من اضطرابات الشخصية، وتعود بداية نشوء هذين السلوكين إلى أساليب التنشئة الأسرية للأطفال، إذ تشير الدراسات على مستوى الأسرة العربية وليس العراقية فحسب إلى شيوع أنماط التربية المتسلطة التي تسعى إلى بناء شخصيات مطاوعة تميل إلى الإذعان والتبعية وتعويد الطفل العربي على الخضوع إلى الكبار وطاعة السلطة عبر أجواء أسرية تشيع فيها السلطة الأبوية الصارمة وأساليب قهر الأبناء والقمع النفسي والازدراء والاحتقار والسخرية والتهكُّم وخلق الإحساس بالدونية والشعور بالنقص (صالح، ۲۰۱۱، ۳۷).

كما أن النموذجَين الذين يمكن أن يقلدهما الطفل أو يتماهى معهما، يمثلان ثنائية: الأم «مازوشية خاضعة» والأب «سادي متسلط»، وبعد دخول الطفل المدرسة تبدأ أساليب جديدة لإخضاع الطفل وجعله فردًا مازوشيًّا، فالسلطة مطلقة للمعلم وإدارة المدرسة، وليس على الطفل إلا الطاعة والخنوع.

لكن الدور الأكبر في إشاعة المازوشية بين أفراد المجتمع العراقي يرجع إلى السلطات التي حكمت العراق طيلة قرون حيث تمتعت بشخصيات سادية لا حدَّ لها، استعملت شتى أساليب القتل والتخريب والتعذيب من أجل إخضاع الشعب لها، وإذلاله، وإجباره على السلوك المازوشي.

فالشعراء مواطنون تعرضوا لنفس ما تعرَّضَ له المجتمع العراقي بشكل عام، وقصائدهم بالتأكيد تكشف عن طبيعتهم النفسية وطبيعة مجتمعهم، والمتابع للشعر العامي العراقي يجد أنه يعلن صراحة عن وجود مازوشية عميقة. المُدهش أن هذه السمة تبرز بطريقة عجيبة في شعر الغزل إذ دائمًا ما يأخذ الشاعر شخصية المازوشي الخانع المتلذذ بالألم، ويعطي لمعشوقه شخصية السادي الظالم الذي يتلذذ بإيلام عاشقه:

منذور الك منذور كص باللحم كص
بالك تخلي الطير من ياكل يغص

وكذلك:

وصل بيك الصلف والبطر حد الطيش
تتدفه اعله ناري وتحرك احطامي

وأيضًا:

يمر كيضك واجرعه وعود أتاني اشتاك
يا حنظل حماد اناكض وانشته
لهسه مرورتك فوك اللسان تبات
عكده وكل حلو بهواك ما ضكته
صواهيد وعطش وفياي مامش بيك
لا بالكيض في ولادفو بشته

وأيضًا:

وانت بكل كتر باعضاي الك طعنات
ما ضل عضو مني صحيح ما دامي

لو تدبرت في الأبيات السابقة وجدت كيف أعطى الشاعر لحبيبه دور السادي الظالم العنيف المعذب وألصقه به!

وأيضًا:

سر الزعل وياك يمك دفنته
اتونس من ارضيك والعايل انته

وأيضًا:

شايف من تجيك الطعنة من احباب؟
هيج اجروحك تحس بيه روحية
اتصور تبتدي تشتاكَ للجتال
إذا جف التطعنك بيه حنية

في البيتين أعلاه يتلذَّذ الشاعر إيهاب المالكي بالجروح، ويعدها جروحًا رائعة، ويحاول أن يساعد المتلقي على أن يتخيل ويتصور روعة وجمال تلك الجروح التي تأتي من الحبيب.

ربما لن تجد قصيدة غزل خاليةً من الجروح والهموم والآلام والسكين والسيف والخوف وغير ذلك من المفردات، ورغم إرجاع عدد من المتخصصين المازوشية إلى سادية (ظلم) الأنظمة السياسية، فإن لسوء الحياة الاجتماعية الذي رافق التدهور الاقتصادي والسياسي دوره في تثبيت هذه المازوشية.

ويبدو السلوك المازوشي أكثر وضوحًا في مناسبات العزاء الحسيني، إذ يبدع الشعراء بسرد مأساتهم ومأساة شعبهم في تلك القصائد، ويزداد حزن الجمهور كلما كانت القصيدة قريبة من واقعهم، فالظاهر من تلك القصائد هو سرد مصائب الحسين (عليه السلام)، لكن المضمون يذكرهم بواقعهم شعوريًّا أو لاشعوريًّا، دليل ذلك: تفاعل الجمهور — صياحًا ونواحًا وضربًا على الصدور — مع الأبيات التي ترثي الشهداء، أو تبين الواقع البائس، فمثلًا نرى الجمهور يتفاعل بدرجة غير معهودة مع عدة قصائد من هذا النوع، كالقصيدة التي ردَّدها الملَّا مصطفى السوداني رثاءً للشهداء:

فارگونه … فارگونه …
الجانو بوسط العيون …
فارگونه …
من سفرهم هم يجون؟ … لو نسونه … لو نسونه.

وكذا القصيدة التي ردَّدها «حيدر العطار» والتي تنتقد السیاسیین وتبين الواقع المُر:

يا سياسيين ما عدكم مشاعر
ليش بلا شرف بعتوا الضماير
أدري بعتوا الدين بس شرفكم وين
بالله شتكولون للأجيال باجر

وقِس على هذا لتجد الكثير، إذ راج سوق القصائد المسماة ﺑ «القصائد السياسية» التي أخذ المنشدون يلقونها في مجالس العزاء الحسيني.

أتخطر أن الشاعر جابر الكاظمي عاب على الشعراء العاميين كتابتهم لهذا اللون من الشعر، محتجًّا بكلام مضمونه «أنحن نضرب صدورنا على الحسين؟ أم على مصائبنا نحن في أيام مصيبة الحسين؟» وهذه التفاتة جميلة في الواقع تذكرتها وأنا أكتب هذا المقال.

كما نرى الشعراء كثيرًا ما يعودون لشرح القضية الحسينية أثناء رثائهم بقية الأئمة، هذا لأن الآخَرين استشهدوا بالسم بصورة فردية، وبالتالي لا تمكن الشعراء من شرح مصيبتهم داخل القصيدة، فتراهم يكتبون المقطع الأول عن الباقر عليه السلام (حفيد الحسين الشهيد) مثلًا ثم يبحثون عن ثغرة يذهبون منها لسرد مصائب الحسين التي هي في الحقيقة مصائبهم، فالقضية الحسينية إبادة جماعية، قتل فيها الأطفال والشيوخ، وسبيت ورملت النساء، وهذا يشابه واقعهم الذي يعيشونه كلَّ لحظة.

فيما اتَّجه بعض الشعراء إلى التضمين، فالقصيدة التي يكتبها عن مصيبة الحسين أو غيره من الأئمة يُضمِّنها مقطعًا يصف بها مصائب البلاد ويقارنها بمصائب الأولياء، أو دعاء لرفع الهم، فيتفاعل الجمهور مع هذا المقطع أكثر من تفاعله مع أي مقطع آخَر في القصيدة.

(٢) التباهي بالحزن

لعل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح أول مَن التفت لوجود الحزن المرضي في الشخصية العراقية، بل استدلَّ ببعض الأبيات الشعرية باللهجة العامية على وجود ذلك التباهي، لكني سأحاول في هذا الموضع أن أتوسَّع في الموضوع أكثر.

إنَّ الحزن بوصفه انفعالًا هو إحساس أو مشاعر أو وجدان ينجم عن عوامل متعددة منها معرفية تتعلق بتفسير الفرد للحدث المسبب للحزن وكيفية تعامله مع انفعالاته في المواقف التي تقدح فيه، وذاتية تخص الحالة الوجدانية للشخص، وفسيولوجية تتعلق بالجهاز العصبي الذاتي وما يحدث من إفرازات داخلية وما يطرأ على الوجه من تعابیر (صالح، ٢۰۱۱، ٧٤).

والحزن بوصفه حالة داخلية تُقرِّره بدرجة أكبر طبيعة الحياة النفسية والمزاجية للفرد، وسماته الشخصية وتجاربه الحياتية عبر الزمن الذي عاشه (صالح، ٢٠١١، ٧٤).

ويصبح الحزن مَرَضيًّا إذا استمر لأكثر من ستة أشهر، حيث تظهر لدى المريض اضطرابات مصاحبة من قبيل الاكتئاب والوسواس القهري والتحول الهستيري وتوهُّم المرض والوهن العصبي، وتظهر في بعض الحالات الهلاوس السمعية والبصرية، خاصةً عندما يكون الفرد قد فقد عزيزًا عليه، وأخذ يركز على ذكرياته معه، فتغدوا حيةً في مخيلاتهم، وقد يستعيدون مشاهد منها خلال نومهم، كما يتوهمون أحيانًا رؤيته في البيت أو الشارع، أو يسمعون صوته، وغالبًا ما ينجم عن ذلك مشكلات أسرية واجتماعية.

ينفرد المجتمع العراقي عن بقية المجتمعات المعاصرة في أنه تعرَّض لثلاثة حروب طاحنة خلال أقل من ربع قرن بدءًا من الحرب العراقية-الإيرانية عام ١٩٨٠م، مرورًا بحرب الكويت عام ١٩٩١م، فالحرب الأخيرة عام ٢٠٠٣م، ثم حروب العنف والاحتراب الطائفي والإرهاب ومقاومة الاحتلال والتهجير والهجرة للأهل والأحبة، فضلًا عن ثلاث عشرة سنة من الحصار تخللها انهيار النظام الصحي وعودة الأمراض الوبائية، نجَمَ عن ذلك كله آلاف القتلى والجرحى والمرضى (صالح، ۲۰۱۱، ۷۷).

يُضاف إلى ذلك تدهور الحياة الريفية، وهجرة أهلها إلى مراكز المدن، تلك الهجرة التي ترتَّبت عليها مساوئ كثيرة أهمها الاكتظاظ السكاني وقلة فرص العمل، فأحبط الشباب، وانتشرت البطالة، وشاع الفقر، والفوضى الأمنية والأخلاقية، كل ذلك أدى إلى نتيجة أخطر، هي الحزن والقلق المستمر من المستقبل، فالعراقي أخذ يشعر بأنه قد يمرُّ عليه يوم لا يحصل فيه على قوته.

كما أن زيادة التوجُّه نحو الدراسة، وكثرة الخريجين، قد تسبَّبَ بوجود أعداد هائلة من المحبطين المنتظرين الحصول على وظيفة حكومية، مع انعدام القطاع الخاص، أو عدم وجود نظام صارم يُنظِّم العمل فيه ويُعطي ضمانات للعاملين، إضافةً إلى شعور الخريج بالذل إذا ما عمل بمهنة يعتقد أنها لا تناسب مستواه العلمي.

«فالعامل لم يعُد يرغب أن يبقى عاملًا، والفلاح لم يعُد يرغب أن يبقى فلاحًا، وآخر البرجوازيين لم يعد يرى لأولاده من مهنة ممكنة إلا أن يصبحوا موظفين ذوي رواتب لدى الدولة … والدولة التي تخرج بواسطة الكتب المدرسية البائسة كل هؤلاء الطلاب لا تستطيع أن توظِّف منهم إلا عددًا قليلًا وتترك الآخرين بدون عمل» (لوبون، ٢٠١٦، ۱۰۸) بينما يبقى البقية وهم الغالبية ناقمين على الدولة، منهم مَن أُحبِط وأُصِيب بالحزن المَرَضي، ورضيَ بأن يعمل بأية مهنة بسيطة، والأكثر بقوا يتأملون وظيفة حكومية فاختاروا أعمالًا وقتيةً لا تعطيهم أكثر من قوت يومهم.

كل هذا يعني أن الحزن رفيق للفرد العراقي طوال حياته، ما جعل هذا الشعب يتباهى بحزنه «فما أن يبدأ أحدهم بالشكوى من همٍّ أو ضيق حتى يبادره صاحبه بل يقاطعه قائلًا: أنت زين، لكن لو تشوف آني ويستمر مسترسلًا يروي بألم أكثر ما حلَّ به، وبدراما تصور للمقابل كأن مصائب الدنيا وقعت فوق رأسه!» (صالح، ۲۰۱۱، ۷۹).

وبما أن الشعر ظاهرة فنية لها بُعدان: نفسي واجتماعي، يتأثر ويؤثر في الفرد والمجتمع، فإن الشعر العراقي يكشف صراحةً عن حالة التباهي بالحزن، ومدى تغلغلها داخل نفس الفرد، والاستشهادات كثيرة لكني سأكتفي ببعض الأبيات.

في مهرجان مملكة الدارمي في محافظة الديوانية اعتلى المنصة شاعر سرد قصةً لشخص اسمه «جحيش» سافر إلى مدينة بغداد، لقلة فرص العمل في مدينته، بينما بقي ابن عمه «عبد» في المدينة قابعًا تحت وطأة الفقر، فأخذ الناس ينصحونه باللحاق بابن عمه «جحيش» بدل بقائه خانعًا تحت ذل الفقر، فأرسل «عبد» رسالة إلى «جحيش»:

عركي وي وكتي متيم ما منه عطلة
نوبة انمطل يجحيش نوبات امطله

فرد عليه «جحيش»:

يا عبد وكتك زين وتمطله نوبات
ما تنشد اعله جحيش خلصه عضات

وكأن «جحيش» استحى أن يكون أقلَّ حزنًا من ابن عمه، وأقل ألمًا وخوفًا، فبادره ببيت أحبطه، وأصابه باليأس، وما يثبت صدق النظرية (التباهي بالحزن) هو أن الجمهور تفاعل مع القصة وأبياتها تفاعلًا غير اعتيادي، إذ ضاع صوت الشاعر بسبب التصفيق والصفير، وأخذت تأتيه عبارات الامتداح من كل الجهات (أحسنت، أعد، الله … إلخ)، بل كان الجمهور يتفاعل مع كل بيت فيه ألم شديد أو حزن أو جرح أو خيانة، طيلة فترة المهرجان.

وهناك نماذج أخرى كثيرة نستدل بها، منها ما قاله الشاعر «إيهاب المالكي»:

تره من اضحكت مو يعني كلبي بخير
مرات الخلك تضحك من الصدمة
ومرات الدمع ما يلكه فرصة يطيح
تره الفشلان بجيه اشفاف متبسمة

هنا يخجل الشاعر أن يظهر بمظهر السعيد، فينكر تلك السعادة البادية على محياه، ويبرر: بأنه يُخفي دموعه وهمَّه وغمَّه بسبب عدم وجود الفرصة لظهورها، وما تلك البسمة إلا بكاء خجول.

وأيضًا (صالح، ۲۰۱۱، ۷۹):

ما تدري بي الناس، العلة خفية
بالكلب سبع ازروف ويلاه يخيه

وبدل أن تواسيها صاحبتها وتهون عليها مصيبتها، وتشعرها بالأمل، أجابتها:

هنيالك بدنياك بس سبعة إزروف
كلبي منخل صار بيه العمى يشوف

إنها مباراة بالحزن، كأن كلًّا منا يتحدَّى صاحبه: سأروي لك حزني، وأنت تفعل الشيء نفسه، والفائز هو أيُّنا أكثر حزنًا، وسيحصل الأكثر ألمًا على جائزة عظيمة!

ليت التباهي بالحزن انحسر بلون مُعيَّن من الشعر، فهو أصبح سمةً عامةً للشعر العامي تجده في قصائد الغزل والرثاء، والشعر الوجداني والسياسي، بل حتى الشعر الحسيني اتخذوه وسيلةً لسرد آلامهم وهمومهم في حالة من التباهي.

الأدهى أن شاعر العامية لا يغيض عدوه أو خائنه بأنه سعيد ويعيش بخير، وأن عداوته لم تؤثر فيه، ولم تنغِّص عليه حياته، بل على العكس تمامًا، إنه يسرد «لخائنه وعدوه» مصائبه وهمومه والحروب التي جرت عليه، ثم يتباهى مشيرًا إلى أنه ليس مخلوقًا للهو واللعب والضحك، وإنما رجل مغوار خُلق للحرب والقتال، وأن أمه «أرضعته البارود وهو بالمهد»، بل أنه «مولود مع الشاجور»، وأنه لا يضحك إلا في الحرب حين يقتل عدوه، أو حين يستقبل الرصاصة بصدره كي يذهب إلى الجنة! وأن الحزن «مفصَّل عليه تفصال»!

أنا ابن العاصيات من الليالي السود
ما أريد الكماري ولهن يردني
إرضعتني أمي بدمعه من عرفت الصوت
وغطتني بحزنه من مشت عني

وفي تجربة قمتُ بها طلبت فيها إلى خمسة من الشعراء الشباب اخترتهم بشكل عشوائي أن يكتبوا قصائد حزن وألم، تُصوِّر واقعنا، ومنحتهم فترة أسبوع كامل، لكن الذي يكمل قصيدته يرسلها في وقتها ولو قبل نهاية الفترة، فما إن انقضت المدة حتى بدأ الشعراء بإرسال قصائد رنَّانة تصوِّر واقعنا بأبشع ما يكون، ثم طلبتُ منهم كتابة قصائد فرح وأمل، شرط ألا تحتوي على المفردات «سيف، خنجر، ألم، خوف، سكين، رمح، جرح، إلخ» فتركتهم، لتأتيني القصائد بعد أسبوع، ولما طالعتها، وجدتها قصائد ضعيفةً، قليلة أبياتها، فيها صور مُكرَّرة وتوارُد، وأنه لمن حقِّ هؤلاء ألا يستطيعوا كتابة قصائد فرح رنانةً، لعدم وجود صور لخبرات سعادة عاشوها بصدق، وقد ذكرتني هذه الدراسة بأختي الصغرى الحاذقة، التي جاءتني يومًا، وقالت ما مضمونه:

إني حزينة جدًّا، وأنت معالج نفسي كما تدَّعي، أريدك أن تعالجني، فقلت لها اجلسي على هذا الكرسي، وأغمضي عينَيكِ، ففعلَتْ، وطلبت لها أن تتأمل حديقةً جميلةً، فيها زهور وعصافير وبلابل، وأخذتُ ألقي لها عبارات توحي بذلك، فضحكت وقالت: «أنت بطران أني ما شايفه غير الزبالة (القمامة) اليمنة والحديقة الوسخة مال الحي، شلون تريدني اتخيل حديقة بيه بلابل وعصافير وورد.» فضحكت أنا أيضًا.

ولا ينبغي أن ننسى حقيقة أن كتابة أي لون شعري يحتاج إلى ممارسة ودربة، وأن شعراءنا لم يتمرَّسوا على كتابة هذا اللون من القصائد، فكل قصائدهم همٌّ بغمٍّ، كما أن الحقيقة التي يجب ألا نغفلها هي أن المفردات التي تمر على الذهن كثيرًا، تتعلق في الذاكرة، ويصبح استدعاؤها سريعًا جدًّا، جاهزة للاستعمال في أي وقت، والفرد العراقي منذ طفولته يتعرض عقله لشتى مشاهد ومفردات الحزن والألم والعنف سواء من الأسرة وطرقها الخاطئة في التربية، أو من المدرسة، أو حتى من المجتمع ووسائل الإعلام التي يشبُّ عليها، وإذا ما تقدَّم في العمر قليلًا زاد تعرضه للحزن، سيما إذا ما تابع أخبار بلده التي «تهبط ضغط الدم تارةً وترفعه أخرى».

والشعر كظاهرة فنية لا يكتفي بالتأثُر بما يمرُّ به المجتمع، بل يؤثر فيه أيضًا، وفي هذا الصدد أجريت دراسة نفسية على مجموعتين من الناس، الأولى تهوى الشعر وتسمعه كثيرًا، بل امتلأت صفحاتهم على الفيسبوك بأبيات الشعر العامي، أما المجموعة الثانية فهم لا يهتمون بالشعر، ولا يتابعونه إلا قليلًا، فخرجت بنتيجة مفادها، أن المجموعة الأولى تعاني من الحزن وتقلُّب المزاج، وسرعة الغضب، وكثرة الشك بالآخرين ولما سألتهم سؤالًا: لماذا تطربون لقصائد الحزن؟

أجابوا: هي حياتنا شبيه غير الحزن؟!

أي إنهم ينظرون إلى الحياة بسوداوية، وقد وصف الدكتور قاسم حالة التباهي بالحزن نوعًا من المازوشية والتلذُذ بالألم.

لهذا أدعو أخوتي الشعراء إلى التقليل من حالة الحزن، ومحاولة كتابة قصائد الفرح، فهم لسان القوم، وموسيقى قصيدة الأمل يمكن أن تقلِّل من العلل النفسية لدى الفرد العراقي المسكين، فالتشاؤم والحزن لن ينتهيا، ولن يؤديا إلى نتيجة، كما أنَّ الحزين كالنائم تفوته الفرص دون أن يعلم كي يستمتع بها، أمَّا الأمل فيرفع مستوى نباهة الإنسان، ويزيد من نشاطه، وقدراته الجسدية والنفسية والعقلية.

لم يختلف الشعر الفصيح كثيرًا، إذ تكررت فيه صور الألم والحزن، بل كان أكثر بشاعةً وهو يصف، ربما كون شاعر الفصحى أكثر ثقافةً وأوسع خيالًا، وأدق صورةً، وأكثر مفردات، لكن انتشاره أقل نسبيًّا مقارنةً بالشعر العامي.

يقول الشاعر ياس السعيدي:

حييت سفحك شكرًا لا تحييني
عندي من الدمع أنهار سترويني
عندي من الهمِّ تاريخٌ ألوذ به
لوذ الفراشة في حضن البراكين

ثم يستمر الشاعر بسرد همومه بحالة من المبالغة المطلقة، والتباهي بالحزن، حتى يقول «محدودب الحرف من يائي إلى سيني»، ومع كل صورة يسرد الشاعر حزنه فيها، يعتلي صوت الجمهور وتصفيقه، ومثل ذلك نلاحظه في قصائد كثيرة كقصائد الشاعر مؤيد نجرس وغيره.

(٣) لوم الذات

بداية لا بد من التعريف بمصطلح لوم الذات: الذي يعني أحد الأساليب المضطربة في التفكير والمرتبط بالعديد من الاضطرابات النفسية من أهمها الشعور بالذنب، وتتمثَّل في إلقاء اللوم بشكل دائم على الذات في كل شيء سواءً كان الفرد مخطئًا في حق ذاته أم لا؛ حيث يلاحظ على هؤلاء الأفراد اعتقادهم الراسخ والمتأصل: بالنقص، الفشل، العجز، الكسل، والقبح … مما يتأثر به حديثهم الذاتي الداخلي بحيث يعمل على زيادة وتقوية وتدعيم هذا اللوم.

وتُعد أفكار هذا الفرد تجاه ذاته هي الأساس الفعلي لتقدير الذات لديه، حيث تُملي على الفرد بشكل شعوري أو لاشعوري ما يمكن وما لا يمكن أن يفعل أو يشعر به، أي ما يتجسد في قواعده الذهنية من تفسيرات للأحداث (مقال في أكاديمية علم النفس، ٢٦ / ٧ / ۲۰۰۹).

يشير المُفكِّر الأمريكي «نعوم تشومسكي» إلى عشر استراتيجيات للسيطرة على الشعوب، كانت الاستراتيجية التاسعة هي «تحويل التمرُّد إلى شعور بالذنب» والتي تعني: جَعْل كل فرد يشعر بأنه السبب في تعاسته وسوء حظه، وذلك بسبب قصور تفكيره وذكائه وضعف قدراته، وقلة الجهود المبذولة من جانبه، وهكذا بدلًا من أن يتمرد ضد النظام، ينغمس في الشعور بالتدني الذاتي الذي يؤدي لحالة من الاكتئاب تحبط أية محاولة للفعل لديه، وبدون القيام بأي فعل، لا يمكن أبدًا للثورة أن تتحقق.

إن هذه الاستراتيجية اشتغلت عليها تقريبًا كل الحكومات التي حكمت العراق، بقصد، أو دون قصد، ما ولَّد شعورًا عاليًا بالذنب والدونية، فترى العراقي دائمًا ما يلوم نفسه، ويجلدها، فمثلًا نسمع من الناس خلال هذه الأيام عبارات كثيرةً مثل:
  • صوجنه احنه الانتخبنه.

  • يمعود احنه الهوسنه الهم.

  • إحنه ياهو اليجي نهوسله.

  • احنه يرادلنه مجرم.

  • احنه مو مال ديمقراطية.

ولأن هذه الاستراتيجية مورست كثيرًا فقد انعكست على كل نواحي الحياة، فنسمع على الصعيد الاجتماعي:
  • الخلل بي دللته واعتنيت بي.

  • كله صوجي أنا العلمته.

  • يمعود هو منيله الحظ بس غير أني السويت بي خير وخانني.

والسمة الأغرب في الشخصية العراقية أنه يلوم نفسه إذا أخطأ الآخَرون بحقه، فهو من دلَّلهم، وجعلهم يتعدون عليه، لكنه يلوم الآخَرين إذا أخطأ هو.

والشعر العامي العراقي يكشف لنا هذا اللوم الذي تغلغل في الجهاز النفسي للفرد، وأصبح سمةً للشعر العراقي، ولشعبه، فمثلًا نجد الشاعر «نهاد الخيكاني» يسرد همومه وهموم شعبه بقصيدة سياسية ألقاها على جمهور عظيم، ثم يتنصل من لومهم، ويتوجه إلى نفسه وشعبه فيلومهم:

كول براحتك كلشي التريده يصير
مالومك شفتني خير ما بيه
لو عندي شعب خلاكم تقرون
إلي خدمة قلق عشرة البعثية

ويعيد الكرة في قصيدة أخرى:

شعب إس، بالك تمتعض وتلوم
إذا رايد تلوم اعليك واعليه
انه وانت الرفعنه الفاسد من الكاع
وكتله تفضل اصعد للعرش بيه

كما نجده في شعر الغزل أيضًا، يقول الشاعر عطا السعيدي:

وتوهمت بعشرتك ما حسبت احساب
وشنع الندامة وعظة ابهامي
ودفعت الثمن غالي وياك ثلث اضعاف
شبابي وطيش عمري وثورة أحلامي
أذمك واذم روحي واذم حظي عليك
لا تهواك روحي ولا انت او لامي

ونلاحظ في البيت الأخير لومًا للمجهول، وهو الحظ، الذي يبرِّر فيه العراقيون سوء ما يمرُّون به، محاولةً منهم لخفض التوتر، وهو متكرِّر في قصائد كثيرة، منها ما سمعته في قصيدة للشاعر رائد أبو فتيان:

امسح الغثك واقتنع زين
انت بس صوج الحظ

وابحث يا سيدي القارئ لتجد العراقيين يُكثرون من لوم أنفسهم ولوم الحظ:

غلطة عمر بس كلفتني هواي
مثل الدفع دية وهو مو رامي

فكم أتمنى على شعرائنا العاميين الذين هم أقرب إلى الجمهور وأكثر تأثيرًا فيه، أن يتفكَّروا بقصائدهم، ويتدبروا فيها، ويحاولوا توجيهها بشكل أفضل.

أما الشعر الفصيح فقد ابتعد كثيرًا عن لوم الذات، إذ لم تصادفني خلال بحثي أية قصيدة تكشف عن وجود هذا الاضطراب، ولربما وُجد في بعض القصائد التي لم يسعفني الوقت لقراءتها، ولو افترضنا وجودها فهي قليلة لا تعبر عن انتشار الاضطراب، ولعل السبب يرجع إلى المستوى الثقافي الذي يتمتع به شاعر القصيدة الفصحى، إذ يبدو عقله الناقد ليس معطلًا تمامًا.

(٤) فقدان الشعور بالأمن

تُعد الحاجة إلى الشعور بالأمن من أهم الحاجات الإنسانية، التي يضعها ماسلو في قاعدة الهرم بعد الحاجات الفسيولوجية، والتي تؤدي حال فقدانها إلى نتائج خطيرة على الفرد والمجتمع، وبما أن الفرد العراقي تعرَّضَ للظلم بشتى أنواعه، بل بأنواع مُروِّعة ومخيفة منه، سواءً من قبل أنظمة الحكم أو من قبل جهات أخرى — دول أو ميليشيات — فالحكومة أخذ ظلمها الشعب أنماطًا متنوعةً منها القتل والتجويع والإهمال، أما الميليشيات كتنظيم داعش وغيره فأنتم أكثر علمًا!

هذه القرون التي عاشها الفرد العراقي وهو فاقد للأمن بكافة أشكاله، أثَّرت في شخصيته تأثيرًا غير اعتيادي أبدًا، فهو قلق باستمرار، يخشى أن يأتي عليه يوم أسوأ من أيامه السابقة، إنه يخشى على صحته التي إنْ فقدها ربما لن يجد مَن يعيدها إليه، وعلى عائلته، وعلى مصدر عيشه، وعلى سُمعته وعلى كل شيء، الفرد العراقي يعيش حالة قلق مستمرة.

وهذا القلق المستمر، وعدم الشعور بالأمن، لمحتها في الشعر العامي بجميع أغراضه — المديح، الهجاء، الغزل … إلخ — وأنماطه، وقد ظهرت في الشعر العامي صور عدة لفقدان الأمن، سأكتفي بشرح واحدة منها، وهي «سيكولوجيا الاحتماء».

«إذا انهارت الدولة وتعطَّلَ القانون وصارت الحياة فوضى، شاع الخوف بين الناس وتفرقوا إلى مجاميع أو أفراد تتحكم في سلوكهم الحاجة إلى البقاء، فيلجئون إلى مصدر قوة تحميهم، ويحصل بينهما ما يشبه العقد، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة» (صالح، ۲۰۱۱، ١٥٨).

هذه نظرية صاغها الدكتور قاسم حسين صالح أطلق عليها «سيكولوجيا الاحتماء»، فسَّر من خلالها ما حدث في العراق بعد العام ٢٠٠٣م، إذ سقط النظام وعمَّت الفوضى، وأصبح الخطر مُحدِّقًا بكل فرد عراقي، وليس هناك دولة توفِّر الحماية، فتفرَّق الناس كلٌّ يبحث عن ملجأ يحميه وأسرته، فلجأ بعضهم ليتحزَّب، وبعضهم انضم إلى مرجعيات دينية، أو اجتماعية، وحتى عشائرية، وهذا التحوُّل السيكولوجي ظاهرة خطيرة لأنها عطَّلت الشعور بالانتماء إلى الوطن، مما أدى إلى ظهور الهويات الفرعية (الدينية، الحزبية، الاجتماعية، الطائفية، … إلخ).

إن الذي سهَّل هذا التحول السيكولوجي في الولاء، هو قيام نظام الطاغية بحصر الولاء للعراق بما فيه من حضارة وموارد وعظمة بشخص صدام حسين.

إن الشعر العامي العراقي كشف لنا هذه الحقيقة السيكولوجية بوضوح متكامل من خلال شيوع ظاهرة امتداح الأحزاب السياسية، والمرجعيات الدينية، وشيوخ العشائر، وسادت القصائد الفخرية التي يُعرب شاعرها عن فخره بعشيرته أو بمرجعه أو مذهبه … إلخ، ولا تظنوا أنني حكمت بالاعتماد على قصيدة أو اثنتين، بل مئات الشعراء فعلوا ذلك، ولم يقتصر الأمر على شعراء مغمورين في الأرياف، بل أيضًا شعراء معروفين يمكن عَدُّهم نوابغ الشعر العامي.

والدارس المثابر يجد أن الشعراء العاميين أكثروا من امتداح الأحزاب والشخصيات الدينية والسياسية بعد سقوط النظام، أما امتداح العشائر والفخر بالنَّسَب فهو من الشوائع خاصةً بين الشعراء القاطنين الريف، المعاشرين قبائلهم حيث يمثلون «رفعة رأس العشيرة»، خاصةً ما يسمى «المهوال»، فإذا ما تُوفِّي أحد شيوخ القبائل، وذهبت القبيلة الأخرى لتعزيتها، قدَّمت الراية، وخلفها الشيخ والمهوال، الذي يكون واجبه «رفع رأس العشيرة» من خلال جذب انتباه العشائر الأخرى بقوة الأهزوجة وما تحمله من معانٍ، على أن يوازن في أهازيجه بين مدح قبيلته ومدح القبيلة المعزاة وشيخها الراحل.

فراحوا أيضًا يتسببون بنرجسية أفراد العشائر، فإذا ما امتدحوا قبيلتهم، راحوا يصفونها بأروع الصفات، ويُفضِّلونها على بقية القبائل، فهم السبَّاقون إلى خدمة الحسين، وهم أبطال ثورة العشرين، وأسياد الشجاعة، … إلخ، وفي الوقت نفسه يثيرون المنافسة في الكرم والشهامة والصفات الحميدة الأخرى، كل عشيرة تريد أن تكون أفضل من غيرها، وهناك عشائر تبني كل فخرها على أبيات شعرية مُحدَّدة.

وثقافة الاحتماء هذه، ثقافة نفسية لا تقتصر على زمن دون آخَر، بل هي تشيع في كل فترة ينعدم فيها الأمن، ويفقد الإنسان ثقته بإمكانية الدولة على حمايته من الخطر، لأنها تعبِّر عن حالة نفسية (الشعور بالخطر) فنجد الجواهري قد امتدح ملك الأردن ورئيس سوريا من أجل الحصول على الأمن والاستقرار والاحترام، بعد أن فقده في العراق، وكذا فعل المتنبي قبله، وغيره من الشعراء كثير.

ولو حلَّلنا الكلام الوارد في مثل هذه القصائد، تحليلًا نفسيًّا لاستخرجنا المعنى الخفي لها، الذي يعرب عن حالة الشعور بالخطر والبحث عن الأمن، والولاء لفرقة مُعيَّنة أو شخص مُحدَّد دون الوطن، وقد اخترت قصيدتَي الشاعرين أبو محمد المياحي وسعيد الصافي، اللتين أُلقيتا في مكان واحد وبحقِّ شخص واحد هو رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي حكم العراق خلال الفترة (٢٠٠٦–٢٠١٤)، فنجد الشعور بالخطر والبحث عن الأمن واضحين في القصيدتين:

أبو محمد المياحي

أنا حبيت واحد جيبلي مثله من هسه اعوفه وامشي منه بزود
جيب الفلش اخيام الفتن والشحت منها اقرود
جيب الخله طارق شارد ومطرود
جيب الخله للبصرة الأمان يعود
جيب الأخذ ثار النار جيب العلك النمرود.

سعيد الصافي الرميثي

اخذ بيهم قرارك والتريده يصير
وياك الشعب لمن تهد هادود
تكدر وحدك توصل لشط الثار
إذا عندك مثل حامي الشريعة ازنود
یا فارس بطلنه الما تهاب الموت
يمبجي العده تاريخ الك مشهود
يا مالك الأشتر والعيون تشوف
وعليك الأمل رغم الصبر معكود
یا جف الوفه الكاطع نفس هدام
ما يعصي عليك اشما طغه مسعود

تبدو سيكولوجيا سيكولوجية الاحتماء واضحةً في المقطعين الشعريين، بل تكرَّرت بعض المفردات في القصيدتين كأن تواردًا حدثَ بين الشاعرين كمفردتَي «الثأر، النمرود»، وكلاهما يريان في ممدوحهما بطلًا لا يهاب الموت، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، فهو الرجل الذي قضى على الفتنة، وأعاد إلى البصرة أمنها، ولذلك شبَّهَه الشعراء بخليل الله مرةً، وأخرى بمالك الأشتر، وصفات أخرى، ثم يقول أحدهم «وياك الشعب لمن تهد هادود» تبدو مسألة الشعب مسألة نسبية، وإلا في ضل الأحزاب لا يمكن أن يكون كل الشعب مع هذا الممدوح، لكن هذا البيت يعبِّر عن إنشاء تكتُّل يعمل وَفْق سيكولوجية الاحتماء بمبدأ الحماية المتبادلة، فهو يقاتل ويدافع عن ممدوحه، لكنه يحتمي به وقت أن تهدد حياته.

أيضًا، نلاحظ في القصيدتين اهتمام الشعراء اهتمامًا كبيرًا بأمور السِّلْم والأمن، إذ وصفوه بالبطل، لكنهم لم يصفوه بالثقافة والسياسة، رغم أن الرجل يتمتع بلباقة وخطابة قلَّ نظيرهما، ما يعبر عن حاجتهم الماسة إلى شخص قوي أكثر من احتياجهم إلى شخص مُثقَّف أو ذكي.

سيدي القارئ، قِس على هذا التحليل عشرات القصائد التي كُتبت في مدح شيوخ العشائر ورجال الدين والسياسة، والافتخار بالطوائف والمذاهب … إلخ، ولو افترضنا أن قصيدة مديح لم نجد فيها ما يدل على «سيكولوجية الاحتماء» فيكفي أن ندرس الزمن الذي كُتبت فيه القصيدة، ووَضْع الشاعر قبل أو خلال كتابتها، والأزمة التي يمرُّ بها، لنصلَ إلى الحقيقة بشأنها.

ثم إنَّ هذه الحقيقة السيكولوجية (فقدان الشعور بالأمن) تبدو واضحةً في أغراض الشعر العامي الأخرى كقصائد الغزل والشعر الحسيني وغيرهما، إذ تكثر في الشعر الحسيني أبيات التوسُّل وطلب العون، وكثيرًا ما يختم الشعراء قصائدهم بأبيات تتضمن دعاءً يطلبون فيه عودة الأمن إلى بلدهم، كما يطلبون السند والحماية إضافةً إلى إزالة الهمِّ والغمِّ، وكذا الحال في قصائد الغزل، إذ نجد «ضمني اريد اشعر بالأمان»، وغيرها من العبارات الأخرى التي تتضمن قلة الشعور بالأمن، بل ورسوخ فكرة ومفردات الأمن والسلم في ذهن الفرد العراقي.

(٥) تشوُّه صورة المرأة

المرأة جزء فاعل ومكون أساسي في المجتمع البشري فهي الزوجة والأم والأخت للرجل، وهي جزء من كيانه الاجتماعي والنفسي، وليست فقط رقمًا ديموغرافيًّا demographic، مكملًا بالنسبة له، وقد كرمها الله ورسوله في كثير من المواضع والدلائل الصريحة، وبالتالي فإنَّ تعطيل دورها أو الحد منه يُعد تعطيلًا لجزء هامٍّ من المجتمع، فضلًا عن أنه عصيان لأوامر الله ورسوله لها.

وقد عانت المرأة كثيرًا في مجتمعاتنا الإسلامية، جرَّاء التقاليد البالية التي لم يتم التخلص منها، بل ومما يزيد الأمر سوءًا أن يتم إسباغ القدسية على هذه التقاليد من خلال مزجها سواءً عن قصد أو جهل بالتفسيرات والتأويلات الدينية التي تنتقص من المرأة وتحطُّ من قدرها، ما ساهم في أن تبقى مجتمعاتنا الإسلامية متخلِّفةً بل وعاجزةً حتى عن مسايرة التقدُّم البشري في شتى مجالات التطوُّر ومنها التكنولوجية والعلوم الصحية والاجتماعية وغيرها.

هذه الأمور قد أنتجت ما يمكن تسميته ﺑ «الظلم الاجتماعي» الواقع على المرأة، هذا النوع من الظلم الذي يقع على فئات اجتماعية مُعيَّنة، يظن مَن يقوم به أنه على حق وأن ذلك المظلوم إنما يستحق الظلم لأن الله يريد له ذلك أو خلقه على هذا الحال، أو قد حطَّ من قدره لأن قيمته كذلك … إلخ (الهاشمي، ۲۰۰۷، مقال).

باعتبار غالبية الشعراء العاميين هم من المتأثرين جدًّا بالتقاليد البدوية المتوارثة، بل من المعتزين بها، نراهم يحاولون عن قصد أو دون قصد تثبيت النظرة البدوية إلى المرأة وإشاعتها في المجتمع.

فينسبون إليها كل الصفات السيئة التي يخجل الرجل أن تُنسب إليه، بل «يتحشم» ذلك الناسب إذا فعل، فهي الخائنة، وهي الماكرة، والنذلة، و«وأم الكالات» والفتنة، والمخادعة، والكذابة، وفاضحة الأسرار، «وكعت عكل ناس بيه حظ» ويثبتون فيها صفة الضعف، وأن حيلتها البكاء والجزع، ولا تحسن فعل شيء آخَر.

كل الحجه بمكفاي والعنده كاله
يكعد وي النسوان ونكله خاله

وأيضًا:

اليذم بكفه ربعه بي انوثة
شواية الله اعله المره

فهذان الشاعران يصفان المرأة بأرذل الأخلاق «الغيبة»، وكأن الرجال لا يغتابون، وبالتالي يشبهون بالأنثى كل مغتاب، ولهم بذلك قصد آخَر، وهو أن المرأة ضعيفة جبانة، تخاف أن تتكلم عن أحد بسوء بحضوره، فتنتظر ذهابه لتذكر عيوبه أمام الناس، أما الرجل فإنه من المفترض أن يواجه، ولا يكون جبانًا، وفي هذا دعوة غير مباشرة للعنف.

وأيضًا:

مو ضد المرة حجاية بخت تنكال
أثق ببليس لكن ما أثق بيها
اليدور ستر يتعوذ النسوان
وأنا أول من حجاهه وراح اسويه
إذا رادت تخونك لو تحطه ببير
طيحة شاربك تكدر تسويه

وهنا ينسب الشاعر إلى المرأة رذيلتَي المكر والخيانة، ويفضل أن يثق بالشيطان على أن يثق بها.

وأيضًا:

الشاعر المخواف لسليمة والبين
ما يستحق لو مات لطم النساوين

يشعرك أن المرأة ضعيفة ولا دور لها في الدنيا سوى البكاء والنواح على الميت، كما أنه — الشعر العامي — صوَّر لنا في كثير من المواضع حجم ذلك الظلم الذي تحدثنا عنه سلفًا:

أتذكر أن أحدهم يُصوِّر حالة إحدى النساء العاشقات، فيقول: إن فتاةً ريفية عشقَتْ شابًّا في قريتها، فجاء ذات يوم ليراها وهي واقفة على «التنور» تخبز، فوقف أخوها خلفها مصادفةً، فصار بينها وبينه، فقالت:

يا دجة التنور ريتج مشوفه
زيارة علي برمضان ولفي من اشوفه

وقد اختارت هذا الوصف (زيارة علي برمضان) لأن هذه الزيارة هي أعظم ما تعرفه تلك المرأة، ما يكشف عن حجم حنينها لرؤية حبيبها، ورغم حجم اشتياقها لرؤيته كان خوفها من بطش أخيها أعظم وأكبر، فمنعها، ولك أن تقدر حجم الظلم.

وفي حكاية أخرى توضح الظلم الاجتماعي لهذا الجنس البشري: زُوِّجَت إحدى الفتيات غصبًا، لكنها بقيت تواصل حبيبها سرًّا، فاتفقت معه ذات يوم على اللقاء ليلًا، فزوجها غائب عن المنزل الليلة، واتفقا على إشارة مُعيَّنة بينهما، فهو ينطق بصوت أحد الحيوانات، فإذا كانت عمتها (أم زوجها) مستيقظةً ستحذره بطريقة ما، أما إذا كانت نائمةً فستخرج له وتدخله، فعل الفتى ذلك، فردت عليه:

نومته نومة ذيب روح الهلك روح
مسكمه بفولاذ كطوه من أهد نوح

حتى في غزلهم بها فإنهم ينسبون الخيانة والمكر إلى الحبيبة، ويعطونها دور الشخصية السادية الظالمة المخادعة، وقد أشرتُ لذلك في مقال سابق.

نعم، هناك قصائد رنانة كُتبت بحق الأم، لكن غزارة ما كُتب في خيانة المرأة والصفات السيئة التي أشاعوها في المجتمع عنها، لا يمكن أن تقوضها قصائد قليلة كُتبت في الأم.

بطبيعة الحال لا ننكر أن هذه الأشعار إنما انطلقت من الواقع، وأن المرأة العراقية تمارس المكر والحيلة وبعض الصفات الذميمة، لكن علينا ألا ننسى عدة أمور أهمها:
  • (١)

    إن الرجال لهم هذه الصفات بل أكثر ربما.

  • (٢)

    للنساء صفات جميلة، فلا يمكن أن تكون المرأة مَنْجمًا لرذائل الأخلاق فقط ولا يوجد فيها خُلق حسن، لذلك ينبغي أن نمتدح تلك الصفات الجميلة أيضًا، كي نكون منصفين، أو على الأقل نزيد ثقتهن بأنفسهن ونقلِّل من الظلم الاجتماعي الواقع عليهن.

  • (٣)

    إن ما تفعله المرأة من مكر وغيره، يمثِّل حيلةً دفاعيةً لا شعوريةً، نتج عن الظلم الكبير الذي تتعرَّض له.

  • (٤)

    الشاعر لا يجب أن يكتفي بطرح الواقع كما هو، فضلًا عن المبالغة فيه، بل بوضع المعالجات، من خلال الدعوة إلى تشكيل سلوكيات مضادة، كونه يملك أقوى أدوات التأثير.

أما دفاع الشعر الفصيح عن حقوق المرأة والدعوة إلى تحرُّرها فليس جديدًا عليه، فقد نسب لها أجمل الصفات، بل بالغ في مدحها، وتكوين صورة جيدة عنها، وهذا الأمر يُحسب لشعراء الفصحى، ولعل السبب يرجع لما يتمتع به شاعر الفصحي من ثقافة عالية، فأقلهم قد أكمل دراسته الجامعية، واطَّلعَ على عدد غير قليل من الكتب، واحتكَّ بالثقافات الأخرى، على عكس الشاعر العامي الذي غالبًا ما يكون إنسانًا أميًّا، تفكيره لا يتعدى حدود الزمان والمكان الذي يعيش فيه، كما أن الأخير لم يستطع خرق البيئة المحيطة به، كونه لا يُكلِّف نفسه الاطلاع على أي كتاب، وبالتالي مهما شاهد المجتمعات الأخرى، فهو لن يستفيد منها أبدًا، كونه متعصِّبًا لفكرة مجتمعه، متمسِّكًا بها، يراها مُقدَّسة لا يأتيها الزلل، وإن أعظم شيء يفعله للتأقلم هو أن يصنع شخصيةً ثانية تبدو حضاريةً، فتحدث ازدواجية الشخصية.

ولعل من أقرب الشواهد ما نقله الجواهري عن نفسه، إذ يقول ما مضمونه:

في أحد أيام سنة ١٩٦٩م كنت جالسًا في مغناي المفضل (البيت السلوفاكي) عندما فوجئت بخبر منشور في إحدى الصحف العراقية يتضمن قرارًا أصدره الفريق «صالح مهدي عماش» يقضي بتطويل بدلات الطالبات الجامعيات بذريعة المحافظة على الأخلاق، استكثرت ذلك على عماش الأديب والشاعر الرقيق ولم يكُن بقربي إلا ورقة صغيرة لدفع الحساب، أمسكتها وخططت عليها «المملحة» التي تُعد من أجمل قصائدي وأروعهن، فطارحني عماش بقصيدة على وزنها ورويِّها بعد أن نشرت قصيدتي في الصفحة الأولى من جريدة الاتحاد، فأقنعني بما احتوته قصيدته من تبرير.

وفي الوسط الحوزوي نجد الشاعر الشيخ باقر الشبيبي نادى بتحرير المرأة قائلًا:

كيف ترجو نجاحها فئة
كللتها البرود والسجفُ؟
من وراء الحجاب نسوتها
تتهادي كأنه تحفُ
كلما أبصرت عن كثبٍ
شبحًا للجديد ترتجفُ
تتحرى استقلال أمتها
اخسئوا إن ذلك صلفُ
كم حصان تروح سفرة
وبالحياء والعفاف تلتحفُ
وعلى العكس مومس خطرت
وعليها الدثار والقطفُ

كذلك نجد في قصيدة طويلة الشاعر ياس السعيدي:

كتبتُ لتمنحن القصيدة شكلها
وعند شتات القلب تحرسن شملها
فتبًّا لحرف لا يراكن مجده
ويغدو كسكين تحارب نصلها
فداكن مَن صلَّى وخانَ صلاته
وخانَ هذي البلاد وأهلها

لكن بعض شعراء الفصحى بالغوا كثيرًا، فأصبحت المرأة في شعرهم آلةً للجنس، والاستعراضات، وطالبوا لها بحقوق لا ينبغي أن تعطى حتى للرجل كونها تتسبب بإفساد المجتمع.

(٦) ظواهر أخرى

لعلَّ الظواهر النفسية التي ذكرتُها سابقًا، هي الظواهر الأكثر انتشارًا في الشعر، لكن ذلك لا يعني عدم وجود ظواهر أخرى، فالإحباط والشعور باليأس والعجز والهزيمة، والاغتراب النفسي، وقلق المستقبل، ظواهر موجودة أيضًا، وتتباين نسبها في الشعر الفصيح عنها في الشعر العامي.

(٧) ملخص دراستَين

الدراسة الأولى

أجريت على طلبة المرحلة الرابعة في قسم اللغة العربية للعام الدراسي ٢٠١٦–٢٠١٧م، استهدفتُ التعرُّف إلى الفرق في السلوكيات والسمات النفسية والعقلية التي يتسم بها جمهور الشعر الفصيح عن تلك التي يتسم بها جمهور ومتابعو الشعر العامي، أهي فروق كمية؟ أم كيفية؟ أقصد المتابعين بشغف كبير ومستمر، وقد كان قسم اللغة العربية هو مكان الملاحظة، إضافةً إلى حساباتهم على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، إذ قمت بجمع ٧٠ سمةً اعتقدتُ أن بعضها شائع لدى إحدى عينتي البحث، فسجلتها في قائمة واحدة وأخذت أتابع العينتَين، وقد تابعتُ مدى شيوع وتكرار كل سلوك لدى العيِّنتَين، فلم أسجِّل سلوكًا حدث مصادفةً أو لم يتكرَّر إلا قليلًا، أو صدر من قِبل شخص أو شخصين من العيِّنة.

فسجلت خلال ملاحظتي السمات التالية على جمهور الشعر العامي:

الميل إلى التفاخر بالقبيلة والركون إليها حتى في أبسط الأشياء والتحدث بالمصطلحات الشائعة في النظام القبلي ﮐ «الحشم، والافراضة وغيرهما»، والتباهي بالقوة، إضافةً إلى سرعة الغضب، واختيار العنف كحلٍّ أمثلَ للمشكلات، والتباهي بحفظ الكلمات العامية القديمة المندثرة.

وكذلك التعويل على الخرافة وإلقاء اللوم على الذات والحظ، والاعتزاز الشديد بالماضي وتمنِّي العودة إليه، والإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لمشيئتهما، وكبت المشاعر الحقيقية سيما الجنسية منها، والجمود وعدم المبادأة في بعض المواقف، واحتقار المرأة والطفل والمراهق، إضافةً إلى سلوكيات وسمات حميدة كالكرم والنخوة والشهامة ومساعدة الآخرين، كما اتَّضح عليهم سرعة تأثرهم بالسيئ من الحضارة الغربية.

هذا لا يعني أبدًا أن الشعر العامي هو من أسَّس لهذه السمات إنَّما هي موجودة فأشاعها أكثر وأسهمَ بتثبيتها في شخصیات جمهوره، وما زال يفعل ذلك، لكنه اليوم بمواجهة الحضارة الغربية التي أخذت تؤثِّر في المجتمع، وتغيِّر مساره باستمرار، بل أخذت تغيِّر مسار الشعر أيضًا.

أما جمهور الشعر الفصيح فهم أكثر ميلًا للاعتزاز بالتراث، كما يتسمون بالنرجسية التي تصل حدَّ المرض النفسي أحيانًا، والنزوع إلى التفرُّد والمركزية والاستئثار بالصدارة في أية مهمة، والرغبة بالهجرة والعمل خارج البلاد، وتذبذب حِسِّهم الوطني بين القوة والضعف، وكثرة الشك بالآخرين، وقلة الاعتماد عليهم، ويبدون اعتزازًا كبيرًا بالأدب الغربي، بل يفخرون بقراءته ومتابعته، بالمقابل هم أكثر عقلانيةً في التعامل مع مختلف الأمور سيما في مسألة العقيدة، كما أنهم يؤمنون بالمدنية ويحاولون التخلُّص من سلطة القبائل وتقاليد وأعراف المجتمع.

الجدير بالذكر أنَّ السمات التي ذكرت سلفًا موجودة لدى الجمهورَين، فالفرق بينهما يكاد أن يكون كميًّا لا كيفيًّا، فالنرجسية الموجودة لدى جمهور الشعر الفصيح موجودة لدى جمهور العامي ولكن بقدر أقل، وهكذا بالنسبة للسمات الأخرى.

الدراسة الثانية: استهدفت الإجابة على السؤال

هل هناك فروق دالة إحصائيًّا في مستوى إعجاب جمهور الشعر بشعرائه تبعًا لمتغير لغة الشعر (الفصيح – العامي)؟

ظاهرة الإعجاب أو الوقوع في حب المشاهير من الشعراء والمطربين والممثلين ولاعبي كرة القدم، حالة موجودة لدى الشباب والشابات في كل المجتمعات، ومن شهد سبعينيات القرن الماضي يتذكر ماذا فعل شباب وشابات أمريكا وإيطاليا يوم مات «الفس بريسلي» وحالات الهوس الهستيري الجماعي وإلقاء أنفسهم في الأوحال وتطيين أجسادهم، وكذلك المسيرة الضخمة في جنازة عبد الحليم حافظ والفتيات اللاتي انتحرن حزنًا، وارتداء بعض فتيات بغداد الثوب الأسود حدادًا عليه.

ومع اختلاف الثقافات، فإنَّ السبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو «عدم النضج العاطفي» لدى هذا النوع من الشباب والشابات، مضاف له سبب آخَر هو عدم وجود «أنموذج» في الأسرة يشكِّل قدوةً للفرد في طفولته ومراهقته فضلًا عن أننا في المجتمعات الشرقية ما زلنا نفرض قيودًا على «الحرية الجنسية» بل إن بعض مجتمعاتنا تعد الحب من الأمور المحرمة (صالح، ٢٠١٥، ١١٤).

ومن بين الدراسات التي أجريت في هذا المجال دراسة أجراها الدكتور مجيد السامرائي على عيِّنة من شباب الأردن بلغت «۹۰» شابًّا وفتاةً، تراوحت أعمارهم بين «١٥–٣٥ سنةً» استهدف فيها التعرف إلى مدى إعجاب هذه الطبقة بالفنان كاظم الساهر، وقد أعد لذلك استبانة خاصةً، وبعد أن قام بجمعها من المستجيبين أرسلها إلى الاختصاصي النفسي الاستاذ الدكتور قاسم حسين صالح ليقوم بتحليلها إحصائيًّا وتفسير النتائج، وقد أظهرت الدراسة توزع العيِّنة على أربعة مواقف هي:
  • الإعجاب.

  • الحب.

  • التماهي أو «التوحد».

  • وَهْم العشق.

وقبل تفسيره لنتائج الدراسة فرَّق الدكتور قاسم حسين صالح بين المفاهيم الأربعة السابقة، فالإعجاب يتضمَّن تقديرًا «إيجابيًّا واحترامًا» غير مشروطين لمَن نعجب به، وشيئًا خفيفًا من العاطفة، أما الحب فينبغي أن تتوافر فيه ثلاثة أمور:

الحميمية: وتعني الجانب الانفعالي من الحب الذي يحتاج إلى الإحساس بالقرب والارتباط الوثيق بالآخَر والتواصل الحميم مع المحبوب بعيدًا عن عيون الآخَرين ومشاركته مشاعر نخصُّه بها وحده. والعامل الثاني هو العاطفة التي تمثل العنصر الدافعي للحب الذي يوقد المشاعر الرومانسية والتعلق بالمحبوب وحده والتجاذب الجسدي والرغبة الجنسية. والمكون الثالث هو الالتزام الذي يتضمن الجانب العقلاني الذي يعمل على إدامة العلاقة حاضرًا ومستقبلًا، ومن المفارقات أننا قد نقع في حب شخص مُعيَّن ولا نكون معجبين به بالضرورة.

أما «التماهي أو التوحد» فهو حالة مرضية يحصل فيها أن الشخص يتمثل من خلالها جانبًا أو صفةً من الآخر «الأنموذج» ويتحوَّل «كليًّا» أو جزئيًّا على غراره، وهو يختلف عن المحاكاة أو التقليد من حيث كونه عملية نفسية لا شعورية تؤدي إلى أن يتوحد الشخص بآخَر يعدُّه أنموذجًا، ويكون في الحالات العادية تماهيًا جزئيًّا أو محدودًا يكتسب الفرد من خلاله صفاتٍ مرغوبًا فيها يتمتع بها الآخَر.

فيما يعني «وهم العشق» اعتقاد خاطئ يؤمن به الشخص إيمانًا مطلقًا مع أنه ليس له رصيد في الواقع، وفي العشق يعني شعور الفتاة بأن المقابل يعشقها، وأنها المقصودة في كل عبارة حب ينطقها، وهي تبادله العشق.

أرجع الدكتور قاسم حالات الإعجاب بالساهر إلى الجاذبية الجسمية التي يتمتع الأخير، وإمكانية ملامحه في تصویر مختلف الانفعالات سيما انفعال الحزن الذي يؤثر في الشرقيين كثيرًا، فضلًا عن أغانيه التي ينتقيها من العبارات التي يتداولها العشاق والمحبون، فعملت قصائده على التنفيس عمَّا هو مكبوت وبالأخص الكبت الجنسي (صالح، ٢٠١٥، ۱۱۲).

تأسيسًا على ما سبق أجريت دراسةً استهدفت التعرف إلى الفرق في مستوى إعجاب كل جمهور بشعرائه «جمهور الشعر العامي بشعراء العامية» و«جمهور الشعر الفصيح بشعراء الفصحى» وقد أعددتُ لذلك مقياسًا تضمن ٢٢ سؤالًا، من بينهن ست أسئلة من أسئلة الدراسة السابقة التي أجراها الدكتور مجيد السامرائي ونشرها الدكتور قاسم حسين صالح، وهي (بعد التقنين):
  • هل تتشبَّه بشاعرك المُفضَّل من حيث الملابس وقَصَّة الشَّعْر؟

  • هل رأيت شاعرك المُفضَّل في المنام؟

  • هل تعتبر حبك له كالمرض الذي لا شفاء له؟

  • هل تعتقد أنك ستبقى على هذا الحب ﻟ ٣٠ سنة القادمة؟

  • هل تجدين نفسك واقعةً في غرامه؟

  • هل حلمتي أن يطلب يدك للزواج؟

تم توزيع الاستمارة على عيِّنة مُكوَّنة من «۱۸۰ شخصًا»، منهم ٨٦ فتاةً، يتوزعون على قسمين، قسم متذوق للشعر العامي، والآخَر للشعر الفصيح.

بعد تحليلها إحصائيًّا، أظهرت النتائج وجود فروق ذات دلالة إحصائية في مستوى الإعجاب، إذ كان جمهور الشعر العامي أكثر إعجابًا وحبًّا وتماهيًا بشعرائه مقارنةً بجمهور الشعر الفصيح، وذلك يرجع بالتأكيد إلى ما تطرقنا إليه في فصل سابق، ولا حاجة بنا لإعادة شرحه هنا، لكن نتائج أسئلة محددة أجاب عليها جمهور الشعر العامي أراها تدعوني إلى مناقشتها:
  • هل أحببت الأشياء التي يحبها شاعرك المُفضَّل؟

  • هل هناك أبيات لشاعرك أعجبتك وصرت تطبقها في حياتك اليومية؟

تشير النتائج إلى مدى تأثير الشعر العامي في الفرد، بحيث أحب الشباب الأمور التي يحبها شعراؤهم، وأخذوا من قصائدهم أبياتًا جعلوها دستورًا لحياتهم، الأمر الذي يضع الشاعر العامي موضع القدوة للمجتمع، ما يفرض عليه العناية أكثر بشعره، والتأمل والتدبر في قصيدته قبل أن يلقيها في مسامع الشباب الذين يتلقفون منه كل شيء.

فلينظر الشاعر لنفسه على أنها شخصية اجتماعية مؤثرة في أهم طبقات المجتمع، وليستغل تأثيره لخدمة مجتمعه، بدلًا من إثارة الطائفية، وإشاعة وتثبيت الأعراف الاجتماعية الخاطئة التي تطرقت إليها سلفًا، وأتمنى عليهم أن يكتبوا لنا قصائد تشعرنا ولو بقليل من السعادة، بدل الحزن، وتصنع لنا جوًّا نفسيًّا للثقة بالآخَر بدل توقع الخيانة منه.

الجدير بالذكر أن الشاعر إيهاب المالكي كان الشاعر المُفضَّل ﻟ ٥٥٪ من العيِّنة، فيما تقاسم الشعراء «رائد أبو فتيان، عريان السيد خلف، علي المنصوري، مصطفى العيساوي، عبد الخالق المحنة» ٣٥٪، بينما كان البقية شعراء مفضلين ﻟ ١٠٪ من العينة، وأن هذه النتيجة تستدعي وضع تحليل لشخصية الشاعر «إيهاب المالكي»، فهو الشاعر الذي رآه محبوه في منامهم، وتمنَّت الفتيات الزواج منه، وحاول البعض التشبُّه به، واعتبر حُبه كالمرض الذي لا شفاء له، وأرى انجذاب الجمهور لهذا الشاعر يرجع إلى:
  • لا يتمتع الشاعر إيهاب المالكي بجسم متناسق تمامًا، لكن اختياره لما يرتديه، وذوقه المُوفَّق في التقاط صوره المنشورة جعله أكثر جاذبيةً للجمهور، ولا ننسى أنه «أصلع نسبيًّا» السمة التي أثبتت جاذبيتها للنساء في دراسات عديدة.

  • تتسم ملامح وجهه بقدرتها على تصوير مختلف الانفعالات سیما انفعال الحزن الذي يجذب العراقيين كثيرًا.

  • طبقته الصوتية المنسجمة وذوق العراقيين الذين يحبون الحزن والغضب والصراخ.

  • تعبيره عن مشاعر المجتمع الشاب المضطرب نفسيًّا، الذي يشعر بالخيانة والإحباط وقلة الثقة بالآخَر، فصارت قصائده رسالة تعبير عن واقعهم.

  • استعماله لمفردات حيَّة مفهومة؛ إذ لا نجد في قصائده مفردات مندثرةً أو خاصةً بمنطقة مُعيَّنة.

(٨) الخاتمة

ازدواجية اللغة (فصحى – عامية) ليست حكرًا على اللغة العربية، إنَّما ظاهرة امتدت لتشمل غالبية لغات العالم، بسبب التطورات المستمرة، الأمر الذي استدعى ظهور أدبٍ عامِّيٍّ إلى جانب الأدب الفصيح.

المُدهش أنَّ هذا الأدب الجديد انتشر انتشار النار في الهشيم، فقد أقصى الأدب الفصيح، واحتلَّ المساحة الأوسع في المجتمع، والعِلَّة في ذلك ليست بساطة اللغة فحسب، وإنَّما انسجامه مع أذواق الناس وهموهم اليومية، فصور بؤس حياتهم بلغتهم التي يتكلمون، وشاركهم حزنهم، وعبر عن مكبوتاتهم النفسية، فصار جزءًا من حياتهم.

الجدير بالذكر أنَّ الشعر العامي، في غالبيته، شعر بسيط خالٍ من الإبداع، بسبب ضعف ثقافة الشاعر، وثقافة المتلقي التي تفرض على الشاعر مادةً بعينها، وغالبًا ما نجد القلم العامي الواعي أقل شهرةً، وأكثر انزواءً، لا يحبذه المتلقي، ولا يبحث عن شعره.

وتنتشر في الشعر العامي العراقي ظواهر نفسية متعددة سلَّط الضوء على أكثرها انتشارًا «لوم الذات والمازوشية والتباهي بالحزن وتشوُّه صورة المرأة وضعف الشعور بالأمن»، وقد تبيَّن أنَّ جمهور الشعر العامي أكثر إعجابًا وحبًّا لشعرائه من جمهور الشعر الفصيح، وأنَّ له سمات تختلف عن تلك التي يتَّسم بها جمهور الشعر الفصيح، ففي الوقت الذي يفخر فيه جمهور الشعر العامي بالقبلية ويدعو إلى الركون إليها، ينبذها متذوقو الشعر الفصيح ويدعون إلى العقلانية حتى في العقيدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤