الجنس والإيروسية

«… وكان في قصر الملك شبابيك تُطلُّ على بستان أخيه. فنظر، وإذا بباب القصر قد فُتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبدًا وامرأة أخيه تمشي بينهم وهي في غاية الحُسن والجمال، حتى وصلوا إلى فسقية وخلعوا ثيابهم وجلسوا مع بعضهم. وإذا بامرأة الملك قالت: يا مسعود، فجاءها عبد أسود فعانقها وعانقته.»

حكاية الملك شهريار وأخيه شاه زمان

«… فتبسَّمت وأطلعته معها على السرير وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير، ومالت عليه بالتقبيل والعِناق والتفاف ساقٍ على ساق ثم قالت له: مُدَّ يدَك إلى فخذي .. فبكى وقال إني لا أُحسن شيئًا من ذلك. فقالت بحياتي أن تفعل ما أمرتُك به مما هنالك. فمدَّ يدَه وفؤاده في زفيرٍ فوجد فخذَها ألينَ من الزبد وأنعم من الحرير، فاستلذَّ بلمسِها وجال بيدِه في جميع الجهات .. فقال في نفسه: لعلَّ هذا الملك خُنثى وليس بذكَرٍ ولا أنثى. ثم قال: أيها الملك .. ما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها وقالت له: يا حبيبي ما أسرع ما نسيتَ ليالي بِتناها، وعرَّفته بنفسها. فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور، فاحتضنها واحتضنته وقبَّلها وقبَّلته ثم اضطجعا على فراش الوصال …»

حكاية قمر الزمان مع الملكة بدور

«… ثم إنها نزعت ما عليها من ثياب ولبست أفخر ما عندها من ملابس النساء فعلمتُ أنها أُنثى. ثم أنها أحضرت خمرًا وشربت منه وسقَتِ القرد، ثم واقعَها القرد نحو عشر مراتٍ حتى غُشي عليها. وبعد ذلك نشر القرد عليها ملاءةً من حريرٍ وراح محله.»

حكاية بنت السلطان والقرد

«… قالت والله كنتُ قبل مَحبتي هذا الغلام في غاية الدلال بهيئة الجمال والكمال ولقد فَتنتُ جميع ملوك البصرة حتى افتُتن بي هذا الغلام. قلت: يا هذه، وما فرَّق بينكما؟ قالت: نوائب الدهر ولِحديثي وحديثه شأن عجيب، وذلك أني قعدتُ في يوم نيروز ودعوتُ عدةً من جواري البصرة، وفي تلك الجواري جارية سيران، وكان ثمنُها ثمانين ألف درهم، وكانت لي مُحِبة وبي مُولَعة، فلمَّا دخلتْ رمَت نفسَها وكادت تُقطِّعني قرضًا وعضًّا، ثم خلَونا نتنعَّم بالشراب إلى أن يتهيأ طعامنا ويتكامَل سرورنا وكانت تُلاعبني وألاعبها فتارةً أنا فوقها وتارة هي فوقي، فحملها السُّكر إلى أن ضربت يدَها إلى دكَّتي فحلَّتْها من غير ريبةٍ كانت بيننا ونزل سروالي بالمُداعبة. فبينما نحن كذلك إذ دخل هو على حين غفلة، فرأى ذلك فاغتاظ وانصرف عني انصراف المهرة العربية إذا سمِعَت صلاصل لجامها، فولَّى خارجًا …»

حكاية ضمرة بن المغيرة التي حكاها حسين الخليع لهارون الرشيد

«… ثم مشت والصبية تابعة لها وابن التاجر تابِعٌ للصبية إلى أن أقبلتْ على مصبغة وكان بها واحد مُعلم يُسمَّى الحاج محمد وكان مثل سكين القلاقسي يقطع الذكر والأنثى يُحب أكل التين والرمان …»

حكاية دليلة المُحتالة وبنتها زينب النصابة

•••

يحتوى كتاب ألف ليلة وليلة على صُورٍ للحب والجنس في جميع أشكالهما، فقد سمح التنوُّع الشامل للقصص التي وردت على لسان شهرزاد، والزمان والمكان الواسعَي النطاق ممَّا تُغطيه تلك الحكايات، بتبيان صورٍ مُتعددة للحالات الغرامية والجنسية من كل ما عرفته النوازع الإنسانية.

فإذا نظرْنا إلى الحكايات التي تتناول موضوعات الإيروسية والجنس، وقد أوردنا عاليه بعض الاقتباسات التي تُوضحها، لوجدْنا أن القصص قد تناولت كثيرًا موضوع الخيانة الزوجية، خاصة من جهة النساء، كما يَبين من حادثتي زوجتَي شهريار وشاه زمان، بالإضافة إلى القصص التي سيرد ذكرها في الفصل الخاص بحِيَل النساء ومكرهن.

وقد صوَّرت بعض الحكايات الحُب المِثلي، كما في النوادر المَحكية عن أبي نواس والغلمان المردة. وكذلك يبين اقتباس حسين الخليع نوعًا من المِثلية النسائية التي يدعوها العرب بالسحاق، وقد ورد ذِكره في الأدب العربي القديم على نحوٍ أقل بكثيرٍ من التغزُّل بالذكور. ويرد في قصة قمر الزمان والملكة بدور ذلك الموقف الفاحش الذي تخدع فيه الملكة زوجها وهي مُتنكِّرة في زى الرجال فيظنُّها من الرجال المِثليين. كما لم تفُت حكايات ألف ليلة ذِكر مزدوَجي الهوى الجنسي BI-SEXUAL، في شخصية الرجل «الذي يقطع الأُنثى والذكر» ويُحب التين كما يُحب الرمان!

أما جنس المحارم فقد ورد في حكاية الصعلوك الأول المُتفرعة من قصة الحمَّال والبنات، حين يحكي عن ابن عمه الذي حبس نفسه مع أُخته في قبوٍ بعد أن هام بها وهامت به، وكانت النتيجة أن «صارا فحمًا أسود وهما مُتعانِقان كأنما أُلقِيا في جبِّ نار.» ويشرح الأب ما حدث بقوله: «يا ابن أخي، ولدي هذا كان من صغره مُولعًا بحُب أخته وكنتُ أنهاه عنها وأقول في نفسي: إنهما صغيران، فلمَّا كبرا وقع بينهما القبيح وسمعتُ بذلك ولم أُصدِّق، ولكني زجرتُه زجرًا بليغًا وقلتُ له: احذر من هذه الأفعال القبيحة التي لم يفعلها أحد قبلك ولا يفعلها أحدٌ بعدك وإلَّا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان إلى الممات، وتَشيع أخبارُنا مع الركبان. وإيَّاك أن تصدُر منك هذه الفعال فإني أسخط عليك وأقتلك، ثم حجبتُه عنها وحجبتُها عنه. وكانت الخبيثة تُحبُّه مَحبةً عظيمةً وقد تمكَّن الشيطان فيهما. فلمَّا رآني حجبتُه، فعمل هذا المكان الذي تحت الأرض خفيةً ونقل إليه المأكول كما تراه واستغفلني لمَّا خرجتُ إلى الصيد وأتى هذا المكان، فغار عليه وعليها الحق سبحانه وتعالى وأحرقهما، ولَعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى.»

وثمة حكاية أخرى بها ذلك النوع من الحب المُحرَّم، في قصة قمر الزمان والملكة بدور، في شطرها الثاني، حين يتعلق فؤاد الملكة بدور بابن زوجها من الملكة حياة النفوس؛ الملك الأسعد، ويتعلق فؤاد الملكة حياة النفوس بابن زوجها من الملكة بدور؛ الملك الأمجد. وتنتهي تلك العواطف غير الطبيعية كالعادة نهاياتٍ مأساوية.

ويُمثل اقتباس القرد، وثمة حكاية أخرى مع دُب، ما يُسمَّى بالجنس مع الحيوانات BESTIALITY. ومن الجدير بالذكر أن كل أنواع هذه الأنشطة والمواقف الجنسية قد شاعت في الكتُب الإيروسية في كل العصور، وخاصة في عصور ما بعد النهضة. وزادت الإيروسية الغربية أنواعًا أخرى كالسادية والماسوشية، التي نراها في كثيرٍ من القصص والروايات الغربية التي ظهرت بعد ذلك.

•••

وحين قام المستشرق الفرنسي «أنطوان جالان» بترجمة المخطوطات التي حصل عليها من قصص ألف ليلة وليلة، كان ذلك عام ١٧٠٤م، في عصر الملك لويس الرابع عشر الذي يُلقَّب بالملك الشمس، والذي بلغت فرنسا في عهده أوْج ازدهارها الثقافي والحضاري. ورغم الحرية النسبية — من الناحية الأخلاقية — التي كان يعيش فيها الفرنسيون آنذاك، خاصة طبقة الأمراء والنبلاء، فلم يكن مسموحًا بطبْع شيء يتنافى مع الأخلاق والدين والعُرف السائد أيامها. ولذلك فقد عمد جالان في ترجمته إلى حذف أو تغيير كل ما اعتبرَه خادشًا للحياء أو خارجًا عن حدود الأدب؛ أي كل شيءٍ جنسي أو إيروسي. وهكذا، مثلًا، نراه يتجنَّب وصف مشهد خيانة زوجة الملك شهريار الأولى مع العبد مسعود، ويكتفي بقول: «ولا يسمح لنا الحياء أن نقصَّ كل ما حدث بين هؤلاء النسوة وأولئك العبيد، وهذا من التفاصيل التي لا حاجة لنا بها.» ويمضي جالان بنفس هذا الأسلوب التنقيحي في ترجمته، فنحن لا نجد فيها تفاصيل ما وقع بين الحمَّال والبنات الثلاث من أشعارٍ ومُداعَبات ومُلاعَبات إيروسية صرف وكلمات مكشوفة. وكان جالان يتدخل في السياق كما رأينا ليُعلق على النصوص، ويحذف ما يتراءى له أنه غير مسموح به في المطبوعات التي تُجاز للنشر في تلك الأيام.

وقد شاع بناء على ذلك الاعتقاد بأن ألف ليلة وليلة التي ترجمها جالان ثم تُرجِمت عنه إلى لغاتٍ أوروبية أخرى، ليست الترجمة الكاملة للكتاب، وقد زاد من ذلك الاعتقاد الصحيح قيام جالان بحذف الأشعار الكثيرة التي تتخلَّل حكايات ألف ليلة في نصِّها العربي. وحين قام المُستشرق المعروف «إدوارد لين» بترجمته الجديدة للكتاب إلى الإنجليزية، سار على ذلك النهج من الرقابة الذاتية، فعمد إلى تهذيب وتنقيح كل ما رآه غير صالحٍ لقراءة أبناء العصر الفكتوري الذي اشتُهر بتزمُّته الشديد. ولذلك، حين بدأ المُترجم والشاعر الإنجليزي «روبرت بين» في ترجمة ألف ليلة، أعلن أنها أول مرةٍ يتم فيها تقديم ترجمةٍ كاملة أمينة لجميع حكايات الكتاب العربي. وبالفعل، لم يحذف «بين» العبارات والألفاظ والمواقف الجنسية والإيروسية، ولكنه عمَد إلى تغليفها في لغةٍ إنجليزية قديمة وأسلوبٍ عتيق، جعل فهمها صعبًا؛ وصاغ الكلمات المكشوفة في أسماء وعبارات رمزية، حتى إن قارئ الإنجليزية في عصرنا الراهن لن تصدِمَه هذه الكلمات والعبارات، هذا إن فهِمَها أصلًا. ولكن كل ذلك لم يُعفِ «بين» من حذَر الرقابة الصارمة التي كانت سائدةً أيامه، فلجأ إلى الحيلة، بأن جعل توزيع وبيع نُسَخ ترجمته — التي جاءت في تسعة مجلدات — يقتصر على الاشتراكات الخاصة، وأصدرها عن دار نشرٍ وهمية أطلق عليها اسم «جمعية فيُّون». وقد أصدر «بين» ترجمته في ٥٠٠ نسخةٍ فقط، مع التعهُّد بعدم إعادة طبعها مرةً أخرى إبَّان حياته، رغم أن عدد «الاشتراكات» التي تلقَّاها طلبًا لترجمته بلغ الألفين.

وقد استغل «ريتشارد بيرتون» — الرحالة والمغامر والمُستشرق الشهير — إقبال المُشتركين على ترجمة «بين» فأصدر ترجمته هو — التي اعتمد في معظمها على ترجمة «بين» نفسها — في عام ١٨٨٥م في عشرة أجزاء، أتبعها بسبعة أجزاء أخرى خلال الأعوام ١٨٨٦–١٨٨٨م — تحت عنوان «الليالي التكميلية». وقد ترجم بيرتون ألف ليلة وليلة كاملة، بما فيها الألفاظ والمواقف الإيروسية، ولكنه سار على نهج «بين» في ذلك أيضًا، فصاغ تلك الألفاظ في لغةٍ قديمة مهجورة قد لا يفهمها القارئ الإنجليزى، وإن كانت طبيعة بيرتون المُتحرِّرة جعلته أحيانًا أصرح من «بين» في اختيار بعض الكلمات. وقد أصدر بيرتون طبعته على هيئة اشتراكاتٍ خاصة كذلك إفلاتًا من الرقابة، وعن دار نشرٍ مزعومة اختار لها اسما هنديًّا هو «جمعية كاماشسترا»، بينما هي في الحقيقة قد طُبِعت ونُشرت في لندن ذاتها. وقد باع بيرتون جميع النُّسَخ الألفين من ترجمته في طبعتها الأولى وحقَّق من وراء ذلك ربحًا هائلًا.

غير أن الإشارات الإيروسية والشروحات الجنسية عند بيرتون تتبدَّى أكثر ما تتبدَّى في الحواشي والتعليقات التي أضافها على المتن. وقد صبَّ بيرتون في تلك الحواشي خلاصة أبحاثه وآرائه الشخصية حول العادات والتقاليد العربية والإسلامية، ودراساته الأنثروبولوجية والإثنوجرافية التي جمعَها خلال سياحاته العديدة في البلدان العربية والإسلامية وغيرها، والتي كان يكتُبها قبل أن يشرع في ترجمة ألف ليلة. ومما يؤخَذ على بيرتون أنه كان يعمد أحيانًا إلى الإضافة في النص كيما يضع فيه شيئًا يُتيح له التعليق عليه، فيتَّخذ ذلك تَعِلَّة لإظهار معلوماته الغزيرة حول موضوعٍ ما. ومن أمثلة ذلك ما حدث في ترجمته لحكاية «البطل المُسلم والصبيَّة المسيحية»، ففيها جُملة وردت هكذا في الأصل: «وعندها شرح لها الدين الإسلامي، فقبلت الإسلام دينًا، وبعد ذلك توضَّأت وعلَّمها أداء الصلاة الإسلامية.» وقد ترجم بيرتون النص كالآتي: «وعندها شرح لها عقائد الدين الإسلامي، فأصبحت مُسلمة، وبعد ذلك جرى اختتانها وعلَّمها أداء الصلاة.» وقد أقحم بيرتون مسألة الاختتان كيما يضع حاشيةً مُسهبة يُعلق فيها على موضوع ختان الإناث. ويقول في حاشيته: «يَعتبر المسلمون، مثلهم في ذلك مثل الأقدَمين (أرسطو وغيره) البظر مركزًا للشهوة .. وهو يبرُز من بين اللابيا. ويُمثل قص رأس البظر عملية الختان الأنثوي. ويفترض المسلمون أن هذه الشعيرة قد ابتدعتها سارة التي شوَّهَت هاجر نتيجة غيرتها منها، ثم أمرَها الله بعد ذلك بالاختتان في نفس الوقت مع إبراهيم. والختان الآن (أو يجب أن يكون) عامًّا في الإسلام، ولا يتزوج عربي من فتاة لم «تتطهر» على ذلك النحو.»

ومن الواضح أن كلام بيرتون غير صحيح وتعوزه الدقة، وأنه يُورِد هذه المسائل لِما تحمِله من صفات إكزوتيكية وإيروسية أكثر منها معلومات علمية وتاريخية. وقد علَّق أيضًا على حكاية خيانة زوجتَيْ شاه زمان وشهريار مع العبيد السود بقوله: «تُفضل النسوة الداعراتُ الزنوجَ على أساس حجم أعضائهم.» ويُتبع هذه العبارة بمقاييس يقول إنه أجراها بنفسه في أنحاء مُتفرقة من العالَم، وعلى جنسياتٍ وإثنيات عديدة خلال ترحالاته. ويستطرد بيرتون في مثل هذه التعليقات الغريبة، التي يبدو أنه قد أضافها كمُتبِّلات لترجمته. ويبدو أن بيرتون قد استقى بعض معلوماته القاصرة — مثل شرحه لطريقة ختان الإناث في قبائل أعالي النيل — من مشاهداته وتجاربه مع البغايا في أواسط القرن التاسع عشر!

وقد تَبِعَت تلكما الترجمتَين الضخمتَين ﻟ «بين» وبيرتون، ترجمةٌ إلى الفرنسية قام بها «ماردروس»، ركَّز فيها كثيرًا على النواحي الإيروسية في القصص، بل وكان يُضيف من عندياته كيما يتوسَّع في تلك النواحي بصفةٍ خاصة. وقد أصبحت تلك الترجمة مشهورةً بإيروسيتها، رغم أنها صدرت في أوائل القرن العشرين، ولكن قوانين الرقابة الفرنسية كانت أكثر تَسامُحًا عنها في الدول الأخرى، مما أدَّى إلى صدور العديد من كتُب الأدب المكشوف — أو التي كان يُشتبَه في أنها من الأدب المكشوف كعوليس لجيمس جويس — في فرنسا أولًا قبل صدورها بعد ذلك في الدول الغربية الأخرى. ومن الجدير بالملاحظة أنه حين كان التعتيم على النواحي الجنسية والألفاظ الصريحة والمشاهد الإيروسية في ألف ليلة وليلة قائمًا في ترجماتها الأوروبية، كانت النصوص العربية للكِتاب يتمُّ تداولها كاملةً في حرية دون حرَج أو رقابة. وقد ظلَّ هذا قائمًا حتى الربع الأخير من القرن العشرين، فانقلبت الآية، إذ أصبحت الترجمات الغربية كاملةً صريحة، بينما جرى مصادرة طبعات من ألف ليلة وليلة بالعربية في القاهرة، إلى أن عاد الكِتاب إلى التداول بعد احتجاج المُثقفين المصريين والعرب، وتم نشر طبعاتٍ جديدة للكتاب الكامل بوصفه من عيون التراث العربي.

أما الانفراج في حرية الترجمة إلى اللغات الأوروبية لألف ليلة وليلة الكاملة، فقد واكبت قوانين حرية النشر الأدبي والفني، بعد معارك قانونية وقضائية مريرة في بعض البلدان، قامت أولًا في الولايات المتحدة، بمناسبة نشر رائعة جيمس جويس «عوليس» عام ١٩٣٤م، وفي بريطانيا بعد ذلك للسماح بنشر نفس ذلك الكتاب، ولرواية د. ﻫ. لورانس «عشيق الليدي تشاترلي» التي ترافَع فيها كوكبة من الأُدباء البريطانيين المشهورين، وعلى رأسهم إ. م. فورستر.

وفي عام ١٩٦٨م، قام «رينيه الخوام» بنشر ترجمته الفرنسية الكاملة لألف ليلة وليلة، حيث مارس حريةً كاملة في نقل ألفاظ ومشاهد الحكايات، وأشعارها الإيروسية، بصراحةٍ تامة. كذلك أصدر الباحث «حسين حداوي» مُجلدَين من حكايات ألف ليلة وليلة بالإنجليزية، أورد فيهما لأول مرةٍ تقريبًا تلك الألفاظ الإنجليزية الشائعة اليوم، التي يُطلَق عليها كلمات الحروف الأربعة، دون حاجةٍ إلى اللجوء إلى الألفاظ الإنجليزية المهجورة، أو إلى التعتيم والتورية، كما في الترجمات السابقة.

وتذكر الباحثة «ميا جيرهارت» أن الشُّهرة الإيروسية قد أضرَّت بسُمعة كتاب ألف ليلة وليلة في الغرب نتيجةً أساسًا للترجمات التي ركَّزت على تلك العناصر الجنسية وأضافت إليها. وتُفرِّق الباحثة بين تلك العناصر، فتقول إن الكتاب يحتوي على عدة مَقاطع من حكاياتٍ يكون العامل الإيروسي فيها مقصودًا في حدِّ ذاته، بيد أن هناك عددًا أكبر من الحكايات والمقاطع والأوصاف التي ترِد بصورةٍ طبيعية في النص بلا تصنُّع أو تكلُّف، وهي وإن كانت غير مقبولة أو مُستساغة في أوساط المجتمع الأوروبي في السابق — ولم تُقبَل إلَّا حديثًا — فإنها لم تكن تُثير حرجًا على الإطلاق لدى الشعوب الشرقية. ومِن المفارقات العجيبة أن هذا الموقف الذي تُشير إليه جيرهارت قد انعكس تمامًا في عصرنا الحاضر؛ إذ أصبح المجتمع الأوروبي يقبل ويسمح بكتاباتٍ تُصوِّر العواطف الجنسية والإيروسية (بل والبورنوغرافية)، بينما أصبحت المجتمعات الشرقية، والعربية خاصة، ترصد وتُطارد أي كتابٍ به ذِكر أو تلميح جنسي أو إيروسي مكشوف. وكما ذكرنا، لم يَسْلَم كتاب ألف ليلة وليلة من هجوم «المُتشدِّدين الجُدد» الذين صادروها في مصر قلب الأمة العربية في أواخر القرن العشرين، بينما كنَّا نشتري مجلداتها الأربعة الكاملة من على سور الأزبكية بالقاهرة في الخمسينيات بقروشٍ زهيدة!

والواقع يقول إن الألفاظ والمواقف «المكشوفة» التي ترِد في حكايات ألف ليلة دون داعٍ سوى الإثارة، يُمكن حصرها في تصانيف مُحدَّدة، هي — كما تذكر «ميا جيرهارت» أيضًا:

  • (١)

    موقف التعرُّف بين قمر الزمان وبدور التي كانت مُتنكرة في زيِّ رجل، والذي يتكرَّر في قصة علي شار، وما جاء في هذا المشهد من قصائد إباحية.

  • (٢)

    مشهد المُلاعَبات الصاخبة بين الحمَّال والثلاث بنات.

  • (٣)

    القصيدة الإباحية الواردة في حكاية «أبو الحسن العُماني».

ومن اليسير التعامُل مع تلك النقاط القليلة الصريحة بما يُتيح عدم تعرُّض الكتاب للمصادرة أو التشويه في المُجتمعات المحافظة. وقد لاحظ بعض الباحثين أن مثل هذه المواقف والألفاظ الجنسية ربما تكون قد أُضيفت في الطَّور الشفوي للحكايات، نتيجة قيام الرواة بإدراجها ضِمن حكاياتهم، درًّا لإعجاب السامِعين الذين كانوا كلهم من الرجال. وكان الرواة «يُتبِّلون» حكاياتهم بمِثل تلك المشاهد المثيرة، لإرضاء السامِعين وتشويقهم؛ وعادة ما كان يُقصَد من تلك «المُتبلات» إثارة الضحك والسرور أكثر منها للإثارة الجنسية.

وقد ارتبط الجنس والمشاهد الحِسِّية في ألف ليلة وليلة بالحواس؛ خاصة حواس الشمِّ والذَّوق والسمع. فقصص الكتاب تتفنَّن في وصف العطور والبخور وأصنافها؛ كذلك الألحان والأغاني التي تُصاحب مجالس الحُب والغرام. أما الذوق فهو هنا يعود إلى الطعام والشراب في كل أصنافهما. ففي مشهد الحمَّال والبنات الثلاث، مثلًا، نجد البنت تتسوَّق أصنافًا وأصنافًا من مواد الغذاء والفاكهة، كي يَستخدموها بعد ذلك في إعداد موائد حافلة بالطعام والشراب، حيث يتزامن الأكل مع المُلاعَبات والمطارحات مع الحمَّال. ويتكرَّر هذا المشهد في كثير من «مجالس الأنس» التي تحفل بها حكايات ألف ليلة، خاصة في مجالس الأمراء والملوك، وكذلك كبار التجَّار وأغنيائهم.

وقد خصَّص الدكتور جابر عصفور مقالًا في مجلة العربي الكويتية (سبتمبر ٢٠٠٤م) عن أوجه العلاقة بين الجنس والطعام، حلَّل فيه ببراعةٍ ودقة ما أشرْنا إليه هنا، ويقول فيه «… ولذلك امتلأت حكايات ألف ليلة وليلة بمشاهد الطعام التي تجمع ما بين الحبيبَين، أو مآدب الطعام التي تُعِدها حبيبات مُشتاقات أو طامِعات في وصال الرجال الذين أصبحوا مناط الرغبة لأسبابٍ عديدة.» وقد عاد الدكتور عصفور في مقاله إلى مُعلقة «طرفة بن العبد» كيما يُدلِّل على التلازُم بين لوازم الطعام (الشراب) والجنس، في الأبيات:

ولولا ثلاثٌ هنَّ من عِيشة الفتى
وَجدِّك لم أحفل متى قام عُوَّدي
فمِنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشربةٍ
كميتٍ متى ما تُعلَ بالماء تُزبدِ
وكرِّي إذا نادى المُضاف مُحنبًا
كسيد الغضا نبَّهتَهُ المُتوردِ
وتقصير يوم الدَّجن والدَّجن مُعجب
ببهكنةٍ تحت الخباء المُعمدِ

ويُعلق بأنها تؤكد التلازُم بين الطعام (الشراب) والجنس (البهكنة)، مع دلالات القوة الجسدية، والتعلُّق بالمرأة المُمتلئة الجسم، بما يرمُز إليه ذلك من حُب الطعام، وبما يجعلها كذلك «شهية للأكل»!

ويعود الباحث إلى ألف ليلة وليلة، مُبينًا أن ثمَّة مشاهد فجَّة من العلاقة بين الجنس والطعام في بعض حكاياتها، ولكن «… كثير من مشاهد ألف ليلة وليلة تؤدي فيها دلالات الاقتران بين الطعام والجنس معاني الحب الذي يعلو على معنى الغريزة البهيمي ويَدخُل بنا في أفُق روضٍ ماطر من حضور الرغبة …» وقد أنهى الدكتور عصفور مقاله بتركيزٍ كامل على ألف ليلة وليلة، فيذكُر أن الكتاب يُعلي في بعض مشاهده من وضع المرأة وصِفتها، وأن شهرزاد قد «قرأت ودرست معارف الأوَّلِين والآخرين، وهي صفات تنقلها من باب وعاء تفريغ الشهوة إلى وعاء الحكمة .. استطاعت شهرزاد ترويض الجانب الحيواني من شهريار، ساعيةً إلى تغليب الجانب الإنساني في حضوره، فاستبدلت فيه بالحيوان الفحل، الذي لا عقل له، الإنسان المُناضل في مغزى الحكايات المُتكررة، والمُتنوعة، والمُراوغة، والتعليمية في الوقت نفسه. وليلةً بعد أخرى، تتسرَّب الدلالات إلى صورته الإنسية، ويتحوَّل الفحل الحيواني إلى عقلٍ يستبدل بِنهم الغريزة الصِّرف، نهمَ المعرفة التي تُكمِّل المعنوي بالحِسي، وتمزج الجسدي بالروحي، فيرتقي الوعي، ويبتعِد الموت المُشرع في سيف السيَّاف، ويَقهر الحب — في الحكايات — الموتَ الذي جاءت به الخيانة.»

وقد ظهرت أدلة ما ذكره الدكتور عصفور في كثيرٍ من حكايات ألف ليلة وليلة، غير قصة الحمَّال والبنات الثلاث، ربما أبرزها ما جاء في حكاية «جلنار البحرية وبدر باسم». ذلك أن الملك بدرًا يسيح في الأرض بعد رفض الملك السمندل زواجَه من ابنته جوهرة، فيَصِل إلى بلدٍ كل أهله من السحرة، ومنهم الملكة لاب التي تهيم غرامًا ببدر باسم وتعتزم إغواءه. وبالفعل تدعوه إلى قصرها، وعندها تستعين بالطعام والشراب والموسيقى والعطور في جذْب قلب وحسِّ بدر إليها: «فجلست الملكة في شبَّاك يُشرف على البستان وهي على سريرٍ من العاج وفوق السرير فرش عالٍ، وجلس الملك بدر باسم إلى جانبها فقبَّلته وضمَّته إلى صدرها ثم أمرت الجواري بإحضار مائدة. فحضرت مائدة من الذهب الأحمر مُرصعة بالدُّر والجوهر وفيها من سائر الأطعمة، فأكلا حتى اكتفَيا وغسلا أيدِيَهما. ثم أحضرت الجواري أواني الذهب والفضة والبلُّور وأحضرت أيضًا جميع أجناس الأزهار وأطباق النُقل. ثم إنها أمرت بإحضار مُغنيات، فحضر عشر جوارٍ كأنهنَّ الأقمار وبأيديهنَّ سائر آلات الملاهي. ثم إن الملكة ملأت قدحًا وشرِبَته وملأت آخر وناولته الملك بدر باسم فأخذه وشرِبه، ولم يزالا كذلك يشربان حتى اكتفيا. ثم أمرت الجواري أن يُغنِّين، فغنَّيْن بسائر الألحان وتَخيل الملك بدر باسم أنه يرقص به القصر طربًا، فطاش عقله وانشرح صدره ونسي الغربة وقال: إن هذه الملكة شابَّة مليحة ما بقِيتُ أروح من عندها أبدًا لأن مُلكها أوسع من مُلكي وهي أحسن من الملكة جوهرة. ولم يزل يشرَب معها إلى أن أمسى المساء وأُوقِدت القناديل والشموع وأطلقوا البخور، ولم يزالا يشربان إلى أن سَكِرا والمُغنيات يُغنِّين. فلمَّا سكِرَت الملكة لاب، قامت من موضعها ونامت على سرير وأمرت الجواري بالانصراف، ثم أمرت الملك بدر باسم بالنوم إلى جانبها، فنام معها في أطيب عيشٍ إلى أن أصبح الصباح.»

(١) لمحة عن تاريخ الإيروسية العربية

في كتاب للأديب الأردني الكبير عيسى الناعوري عن ذكرياته في إيطاليا وعن الأدب الإيطالي الذي تَرجم منه الكثير إلى اللغة العربية، يذكُر أنه تعرَّف إلى الروائي الإيطالي المشهور ألبرتو مورافيا، وناقشَه في أعماله، وذكر من ضِمنها أن روايات مورافيا يصعُب نقلُها إلى العربية بصورتها الكاملة لِما تحويه من أدبٍ مكشوف. وقد أبدى مورافيا دهشته من ذلك وردَّ على الناعوري بقوله: إن العرب هم أصحاب ألف ليلة وليلة، وأنه تلميذ في مدرستها، ومهما كتب لا يُقارن بما فيها من جنسٍ مكشوف!

ولقد عرفت اللغة العربية التعابير الإيروسية منذ القدم، في الأشعار وغيرها من أشكال التعبير الأدبي والفني. ومن ناحية القصص، لم تكن ألف ليلة وليلة هي الكتاب العربي القصصي الوحيد الذي احتوى على حكاياتٍ وألفاظ جنسية، فهناك مثلًا كتاب «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة» الذي وُضِع حوالي القرن العاشر الميلادي. وقد حقَّق المُستشرق الألماني «هانز فير» هذا الكتاب وصدر بالعربية. وهو يحتوي على قصص شبيهة بقصص ألف ليلة وإن لم ينل شهرتها.

والتعبير الإيروسي والجنسي، على وجه العموم، قديم قِدَم وجود الإنسان على الأرض. فثمة رسوم بدائية تمَّ العثور عليها منذ أقدم العصور تُصوِّر العلاقات الجنسية. وفي الحضارة الفرعونية الكثير من تلك الرسوم والتماثيل، وإن كانت لا تُعرَض على عامة الجمهور. كذلك عرف الأدب المصري القديم قصصًا وأساطير بها وُصِف الجنس، وإن كان مُغلفًا بالتوريات أحيانًا، كما في قصة الأخوين والزوجة الخائنة. وقِس على ذلك كل الحضارات التي تلت مصر القديمة؛ يونانية ورومانية وعربية وأوروبية … إلخ.

وبالنسبة إلى اللغة العربية، نعود إلى أقدم النصوص التي بين أيدينا اليوم، فنجد في مُعلقة امرئ القيس (ت عام ٨٠ قبل الهجرة/٥٦٥ ميلادية) صورًا إيروسية خالِصة، رائعة في تصويرها، مثل الأبيات التالية:

ويوم دخلتُ الخِدر خدر عُنيزةٍ
فقالت لك الويلاتُ إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا
عقرتُ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ
فقلتُ لها سِيرى وأرخى زمامَهُ
ولا تُبعدينى من جناكِ المُعللِ
فمِثلك حبلى قد طرقتُ ومُرضِع
فألهيتُها عن ذي تمائم مُحوِلِ
إذا ما بكى من خلفها انصرفَتْ له
بشقٍّ وتَحتيْ شقُّها لم يُحوَّلِ

وأيضًا:

فجئتُ وقد نضَّتْ لنوم ثيابَها
لدى الستر إلا لبسةَ المُتفضلِ
فقالت يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجتُ بها تمشي تجرُّ وراءنا
على إثْرَينا ذيلَ مرطٍ مُرحَّلِ
فلمَّا أجزْنا ساحة الحيِّ وانتحى
بنا بطنُ خبتٍ ذي حقاف عقنقلِ
هصرتُ بفَودي رأسها فتمايلَتْ
عليَّ هضيمَ الكشحِ ريَّا المُخلخلِ
مهفهفةٌ بيضاء غير مفاضةٍ
ترائبها مصقولة كالسجنجلِ

•••

وجيدٍ كجِيد الرئم ليس بفاحشٍ
إذا هي نصَّتهُ ولا بمُعطَّلِ
وفرعٍ يزين المتن أسود فاحمٍ
أثيثٍ كقنو النخلة المُتعثكلِ
غدائره مُستشزراتٌ إلى العُلا
تضلُّ العقاص في مُثنًّى ومُرسَلِ
وكشحٍ لطيفٍ كالجديل مُخصَّرٍ
وساقٍ كأنبوبِ السقيِّ المُذللِ

وكما تخفَّى الناشرون المُحدثون وراء هذه المفردات القديمة الثقيلة الوقع لنشر هذه القصيدة ذات المشاهد التصويرية البديعة للجمال الأنثوي، والمغامرات الغرامية، سأفعل نفس الشيء بعدم شرحها، وعلى من يُريد المعنى الرجوع إلى شرح القصيدة!

ومن الشعر الجاهلى أيضًا، هناك هذه الأبيات الطريفة من قصيدة «المنخل اليَشكري» التي اشتهر منها البيت الأخير:

ولقد دخلتُ على الفتاة
الخدرَ في اليوم المطير
الكاعِب الحسناء ترفُل
في الدمقس وفي الحرير
ودفعتُها فتدافعَت
مشيَ القطاةِ إلى الغدير
ولثمتُها فتنفَّسَت
كتنفُّسِ الظبي الغرير
فترت وقالت يا مُنخَّل
هل بجسمك من حرور؟
ما مسَّ جسمي غير جسمكِ
فاهدئي عنِّي وسِيري
ولقد شربتُ من المدامة
بالصغير وبالكبير
فإذا انتشيتُ فإنني
ربُّ الخوَرْنق والسدير
وإذا صحوتُ فإنني
ربُّ الشويهة والبعير
وأُحِبها وتُحبني
ويُحب ناقتَها بعيري

ولا يظهر الأدب الإيروسي بعد ذلك إلا في العصر الأموي في بعض أشعار عمر بن أبي ربيعة، وبعضها منحول، مثل قوله:

وناهدة الثديَين قلتُ لها اتَّكي
على الرمل من جبَّانة لم تُوسَّدِ
فقالت على اسم الله أمرُك طاعة
وإن كنتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعوَّدِ
فما زلتُ في ليل طويلٍ مُلثِّما
لذيذَ رضابِ المِسك كالمُتَشهِّدِ
فلمَّا دنا الإصباح قالت فضحتني
فقُم غير مطرودٍ وإن شئتَ فازدَدِ
فما ازددتُ منها غير مصِّ لثاتِها
وتقبيل فيها والحديث المُردَّدِ
تزوَّدتُ منها واتَّشحتُ بمِرطِها
وقلتُ لعينيَّ اسفحا الدمع من غدِ
فقامت تُعفِّي بالرداء مكانها
وتطلُب شذرًا من جمانٍ مُبدَّد

وأيضًا:

مَمكورةُ الساق مَقصوم خلاخِلُها
فمُشبَع نَشِبٌ منها ومُنكَسِر
هيفاء لَفَّاء مَصقول عوارِضها
تكاد من ثِقَل الأرداف تَنبَتِرُ

وفي العصر العباسي، بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوْج ازدهارها، وصحِب ذلك نوع من الترَف انعكس على أدب تلك الفترة. وترجع بدايات قصص ألف ليلة وليلة إلى ذلك العصر، نقلًا عن مصادر فارسية وهندية، ثُم تم صبُّها في قوالب عربية إسلامية. وقد عكست الكثير من تلك الحكايات الجوَّ العباسي الصِّرف، من الترَف والفراغ والموسيقى والأغاني، والخمريات، والمُجون، والتواصُل مع العالَم الخارجي عن طريق ازدهار التجارة وكثرة الرحلات، وغير ذلك. بيد أنه تجدُر الإشارة إلى أن كل ذلك قد واكب نهضةً علمية شامخة؛ إذ أقام العرب صرحًا هائلًا من العلوم الدينية والدنيوية؛ في الهندسة والجبر والكيمياء والطبيعة والطب والنبات، والعلوم الفلسفية والجغرافية والتاريخية، التي نهل منها الغرب بعد ذلك وأقام على أساسها حضارته الحالية. ويجِب ألا تُؤخَذ الشخصيات التاريخية المذكورة في ألف ليلة على النحو الذي اقتصرت به على تصويرها، فهي حكايات قصصية خيالية أولًا وأخيرًا. فهارون الرشيد الذي تُصوِّره ألف ليلة وليلة لاهيًا، هو الرشيد الذي كان يرعى العلوم والفلسفة والأدب في عصره، ويُشارك في مجالس العلم والأدب والفن، حينما كان شارلمان — أكبر ملوك أوروبا وقتها — يُجاهد كيما يتمكَّن من كتابة اسمِه وحسب.

وقد بيَّنت الاقتباسات التي أوردناها في صدر هذا الفصل من قصص ألف ليلة وليلة نماذج مُتنوِّعة من النشاط الجنسي، كما ذكرنا في صدر هذا الفصل، فهي تحوي قصص الخيانة الزوجية والجنس المِثلي والجنس مع الحيوانات والسحاق، والمُزاوَجة الجنسية. وهناك أيضًا حادثة أخرى من حوادث الزواج بالمحارم، في قصة «الملك عمر النعمان وولدَيه شركان وضوء المكان» حيث يتزوَّج الأمير شركان من أُخته غير الشقيقة نُزهة الزمان دون أن يعرف مُسبقًا، ثم يزوِّجها من أحد حُجَّابه بعد أن أنجب منها ابنًا. غير أن ورود كل تلك الأمور في الكتاب لا يَعني أن هذه الممارسات كانت شائعةً في تلك العصور، بل هو مجرد تصوير قصصي لنماذج قصصية تشدُّ انتباه السامِعين؛ كما أنها تُبين مدى احتواء الكتاب على صور كاملة لكل أوجه العواطف والنشاط الإنساني بصفةٍ عامة.

وفي نفس العصر العباسي، كتب الحسن بن هانئ — أبو نواس — أشعاره الفاحِشة في التغزُّل بالذكور، كما كانت بعض أشعار الهجاء تشتدُّ وتُغالي في هجوِها فتنحوَ إلى الإقذاع في التعبير بألفاظٍ فاحشة، كقصيدة المُتنبي في هجاء «ضبة»، وهي التي تسبَّبت في مَقتل الشاعر العظيم في آخِر الأمر.

ويذكر الباحث «صقر أبو فخر» في كتاب «الجنس عند العرب» عرضًا سريعًا لمظاهر الحياة الجنسية منذ عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي، يُبين فيه أن الجنس كان دائما جزءًا من الحياة العربية ونشاطًا أساسيًّا فيها لا يدعو إلى الإخفاء أو الحياء منه.

وكان الأُدَباء العرب في تلك العصور أدباء مَوسوعِيِّين؛ فنحن نجِدُهم يتناولون في كتُبهم موضوعات عديدة، وكان منها ما يتعلق بالحُب والجنس. وكانوا يكتبون بحريةٍ تامة، ويُناقشون مسائل الجنس في صراحةٍ وبلا حرج. غير أنه قد جرى استغلال ذلك الأمر، وطرحت عدة كتُب جنسية تحت أسماء كتَّابٍ كبار معروفين، وهم منها بَراء.

ومن الكتب العربية الإيروسية «الكلاسيكية» — إن صح هذا التعبير — ذاع صيت كتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر» من تأليف محمد النفزاوي؛ و«نزهة الألباب فيما لا يُوجَد في كتاب» لشهاب الدين التيفاشي؛ والكتاب الأشهر «رجوع الشيخ إلى صباه في القوَّة على الباه» لأحمد بن سلمان.

وقد انتشرت مثل تلك المؤلَّفات في عهد انحطاط الثقافة العربية، بعد أن أُغلقت أبواب التجديد والاجتهاد. ومع اليقظة الحضارية في أوائل القرن العشرين، بدأ الأدب ينهض من جديد، وعادت إلى اللغة العربية نصاعتها وقوة تعبيرها بعد قرونٍ من التصنُّع البلاغي الذي انحطَّ إلى درْك الركاكة الغثة. بيد أن هذه اليقظة قد واكبها نوع من الرقابة على النقاط الحساسة، وهي الدين والسياسة والجنس. ولذلك كان من الطبيعي الابتعاد عن الموضوعات الجنسية في الكتابات الأدبية. وشمل ذلك الترجمة عن اللغات الأجنبية، فلم يكن مسموحًا بنقل الكتب والروايات التي تشتطُّ في ذكر ووصف العلاقات الجنسية بصورةٍ مباشرة. وحتى في لبنان الذي تمتَّع بقدْر من الحرية الثقافية النسبية، جرى في الستينيات مُصادرة مجموعة قصصية لليلى بعلبكي بعنوان «سفينة حنان إلى القمر»، ومُلاحقتها قضائيًّا، نتيجة اشتمالها على عبارتَين هما: «تمدَّد على ظهره. وغاصت يدُه تحت الشرشف تنشل يدي وترميها على صدره. ثم تذهب في رحلةٍ حول البطن.» وعبارة: «لحوَس أُذني، ثم شفتي وحام فوقي ثم ارتمى وهمس أنه مُلتذ، وإنني طرية ناعمة مُخيفة، وأنه افتقدني كثيرًا.» وقد حقَّقت الشرطة ثم النيابة اللبنانية مع المؤلِّفة، ثُم تمَّ تقديمها إلى المحاكمة بتُهمة «كتابة كتاب يتضمَّن عبارات مُنافية للأخلاق والآداب العامة». وبعد المُرافعات والبحث، أصدرت المحكمة حُكمها ببراءة المؤلِّفة ورفع قرار المصادرة وإعادة الكتب المضبوطة إلى أصحابها.

وقد كان لبنان، ولا يزال، الأكثر انفتاحًا بين الدول العربية من ناحية حُرية النشر، منذ أن انتقل إليها مركز نشر الكتب والمطبوعات من مصر في الخمسينيات. وقد ظهرت فيه ترجمات كاملة لروايات مثل «لوليتا» لنابوكوف، وروايات «هنري ميلر» عميد الأدب المكشوف. وقد جاءت بعض ترجمات كتب ميلر في بدايات القرن الحادي والعشرين مُحتوية على عباراتٍ وألفاظ جنسية صريحة تُماثل الأصل الإنجليزي، خاصة في ثُلاثيته المعنونة «الصليب الوردي»: بليكسوس، سكسوس، نكسوس PLEXUS, SEXUS, NEXUS.

ولكن الموقف لم يكن كذلك في معظم الدول العربية، إذ تحوَّل «المُتشدِّدون الجُدد» إلى رُقَباء على ما يصدر من إبداعاتٍ فنية وأدبية — ناهيك بالفكرية والدينية والفلسفية — وحرصوا على مطاردة أي كتُب يُشتَمُّ منها الخروج على التقاليد والأعراف الأخلاقية. ومن حينٍ لآخر، تُثار زوبعات عنيفة — خاصة في مصر — ضد أعمالٍ أدبية لاحتوائها على بعض الأوصاف أو التعابير الإيروسية. وعبر استعراضٍ عام للكثير من الروايات التي كتبها من أصبحوا يُدعَون «جيل الستينيات» في مصر، لا يغفل القارئ عن ملاحظة «تيمة» مُتكررة في الكثير منها: وهي المشكلة الجنسية التي تُسيطر على الشبَّان في فترة المراهقة وما بعدَها، وطرُق الخلاص من الكبت العاطفي والجنسي. وكان ذلك انعكاسًا للبيئة والظروف التي نشأ في ظلِّها أفراد ذلك الجيل، حيث صاحبتهم نهضة حضارية جاءت مع ثورة يوليو، وحرية شخصية نِسبية تمثَّلت في انفتاحٍ اجتماعي يسمح باختلاط الجنسَين في حدود، وإن كان لا يحلُّ مشكلة الجنس المُستعصِية أمام الشباب.

(٢) لمحة عن تاريخ الإيروسية الغربية

وفي الغرب، انتشرت الكتابات الإيروسية والجنسية منذ العصرَين اليوناني والروماني. ففي اليونان القديمة، اختلفت القِيم الأخلاقية عن مقاييس العصور التالية أو عصرِنا الحالي، فكان الجنس يُعتبَر نشاطًا طبيعيًّا كالأكل والشرب، ولهذا كان من المسموح للكُتَّاب آنذاك تناوُله بهامشٍ كبير من الحُرية والتسامح. وثمَّة إشارات جنسية في الكتابات الملحمية اليونانية القديمة، كالإلياذة والأوديسة؛ بيد أن الإيروسية الصريحة جاءت في المسرحيات الإغريقية، خاصة المَلهاة. ويُعتبَر «أريستوفانيس» من المسرحيين الذين مارسوا حُريَّتهم كاملة في تناول الأمور الإيروسية في كوميدياته، خاصة مسرحيته «ليسستراتا». وموضوع المسرحية يفرض مثل هذا التناول الصريح، فهي تتناول الحرب طويلة الأجل التي نشبت بين أثينا، موطن أريستوفانيس، وإسبرطة، حين تتَّخذ نساء أثينا بزعامة ليسستراتا قرارًا بهجر أزواجهنَّ في الفراش إلى أن تنتهي الحرب ويعمَّ السلام مع إسبرطة. وفي نفس الوقت، تتعهَّد إحدى نساء إسبرطة بأن تقوم بنفس الشيء في بلدها. وتمتلئ المسرحية، التي قُدِّمت لأول مرة في أثينا عام ٤١١ قبل الميلاد، بالمواقف الكوميدية التي تتعرَّض للجنس والمواقف الجنسية والعلاقات الزوجية الحميمة. ولم يكن الجمهور اليوناني يجد غضاضةً أو حرَجًا في ذلك. وحين تُرجمت المسرحية بعد قرونٍ إلى الإنجليزية، كان على المُترجِم التصرُّف في النص كيما يتجنَّب الكلمات والتعبيرات التي اعتبرت «خارجة» بعد ذلك.

أما في ظلِّ الحضارة الرومانية، فقد ازدهر الأدب، بما في ذلك الكتابات التي تناولت الحب والجنس. وكان على رأس هؤلاء الكتاب «الإيروسيين» أوفيد (٤٣ق.م–١٨ ميلادية)، صاحب كتاب «فن الحب» الذي يُمكن اعتباره «دليلًا» للحب والجنس للرجال والنساء على حدٍّ سواء. ولأوفيد كتابات إيروسية أخرى تناقلَها القرَّاء وتسبَّبت في النهاية في نفيه عن وطنه، وإن كان يُقال إن سبب نفيه سياسي وليس بسبب كتاباته الصريحة.

ومن الروايات الرومانية التي اصطبغت بصبغةٍ يونانية، اشتُهرت رواية «ساتيريكون» لبوترونيوس، ورواية «الحمار الذهبي» لأبوليوس. وقد تُرجمت الرواية الثانية عدة مراتٍ إلى العربية، صدرت آخِرها عن الدار العربية للعلوم بترجمة الدكتور الجزائري أبو العيد دودو.

ومع انتشار المسيحية ثم اتخاذها كديانةٍ رسمية في كثيرٍ من الدول، سيطرت النزعة الأخلاقية الجديدة المُرتبط بها على كل مَناحي الحياة، ومنها الأدب، فلم يعُد من المُستحسَن أو المسموح به التعبير عن الجنس بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، وأصبحت البابوية تنشر فهرسًا بالكتب الممنوع قراءتها، عنوانه باللاتينية INDEX LIBRORUM PROHIBITORUM وكان فيه الكثير من الكتب التي تُعَد خروجًا على الأخلاق العامة، وإن كان أغلبها كتابات هرطوقية وضد الدين والكنيسة. وقد حدَّ ذلك من ظهور الكتب الإيروسية خلال العصور الوسطى. ومن بين المؤلِّفين الذين أُدرِجت أسماؤهم في فهرس الكتب الممنوعة، أبيلارد وبوكاتشيو ورابيليه، وقد وصل عدد الكتب التي وردت فيه إلى أكثر من أربعة آلاف كتاب، قبل أن يتم إلغاؤه عام ١٩٦٦م.

ومع ظهور الطباعة في ألمانيا ثم انتشار المطابع في العديد من المدن الأوروبية، واقتران ذلك بعصر النهضة، تكاثرَت المؤلَّفات والمطبوعات، ومن بينها الكتب الإيروسية، فبدأت تظهر كتب الإيروتيكا الخالصة، إلى جانب كتُب المذكرات وسِيَر الحياة الذاتية التي كان الجنس يشغل فيها حيزًا كبيرًا. ومن تلك المؤلَّفات، كتب الإنجليزي «صمويل بيبس» (١٦٣٣–١٧٠٣م) يومياته في مجلدات عديدة، وهي تحتوي على اعترافاتٍ جنسية صريحة، ولذلك كان يندُر العثور على طبعتها الكاملة، واقتصر الأمر على تداول طبعةٍ مُهذبة لها، فيها مختارات مُنتقاة، درسناها في قِسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة في أواخر الخمسينيات، دون أن ندري ما وراءها من كتاباتٍ أخرى صريحة احتوتها اليوميات.

ثم جاءت مذكرات الإيطالي كازانوفا (١٧٢٥–١٧٩٨م)، التي كتبَها بالفرنسية تحمل هي الأخرى أخبار مغامراته النسائية وعشقه الصريح لعديدٍ من النساء اللاتي التقى بهنَّ في حياته.

بيد أن «كلاسيكيات» الأدب الإيروسي الغربي بدأت مع رواية «فاني هيل» للإنجليزي جون كليفلاند التي صدرت عام ١٧٥٠م، وروايات المركيز دي ساد (١٧٤٠–١٨١٤م) تلك الشخصية العجيبة التي خلعت اسمها على «السادية» أي التلذُّذ الجنسي من إنزال الألم بالآخرين.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، ظهر في سوق الإيروسية الإنجليزية كتاب ضخم، من أحد عشر مجلدًا، مجهول المؤلِّف، بعنوان «حياتي السرية»، طبَعَه مؤلِّفه المجهول طبعة «سرية» من سِتِّ نُسَخ فحسب لمكتبته الخاصة. ولكن نُسَخًا أخرى من الكتاب تسرَّبت إلى سوق هواة اقتناء تلك الكتب، وأصبح من أشهر كتب الإيروتيكا. ولم تصدُر له طبعة عامة إلا في عام ١٩٦٦م. كذلك ظهر كتاب «حياتي وغرامياتي» لفرانك هاريس في أربعة مجلدات عام ١٩٢٧م وأصبح من فوره على رأس كتب الإيروتيكا الكلاسيكية.

ومنذ أن ضعف شأن الرقابة الأخلاقية على الأدب في أوروبا، بداية من محاكمة «جوستاف فلوبير» على روايته «مدام بوفاري»، تعدَّدت التحدِّيات الإبداعية للرقابة، فتعدَّدت الانتصارات القضائية في حق أعمالٍ هامة مثل عوليس لجويس وعشيق الليدي تشاترلي للورانس. كذلك جاءت حيثيات حكم القاضي الأمريكي ولزلي بالتصريح بنشر عوليس في أمريكا كوثيقةٍ هامة تُعضِّد الحرية الإبداعية للكاتب، وتُفرَّق بين توظيف العناصر الإيروسية في عمل أدبي جِدي، وبين الأعمال البورنوغرافية التي لا تُمثل أي قيمة فنية.

وقد أدَّى ذلك كله إلى أن أصبح وصف الجنس بكل مواقفه ومشاهِده، والتعابير الإيروسية، عاديًّا في الأعمال الفنية الغربية الآن، وقلَّما تخلو رواية من مثل تلك الأوصاف. وإلى جانب الروايات العادية، أصبح للروايات الإيروسية الصِّرف مكان، وكثيرًا ما يجد زائر أي مكتبةٍ كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة، رُكنًا مخصوصًا يضمُّ الكتب الإيروسية — تحت العنوان اللاتيني العالمي «إيروتيكا». وحتى في إسبانيا التي كانت في عهد الجنرال فرانكو من الدول التي لا تسمح بالمطبوعات والمواد الإيروسية، إلى حدِّ أن سكانها كانوا يُضطرُّون إلى العبور إلى فرنسا لمشاهدة فيلم «التانجو الأخير في باريس»، أصبحت الآن تزخَر بالروايات الإيروسية بل والبورنوغرافية المحلية، والتي يمكن شراؤها من المكتبات العادية في إسبانيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤