الخوارق والعجائبية والواقعية السحرية

«… كان تاجر من التجَّار كثير المال والمعاملات في البلاد، قد ركِب يومًا وخرج يُطالِب في بعض البلاد فاشتدَّ عليه الحر، فجلس تحت شجرةٍ وحطَّ يدَه في خُرجه وأكل كِسرةً كانت معه وتمرة، فلمَّا فرغ من أكل التمرة رمى النواة، وإذا هو بعفريتٍ طويل القامة وبيده سيف. دنا من ذلك التاجر وقال له: قُم حتى أقتُلك مثل ما قتلتَ ولدي، فقال له التاجر: كيف قتلتُ ولدَك؟ قال له: لمَّا أكلت التمرة ورميتَ نواتها جاءت النواة في صدر ولدي، فقُضِي عليه ومات من ساعته …»

حكاية التاجر مع العفريت

«… هذه الغزالة هي بنت عمِّي ومن لحمي ودمي، وكنتُ تزوجتُ بها وهي صغيرة السنِّ وأقمتُ معها نحو ثلاثين سنةً فلم أُرزق منها بولَد، فأخذتُ لي سريةً فرُزقتُ منها بولدٍ ذكَر كأنه البدر .. وكبر شيئًا فشيئًا إلى أن صار ابن خمس عشرة سنة فطرأت لي سفرة إلى بعض المدائن فسافرتُ بمتجر عظيم. وكانت بنت عمِّي هذه الغزالة تعلَّمَت السحرَ والكهانة من صغرها فسحرَتْ ذلك الولدَ عجلًا وسحرَتِ الجاريةَ أمَّهُ بقرةً …»

حكاية الشيخ الأول

«… وإذا بالحكيم دخل الديوان ووقف قُدَّام الملك ومعه كتاب عتيق ومكحلة فيها ذرور وجلس وقال: ائتوني بطبق. فأتوه بطبقٍ وكبَّ فيه الذرور وفرشَه وقال: أيها الملك، خُذ هذا الكتاب ولا تعمل به حتى تقطع رأسي، فإذا قطعتَهُ فاجعله في ذلك الطبق وأمُر بكبسه على ذلك الذرور، فإذا فعلت ذلك فإن دمه ينقطع، ثم افتح الكتاب. ففتحه الملك فوجدَه ملصوقًا فحطَّ أصبعه في فمه وبلَّه بريقه وفتح أول ورقةٍ والثانية والثالثة، والورق ما ينفتح إلا بجهد. ففتح الملك ستَّ ورقات ونظر فيها فلم يجد فيها كتابة، فقال الملك: أيها الحكيم ما فيه شيء مكتوب. فقال الحكيم: قلِّب زيادةً على ذلك. فقلَّب فيه زيادة، فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السُّم لوقته وساعته، فإن الكتاب كان مسمومًا. فعند ذلك تزحزح الملك وصاح وقال: لقد سرى السُّم. فأنشد الحكيم دوبان يقول:

تحكَّموا فاستطالوا في حُكومتِهم
وعن قليلٍ كأن الحُكم لم يَكُنِ
لو أنصفوا أُنصِفوا لكن بغَوا فبغى
عليهم الدهر بالآفات والمِحَنِ
وأصبحوا ولِسان الحال يُنشِدهم
هذا بذاك فلا عَتبٌ على الزمنِ

فلما فرغ دوبان الحكيم من كلامه، سقط الملك ميتًا من وقته …»

حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان

«… وفي غدٍ نصِل إلى جبلٍ من حجر أسود يُسمَّى حجر المغناطيس وتجرُّنا المياه غصبًا إلى جهته، فتتمزق المراكب ويروح كل مسمار في المركب إلى الجبل ويلتصق به. لأن الله وضع في حجر المغناطيس سرًّا وهو أن جميع الحديد يذهب إليه. وفي ذلك الجبل حديد كثير لا يعلَمه إلَّا الله تعالى حتى أنه تكسَّر من قديم الزمان مراكب كثيرة بسبب ذلك الجبل. ويلي ذلك البحر قبةٌ من النحاس الأصفر معقودة على عشرة أعمدة، وفوق القبة فارس على فرَسٍ من نحاس، وفي يدِ ذلك الفارس رُمح من نحاس ومُعلَّق في صدر الفارس لَوح من رصاصٍ منقوش عليه أسماء وطلاسم فيها، أيها الملك، مادام هذا الفارس راكبًا على هذه الفرس تنكسر المراكب التي تفوت من تحته ويهلك رُكَّابها جميعًا، ويلتصق جميع الحديد الذي في المركب بالجبل، وما الخلاص إلا إذا وقع هذا الفارس من فوق تلك الفرس.»

حكاية الصعلوك الثالث

«… وكان والِدُنا قد علَّمنا حلَّ الرموز وفتح الكنوز والسحر، وصِرنا نُعالج حتى خدَمَتْنا مَرَدة الجن والعفاريت. ونحن أربعة إخوة ووالِدنا اسمه عبد الودود، ومات أبونا وخلَّف لنا شيئًا كثيرًا فقسَّمنا الذخائر والأموال والأرصاد حتى وصلنا إلى الكُتب فقسَّمناها، فوقع بيننا اختلاف في كتابٍ اسمه أساطير الأوَّلين ليس له مَثيل ولا يُقدَر له على ثمنٍ ولا يُعادَل بجواهر، لأنه مذكور فيه سائر الكنوز وحل الرموز. وكان أبونا يعمل به ونحن نحفظ منه شيئًا قليلًا، وكل منَّا غرَضه أن يَملكه حتى يطَّلع على ما فيه. فلمَّا وقع الخلاف بيننا حضر مجلسنا شيخ أبينا الذي كان ربَّاه وعلَّمه السحر والكهانة، وكان اسمه الكهين الأبطن. فقال لنا: هاتوا الكتاب فأعطيناه الكتاب. فقال أنتم أولاد وَلدي ولا يمكن أن أظلِم منكم أحدًا، فليذهب من أراد أن يأخذ هذا الكتاب إلى مُعالجة فتح كنز الشمردل ويأتني بدائرة الفلك والمِكحلة والخاتم والسيف. فإن الخاتم له مارد يَخدمه اسمُه الرعد القاصف، ومن مَلَك هذا الخاتم لا يقدِر عليه ملك ولا سلطان، وإن أراد أن يملك الأرض بالطول والعرض يقدِر على ذلك. فأما السيف فإنه لو جُرِّد على جيشٍ وهزَّه حامِله لهزَم الجيش؛ وإن قال له وقت هزِّه: اقتُل هذا الجيش فإنه يخرج من ذلك السيف برقٌ من نار فيقتُل جميع الجيش. وأما دائرة الفلك فإن من يَملكها إن شاء أن ينظر جميع البلاد من المشرق إلى المغرب فإنه ينظُرها ويتفرَّج عليها وهو جالس، فأي جهةٍ أرادها يُوجِّه الدائرة إليها وينظر في الدائرة فإنه يرى تلك الجهة وأهلها كأنَّ الجميع بين يدَيه؛ وإذا غضب على مدينةٍ ووجَّه الدائرة إلى قرص الشمس وأراد احتراق تلك المدينة فإنها تحترق. وأما المِكحلة فإن كل من اكتحل منها يرى كنوز الأرض …»

حكاية جودر الصياد وأخويه

«… ومازالوا سائرين حتى وصلوا إلى جبل، ثم إنه دخل بهم إلى المغارة وبكى وتحسَّر ونزلت الأمراء والوزراء وتمشَّوا وراء حاسب حتى وصلوا إلى البئر التي طلع منها. ثم تقدَّم الوزير وجلس وأطلق البخور وأقسم وتلا العزائم ونفث وهمهم. فإنه كان ساحرًا ماكرًا كاهنًا يعرِف عِلم الروحاني وغيره. ولمَّا فرغ من عزيمته الأولى قرأ عزيمةً ثانية وعزيمة ثالثة، وكلَّما فرغ البخور وضع غيرَه على النار. ثم قال: اخرجي يا ملكة الحيات …»

حكاية مغامرات حاسب كريم الدين

•••

تُغطي أحداث الخوارق بكلِّ مُشتملاتها وأنماطها جانبًا كبيرًا من قصص ألف ليلة وليلة، فلا عجب أنها قد أذكت الخيال لدى كل من قرأها بما فيها من الحكايات التي تحمل الإنسان إلى ما وراء واقِعِه المحدود المليء بالمشاغل والهموم والأمور الدنيوية.

وأول الخوارق التي يُصادفها القارئ في كتاب ألف ليلة هي أمور الجن والعفاريت، فحين يخرج شهريار وأخوه شاه زمان على وجهيهما بعد اكتشاف خيانة زوجتيهما، يُصادفان أول الأمور الغرائبية: «جِنِّي طويل القامة عريض الهامة، واسع الصدر والقامة، على رأسه صندوق، فطلَع إلى البرِّ وأتى الشجرة التي هما فوقها وجلس تحتها، وفتح الصندوق وأخرج منه علبة، ثم فتحها فخرجت منه صبيَّة غرَّاء بهيَّة كأنها شمس مُضيئة.» ثم يتكرَّر ظهور الجنِّ بعد ذلك كثيرًا، حتى إن أول حكاية تقصُّها شهرزاد في سلسلة حكاياتها الكثيرة تتعلق بالتاجر الذي ظهر له عفريت يُريد قتله لأن نواة التمرة التي كان يأكلها التاجر قتلت ابن العفريت. وسرعان ما يظهر الموضوع ذاته في قصة الصياد الذي يصطاد قُمقمًا به أحد عفاريت الملك سليمان.

ولا تكاد تخلو قصة من حكايات شهرزاد من وجود الجان، بدرجاتٍ متفاوتة، فنحن نجِدهم في حكاية الصعلوك الثاني، حيث العفريت جرجريس ابن رجموس ابن إبليس يخطف ابنة ملك جزيرة الأبنوس؛ وفي حكاية البنت الثانية أمينة (قصة الحمَّال والبنات أيضًا) هناك جِني وجنيَّة يتَّخذان شكل الثعبان والحية. أما أكثر أدوار الجن فهي تلك التي يتفق فيها جنيٌّ وجنية على مساعدة عاشقَين من الإنس في الحُب والوصال، وقد جاء ذلك في «حكاية نور الدين مع أخيه شمس الدين» إذ يحتال الجِني والجنيَّة على إتمام نية زواج ابن نور الدين من ابنة عمِّه شمس الدين بعد الكثير من المُغامرات والأمور المُدهشة. ويتمُّ ذلك أيضًا وبتفصيلٍ أكثر في حكاية «قمر الزمان مع الملكة بدور»، وهي الأخرى من أكثر الحكايات وصفًا لأحوال الجنِّ وطريقة حياتهم والتعامُل فيما بينهم. وفي تلك الحكاية، يغضب أحد الملوك على ابنه لرفضه الزواج، فيُعاقبه بالحبس حينًا في أحد الأبراج، حيث تراه جنيَّة ساكنة فيه اسمُها «ميمونة ابنة الدمرياط»، أحد ملوك الجان المشهورين، وتقصُّ الحكاية عنها أنها «طلعت تلك العفريتة من البئر الروماني وقصدت السماء لاستراق السمع. فلمَّا صارت في أعلى البئر رأت نورًا مضيئًا في البرج على خلاف العادة. وكانت تلك العفريتة مُقيمة في ذلك المكان مدَّةً مديدة من السنين …» وتتعجب العفريتة ميمونة من جمال قمر الزمان حين تراه، وبعدها «مالت عليه وقبَّلته بين عينَيه، وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطَّته بها وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت، ولم تزل صاعدةً في الجو إلى أن قربَت من سماء الدنيا، وإذا بها سمعت خفق أجنحةٍ طائرةٍ في الهواء فقصدَت ناحية تلك الأجنحة، فلمَّا قربت من صاحِبها وجدَتْهُ عفريتًا يُقال له: دهنش، فانقضَّت عليه انقضاض الباشق. فلمَّا أحسَّ بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن، خاف منها وارتعدت فرائصه واستجار بها وقال لها: أقسِم عليك بالاسم الأعظم والطلسم الأكرم المنقوش على خاتم سليمان أن ترفقي بي ولا تؤذيني.»

ومن كل هذا يتبيَّن القارئ أن وصف الجن وعوالمه في ألف ليلة وليلة إنما يتبع أساسًا التفسيرات الإسلامية العديدة التي وردت في الكلام عن الجن كما جاء في عددٍ من الآيات القرآنية، ومن أبرزها تقسيم الجان إلى جان مُسلمين وجان غير مؤمِنين، مع كل الشروح والإضافات التي أوردها المفسرون منذ نزول القرآن الكريم، مع كل ما دخل تلك الشروح من القصص والتعليقات التي استمدَّها أصحابها من الكتب السابقة، ومن بينها الإسرائيليات. وقد أدَّى ذلك إلى أن أصبحت حكايات الجن في ألف ليلة وليلة عالمًا قائمًا بذاته لا يُشبه عالَم الجنيَّات الذي امتلأت به القصص والأساطير الغربية والشرقية الأخرى غير الإسلامية. ومن هنا يحق القول بأن حكايات ألف ليلة هي نبع عربي إسلامي، ويدحض مزاعم المُحدَثين الذين يدَّعون أن قصصها يمكن أن تكون من خيال المُترجمين الأوائل، فمهما كان من الحذق الذي توخَّاه هؤلاء المُترجمون، فإن تلك الروح العربية الإسلامية، وتلك المسحة الخيالية التي تتنفَّس تراثًا وعوالم عربية إسلامية، لا يمكن إلا أن تتبدَّى في كل عبارةٍ ومشهد من قصص ألف ليلة وليلة، خصوصا في تلك الحكايات التي تعتمِد تُراثًا عربيًّا وإسلاميًّا لا يمكن إغفاله.

وتمضي قصة قمر الزمان والملكة بدور في إطارٍ من التنافُس بين الجنية ميمونة والعفريت دهنش على جمال قمر الزمان وبدور، وعلى أيهما أكثر فضيلةً من الآخر، ويَستخدِمان قدراتهما الجنية في التنقُّل بالحبيبَين من مكانٍ إلى آخر في لمح البصر، وفي تدبير الأمور والتدخُّل في خُطَط بني الإنسان كيما يُحقِّقان في النهاية اللقاء بين قمر الزمان والملكة بدور بعد الكثير من المغامرات وتقلُّبات الدهر.

وقد امتلأت حكايات ألف ليلة بعلاقة الجن بالملك سليمان، وهذا له أصلُه أيضًا في القرآن الكريم. وتَنْبني حكاية «مدينة النحاس» على سليمان والجن وحبسِه إيَّاهم في القماقم. ففي تلك الحكاية، يتذاكر مجلس الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أخبار «سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام وما أعطاه الله تعالى من الملك والحكم في الإنس والجن والطير والوحش وغير ذلك .. وأنه وصل إلى شيءٍ لم يصِل إليه أحد حتى أنه كان يَسجن الجن والمردة والشياطين في قماقم من النحاس ويسبك عليهم بالرصاص ويختم عليهم بخاتمِه.» ويَحكي أحدُهم في المجلس قصصًا عن وجود مثل تلك القماقم وعن الغرائب التي تحدُث عند فضِّ أختامها وخروج العفاريت منها طالِبين التوبة من النبي سليمان. ويتعجَّب الخليفة الأموي من تلك الأحاديث، ويُبدي شوقَه إلى رؤية شيءٍ من هذه القماقم، فينصحه أحد أصحابه بأن يبعث في طلَب ذلك من موسى بن نصير عامِله في الغرب. فيَستحسن الخليفة ذلك ويُرسِل صاحب ذلك الاقتراح في بعثةٍ إلى موسى بن نصير طلبًا لأحد تلك القماقم السليمانية. وهناك في صعيد مصر (؟)، يتَّخذ مطلَب الخليفة دروبًا قصصية أسطورية، كعادة حكايات ألف ليلة وليلة، إذ يلجأ القوم إلى «الشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي» العارف بالأسرار، كيما يَدُلهم على حاجتهم. ويخرج القوم في بعثةٍ جاء في أحد مخطوطات القصة أنها كانت من ألفَي رجل، وعبروا صحراء القيروان (؟)، حيث قادهم الشيخ عبد الصمد إلى بلادٍ قصيَّة يرَون فيها العجائب، ومنها قصر مُعطَّل به لوحات مكتوبة بألسنة مختلفة تُزهِّد في أمور الدنيا، ويجد موسى بن نصير مائدة من المرمر فلم يأخُذ من كنوز القصر المهجور غيرها (قارن أخبار مائدة الملك سليمان في أخبار فتح العرب للأندلس). ويصِل القوم إلى تمثالٍ لفارسٍ من النحاس تدلُّهم كتابةٌ على رُمحه إلى «مدينة النحاس» فيسيرون إليها. وفي الطريق يُصادفون عمودًا من الحجر الأسود «فيه شخص غائص في الأرض إلى إبطَيه وله جناحان عظيمان وأربع أيادٍ؛ يدان منها كأيدى الآدمِيِّين ويدان كأيدي السباع فيهما مَخالب وله شعر في رأسه كأنه أذناب الخيل وله عينان كأنهما جمرتان وله عين ثالثة في جبهته كعين الفهد يلُوح منها شرار النار وهو أسود طويل ويُنادي سبحان ربٍّ حكَمَ عليَّ بهذا البلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم القيامة.» ويقص عليهم هذا المارد قصته وأنه عفريت من الجن اسمُه داهش بن الأعمش، ويَحكي لهم قصة غلَبة الملك سليمان للملك الذي كان داهش في خدمته، ويدلُّهم إلى طريق مدينة النحاس.

وحين يصل الرهط إلى المدينة بحثًا عن القماقم السليمانية، يَجدونها مُحاطة بسورٍ مهول لا يستطيعون النفاذ منه، فيصنعون سلَّمًا هائلًا، يصعد عليه واحدٌ تلو الآخر للاستطلاع، إلا أنهم بعد أن يصلوا إلى القمة، يُلقون بأنفسهم من حالِق فيلقَون حتفهم. ويصعد الشيخ عبد الصمد بنفسه بعد أن تسلَّح بالآيات التي تحفظه من الشر، ويرى ما تراءى لمن صعدوا قبله من الغيد الحِسان اللاتي يَدعونه إلى القفز إليهنَّ فيما تراءى أنه بحيرة، فيستعصم إلى أن يزول عنه السحر، فيهبط ويفتح أبواب المدينة لرفاقه الباقِين. وتجد بعثة الخليفة المدينة يَسكنها أناس كلُّهم موتى من جرَّاء ما ضرب بلادهم من قحطٍ وجدْب في قديم الزمن، وإنما كانوا جميعًا يرفلون في الذهب والحرير والأحجار الكريمة وأنواع العاج واللؤلؤ والياقوت. وفي أحد قصور المدينة، يرَون «على السرير جاريةً كأنها الشمس الضاحية لم يرَ الراءون أحسنَ منها وعليها ثوبٌ من اللؤلؤ الرطب وعلى رأسها تاج من الذهب الأحمر وعصابة من الجوهر، وفي عُنقها عقدٌ من الجوهر وفي وسطه جواهر مشرقة، وعلى جوانبها جوهرتان نورهما كنور الشمس وهي كأنها ناظرة إليهم تتأمَّلهم.» ويرَون أن تلك الجارية ميتة أيضًا وإن كانت عيناها تبدو فيهما الحياة. وكان إلى جانِبَي الجارية عبدان يحرُسانها، وبين يديهما لوح من ذهبٍ فيه كتابة على لسان الجارية تقول فيها إنها «ترمزين» بنت أحد الملوك العماليق الأقدَمين، وتحكي قصة المدينة التي كانت تحكُم عليها، وما بها من كنوز وجواهر ومعادن ثمينة، ثم ما أصابها من قحطٍ وجدْب بعد أن تواتر عليها سبع سنين لم ينزل علينا ماء من السماء ولا نبَتَ لنا عُشب على وجه الأرض فأكلنا ما كان عندنا من القُوت ثم عطفنا على المواشي من الدوابِّ فأكلناها ولم يبقَ شيء، فحينئذٍ أحضرتُ المال واكتلتُه بمكيالٍ وبعثتُه مع الثقات من الرجال فطافوا به جميع الأقطار ولم يتركوا مصرًا من الأمصار في طلب شيءٍ من القوت فلَم يجِدوه ثم عادوا إلينا بالمال بعد طول غيبةٍ فحينئذٍ أظهرنا أموالنا وذخائرنا وأغلقنا أبواب الحصون التي بمدينتنا وسلَّمنا الحُكم لربِّنا وفوَّضنا أمرَنا لِمالِكنا فمُتنا جميعًا كما ترانا وتركنا ما عمَّرنا وما ادَّخرنا فهذا هو الخير وما بعد العين إلا الأثر.»

ويترك القوم مدينة النحاس، ويسرون بمُحاذاة الساحل إلى أن يأتوا إلى جبلٍ عالٍ به مغارات كثيرة فيها أناس من السودان، يدلُّهم الشيخ عبد الصمد إلى أنهم الذين يعرفون القماقم السليمانية. وتقدَّم ملك السودان (وكان يعرف العربية!) وتحدَّث إلى موسى بن نصير وشرح له أنهم من أولاد حام بن نوح، وقد هداهم أبو العباس الخضر إلى دين الإسلام. واستضافهم ملك السودان، وأمر الغوَّاصِين أن يُخرجوا من البحر شيئًا من القماقم السليمانية فأخرجوا لهم اثنَي عشر قُمقمًا فرح الأمير موسى بها والشيخ عبد الصمد والعساكر لأجل قضاء حاجة أمير المؤمنين. ويعود القوم إلى دمشق ويُقدِّمون القماقم إلى الخليفة، الذي أخذ يفتح قمقمًا بعد قمقم، والشياطين يخرجون منها ويقولون التوبة يا نبيَّ الله وما نعود إلى مثل ذلك أبدًا، إذ يعتقدون أنهم مازالوا في عصر النبي سليمان بن داود عليهما السلام.

ويستبين في هذه الحكاية المُتكاملة عناصر عدة ظهرت في الكثير من القصص والأساطير بعد ذلك، ومدينة النحاس نفسها تُماثل الجزُر السوداء التي جاءت حكايتها في قصة الصياد والعفريت، كما أن عنصر الجدب الذي يُصيب المدينة قد ظهر قبل ذلك في سنوات القحط التي أصابت مصر في عهد النبي يوسف، وعددها سبع سنين أيضًا، كما ظهر بعد ذلك في عددٍ من القصص الأسطورية في قصص الملك آرثر، حيث مملكة الملك الصيَّاد يُصيبها مثل ذلك القحط.

ومن أبرز صور الخوارق العجيبة في قصص ألف ليلة: السحر؛ وهو موضوع قديم قِدَم أول الأنشطة التعبيرية لدى البشر، وظهر منذ ظهور الإنسان البدائي، لتفسير الظواهر الكونية ومحاولة التأثير فيها، عن طريق رجال الكهانة والدين في العصور السحيقة. وقد ظهر السحر في أوائل الأعمال الأدبية الشفوية والمكتوبة، في ثقافات بلاد بين النهرَين، ولكن على وجه الخصوص في الحضارة المصرية الفرعونية.

ومعظم حكايات ألف ليلة وليلة فيها عنصر من عناصر السحر، كما هو الحال مع الجنِّ والجنيَّات، وبعض ذلك السحر من عمل الجن والعفاريت بطبيعة الحال. ويُلاحظ أن عددًا كبيرًا من أعمال السحر في القصص يتعلَّق بالتحوُّلات، أو المسخ، أي تحويل إنسانٍ إلى حيوانٍ أو طير، ويكون ذلك عقابًا أو هروبًا من انتقام ذلك الشخص. وموضوع التحوُّلات قديم أيضًا ويظهر في الأدب الفرعوني، ويَبرُز أكثر في القصص الإغريقية، خاصَّة قصة «الحمار الذهبي» لأبولونيوس.

وأول أعمال السحر التي تُصادف القارئ في كتاب ألف ليلة وليلة هي قصص الشيوخ الثلاثة في «حكاية التاجر والعفريت»، وكلها من نوعية سحر «التحوُّلات». فالشيخ الأول يحكي أن ابنة عمِّه «تعلَّمت السحر والكهانة من صِغرها»، فلمَّا اتخذ لنفسه جاريةً عليها كي يُنجب منها، سحرت ابنه عجلًا وأمَّه بقرة، فلمَّا علِم ما فعلته جعل أخرى تسحر الزوجة غزالةً كان يَسحبها معه. والشيخ الثاني قامت زوجته الجنية بسحر أخوَيْه الشريرَين إلى كلبَين كانا معه أيضًا. أما الشيخ الثالث فكانت معه بغلةٌ هي زوجته التي ضبطها تخُونه مع عبدٍ أسود فلمَّا خشيت انتقامه سحرته في صورة كلب، ولكن فتاةً تعلَّمتِ السحر تُعيده إلى صورته الإنسانية وتُعطيه ماءً مسحورًا يرشُّه على الزوجة الخائنة فتتحوَّل إلى البغلة التي كانت معه.

وفي الحكاية الثالثة «حكاية الصياد والعفريت»، ترِد قصة داخل القصة، التي أوردنا منها اقتباسًا في بداية هذا الفصل، وهي قصة الملك يونان والحكيم دوبان. ودوبان هذا حكيم ماهر تفيض مهارته إلى مرتبة السحر والكهانة والأفعال العجيبة، وهو إن كان يستخدِم سِحره في الخير ونفع الآخرين، كَشِفاء الملك يونان من البرص الذي ضرب جسده، فهو يَستخدمه أيضًا للانتقام من نكران الجميل الذي لاقاه من الملك حين أمر بقتلِه، فيستعين دوبان بِسحره على جعل رأسه يحيا ويتكلَّم بعد ضرب عنقه، ويستخدم حكمته ودهاءه للانتقام من الملك بدسِّ السُّمِّ له في ورق كتاب ملتصق الصفحات يضطر معه الملك إلى بلِّ أصابعه ليُقلِّب أوراقه إلى أن يَسري السُّمُّ في جسده ويموت. وقد ظهرت تيمة الكتب والمخطوطات المسمومة بعد ذلك في كثيرٍ من القصص والروايات الغربية، أشهرها حديثًا رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو التي ذاع صِيتها بعد أن استحالت فيلمًا شهيرًا.

أما الإسهام الكبير في حكايات ألف ليلة وليلة السحرية بعد ذلك فيتمثَّل في «الجزُر السوداء»، في نفس حكاية الصياد والعفريت. فالعفريت في نهاية الأمر يُكافئ الصيَّاد بأن يَدُلَّه على مكان بُحيرة مسحورة يصطاد منها سمكًا مسحورًا ذا ألوانٍ مُختلفة، يُهديها إلى الخليفة فيُجزل له العطاء. بيد أن السمك مسحور، ولا تستطيع جواري الخليفة طهوَه، إذ ينْشقُّ الحائط عن صبيَّةٍ تُخاطب السمك ويرُدُّ عليها ثم يتفحَّم قبل طهوِه. وبعد إصرار الخليفة على معرفة السر، يقوده ذلك إلى اكتشاف بلدٍ كامل وقد تحوَّل إلى حجارة، وفيه بركة كبيرة فيها تلك الأسماك المُلوَّنة. ويجد الخليفة ملك ذلك البلد مُتحجرًا نصفه الأسفل، ويَحكي له كيف غدرت به زوجتُه حين ضبطها مع عشيقها فسحرته وبلده إلى تلك الحالة المُتحجِّرة، وسحرت شعبه إلى تلك الأسماك، وكل لونٍ يُشير إلى ديانة صاحبه. وتنتهي القصة بأن يساعد الخليفة ملك الجزُر السوداء على قتل الزوجة وعشيقها بعد أن تفكَّ السحر عن البلدة وسُكانها. وكما رأينا من قبل، كانت هذه القصة، مع قصة مدينة النحاس، صورةً من الصور الأسطورية للجدب الروحي والمادي الذي يُصيب الأرض والبشر، الذي تحدث عنه فريزر في «الغصن الذهبي»، والذي تردَّدَت أصداؤه في الأساطير الكلتية عن الملك الصياد، والذي استخدمَه إليوت في تصوير الأرض الخراب. وقد تردَّدت تيمة التحجُّر الذي يأتي من أو يؤدي إلى الجدب والموت في الحياة، والحياة في موت، التي وردت هنا وفي حكاياتٍ أخرى في ألف ليلة وليلة في بعض القصص العربية الحديثة، كما في مجموعة القصص القصيرة — التي يمكن أن تأخُذ وضع الرواية نظرًا لترابُط موضوعاتها ارتباطًا عضويًّا — المُعنوَنة «خريف الأزهار الحجرية» لماهر شفيق فريد؛ فقصصها كلها تُصوِّر عُقم وجدب العلاقات الإنسانية في العصر الحديث، والشلل «التحجُّري» الذي يُصيب أبطال قصصه في مواجهة أي موقفٍ يتعيَّن عليهم فيه التحرُّك والعمل، وتسري تيمة «التحجُّر» في كل مواقف القصص. ومن الأمور ذات الدلالة أن المؤلِّف أكبر مُتخصِّص عربي في شعر إليوت وأدبه، وهذا مثال على تداخُل المؤثرات العربية والأجنبية لدى الأُدباء العرب على وجه العموم، حتى لو كان ذلك التأثُّر كامِنًا في اللاوعي ويظهر فحسب عند الموازنة بين الأعمال الأدبية والفنية، دون حاجةٍ إلى التمسُّح في مقولة هارولد بلوم عن قلق التأثير!

ويرتبط السحر في قصص ألف ليلة وليلة بكلماتٍ أو عباراتٍ مُعينة تقوم مقام «التعاويذ السحرية»، فالساحر أو الساحرة ينطق بكلماتٍ مُعينة — قد تكون مصحوبةً برشِّ مياهٍ مسحورة — تقوم بالفعل السحري الذي يُريده. كذلك يَستبين هذا في قصة علي بابا، حيث لا ينفتح الكهف السحري إلا بالنطق بالعبارة الشهيرة «افتح يا سمسم»، أما إذا تغيَّر حرف واحد فيها فإن الأثر المطلوب لا يتحقَّق. وقد استعارت قصص السحر الأوروبية تلك التيمة عن قصص ألف ليلة وليلة، وأصبحت الطلسمات والتعاويذ سمةً رئيسية لقصص السحر فيها.

وقد استمرَّت قصص الجان والسحر والخوارق في الظهور في القَصص العربي إلى عصرنا الحديث. ونحن نرى كيف تحدَّثت روايات وكتب الدكتور طه حسين «شجرة البؤس» و«دعاء الكروان» و«الأيام» عن شيوع خرافات الجنِّ والسحر والأرواح في الريف المصري. وفي «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي والثلاثية لنجيب محفوظ، تصويرٌ لِشيوع الخرافات حتى في المدينة. ومِن العجيب أن الإيمان بالسحر وقوى الجان واستخراج الكنوز المدفونة وتحضير الأرواح قد عاد ثانيةً إلى الظهور، وراجت معه الكتب التي تتحدَّث عن تلك الأمور، حتى إنها أصبحت من أكثر الكُتب رواجًا ومَبيعًا، فكأنما قد عُدنا ثانية في القرن الحادي والعشرين إلى عالم ألف ليلة وليلة ومجتمعها!

أما في أوروبا، فقد تتابَعَت القصص والروايات التي تعتمد عنصر السحر فيها، إلا أنها كادت تقتصِر على قصص الأطفال والناشئة بغرَض حثِّ صفة التخيُّل فيهم. ومِن الواضح أن الكثير فيها يُماثل ما جاء في القصص العربية. وقد أوضحت الباحثة المصرية ميرفت عبد الناصر — التي تعمل أستاذةً للطبِّ النفسي بجامعة كنجز بلندن — حديثًا الصِّلة التي تَستبين في قصص هاري بوتر من تأليف الكاتبة البريطانية ج. ك. رولنج وبين الكتابات الفرعونية عن السحر والأساطير المصرية القديمة. وأُضيف هنا أنَّ رولنج قد تأثرت أيضًا في رواياتها عن هاري بوتر بحكايات السحر والسحرة في ألف ليلة وليلة، وهو الكتاب الأقرب إلى التناوُل بالنسبة للأطفال والنشء في جميع البلدان، خاصَّةً في أوروبا وأمريكا، ولا بدَّ أنَّ الكاتبة البريطانية قد تعرفت إلى قصصه المُترجمة إلى لُغتها في العديد من النُّسَخ التي شاعت هناك.

ويرتبط عالَم الجن وعالَم السحر في ألف ليلة وليلة بالبحث عن الكنوز والأموال المرصودة؛ والمرصودة هنا تعني المُخصَّصة لشخصٍ مُعين هو القادر على حلِّ طلاسِمها واجتياز المصاعب التي تكتنِفُها من أجل الحصول عليها في نهاية الأمر. وبهذا يدخل أيضًا إلى الصورة فكرة القدَر والمصير المحتوم. وقد شهِدنا المَثلَ الأفضل لكلِّ ذلك في حكاية «الصياد جودر وأخويه» التي لم تنَلْ نصيبها من الشهرة رغم كونها من أفضل الحكاياتِ صياغةً وخيالًا. كذلك نجد في حكاية علاء الدين والمصباح السحري، الساحر الذي يبحث في أقطار العالَم كلها عن الشخص المكتوب له أن يعثر على المصباح السحري المرصود، ولا يجده إلا في الصين في شخص الصبيِّ علاء الدين.

وثمة حكاية أخرى من حكايات ألف ليلة وليلة تعمر بذكر الجان والسحر والسحرة، وهي حكاية «جلنار وبدر باسم»، وتدور حول الملك شهرمان الذي يتزوَّج من جارية يتَّضح أنها جلنار البحرية، ابنة أحد ملوك البحر. وهي تصِف قومها الذين يعيشون داخل البحر بقولها: «… إنا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة وننظر ما فيه وننظر الشمس والقمر والنجوم والسماء كأنها على وجه الأرض ولا يضرُّنا ذلك، واعلم أيضًا أن في البحر طوائف كثيرة وأشكالًا مُختلفة من سائر الأجناس التي في البر، وأن جميع ما في البر بالنسبة لِما في البحر شيء قليل جدًّا.» ثم تقوم جلنار بأعمالٍ سحرية تستدعي بها أخاها وأُمَّها وأهلها حتى يتعرف عليهم زوجها الملك شهلان. وتمضي الحكاية بعد ذلك لتنتقِل إلى الابن الذي أنجبَهُ الملك من جلنار البحرية وهو بدر باسم، وغرامه عن طريق السماع بجوهرة، ابنة الملك السمندل، وهو أحد ملوك الجان الذي يرفض زواج ابنته من بدر باسم، مما يُلقي ذلك الأخير في خِضَم مغامرات مهولة، يذهب في إحداها إلى مدينةٍ كل أهلِها من السحرة، وعلى رأسهم الملكة «لاب» التي تسحر مُحبِّيها المارقين في هيئة طيورٍ وحيوانات. ويتصارع أصحاب السحر الأسود الشرير مع شيخٍ مؤمن له في السحر الحميد، وهو يُنجِّي بدر باسم من يد الملكة لاب ويعيده إلى بلاده حيث يتزوج من جوهرة آخر الأمر.

ثم يأتى بعد ذلك — في مجال الخوارق التي تحتوي عليها قصص ألف ليلة وليلة — غرائب الخيال العلمي الذي عالَجْناه في الفصل الخاص بذلك، ومنه البساط السحري، والفرس الطائر، والمنظار السحري، والتفاحة التي تَشفي كلَّ الأمراض، وغير ذلك.

وتُمثل الرحلات التي يقوم بها أبطال الحكايات صورةً أخرى من صور الغرائبية في الكتاب، ذلك أنهم يُشاهدون في رحلاتهم جزرًا وأراضي وبلادًا غريبة، ويُصادفون أشياء خارقة للواقع، لكنها تُعبِّر عن خيالٍ مُدهش، هو الذي يجذب القراء إلى تلك الحكايات في المقام الأول مغامرات. ومن الحكايات التي تمتلئ بتلك الأشياء الخيالية العجيبة «حكاية حاسب كريم الدين». وقد جمعَت هذه الحكاية جميع عناصر الخوارق والغرائب، تبدأ القصة بدانيال الذي يترك لابنه حاسِب أوراق حكمةٍ سرية قبل مَوته، ثم يعمل حاسب مع جماعةٍ من الحطَّابين، ويكتشِف كهفًا مليئًا بالعسل، ويعمل زملاؤه في نقل العسل إلى المدينة بينما هو يحرس الكهف أيامًا عدة، وفي النهاية يُغلقون عليه الكهف كيما يتخلَّصوا منه. وينجح حاسب في الخروج إلى وادٍ به بُحيرة وتلٌّ عليه تختٌ مُرصَّع بالجواهر واللؤلؤ. وينام حاسب هناك وحين يصحو يجد المكان عامرًا بالحيات، تقودهم ملكة ضخمة الحجم، تُكلِّم حاسب وتَحكي له قصَّتها، التي تبدأ بذِكر بلوقيا الذي خرج من بلاده سعيًا وراء مُلاقاة نَبي الإسلام عند مَبعثه، ويزور في سفرته عدة جزُر يرى فيها الكثير من الغرائب، إلى أن يصِل إلى الجزيرة التي بها ملكة الحيَّات تلك، وبعدها يتوجَّه إلى بيت المَقدس حيث يُصادف أحد الحكماء ويُدعى عفان، وهو عليم بأسرار الملك سليمان، ويبحث عن أعشاب الخلود كيما يبقى حيًّا عند مبعث نبي الإسلام. ويذهب بلوقيا وعفَّان إلى ملكة الحيَّات كيما تَدُلَّهما على تلك الأعشاب، ويأسِرانها ويطوفان معها على الأعشاب المُختلفة، حيث ينطق كلُّ عشبٍ بخواصِّه، فيأخُذان أعشاب المشي فوق المياه، ويفوتُهما أخذ أعشاب الخلود! وحين يصِلان إلى عرش الملك سليمان، يُحاول عفَّان أن يحصل على الخاتم فيحترِق ويُصبح كومًا من الرماد. ويعاود بلوقيا ترحاله عبر عددٍ من الجزُر التي يرى فيها العجائب، ومنها النص التالي: «أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلُّور، وفيها عروق الذهب وفيها أشجار غريبة لم يُرَ مثلها، أزهارها كلَونِ الذهب. فَطَلَع إلى الجزيرة وساح فيها حتى المساء، فصارت أزهار الأشجار مُضيئةً فتعجَّب لذلك أشدَّ العجَب ثم نام حتى الصباح، وعند طلوع الشمس دهن قدمَيه ونزل البحر السادس وسار فيه حتى أقبل على جزيرة، طلَع عليها فرأى جبلَين وعليهما أشجار كثيرة وثِمارها كرءوس الآدميين وهي مُعلَّقة من شعورهم. ورأى أشجارًا أُخرى ثِمارها طيور خضراء مُعلقة من أرجُلها، وأشجار تتوقَّد مثل النار ولها فواكه مثل الصبر، وكل من سقطت عليه نقطةٌ من تلك الفواكه احترق بها. ورأى فواكه تبكي وأخرى تضحك، وسار حتى رأى شجرةً عظيمة فجلس تحتها إلى العشاء وعندئذٍ طلع فوق الشجرة، فبينما هو على حاله إذا بالبحر قد اختبط وطلع منه بنات البحر وفي يدِ كلٍّ منهن جوهرة تُضيء، وسِرنَ حتى أتين تحت الشجرة وجلسْنَ وتسامَرْن وبلوقيا يتفرَّج عليهنَّ حتى الصباح فنزلن إلى البحر …»

هذه صورة من صور العجائب التي يزخَر بها كتاب ألف ليلة وليلة، التي أخذت بمجامع قلوب الأوروبيِّين حين قرءوها فوجدوا فيها خيالًا لم يعهدوه من قبلُ في أيٍّ من كتاباتهم. ولا غَرْوَ، فمن يقرأ الوصف السابق عن الجزُر التي زارها بلوقيا وما رآه فيها، يُدرك على الفور الطبيعة الفريدة للعجائب والغرائب التي أتت بها هذه الحكايات وعرَضَتها أمام القارئ المُتلهف على التطواف مع تلك الأخيلة الخارقة للطبيعة.

وقد احتوت تلك الحكاية على رواياتٍ عن الكون وغرائبه، وعن خلق الجان والفرق بينهم وبين الشياطين، حين يَحكي الملك صخر — أحد ملوك الجان ممن يَلتقيه بلوقيا في سعيِه — عنها فيقول: «يا بلوقيا، إن الله تعالى خلق النار سبع طبقاتٍ بعضها فوق بعض، وبين كل طبقةٍ وطبقة مَسيرة ألف عام. وجعل اسم الطبقة الأولى جهنم، وأعدَّها لعُصاة المؤمِنين الذين يموتون من غير توبة. واسم الطبقة الثانية لَظى، وأعدَّها للكفار. واسم الطبقة الثالثة الجحيم، وأعدَّها ليأجوج ومأجوج. واسم الرابعة السعير، وأعدها لقوم إبليس. واسم الخامسة سقر، وأعدَّها لتارك الصلاة. واسم السادسة الحُطَمة، وأعدَّها لليهود والنصارى. واسم السابعة الهاوية، وأعدها للمُنافقين. فهذه السبع طبقات. فقال له بلوقيا: لعل جهنم أهون عذابًا من الجميع لأنها من الطبقة الفوقانية. فقال الملك صخر: نعم. أهون الجميع عذابًا ومع ذلك فيها ألف جبل من النار، وفي كل جبلٍ سبعون ألف وادٍ من النار، وفي كل وادٍ سبعون ألف مدينة من النار، وفي كل مدينة سبعون ألف قلعة من النار، وفي كل قلعة سبعون ألف بيت من النار، وفي كل بيت سبعون ألف تختٍ من النار، وفي كل تختٍ سبعون ألف نوعٍ من العذاب. وما في جميع طبقات النار يا بلوقيا أهون عذابًا من عذابها لأنها هي الطبقة الأولى، وأما الباقى فلا يعلم عدَد ما فيه من أنواع العذاب إلا الله تعالى .. وأما نحن فقد خلقَنا الله تعالى من النار وأول ما خلق الله المخلوقات في جهنم خلق شخصَين من جنوده: أحدُهما اسمه خليت والآخر اسمه مليت. وجعل خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب. وكان ذنَب مليت على صورة الأُنثى ولونها أبلق، وذنَب خليت على صورة ذكر وهو في هيئةِ حيَّة. وذنَب مليت في هيئة سُلحفاة وطول ذنب خليت مسيرة عشرين سنة. ثم أمر الله تعالى ذنَبَيْهما أن يجتمِعا مع بعضهما فتوالد منهما حيَّات وعقارب ومسكنها في النار ليُعذب الله بها من يدخُلها. ثم إن تلك الحيَّات والعقارب تناسلت وتكاثرت. ثم بعد ذلك أمر الله تعالى ذنبَي خليت ومليت أن يجتمِعا ثاني مرة، فاجتمعا فحمل ذنَب مليت من ذنَب خليت. فلمَّا وضعت ولدت سبعة ذكور وسبع إناث، فتربَّوا حتى كبروا. فلمَّا كبروا تزوَّج الإناث بالذكور وأطاعوا والِدَهم إلا واحدًا منهم عصى والده فصار دودة. وتلك الدودة هي إبليس لعنَه الله تعالى. وكان من المُقربين، فإنه عبَد الله تعالى حتى ارتفع إلى السماء وتقرَّب من الرحمن وصار رئيس المُقرَّبين .. ولمَّا خلق الله تعالى آدم عليه السلام أمر إبليس بالسجود له فامتنع من ذلك، فطردَه الله تعالى ولعنَه. فلمَّا تناسل جاءت منه الشياطين. وأما السته الذكور الذين قبلَه فهم الجان المؤمنون ونحن من نسلِهم وهذا أصلُنا يا بلوقيا …»

كذلك امتلأت حكايات السندباد البحري في رحلاته السبع بالعجائب والخوارق التي تخرج عن المألوف. ففي الرحلة الأولى، هناك الجزيرة التي استراح المسافرون عليها، فيكتشفون في النهاية أنها سمكة بحرية هائلة الحجم، تتحرَّك حين تشعُر بهم فوق ظهرها. وفي السفرة الثانية، يظهر الرخ وبيضته، ويربط السندباد نفسه بقدَم الرخِّ فيطير إلى وادي الألماس واليواقيت. وفي السفرات الأخرى، ثمة عجائب وغرائب، منها جبل القرود، والقوم الذين يدفنون القَرين مع مَن يموت أولًا من زوج وزوجة، وحكاية شيخ البحر العجيبة. ولقد كانت قصص السندباد البحري من أهمِّ الحكايات التي اهتمَّ بها القراء الغربيون ونشطت بها خيالاتهم على نحوٍ فاق ما فعلته الإلياذة والأوديسة، رغم المُشابهات بين الأوديسة وبعض حكايات السندباد.

ومِن النقَّاد المشهورين الذين حلَّلوا العنصر العجائبي في الرواية، «تريستان تودوروف» ناقد البنيوية المعروف. ففي كتابه المعنون «مقدمة إلى أدب الفانتاستيك» الصادر بباريس في عام ١٩٧٠م، يُحدِّد اصطلاح الفانتاستيك في القَصَص بأنه «التردُّد الذي يَستشعره امرؤ لا يعرف سوى النواميس الطبيعية حين يُواجِه حدثًا خارقًا للطبيعة.» وهو يتناول بالتحليل في كتابه ذاك عدة مؤلَّفات تجلو نظريته، منها كتاب جاك كازوت «غراميات الشيطان» ورواية «مخطوط سرقسطة» وأعمال كافكا وبلزاك وإدجار ألان بو وجيرار دي نرفال، وعلى رأس كل هؤلاء ألف ليلة وليلة. وقد تناول بالتحليل التفصيلي حكايات السندباد البحري، وقمر الزمان، والصعلوكَين الثاني والثالث، مع إشاراتٍ إلى قصص علي بابا وعلاء الدين والأمير أحمد، وكلها من الحكايات التي تتخلَّلها الخوارق والأعاجيب، وتدخُل في موضوع كتابه، الفانتاستيك. وهو يرى أن فعل الخوارق في القصص هو التدخُّل لإصلاح وضع يتبدَّى فيه عدم توازن من نوعٍ ما في موقفٍ مُتوازن، أو التدخُّل لكسر توازُنٍ من أجل تقديم حبكةٍ قصصية؛ فالخوارق في الروايات تعمل على تقدُّم الحدث والحبكة وقيام القصة.

وتُلهم حكايات ألف ليلة وليلة تودوروف تقسيم أنواع الفانتاستيك فيها إلى ما يلي:

  • (١)

    عجائبيات المُبالغة: مثل الأوصاف التي يُقدمها السندباد البحري لسامِعيه عما شاهده في رحلاته، كالسمك الذي يبلُغ طول الواحدة منه مئات الأمتار، والحيَّات الضخمة التي يُمكنها ابتلاع فيلٍ بسهولة. وهي مِن قبيل المُبالَغات في القول، التي لا تصدم السامع بوصفها من التهاويل.

  • (٢)

    العجائبيات الغريبة: وهي أحداث خارقة للطبيعة، يَجري سردُها بوصفها أحداثًا طبيعية عادية. ولمَّا كان القارئ لا يعرف الأماكن القصية — الخيالية أحيانًا — التي تقع فيها تلك الأحداث، فليس هناك ما يحمِله على الشكِّ فيما يقرؤه، ومثال ذلك طائر الرخِّ الذي يصفه السندباد بأنه يُغطي وجه الشمس وله ساق بحجم جذع شجرة هائلة الحجم. وبالطبع، لا يوجد مثل ذلك الطائر في نطاق علوم الحيوان، بيد أن مَن يستمعون إلى السندباد وهو يحكي عليهم ما حدث له في رحلاته، لا يشكُّون لحظةً في وجود مثل تلك الخوارق التي يقصها، بل أن أنطوان جالان — أول مترجم لألف ليلة وليلة — يُعلق على أحداث طائر الرخ بأنَّ ماركو بولو في كتاب رحلاته والأب مارتيني في كتابه «تاريخ الصين»، يتحدَّثان عن ذلك الطائر بوصفه طائرًا حقيقيًّا وموجودًا بالفعل!

  • (٣)

    العجائبي الفعَّال: وهي القصص والأحداث التي تتضمَّن أدواتٍ أو مخترعات ذات فائدةٍ عملية لشخصيات الحكاية، وهي بهذا مُحتمَلة الوجود. ومِن أمثلة ذلك ما وردَ في حكاية الأمير أحمد عن البساط السحري والمنظار الراصد والتفاحة التي تَشفي الأمراض. ويندرج تحت هذه الفئة أيضًا الحصان الأبنوسي وطاقية الإخفاء وغيرهما. وقد تطوَّر هذا النوع بعد ذلك إلى ما أصبح يُعرَف بالعجائبية العلمية، وهي قصص وروايات الخيال العلمي.

وقد تأثرت الآداب الأوروبية بالخوارق والعجائب من قِبَل القصص الشرقية والعربية، بيد أن ظهور ألف ليلة وليلة في أوائل القرن الثامن عشر، أنتج بعدَها نمطًا مماثلًا لما ورد في حكاياتها من الأحداث فوق الواقعية، مثل روايتَي «مخطوط سرقسطة» و«الواثق» اللتَين نتحدَّث عنهما في فصولٍ أخرى. ويبقى أن نذكُر هنا جاك كازوت (١٧١٩–١٧٩٢م) وروايته التي سبقت الإشارة إليها «غراميات الشيطان» والتي جاءت بإلهامٍ مباشر من قصص العجائب والجان في ألف ليلة وليلة. فمؤلفها شارك في وضع وتحرير كتاب «تكمِلة حكايات ألف ليلة وليلة» مع أحد العرب المُقيمين في فرنسا واسمه «ديونيسيوس شاوي»، المعروف باسمه الفرنسي DOM CHAVIS، والذي كان لدَيه مخطوط عربي به قصص أخرى عربية، فكان يُقدِّمها لكازوت في ترجمة بدائية، فيصوغها كازوت في أسلوب قصصي منمق وفرنسية سليمة. ويقول المُحقق محسن مهدي عن شاويش «وذلك لأن شاويش كان قليلَ البضاعة في اللغة العربية وفي تاريخ الحضارة العربية، وكان قد وُضِع بين يدي كازوت أصلًا، قال الذين أرَّخوا لحياة كازوت إنه كان ترجمةً حرفية غير مفهومة وبلُغة ضعيفة امتزجت فيها الإيطالية والفرنسية. ولا نعرف الكثير عن حياة هذا الكاهن الذي كان أول من نشر الخرافات عن أصول كتاب ألف ليلة وليلة في أوروبا.»
ورواية «غراميات الشيطان» (١٧٧٢م) تقع — كعادة القصص ذات الإلهامات العربية — في إسبانيا، وتحكي عن «ألفارو» الذي يتعاطى العلوم الخفية فيستحضِر الشيطان الذي يظهر له على هيئة حيوان جملي ويقول له العبارة السحرية: CHE VUOI? (ماذا تطلب؟) وهي المقابل للعبارة الألف ليلية «شبيك لبيك عبدك ما بين يديك.» ويطلب منه ألفارو كالعادة أيضًا أن يُهيئ لضيوفه أطيب الأطعمة والمشروبات، بعد أن يتحوَّل إلى هيئة وصيفٍ وسيم مُهندم يقوم على خدمتهم. وتتتابع طلبات السيد المُطاع، فيأمر بأشهر المُغنيات، والخدَم، والعربات، بينما أصدقاؤه في دهشةٍ من كل هذا النعيم الذي هبط عليه. وبعد ذلك ينقلِب الوصيف إلى فتاةٍ تعترف لألفارو بِحُبها له، وأنها من الحوريات التي تحت إمرة الشياطين، ولكنها تُضحِّي بوضعها من أجل هذا العشق. ولكن ألفارو يرفض ذلك، ويكتفي بأن تكون وصيفَه، الذي يُسميه تارة بيوندتو وتارة بيوندتا، حيث إنه كان يتقلَّب بين كونه وصيفًا بينما هو امرأة. وتصحبه الحورية إلى فينيسيا هربًا من تُهمة ممارسة السحر، وهناك ينغمس ألفارو في اللهو والمقامرة والنساء. وتكتشف إحدى عشيقات ألفارو أن وصيفه إنما هو فتاة فتغار منها وتحاول قتلَها. وتنجو بيوندتا بصعوبة، ويتحوَّل قلب ألفارو إلى حُبها في فترة مرضها، ويطلُب منها أن تُعطيه ما وعدته من سلطةٍ وقوة ومعرفة، فتطلُب منه أولًا أن يَهبَها نفسه وحُبه بلا حدود. ولكن ألفارو يتحير في أمره، ولا يعرف حقيقة حبيبته، أهي بشَر أم الشيطان مُتجسِّدًا.

والقصة تُعيد إلى الأذهان كلًّا من قصة فاوست، والكثير من حكايات ألف ليلة وليلة، خاصة الحكايات التي يعشق فيها الجان بني الإنسان. وثمة فقرة تكاد تكون منقولةً من قصة النائم اليقظان، حين لا يدري ألفارو أهو في واقعٍ أو خيال، ويتردَّد بين كونه يحلم وبين أنه يُعايش ما يحدُث حقيقة: «كيف يُمكنني أن أُفسِّر مُغامرتي؟ إن الأمر يبدو كله حلمًا من الأحلام، ولكن .. ما الحياة الإنسانية غير هذا؟ إني أحلم بصورة أغزر وأبهى من البشر الآخرين، هذا كل ما في الأمر.»

ويتقلب ألفارو وبيوندتا في أحداثٍ مُتعددة تنتهي بعودة الأخيرة إلى حالتها الشيطانية بعد أن تغوي ألفارو، الذي يعود بعد ذلك بدوره إلى حياته الطبيعية بعد لقائه مع أُمِّه في إسبانيا.

وقد استمرت قصص الخوارق في الظهور نتيجة إقبال القرَّاء عليها، خاصة النشء والأطفال، وأصبحت نوعًا أدبيًّا موازيًا لروايات الخيال العلمي التي تزخر أيضًا بالخوارق. ولم يكن من الطبيعي أن تحتوي الروايات الواقعية على أي أحداثٍ تفوق الواقع، وذلك إلى أن ظهرت روايات مِثل التي كتبها كافكا، ثم الروايات السيريالية التي جمعت بين الأحداث الخارقة للطبيعة والأحداث الواقعية. وقد مهَّد ذلك لِما أصبح يُطلَق عليه الواقعية السحرية.

(١) الواقعية السحرية

ارتبط مصطلح الواقعية السحرية MAGICAL REALISM بروايات أمريكا اللاتينية في الفترة المُسمَّاة «الرواج» BOOM في الستينيَّات من القرن العشرين. وكان هذا الأسلوب ردَّ فعلٍ للروايات الواقعية والطبيعية — المُتأثرة بروايات إميل زولا الفرنسية — التي تفاعلت مع الواقع الاجتماعي والإنساني في بلاد أمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فقد حاولت الرواية في ذلك الوقت توثيق الواقعية توثيقًا حرفيًّا لكشف العِلَل الاجتماعية التي تفشَّت في المجتمع آنذاك، وأهمُّها قسوة الظروف الطبيعية، وضراوة استغلال الطبقات الثرية للطبقات الضعيفة المهمشة، من الفقراء والمرضى والسكَّان الهنود الأصليين. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور روايات تُبسِّط الواقع وتُقدِّم شخصياتٍ مسطحة، إما بيضاء ناصعة أو سوداء، فالأثرياء والإقطاعيون قُساة فاسدون، والفلاحون الأُجَراء والفقراء ضحايا أبرياء.

بيد أن تيار الرواية الجديدة التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين جابهت فرضيات الواقعية التقليدية وأُسسها الاجتماعية بالشكوك الميتافيزيقية التي ظهرت في ذلك الوقت في أوروبا. فقد أدَّت أزمة إيمان الإنسان الحديث تجاه القِيَم التقليدية إلى نبذ النظرية الغربية المُتوطدة في الدين والأخلاق والخير العام والتي تنظر إلى الحياة بوصفها وحدةً منتظمة تقوم على مبادئ مُحدَّدة عن الخير والشر، فإذا الروائي الحديث يُدرك زيف الواقعية الحرفية، وأن محاولة تصوير الواقع لا يمكن أن تتحقق عن طريق التقسيم الاعتسافي الأخلاقي الذي كان مُتبَعًا من قبل، وأن الوجود الإنساني والشخصية البشرية أعَقدُ من أن يجرى تصويرهما بتلك الطرق السطحية. ولهذا، كان على الفن القصصي الحديث أن يهجر نظرية المُحاكاة العتيدة والتصوير الحرفي، وأن يتبع تقنياتٍ مُركبة كيما يُعبِّر عن واقعيةٍ مُركبة. ومن هنا ظهرت أساليب المونولوج الداخلي، واختفاء الراوي، وتيار الوعي واللاوعي، ووجهات النظر المُتعددة، وتشظِّي الزمن، والتركيبات المعقدة المتشابكة، والرمزية المُتعددة الأوجه .. وغيرها من أساليب الفن الروائي الحديث. وقد ارتبطت هذه التجديدات الروائية والشعرية أولًا بالسيريالية الأوروبية التي ظهرت بشكلٍ أوضح في الرسم والتصوير. وقد اتَّخذت تلك التجديدات زخمًا مُغايرًا إلى حدٍّ ما في قصص أمريكا اللاتينية بالذات، كيما تُساير الواقع المحلي في تلك البلدان. فالواقعية السحرية التي أُطلِقت على أعمال جابرييل جرسيه ماركيز وماريو فارجاس يوسا وغيرهما، ارتكزت على فكرة أن واقع أمريكا اللاتينية مُختلف عن واقع البلدان الأخرى، فهو قد تحدَّد على نحوٍ غير عادي، مزيج من الفانتازيا والعجائبية، نتيجة للتاريخ المُعقَّد المُتشابك الغريب الذي مرَّت به بلدانها، ونتيجة التنوُّع الإثني الواسع فيها.

وقد ارتبطت الواقعية السحرية ارتباطًا عفويًّا بالروائي الكولومبي ماركيز منذ صدور روايته «مائة عام من العزلة». وقد احتوت هذه الرواية بالفعل على أحداث خارقة للعادة، ولكنها جاءت في سياقٍ واقعي شعبي في حياة أشخاصها، مثل صعود «ريميديوس» إلى السماء، والفراشات الصفراء التي كانت تحوم على الدوام حول «ماوريسيو بابيلونيا». وقد ذكر ماركيز في مُقابلاته الصحفية أنَّ كل الأحداث التي تبدو خارقةً في الرواية، لها أصل في الواقع، وأنه يعرف أناسًا ريفيين بُسطاء قرءوا «مائة سنة من العزلة» بسرورٍ وتفهُّم عظيمَين دون أي استغرابٍ من أحداثها، لأنه لا يقص فيها أي شيء غريب عن الحياة التي يعيشونها بالفعل.

والحقيقة أن ربط الواقعية السحرية بماركيز أمر تعسُّفي؛ إذ إن ذلك الأسلوب قد ظهر — بصورةٍ أو بأُخرى — في أعمال أُدباء آخرين في أمريكا اللاتينية، منهم ميجيل أنخل أستورياس في «السيد الرئيس» و«رجال الذرة» وغيرهما، وخوان رولفو في روايته القصيرة البديعة «بدرو بارامو»، وفي معظم قصص خورخي لويس بورخيس.

وهناك من النقَّاد من يرَون في روايات «فرانز كافكا» نوعًا مُبكرًا من الواقع السحري، وهو من الروائيين الذين تأثر بهم ماركيز، وقال إن قراءته لرواية «المسخ» هي التي أقنعته بأن في وُسعه أن يُصبح كاتبًا هو الآخر. بيد أن النقَّاد يَغفلون — في المحصلة الأخيرة — عن حقيقة أن أول الحكايات التي ظهرت فيها الواقعية السحرية، هي قصص ألف ليلة وليلة، وهي من الكتب التي قرأها وتأثَّر بها كل أدباء أمريكا اللاتينية المذكورين آنفا، وعلى رأسهم بورخيس وماركيز، على نحو ما ذكرناه في فصلٍ آخر من هذا الكتاب. وكان «الأستاذ»، نجيب محفوظ، من الروائيين الذين أشاروا — في أحاديثه مع محمد سلماوي — إلى أسبقية الرواية الأم، أو أم الروايات، إلى معالجة أسلوب الواقعية السحرية، قبل أن يظهر ذلك المصطلح إلى الوجود — بالطبع — بقرونٍ عديدة.

وحديثًا، ذكر الأستاذ أحمد الخميسي في مقالةٍ له بأخبار الأدب عن الواقعية السحرية، إلى جوار ألف ليلة وليلة والكتَّاب المذكورين سابقًا، رواية الروسي العبقري ميخائيل بلجاكوف «المُعلم ومرجريتا» الصادرة عام ١٩٣٠م، وقصة الفرنسي جي دي موباسان القصيرة «من يدري» (١٨٩٠م) في المجموعة التي نشرتها سحر سمير يوسف للمشروع القومي للترجمة، ورواية «طفل شقي اسمه عنتر» لمحمد توفيق، كأمثلةٍ على قصص فيها لمسات الواقعية السحرية.

ويتمثل الأساس في أسلوب الواقعية السحرية في سرد أحداثٍ ووقائع غير عادية أو خارقة للمألوف في ثنايا أحداثٍ طبيعية مُغرقة في الواقعية وفي التفاصيل العادية بحيث تبدو وكأنها جزء لا يتجزَّأ من الواقع اليومي المُعاش للشخصيات. وقد وردت مثل تلك الوقائع في الكثير من قصص ألف ليلة وليلة، عدا الأحداث الخارقة الصِّرف التي ذكرناها سابقًا. ومن الأمثلة الطيبة على ذلك، ما حدث في مُقدمة حكايات السندباد البحري، حيث نجد شخصية حمَّال فقير، يتفق وصفه مع حرفته وحالته، ويتفق الحدث، الذي يُمثله مُتعبًا فيَميل إلى مصطبةٍ أمام قصر أحد التجَّار الأثرياء ليستريح، مع المنطق السردي. ولكن، في وسط هذا المنظر الواقعي الذي يمكن أن يراه المرء من حوله في أي زمانٍ ومكان، يُفاجأ القارئ بعبارة «وسمع أيضًا أصوات طيور تتناغى وتُسبح الله تعالى باختلاف الأصوات وسائر اللغات.» وذلك من حديقة القصر، ويستمرُّ بعدَها الوصف المنطقي العادي للأحداث التي تتداعى حتى دعوة صاحب الدار للسندباد الحمَّال للدخول إلى قصره لاستضافته. وقد تفوت القارئ في خِضم القصة صورة الطيور التي تُسبح لله تعالى بلغاتٍ مختلفة، ولكنها مثال على دسِّ أشياء عجائبية وسط سردٍ طبيعي عقلاني، مما يخلق مَشهدًا من المشاهد التي يمكن أن يُطلَق عليها «واقعية سحرية». وتجدُر الإشارة إلى أن مثل هذه الوقائع العجيبة، كانت تُلاقي تصديقًا من عددٍ كبير من الجمهور الذي يسمعها مِن الحكَّائين في بدايات تدبيج تلك القصص، فهم مُتعوِّدون على أن الحمام واليمام إنما تُسبِّح بأصواتها بذِكر الله. كما أن السندباد وهو يحكي عن رحلاته، نفهم من السياق أن سامِعيه لا يشكُّون لحظةً في صِدق ما يَرويه لهم، حتى من الخوارق غير الطبيعية. كما نُشير أيضًا إلى أنَّ الاعتقاد في ظهور الجان وتجسُّد إبليس — كما سنرى فيما يلي — والعثور على الكنوز المرصودة وغير ذلك مما يرِد في قصص ألف ليلة وليلة، ما زال مُستمرًّا في الكثير من بلاد العالم الثالث، وما منَّا ببعيدٍ ما يحدُث في مصر اليوم من بعثٍ لكتب تحضير الجان والعفاريت، والنصب عن طريق تحويل المعادن إلى ذهب، وتوليد الدولارات والجنيهات، والحفر في باطن البيوت بحثًا عن كنوزٍ مَخفية من قديم الزمن! فإذا كان ذلك يحدُث في القرن الحادي والعشرين، يُمكننا تصوُّر ما كان يعتقد فيه من يستمعون إلى أحداث القصص في الأزمان القديمة.

وتتكرَّر مثل هذه المشاهد الواقعية السحرية في مختلف حكايات ألف ليلة، وهي تختلف عن مشاهد الخوارق الخالِصة التي يتمُّ تقديمها بهذه الصفة حتى ممَّن يقصُّونها، كفزع الآدميين من ظهور الجان والعفاريت، أو الحيوانات التي تتكلَّم فيما بينها ومع الإنسان، والسحرة الذين يُحوِّلون الإنسان إلى حيوانٍ أو طير. ونحن إذا نظرْنا إلى وقائع أخرى في رحلات السندباد البحري التي يَحكيها للحمَّال وللآخرين، نجِدها مليئة بالعجائب التي تخرج عن نطاق الواقعية السحرية إلى نطاق العجائبية والخوارق، مثل جبل القرود والعملاق الأسود وشيخ البحر.

ومِن الغريب أنَّ بعض المؤلِّفين الأوروبيِّين قد ساروا شوطًا في تأصيل بعض خوارق حكايات ألف ليلة وليلة الخرافية الصِّرف، مثل طائر الرخ الهائل الحجم، وجبل قاف الذي يُحيط بالأرض، وبلاد واق الواق، ودبَّجوا فيها الأبحاث والاستنتاجات شبه العلمية!

ومن الوسائل التي تجمع الواقعية بالخيال في الكتاب العربي، التفاصيل الدقيقة والأشعار وذكر الشخصيات التاريخية المعروفة. ويَستبين هذا في حكاية إبراهيم المَوصلي وإبليس؛ وفيها نرى المُغني والموسيقار البغدادي الشهير وقد اعتكف في منزله وأغلق على نفسه الأبواب، «فإذا بشيخٍ ذي هيبةٍ وجمال وعليه ثياب بِيض وقميص ناعم وعلى رأسه طيلسان وفي يدِه عكَّاز من فضةٍ وروايح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار والرواق.» يظهر أمامه ويطلُب سماع أغانيه، فاستجاب له المَوصلي على غيظٍ منه. ثم طلَب الغريب أن يَسمعه الموسيقار، وغنَّى له ثلاثة أدوار في شعرٍ عربي فصيح. فذكر المَوصلي «فوالله لقد ظننتُ أن الأبواب والحيطان وكلَّ ما في البيت تُجيبه وتُغني معه من حُسن صوته، حتى خِلتُ والله أني أسمع أعضائى وثيابي تُجيبه. وبقيتُ مبهوتًا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لِما خالَط قلبي.» وبعد ذلك يختفي الغريب كما جاء، فيفزع المَوصلي ويسأل أهل الدار فيقولون إنهم سمعوا غناءً لم يسمعوا بمِثله من قبل، ويسأل البوَّابين فيقولون إنه ما دخل الدار أحد؛ وعندها يُناديه الغريب صائحًا أنه «أبو مرة»، وهو من ألقاب إبليس. فهنا، نجد حدثًا خارقًا للطبيعة، هو ظهور الشيطان وتلبُّسه بمظهرٍ بشري ومُنافسته لإمامٍ مُغنِّي عصرِه. وهو يدخل ويرحل دون أن يراه المَوصلي، مما يؤكد صفة الخوارق فيه. ولكن الحكاية تُروى في سياقٍ من تفاصيل واقعية، وبطلُها إسحاق الموصلي المُغني المعروف، والشعر الذي يتغنَّى به إبليس فيه أبيات معروفة مألوفة للقارئ. وتنتهي الحكاية بأن يُهرَع المَوصلي إلى الخليفة هارون الرشيد ليقصَّ له تلك النادرة الغريبة، فيطلُب منه الرشيد غناء ما سمِعَه، «فأخذتُ العود وضربتُ فإذا هي راسخة في صدري، فطرِبَ بها الرشيد .. وقال: ليته متَّعَنا بنفسه يومًا واحدًا كما متَّعَك. ثم أمر لي بصِلةٍ فأخذتُها وانصرفت.» وهذه الحكاية على النحو الذي تجيء به هكذا، تدخل في باب القصص التي يُصدِّق القارئ حدوثها ما دامت قد تمَّ توثيقها على ذلك النحو الواقعي!

ومن وسائل الإيهام الواقعي في حكايات ألف ليلة وليلة، تحديد الأماكن والأزمنة، وإيراد شخصياتٍ وأحداثٍ تاريخية مألوفة، فهارون الرشيد يظهر دائمًا ومعه جعفر البرمكي ومسرور السيَّاف، وتظهر أحيانًا زوجته السيدة زبيدة. وفيها أيضًا المأمون وزيارته لمصر وحكايته مع أهرامات الجيزة. وثمَّة أوصاف دقيقة لأسواق بغداد والبصرة والقاهرة. ويظهر أيضًا العشَّاق المشهورون، والمُغنُّون المعروفون، وكل هذا يُضفي على أكثر القصص خيالًا وأحداثًا عجائبية، مسحةً من التصديق والإقناع، ولكنه تصديق وإقناع وهمي في آخِر الأمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤