ومازال مسلسل ألف ليلة وليلة مُستمرًّا

ومع احتفال الأوساط الأدبية بعد أربع سنوات من بداية القرن الحادي والعشرين بمرور ثلاثة قرون على صدور أول طبعات ألف ليلة وليلة في ترجمتها الفرنسية لأنطوان جالان، ما زالت الأقلام تَسطُر قصصًا جديدة تقتفي أثرَها وتتحدَّث عنها.

ففي القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، شكلت حكايات ألف ليلة وليلة مَصدر إلهامٍ للأدباء والفنانين العالمِيِّين. واستمرَّ ذلك التأثير في العقود الأولى للقرن العشرين، كما رأينا عند بروست وجويس وبورخيس. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين، خفَّ تَواجُد الليالي وأثرها، وإن لم ينعدِم، بل وجدناها لدى الكثير من المُحدثين. وحتى اليوم الذي أسطر فيه هذا الفصل، يناير ٢٠٠٥م، قرأت لتوِّي عن صدور رواية أمريكية تتَّخِذ من ألف ليلة وليلة إلهامًا لها، وهو ما يدلُّ على «لازمنية» الكتاب وعلى لانهائيته!

ومن الروايات الأساسية الألف ليلية المُحدثة، الرواية القصيرة التي كتبَها الأمريكي «جون بارت» بعنوان «دنيازادياد» عام ١٩٧٢م وصدرت ضِمن مجموعة قصص بعنوان CHIMERA. والقصة غريبة في نوعِها، وهي تنويع على القصة الإطارية المحورية في كتاب ألف ليلة؛ ويُضفي عليها بارت عُمقًا في الشكل والمحتوى على السواء، رغم أنه لم ينجُ من المواقف والألفاظ «المُستملَحة» التي ينتظرها القارئ الغربي في كل روايةٍ الآن، ويبدو أن الناشِرين يطلُبون من المؤلِّفين وجودها في كتُبهم، كما اعترف «بول بولز» مرةً بذلك!

وتدور الرواية القصيرة (النوفيلَّا) على لسان دنيازاد أخت شهرزاد، كحديثٍ مُوجَّه إلى شاه زمان أخي شهريار الذي شارَكَه الفجيعة في خيانة زوجتيهما. وهي تسرد في البداية ما حدث في القصة الإطارية، ثم ينتقل حديثها المونولوجي إلى زمانٍ قبل أن تُفكر شهرزاد في حيلة القصص من أجل إنقاذ عذارى المَملكة من فتكِ السلطان بهن. وهي تتحاوَر مع دنيازاد في الوسيلة التي يمكن أن تقوم بها، فتفكر في مجال دراساتها: العلوم السياسية، كتغيير نظام الحُكم في المملكة، أو القيام بانقلاب، أو اغتيال شهريار، ولكن ذلك ليس مُمكنًا. ثم تفكر في الحلول السيكلوجية، وتثبت عدم صلاحيتها كذلك. ولم يَبقَ أمامها غير الحلِّ القصصي. ويرى القارئ أن المؤلِّف بارت يُقدِّم قصة تناصِّية؛ إذ يخلع على جميع الشخصيات فيها صورةً حديثة، وهو أسلوب من أساليب التهكُّم الساخر والتورية الذي ساد الرواية الغربية الحديثة؛ فشهرزاد هي شيري، ودنيازاد: «دودي»، وشهرزاد تدعو أباها «دادي»، وهكذا .. وشهرزاد مرآة للفتاة المُثقفة، فهي قد قرأت ألف كتاب في التاريخ والأدب والعلوم، وهي مُتفوِّقة في دراستها إلى الحد الذي تتسابق فيه جامعات الشرق على تقديم المنح الدراسية لها كي تلتحِق بها. بيد أن شهرزاد تترك دراستها من أجل التفرُّغ لحل مشكلة إنقاذ بنات جنسِها من طغيان السلطان.

وبينما شهرزاد تُفكر مع أختها فيما يجب عمله، يتجسد أمامهما فجأة جِنِّي آدمي، آتيًا من القرن العشرين، ونفهم أنه أحد الكُتَّاب المشهورين في زمانه، وقد جفَّت ينابيع إلهامه بعد أن كسد عالَم الكتاب والقراءة أمام زحف الإعلام السمعي والمرئي. ويتناقش الجِنِّي — وهو صورة من المؤلِّف ذاته بالطبع — مع شهرزاد في أصول الفن القصصي والإلهام، ويَحكي كيف أنه من أشدِّ المُعجبين بها وبحكاياتها والكتاب الذي خلَّفَتْه للقرَّاء في كل زمان ومكان. وتندهش شهرزاد من حديث الجِنِّي، فهي لم تقصَّ بعدُ أي حكاية، ولم تبدأ خُطَّتها بعد. بيد أن الجِنِّي الآدمي المؤلِّف يحكي لها كيف أنه اكتشف كتابها العظيم ألف ليلة وليلة حين كان يعمل في مكتبة الجامعة، وكيف أنه عشِقَها من طول قراءته لقصصها وبحث عنها في كل من عرفهم من النساء في حياته. وأخيرًا، حين تُدرك شهرزاد ويُدرك الجني حقيقةَ موقف كلٍّ منهما ومكانه وزمانه، من أنها ما تزال تعيش في الزمن السابق على زواجها من شهريار، بينما الجِنِّي يعيش بعد قرونٍ من صدور الحكايات وتداولها في شتَّى البلدان واللغات، يتَّفِقان على أن يقوم الجِنِّي بمساعدة شهرزاد بأن يُزوِّدها بالحكايات كما يُعَرِّفها كي تقوم هي بدَورها بقصِّها على السلطان!

وتمضي القصة قدُمًا، فتتزوَّج شهرزاد من شهريار، وتبدأ في قصِّ حكاياتها بالاتفاق مع أُختها دنيازاد، ويقع السلطان في أسْرِ التشويق القصصي فيؤجِّل نهاية شهرزاد يومًا وراء يوم. وتقضي شهرزاد الليل مع السلطان، يُمارسون الحب أولًا، ثم تحكي حكاياتها؛ وفي النهار، تُقابل الجني — المؤلِّف الذي يُمِدُّها كل يومٍ بحكايات الليلة. وتدخل شهرزاد مع الجِني في مناقشاتٍ مُطوَّلة مُتعمِّقة عن الفن القصصي والأساليب السردية، وعلاقة البناء القصصي بفعل مُمارسة الحب، من المُقدمة، والتعقيد، فالانفراج والخاتمة. وهما يُقيمان صِلةً هكذا بين الفن والجنس. وتذكر شهرزاد للجني كتاب «مُحيط من القصص» وهي أطول رواية في الوجود، التي يَحكيها الإله «سيفا» لزوجته «بارفاتي»؛ ويَحكي لها الجِنِّي عن كتب مُماثلة، كالأوديسة، والديكاميرون (التي يقول لها إن بعض قصصه مأخوذ عنها هي، شهرزاد!) وتمضي الأحوال كما نعرفها في حكايات ألف ليلة التي بين أيدينا الآن، فتسرد قصة بارت الواردة على لسان دنيازاد، أنه في الليلة ٣٠٨ من الألف ليلة وليلة، أنجبت شهرزاد ابنها «علي شار»، وفي الليلة ٦٢٤ «غريب» وأخيرًا «جميلة» في الليلة ٩٥٩. وفي تلك الأثناء أيضًا، تنحلُّ عقدة الجِنِّي المُؤلِّف، ويجد إلهامًا جديدًا من لقاءاته اليومية بشهرزاد وأختها دنيازاد، ويُخبرهما أنه بصدَدِ كتابة قصة بعنوان دنيازاد، تحكي فيها وقائع ما حدث من وجهة نظرِها، ويُغير فيها المؤلف من الخاتمة التقليدية للكتاب. ويقصُّ الجِني تنويعاته على القصة الأصلية على مَسامع الفتاتَين، فهو يجعل شاه زمان — أخا شهريار — يسير نفس سيرة أخيه في سمرقند، فيتزوَّج بِكرًا كل ليلة كيما يَقتلها في الصباح. بيد أنه لا يجِد أحدًا مثل شهرزاد، فيُواصِل مسيرة الزواج والقتل طوال الألف ليلة وليلة التي كان شهريار يستمع فيها إلى حكايات شهرزاد. وحين تختتم شهرزاد حكاياتها على النحو الذي يُلقِّنها إيَّاه الجني، بعد الانتهاء من حكاية معروف الإسكافي، تعرِض أولادها على السلطان، الذي يعفو عنها وتُقام الأفراح في المملكة لهذه الخاتمة السعيدة. بيد أن الجني يزيد في نهاية القصة، فيجعل شهريار يُزوِّج أخاه شاه زمان من دنيازاد، كي يسير سيرته.

وتنقلب تتِمَّة الرواية على يد الجِني — المؤلف — بارت إلى شيءٍ أشبَهَ بالقضايا النسوية، فنعرف أن شهرزاد قد اتفقت مع أُختها دنيازاد أن ينتقِما من كل ذلك الإذلال الذي لاقته فتيات المَملكتَين على يدَي شهريار وشاه زمان، بأن يقوما بقتل الملِكَين في ليلة العرس. وتُنهي دنيازاد مونولوجها المُوجَّه منذ بداية القصة إلى شاه زمان، بأن تُخبِره بما تنتوي فعله بعد أن قيَّدَتْه كنوعٍ من الألعاب الإيروسية، وتشهر في وجهه شفرةً حادة كيما تذبحه بها، وتقول له إن شهرزاد تفعل الآن نفس الشيء مع شهريار.

ويحاول شاه زمان أن يُقنعها بالعدول عما انتوته، وأنه يُحبها ويريد أن يقضي بقية عمره معها، ولكنها ترفض في عناد. وعندها يُخبرها شاه زمان أن بوسعه نداء حُرَّاسه في غمضة عين؛ ويُصدِر صفيرًا بفمه فيدخل عددٌ من الحرَس ويمسكون بدنيازاد مُوثِقين إيَّاها. ويقول الزوج إنه صادق فيما قاله لها عن حُبه، ولذلك يأمُر الحرس بالخروج فيخرجون ويدَعُونهما وحدَهما، وما يزال شاه زمان مُقيدًا وزوجته تُشهِر الموسى في وجهه. ويُعيد الزوج على مسامعها حُبه لها وثِقته فيها، فتنهار دنيازاد باكيةً وهي لا تدري ما تصنع. ويطلُب منها شاه زمان أن تستمع لما سيقصُّه عليها كما استمع هو من قبل لِما قالته. ويحكي لها عن حياته وما حدث من خيانة زوجته الأولى له، واتفاقه مع أخيه شهريار على الانتقام بقتل العذارى كلَّ يوم. ويعترف لها شاه زمان أنه لم يكن يقتل أيًّا من العذارى اللاتي كان يتزوَّج منهن كل ليلةٍ في سمرقند، فبعد أن تزوَّج من أول عذراء — وكانت ابنة وزيره أيضًا — أشفق عليها من القتل، ووجد أن الحلَّ الأمثل أن يبعث بها إلى مكانٍ قريب من سمرقند أخبرَتْه هي بوجوده، حيث مملكة تعيش فيها النساء وحدهن. ويقوم بذلك سِرًّا بعِلم وزيره، بينما الجميع يعتقدون أنه يقتُل العذارى صبيحةَ الزواج. ومضى على هذا المنوال إلى أن وصله إخطار أخيه شهريار بنبأ الإبقاء على حياة شهرزاد ودعوته إلى حضور الاحتفالات المُقامة بمناسبة العفو عنها. ويقول شاه زمان لدنيازاد: «عندها تمنَّيتُ أن يكون لشهرزاد أخت، وعندها لن أطلُب شيئًا منها، لا حكايات، لا اشتراطات، بل سأضع حياتي بين يدَيها، وأحكي لها قصة الألفي ليلة وليلتَين التي قادتني إليها، وأطلُب منها أن تضع نهايةً لها حسبما يتراءى لها: إما مساء خير أخيرة، وإما صباح خير واضحة مُنعِشة.»

وكانت دنيازاد تستمِع إليه في دهشةٍ وهي لا تُصدِّق ما يقول، بينما هو يُحاول إقناعها بصحة حكايته. ويُضيف أن أخاه شهريار لا بدَّ وأنه قد أنقذ نفسه من خطة شهرزاد بنفس الحُب والصراحة، ويهتف بها: «فلنُنْهِ تلك الليلة المُظلمة، وكل ذلك العداء بين الرجل والمرأة، وكل تلك الفوضى عن عدم المساواة والاختلافات بين الجنسَين. فلننعم بالحُب والعناق يا دنيازاد.» ويتطاول النقاش بينهما، ولا ندري كيف ينتهي الموقف معهما، إلا أنه حين تقول دنيازاد: «لقد تكلَّمنا طوال الليل؛ إني أرى الصبح يطلع.» يرد شاه زمان: صباح الخير إذن، صباح الخير! وهي إشارة تفاؤل بالنظر إلى ما سبق ذِكره من مساء الخير أو صباح الخير.

ورواية بارت القصيرة ساخرة، تستخدِم أساليب القص الحديث من تناص وتَداخُل الزمن والمكان، كما أنها زاخرة بالعناصر الإيروسية التي لا تخلو منها رواية غربية اليوم، وهي تصور النزعات النسوية الحديثة، والصراع بين الجنسَين طلبًا للمساواة الكاملة في كل شيء، وقد لقِيَت نجاحًا كبيرًا من القرَّاء عند صدورها.

(١) ليالي ألف ليلة

لم يلتفت النقَّاد العرب كثيرًا إلى رواية نجيب محفوظ التي تحمل هذا العنوان رغم صدورها عام ١٩٨٨م، ونشرَها بالإنجليزية في مطلع عام ١٩٩٥م، رغم أنه قد صدرت دراسة مُسهبة عنها بقلم الدكتورة وفاء إبراهيم تناولتها بتحليلٍ فلسفي رائع.

والرواية في اعتباري واحدة من أهم روايات الأستاذ، إذ يتمثَّل فيها جماعُ ما دأبَ على تصويره في معظم رواياته وقصصه. فقد تناول المؤلِّف كتاب ألف ليلة وليلة واختار منه حكاياتٍ بعينها جعلها تقوم بمثابة «تناص» لِما يُقدِّمه هو من حكاياتٍ جديدة، تنويعًا عليها. وقد قال «الأستاذ» في أحاديثه مع محمد سلماوي:«لقد قرأت ألف ليلة وليلة عدة مرَّات وفتنتْني قصصها، ولقد أردتُ أن أصنع منها رواية متكاملة.»

وقد تناول محفوظ في روايته قصة ألف ليلة بدءًا من نهايتها في الكتاب الأصلي، حين يعفو شهريار عن شهرزاد. ولكننا نعرِف أن شهرزاد غير راضية في نهاية الأمر، فقد تحمَّلت فوق طاقتها كي توقف شلال الدماء وترحم العذارى البريئات من قسوة شهريار. ثم يُقدم المؤلف «لوحات قصصية» تحمِل كلٌّ منها اسمًا من الأسماء المشهورة في حكايات ألف ليلة، ولكن بتصويرٍ جديد؛ بينما يُحلِّق فوق كل الشخصيات، الشخصية المُحبَّبة لدى نجيب محفوظ: شخصية الدرويش الصوفي، وهو هنا الشيخ عبد الله البلخي الذي يُهيمِن على أحداث الرواية وحياة شخصياتها من بعيدٍ أو قريب. ويُضارع المؤلف الكتاب الأصلي في عجائبه وغرائبه، فهناك عفريتان، قمقام وسنجام، يتسلَّط كل واحدٍ منهما على أحد البشر. فقمقام يأمر التاجر صنعان الجمالي بقتْل الحاكم علي السلولي ليتخلَّص من سحره الأسود، بينما سنجام يأمر جمصة البلطي كبير الشرطة بقتل الحاكم الجديد كي يُخلِّص الناس من ظلمه. ويُضطر جمصة إلى قتل الحاكم، ويُقبَض عليه ويُعدَم، بيد أنه يبقى على قيد الحياة بعد أن يفصِل السيَّاف رأسه عن جسده، ويُراقب كل ما يجري من أحداثٍ بعد أن يتحوَّل إلى شخصٍ آخر يتمثل في جسد «عبد حبشي مُفلفل الشعر خفيف اللحية ممشوق القوام»، واشتغل حمَّالًا وتسمَّى باسم عبد الله الحمَّال.

وهكذا تتوالى الشخصيات التي تحمل أسماء شخصياتٍ معروفة في ألف ليلة، فنحن نجد بعد الحمَّال، نور الدين ودنيازاد، حيث يُضيف نجيب محفوظ في روايته حكاية لدنيازاد أخت شهرزاد، فهي كان دورها هامشيًّا في الكتاب الأصلي بعد أن أدَّت دورها كطالبةٍ للقصص ومُستمِعة لها مع شهريار، وحان دورها لتدخُل في قصةٍ من قصص الكتاب، يلعب فيها الجنِّيَّان قمقام وسنجام دورًا مهمًّا في مواجهة جنِّي وجنية شريرَين هما سخربوط وزرمباحة، اللذين يُمثلان الكُفر والشر في عالَم الجن، فهما يعيثان فسادًا في حياة دنيازاد، إذ يزوِّجانها بنور الدين ليلةً واحدة ثم يُفرِّقان بينهما، فلا يدري أي منهما أكان الزواج واقعًا أم خيالًا، إلى أن تحمل دنيازاد فتتيقَّن من الأمر وتقص حكايتها على أُختها شهرزاد، ويتبادلان الحديث التالي ذا الدلالة العميقة:

– « أيُّ عقل يقبل قصتك؟

– هذا ما أُحدِّث نفسي، إنها قصة شبيهة بقصصك العجيبة.

– قصصي مُستوحاة من عالَمٍ آخر يا دنيازاد.»

وهكذا تتداخَل القصص، ويتداخَل الخيال مع الخيال، ويدخل الملك شهريار في تلك الحكاية، فينتاب شهرزاد القلق من أن تعود إليه وقائع خيانة النساء، رغم امتلاء حكايات شهرزاد بها، ولكنه — كما تقول الأم: «قد تُعجِبه الحكايات وهي بعيدة، أما أن تقتحم داره وتتعامل معه فشيءٌ آخر، قد تعاوده وساوسه.» ولكن القصة تنتهي على خير بفضل تدخُّل جمصة البلطي الذي تحوَّل إلى عبد الله الحمَّال ثم إلى مجذوبٍ صوفي تُنسَب له المعجزات. وتتوالى قصص ليالي ألف ليلة، أنيس الجليس، وعلاء الدين أبو الشامات، ومعروف الإسكافي، بنظراتٍ جديدة، وفي إطارٍ مُستمر من صعود الحُكَّام وأصحاب السلطة وهبوطهم، وتجوالات السلطان شهريار مع وزيره دندان؛ فكأن نجيب محفوظ قد نقل السلطنة من مكانها الأصلي في فارس، إلى بغداد، حيث يقوم شهريار ودندان بما كان يقوم به هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي. بل إنَّ أحداثًا مُعينة تقع في ألف ليلة وليلة الأصلية في محضر الخليفة العباسي ووزيره البرمكي وسيَّافه مسرور، تقع في كتاب محفوظ في محضر شهريار ووزيره دندان وسيَّافه الخاص. ويلعب شهريار دورًا أكبر في رواية محفوظ، إذ هو يُصادف السندباد في الواقع، الذي يحكي للسلطان في لوحاتٍ مُتتابعة رحلاتِهِ المُتعددة والحِكمة التي خرج بها من كل رحلةٍ منها، وهي تبدو في شكل نصائح مُقدَّمة إلى الملك، مِثلما فعل بيدبا الفيلسوف مع دبشليم ملك الهند في كليلة ودمنة. وينتهي الأمر بشهريار إلى إدراك مدى الإثم الذي اقترفه حين كان يقتُل الفتيات ليلةً وراء ليلة بعد زواجه منهن، ويُعبِّر عن ندَمِه ورغبته في التوبة، لدرجة أن يرقَّ له قلب شهرزاد وتشعُر أنها قد بدأت تُحبه أخيرًا حبًّا صادقًا وليس عن خوفٍ أو رهبة.

ولكن الأمور تتطوَّر، ويهجر شهريار العرش والجاه والمرأة والولد (قارن رواية الشحاذ أيضًا) ويخرج مُلتمسًا تربيةً جديدة لروحه وعقله، في سياحة توازي سياحة السندباد. وفي البرية، يجد نفسه في حضرة قوم يُسَمَّون «البكاءون». ويتضح أنهم مجموعة من الناس منهم من يعرفه، يُمضون ليلهم على ذلك الحال، قبل أن يعودوا مع الصباح إلى دار العذاب، أي حياتهم اليومية. وتقوده قدَماه بعد رحيلهم إلى مكانٍ مسحور، يجد به بِركةً صافية يستحم فيها فيعود شابًّا من جديد، وإذا هو في مدينةٍ ليست من صُنع البشر، كأنها الفردوس، أو المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة. ويتزوَّج شهريار من ملكة المدينة التي كانت وشعبها في انتظاره، ويخرج معهم من قبضة الزمن؛ فما يبدو لشهريار أيامًا معدودة هو مائة عام. وتنتهي الرواية بنصيحة الملكة الفردوسية لشهريار: «ستعرف السعادة الحقيقية عندما تنسى الماضي تمامًا.»

(ويا لها من نصيحة تتناقض تمامًا مع مسعى مارسيل بروست في استعادة الماضي على نحوٍ تفصيلي!)

وقد نجح محفوظ في تناول مادة ألف ليلة وليلة ليُصور بها موضوعًا أثيرًا لدَيه، هو الصراع بين الخير والشر، بين الروح ومُتطلَّباتها والجسد ومُتطلَّباته. ونرى الحكام والولاة وأصحاب الشرطة ومواليهم يمرُّون مرور الكرام، في صعودٍ وهبوط، حافِّين بالأحداث والشخصيات، على نحوٍ يجعل القارئ يخرج في النهاية برؤيا عن مدى هشاشة الحياة الإنسانية، وتداخُل عوامل الخير والشر فيها بصورة يصعُب معها التمييز الصحيح، ويخرج القارئ كذلك بفكرة أنه لا جديد تحت الشمس، حتى مع كل هذه الأحداث والغرائب، وأن الخير والشر قوَّتان موجودتان في الكون والخلائق، وتوازنهما معًا يصنع الحياة يومًا وراء يوم. وبذلك أحال نجيب محفوظ ألف ليلة وليلة من كتابِ حكاياتٍ إلى رواية عن الوجود وأسراره.

ومن ناحية أخرى، اعتمد نجيب محفوظ على بعض شخصيات وروح العمل الأصلي لألف ليلة وليلة لإذكاء حياةٍ جديدة مختلفة فيها. فرغم أن رواية محفوظ تحدُث وقائعها في مدينةٍ إسلامية في العصور الوسطى، فسيجد القارئ فيها أشياء مُعاصرة للغاية. فهي تُصور بلدًا ينخر فيه الفساد، وصاحب الشرطة مشغول دومًا بالأنشطة السرية لمن يُدعَون «الخوارج» وألقاب أخرى، الذين يسعَون إلى تغيير نظام الحُكم (قارن بالجماعات السرية الحالية في بلدانٍ كثيرة وفي أماكن مختلفة من العالم). كل هذا وشهريار وشهرزاد ودنيازاد (والوزير دندان) يدخلون إلى مسرح الأحداث الفعلية في القصة، وليسوا مجرد مُستمِعين لها كما في العمل الأصلي.

وهكذا وفَّرت تركيبة كتاب ألف ليلة لمحفوظ وسيلةً قيمة لتقديم القضايا الأخلاقية والسياسية لعصره، مُنتقدًا عيوب المجتمع الذي يعيش فيه بكل ما يتضمن من صُوَر النفاق والفساد والتسلُّق الاجتماعي والاقتصادي. وقد تردَّدت في جنبات الرواية أصداء لروايات أُخرى محفوظية، منها الشحَّاذ والطريق، حيث أبطالهما يَنشدون الحقيقة والتوبة كما ينشدُهما شهريار، والحرافيش، التي يتوالى فيها الفتوات الذين يُحاولون تحسين الأوضاع فتنتهي الأوضاع بإفسادهم والْتهامهم، وكذلك العمل المَلحمي «أولاد حارتنا» حيث الشر دائما يُصارع الخير، بأمَل الخروج أخيرًا إلى يوتوبيا يسود فيها الخير والرفاه والعدل للجميع، والتي لن تتحقَّق إلا بتحقيق التوازُن في كل منحًى من مناحي الحياة.

(٢) ألف ليلة وليلتان

وهو عنوان رواية الأديب السوري هاني الراهب الصادرة عن دار الآداب عام ١٩٨٨م. ومن المناسب البدء باقتباس الملاحظة التي قدَّم بها المؤلف روايته: «إن اختلاط الأزمنة في الرواية مقصود به الإشارة إلى استمرار عالَم ألف ليلة وليلة العربي خلال ألف سنة وسنة، وإن هذا الاستمرار بلغ ذروته عام ١٩٦٧م عبر هزيمةٍ حضارية أزاحت العرب عن طرف الزمن ووضعتهم في الليلة الثانية بعد الألف: وهذا الزمن الجديد الذي تنتهي الرواية ببدايته سيكون سدَّة رواية قادمة.» وقد أحسن المؤلف بالتنبيه إلى ذلك، فأحداث الرواية تتابع دونما فصلٍ بين المواقف والشخصيات، في تدفُّقٍ طبيعي يُظهر تَطوُّر الأحداث وتفاعُل شخصيات الرواية معها.

وبعكس رواية نجيب محفوظ التي صورت ألف ليلة وليلة القديمة بأحداث مختلفة، تدور رواية هاني الراهب في دمشق في الفترة السابقة لحرب ١٩٦٧م، وتنتهي بوقوع الهزيمة ونتائجها في الاستعداد «لإزالة آثار العدوان». فالرواية تُقدِّم عددًا كبيرًا من الشخصيات التي تتفاعل مع نفسها ومع بعضها البعض؛ فهناك عباس — محافظ إحدى المدن — زوج عايدة، الذي يُقيم علاقات نسائية مع أكثر من واحدة خارج نطاق الزواج، ومع غادة زوجة الإقطاعي طلعت. وهناك أُمية زوجة الطيَّار الضابط السابق نزار الذي يشكُّ فيها على الدوام برغم مُغامراته النسائية المُتكررة هو نفسه، مما يَضطرُّها في نهاية الأمر إلى إقامة علاقة مع سليمان، فنى الإلكترونيات. وتُقدِّم الرواية عالم الصحافة والكُتَّاب، وعالم المُدرِّسين، والكل يتحدَّث عن المُثُل والثورية والاشتراكية، في ظلالٍ من التفسُّخ الأخلاقي، والذي يبلغ مداه في هزيمة يونيو ١٩٦٧م. وهنا يَبين هدف المؤلف من عنوان روايته ومن دسِّ بعض الإشارات عن المجتمع العربي القديم وهارون الرشيد، فيُدرك القارئ أنَّ هاني الراهب قد قصد تصوير العالم العربي في ذلك الوقت — مُمثلًا هنا بدمشق عاصمة الأمويين — على أنه يعيش في العالَم الذي تُقدِّمه قصص ألف ليلة وليلة؛ العالم الذي تَحكمه سلطة الخليفة التي لا تحدُّها حدود، ودُنيا الغناء والجنس وعلاقات الحب والغرام، والذي تكتسي فيه الأفعال طبقةً شفافة من الأحلام والرؤى التي لا تستبين إلا عن خيالاتٍ وأوهام. يكتب أحد شخصيات القصة، وهو الكاتب المُسمَّى «الملك» والمفروض أنه رمز لمؤلف الرواية ذاته، قائلًا: «والعالَم الثالث هيولى لم يتشيَّأ بعد. وهذا هو سِر أحلامه ومآسيه. يمتلك حياةً لا حدود لها، وبالتالي فوضى لا حدود لها، ومن الواضح أنه سيمتلك التاريخ بعدَ حين. تمرُّ به الأيام كَلْمى هزيمة، ووجهه وضَّاح وثغره باسم. ليس لدَيه من مقومات الحياة سوى أنه يُحبها — الأشياء الأخرى تَثْوِي بين الحلم والإمكان. ليس لدَيه فعل، وإنما ردود فعل — ردود فقاعية. فيه ملايين تموت جوعًا، وملايين أخرى تتضوَّر جوعًا، وملايين أكثر من الجائعين. وفيه الناس عبيد إلا ضمن دائرة قُطرها نصف متر: عبيد للإمبريالية، للحياة اليومية، للطقس الحار، للانفعالات الأولية الذاهبة جفاءً كزبد البحر. وفيه الاستغلال المُزجَّج والرشوة الجميلة والسرقة الحلال، والجريمة الصلعاء. فيه المُتسولون والحُفاة والمشوَّهون جسديًّا وجنسيًّا، المزدوَجون والمُثلَّثون والمُربَّعون والمُعشَّرون. بعبارةٍ واحدة: إنه عالم ألف ليلة وليلة.»

وحتى عباس، الذي يتردد ما بين أحلامه المثالية بإقامة مجتمعٍ فاضل بينما هو غارق في علاقات نسائية، يعود إلى ثيمةٍ من ثيمات ألف ليلة وليلة حين يجُول بخاطره: «لَكَم تمنَّى لو قُيِّض له فانوس سحري، أو خاتم أسطوري. إذن لأسبغ على كل مريضٍ ثوبَ الصحة والقوة. ولأعطى كل إنسانٍ بيتًا جميلًا مُجهزًا بكل ما يُوفِّر له الدفء والهناء والأمان. ولوَهَب الناس مالًا غزيرًا يُنفقونه بلا حساب. ولأتاح للجميع فرصةَ العيش مع الحبيب الغالي في الربيع الزاهر والصيف المُثمِر والنعيم المُقيم. ولأبعدَ عن البشر الحزن والعذاب والإثم والجوع. خاصَّة الجوع، هذه الخاصية الأعظم لبني البشر. لو قُيِّض له مثل هذا الخاتم لخلق عالمًا جديدًا زاخرًا بالعدل والمساواة والشبع.»

بيد أن كل أحلام تلك الشخصيات وتمنياتها ما هي إلا فانتازيا تُماثل فانتازيات القصص الخرافية التي تقصُّها شهرزاد، فهي أمنيات لا تخرج إلى عالَم الواقع العملي، وتعيش في ظلِّ المظاهر المِثالية التي تُخفي وراءها عالمًا من الانتهازية والانفصام والزيف والانحلال، وهو ما يؤدي إلى النهاية الكارثية الطبيعية.

كذلك تمتلئ الرواية بالخلط بين الحكايات الواقعية والقَصص الخيالي القديم، كما حدث حين كان الراوي يتحدَّث عن حياة أبي خلف في فلسطين، ثم ينتقِل إلى قصة السيد القاسي وعبده الضعيف الفقير، الذي يعثر على خابيتَين مسحورتَين في الغابة، واللَّتَين تخرج منهما يدٌ تنهال ضربًا على السيد لقسوته. وتنتهي الحكاية بالقول ذاته من ألف ليلة: «وهكذا يا سادة يا كرام حمل العبد خابيتَيه مُنتصرًا على السيد وترك القصر فعاش مع عائلته في نعيمٍ مُقيم حتى أتاه هادم اللذَّات ومُفرق الجماعات.» وتتكرَّر هذه التيمات الألف ليلية في ثنايا الرواية، مما يُضفي عليها غلالةً حلمية تعكس عنوانها وتؤكد المعنى الذي قصدَه هاني الراهب من السطور التي قدَّم بها الرواية.

•••

ونختم هذا الفصل من الكتاب بخاتمةٍ للكتاب ذاته، بترجمة كاملة لقصةٍ ألف ليلية طريفة كتبَتْها البريطانية «بينيلوب لا يفلي»، الحائزة لأهم الجوائز القصصية في بريطانيا، والتي وُلدت في القاهرة عام ١٩٣٣م وقضت فيها فترة طفولتها. وسيجد القارئ رنَّةً ساخرة لا تخفى، ولكنه سيجد أيضًا اعترافًا صريحًا بأنَّ كتاب ألف ليلة وليلة هو العباءة التي خرج منها فنُّ الرواية بكل أساليبه وطرقه، من الواقعية والطبيعية والغرائبية إلى الواقعية السحرية. كما لن يغيب على القارئ نبرة النسوية التي تتبدَّى من خلال هذه القصة القصيرة والنزاع الدائر حول الأدب النسائي ودوره في الفن القصصي.

(٣) خمسة آلاف ليلة وليلة

لا بدَّ أنك تساءلتَ عمَّا وقع من أحداث بعد أن تزوجَت شهرزاد من السلطان. هل يا ترى عاشا بعد ذلك في تباتٍ ونبات؟ حسنًا .. بالطبع لا، فهذا لا يحدُث إلا في القصص، وشهرزاد ما كانت إلا مُتعهدة توريد قصص؛ بل كانت هي القصة بالفعل. أما الحلول القصصية فما كانت لها. ولا للسلطان. ذلك المسكين. مسكين؟ مع كلِّ ما كان تحت إمرته؟ ولكنه كان قد أصبح شخصيةً «مُستصلَحة». روَّضَته الحكايات. نُزع عنه نابه، وخمدت نيرانه. لقد غيَّر رأيه في النساء. أصبح يُحب زوجته، وغمرَه اهتمام حميد بأولاده. ولم يقطع رقبةَ أحدٍ خلال سنوات. وكان وزنه آخذًا في الزيادة، فلم يعُد يُشبه عمر الشريف كما كان في أيام عزه. أصبح مُسرفًا في شرب القهوة، ويشاهد الكثير من أفلام الفيديو، ولا يُبدي إلَّا اهتمامًا عابرًا بشئون تجارة البترول التي تتعهَّدها الأسرة. وأحيانًا ما كان يُرافق أُمَّه العجوز وأخواته إلى لندن أو باريس في مواسم الشراء. لم تكن بالحياة السيئة، كلَّا وألف كلَّا. حقًّا هي حياة مُفرطة في الهدوء، مما يجعله يشعر بين حينٍ وآخر بالذنب إذ يحنُّ إلى الأيام الخالية؛ بيد أن الأمور كانت على ما يُرام. كان زوجًا لأجمل امرأةٍ في العالم الشرقي وأكثرهنَّ موهبة. أليس ذلك حقًّا؟

ولكن كانت هناك مُشكلة واحدة.

إن شهرزاد، كما تذكر، كانت شابةً كاملة الأوصاف حتى قبل لقائها المصيري مع السلطان. كانت حاصلةً على درجاتٍ علمية في الفلسفة والطب والفنون الجميلة، أضافت إليها الآن درجتَي دكتوراه في الأدب المُقارن وفقه اللغة. وكانت تقوم بتدريس الكتابة الإبداعية، وتُدير حضانات للأطفال وعيادات لتنظيم الأسرة، كما أنها تعمل مستشارةً للحكومات بشأن موضوعات المرأة. كانت وقد بلغت الثانية والأربعين من عمرها لا تزال في أوج جمالها السابق، إن لم تكن أجمل. ولمَّا كانت زوجةً وفية، فهي لم تسمح لالتزاماتها أن تُبعدها عن السلطان. ليلة أو اثنتَين بين حين وآخر لا أكثر. إن زواجها، على أية حال، له تقاليدُه الخاصة به، تركيبته الداخلية، قصته الذاتية التي لا يمكن لأحدٍ أن يعيق مسيرتها.

ذلك أن شهرزاد قد واصلت حكاياتها، فبعد الألف ليلة الأولى، جاءت الألف الثانية، ثم الثالثة، فالرابعة. ولم يكن لدى السلطان أي فكرة عن المرحلة التي هما فيها الآن، ولا يعرف إلا أنه يخطو حثيثًا نحو الشيخوخة ولا يزال صوت شهرزاد الرقيق الذي لا يُقاوَم يتلو عليه القصص عبر الوسادة، ليلة وراء ليلة وراء ليلة. وكانت هناك أحيانًا نبرة توبيخ في صوتها تقطع المسار الساحر، إذ لم يكن مسموحًا للسلطان أن يغفو في أثناء السرد، فكان يهبُّ مُستيقظًا ليجد عينَيْ شهرزاد تتطلَّعان إليه في جمودٍ عبر ملاءات الساتان المُطرزة المُشتراة من محلات هارودز، بينما إصبعها الرشيقة تدقُّ في غيظٍ على كُمِّ بيجامته، فيقول «آسف يا عزيزتي. لا بد أنني غفوتُ لحظة. لا دخل لك في هذا. قصصك رائعة، كالعادة. مُشوِّقة. إنما …»

فتتساءل شهرزاد في برود: إنما ماذا؟

فيعتذِر السلطان قائلًا: إنما أتوه في السياق أحيانًا. إنك تستحدِثين كلماتٍ غامضة نوعًا ما هذه الأيام. ما معنى الإحساس؟ كما أن الأماكن تُربكني. أين تقع ديفونشير؟

وألقت إليه شهرزاد نظرةً باردة، وقالت: حين تتوقَّف عن التثاؤب، سأواصِل كلامي.

كانت المشكلة أن الحكايات أصبحت تتزايد طولًا كلَّ حين، وتقلُّ إثارة؛ كما أصبحت خلفيتها أكثر غرابة، والإيقاع — في رأيه — أبطأ فأبطأ. وكانت الشخصيات تُحيره: كل هؤلاء النسوة المَدعوَّات إلزا وجين وكاثرين، يتحدَّثن ويتحدَّثن ولا شيء يحدُث إلا حين تكون هناك مناسبة اجتماعية محدودة أو شخصٌ يتزوج. لقد كان يتساءل بينَه وبين نفسه إذا ما كانت شهرزاد تفقِد صلتَها بالواقع. لقد كان على ثقةٍ أنه لا يدَ له في المشكلة، فلقد كان دائمًا رجلًا مُولعًا بالحكايات الشيقة. ففوق كل شيء: أي شيء جذبه نحوَها في المقام الأول؟ هذا طبعًا عدا مَحاسنها الجسدية التي لا تزال في أفضل أحوالها، فلا شكوى لدَيه من تلك الناحية. إنما .. حسنًا، الروح راغبة ولكن الجسد ليس كالعهد به في أيام العنفوان.

وتنهَّد السلطان وتأهَّب للسماع. وسردت شهرزاد: «إن مِن الحقائق المُسلَّم بها عالميًّا أن الرجل الأعزب الذي يمتلك ثروةً كبيرة لا بدَّ وأن يكون في حاجةٍ إلى زوجة. وكُفَّ عن التثاؤب!»

ومرَّ الوقت. واستمرَّت الحكايات. وكان السلطان لا يجرؤ على الشكوى من جديدٍ خوفًا من زوجته. كان يكره الشقاق العائلي (قد يبدو هذا غريبًا بالنظر إلى ماضيه، ولكن تذكَّر أننا نُعالج هنا مثالًا مُدهشًا من التغيُّر في الشخصية). وعلى أيِّ حال أيضًا، فهو لم يكن يريد للحكايات أن تتوقَّف.

كان يُفكر في كل تلك الأمور في أصيل يومٍ من الأيام حين زارته دينارزاد. وأنت تتذكَّر أن دينارزاد هي أخت شهرزاد الصغرى التي لعبت والحق يُقال دورًا مُهمًّا في أحداث ليلة الزفاف. بيد أن الأختَين قد ابتعدَتا عن بعضهما البعض لاحقًا. ذلك أن دينارزاد، التي كانت تدرس العلوم الاجتماعية في الجامعة، انضمَّت إلى إحدى الجماعات الأصولية.

وجلست دينارزاد على كومة من الوسائد بمُحاذاة مرفق السلطان وطفقت تُثرثر حول حفلةٍ حضرتها بينما هي تمدُّ يدَها بين حينٍ وآخر إلى علبةٍ من قطع الملبن. كانت تُضارع أختها جاذبية، غير أنها تختلف عنها تمامًا في مظهرها. كانت دينارزاد ترتدي الملابس التي تتفق مع ما تعتقده (أو التي تتفق مع شيءٍ على أية حال). كانت ترتدي الشادور، وعلى وجهها حجاب؛ فكانت عيناها اللامعتان هي كل ما يراه السلطان من وجهها .. وكان جسدها أيضًا مُغطًّى. بيد أن الانطباع العام لم يكن انطباعًا بالحشمة والتستُّر النسائي والورَع الديني. كان ثوبها الذي يصِل إلى كاحِلَيها مَصنوعًا من الساتان الثمين، وقدماها الجميلتان تبرُزان من تحته في شبشبٍ حريري ذي كعبٍ عالٍ ولون بَمبي. وكان حجابها يتلألأ بالترتر وكريَّات الفضة. وكانت ترتدي قفَّازًا من الدنتلَّا بلون الليلك. وكان قِسم كبير من صدرها مكشوفًا، ذلك أن الصدر في العُرف التقليدي ليس بمنطقة جذبٍ جنسي، بل الشعر واليدان هي كل ما يُشعل الرغبة. ولكن السلطان كان يرى أن صدور النساء مُغرية مثلها مثل أي جزءٍ آخر، ومن هنا لم يكن يعرف هل هو المنحرف أم أن الحِكمة التقليدية هي التي على خطأ.

وأشاح ببصره عن صدر دينارزاد الفخيم ثم تنهَّد. ولم تكن للنهدة في الواقع أي علاقةٍ برغبة السلطان المُحبطة بل بأكثر ما كان يشغل باله في ذلك الوقت.

قالت دينارزاد: ما الأمر؟ إنك تبدو مهمومًا.

واعترف السلطان: إني أشعر ببعض الاكتئاب.

فقالت دينارزاد مُلاطِفةً: يا مسكين! إني أعرف ما تحتاج إليه — صدر دافئ.

واقتربت بمجلسها من السلطان.

قال السلطان وهو يتنهَّد من جديد: هذا ظُرف منك يا عزيزتي. ولكن، تصوَّري أنني لم أعُد أهتم بتلك الأمور هذه الأيام.

فتساءلت دينارزاد في عطف: ألم تعُد قادرًا؟

فتجهَّم السلطان. لا من نفسه بل من أخت زوجته. كان «دقَّة قديمة» فيما يتعلق بالنساء (حسنًا، نحن نعرف تاريخه، أليس كذلك؟) ولا يُحب أن يسمع مثل هذا الكلام من فتاةٍ رقيقة.

قال بوقار: ليست هذه المشكلة. إن الأمر إرهاق روحي. وبصراحة، إنها تلك الحكايات. إن أختك .. حسنًا، في رأيي أنها تعدَّت الحدود. إنها تنحو إلى التجريب أكثر فأكثر. لم يعُد هناك جنٌّ ولا غُول أو ابن في مُقتبل العمر أو صياد فقير. إني لا أعرف ما يُخبئ لنا الغد. ولقد أصبحَتِ القصص طويلةً جدًّا. والشخصيات ضحلة. كل هؤلاء الفتيات يعتصِرهن القلق من جرَّاء حالتهنَّ النفسية.

– أليس فيها حبكة غرامية؟

فاعترف السلطان: هناك عادة حبكة غرامية. ولكن الأمر كله بعيد عن التصديق حتى أنه لا يمكن فَهم أي شيء. هناك حكاية استمرَّت أسابيع طويلة عن أناسٍ يتصايَحون في مكانٍ يُدعى يوركشير حيث يسود أسوأ طقس في العالَم. وما كِدنا ننتهي منها حتى دخلنا في قصة شابَّةٍ مُزعجة للغاية تتزوَّج رجلًا أكبر سنًّا منها بكثيرٍ ثُم تهجره. لقد كاد صبري ينفد. سوف أُصاب بانهيارٍ عصبي قبل أن تنتهي السنة.

قالت دينارزاد وهي تقضم قطعةً من الملبن: يا للعار .. لقد كان بإمكانها دومًا أن تقصَّ رومانسيات بديعة.

فقال السلطان بازدراء: أوه، رومانسيات .. إنني لا أفتقد الرومانسيات. إن ما لا أجِدُه هذه الأيام هو «الأكشن». أريد شيئًا من الأكشن. مغامرات، أعمال خارقة. البطولة والتحمُّل. جريمة. جنس. عُنف.

قالت دينارزاد: أتريد أن تعرف رأيي؟ لماذا لا تأخذ دورًا في ذلك الأمر؟

وتحول السلطان إلى ناحيتها وتطلَّع إليها في دهشة. ثم ضحك قائلًا: أنا؟ أنا؟ يا لها من فكرةٍ غريبة! أنا لا أستطيع القيام بذلك النوع من العمل. أعني أنه عمل النساء .. حسنًا، نحن لنا استعدادات مُختلفة. هه، قص الحكايات!

قالت دينارزاد: حسنًا، إذا كنتَ لا تقدر على ذلك …

فصعَّر السلطان خده قائلًا: أعتقد أنه في استطاعتي أن أقدر على ذلك. فقط، لم يخطر على بالي أن أحاول.

وعند ذلك دخلت شهرزاد الغرفة، فأسرع السلطان بتناول الجريدة وبدأ يفحص أسعار البترول. ونظرت زوجته إلى أُختها بامتعاضٍ وقالت: ما معنى هذا الرداء السخيف الذي ترتدينه يا دينارزاد؟

وكانت شهرزاد ترتدي جاكيت صوفيًّا ماركة «أرماني» وجيبةً قصيرة تُبرِز جمال ساقيها. وكان شعرها الأسود يتناثر في موجات لامعة فوق كتفيها. وجلست وخلعت حذاءها «الكورت جايجر» ثم أخرجت نظارتها من حقيبتها ولبستها. كانت مُتعودة أن ترتدي نظاراتٍ كبيرة الحجم ذات إطار من الصدف الأخضر، رغم أنها، على حدِّ علم السلطان، لم تكن تشكو من ضعف بصرها. كانت النظارة تلائمها تمامًا، وإن كانت تخلع عليها مهابة أيضًا. وأحس السلطان بالمهابة آنذاك، فتناول آلة حاسبة وتجهم وجهه وهو يطالع أسعار البترول. وسأل زوجته: كيف كان يومك يا عزيزتي؟

قالت شهرزاد: جميل. وأعتقد أنه كان مُثمرًا في نهاية الأمر. إني أعمل في المراحل الأولية لخطة طموح لإقامة فصول للكتابة الإبداعية في الصحراء. إنه شيء مُثير جدًّا. ولكن ثمة صعوبات مبدئية من ناحية القراءة والكتابة يجب أن نتغلَّب عليها. وأنت، ماذا كنتَ تفعل؟

قال السلطان بهمة: أعمل.

كان بالطبع قد رفض اقتراح دينارزاد المُضحك. وحقًّا إذا كان ذلك الاقتراح قد صدر عن شخصٍ آخر لكان قد شعر أن رجولته قد أُهينت ولكان قد اتَّخذ الخطوات المناسبة لتلك الحالة. ولكن دينارزاد .. كان مسموحًا دائما لتلك الفتاة ببعض التجاوزات.

ثم تتابعت الأحداث. فقد بدأت شهرزاد قصةً جديدة تلك الليلة. قالت: الليلة نبدأ شيئًا خاصًّا نوعًا ما. إنها حكاية تتناول الحياة الداخلية لامرأة. إنها ليست بالمرأة النموذج ولكن بوسعنا أن نعتبِرها جوهرًا للمرأة، أو للإنسان. إن اسمَها مِسز دالواي. قد تجد في البداية أن الجو والتقديم غريبان عليك بعض الشيء، ولهذا يجب أن تنتبه لما أقول بوجهٍ خاص. وأرجوك .. لقد تعودتَ على التحرك دون داعٍ. لا تفعل ذلك. إن هذا النوع من القصص عقلي للغاية وأنا في حاجةٍ إلى التركيز حتى أوفِّيه حقَّه. هل أنت مُستعد؟

وبعد ثلاث ليالٍ أصبح فؤاد السلطان مُتحطمًا. وتحقَّق أنه لم يعُد بوسعه أن يحتمِل أكثر من ذلك. عليه أن يقوم بشيءٍ ما. وكان ذلك هو الوقت الذي عاد إلى التفكير في اقتراح دينارزاد. حسنًا، ربما …

وطوال ذلك اليوم، أخذ يذرع حدائق القصر جيئةً وذهابًا بمُفرده، عاقدًا حاجبَيه، بارقًا عينَيه. وكانت شفتاه تتحرَّكان من وقتٍ لآخر. وأحيانًا، كان يرقد على الحشائش ويتطلَّع إلى السماء. وحين جاء الليل، عرض اقتراحه على زوجته. بكل هيبة وثبات.

وصُعِقت شهرزاد. وانعقد لسانها. كانت أول مرة فيما يذكُر السلطان يراها فيها في هذه الحيرة الكاملة. ثم أخذت تضحك في النهاية.

– دورك؟ حسنًا. بكل سرور. إذا كان هذا ما تريد .. ولكن .. اسمح لي.

وغلب عليها الضحك فترةً ثم واصلت كلامها.

– إن هذا غير معقول بالمرة .. ولكن بالطبع، يجب عليك ذلك .. إذن فلتمضِ قدمًا!

وأسندت شهرزاد رأسها إلى مرفقها ونظرَت إلى السلطان في تطلُّعٍ وتسلية.

وبعد ساعتَين، أنهى السلطان حكايته. وتطلَّع إلى زوجته في قلق.

وكتمت شهرزاد تثاؤبها وقالت: ليست بالرديئة. أظنُّ أن لها مزاياها، إذا كنتَ تُحب هذا النوع. بها سرد قصصي جيد. شخصياتها جامدة نوعًا ما، وبها أكثر مما يلزم من اندفاعات الفرسان والتلويح بالسيوف.

واحتجَّ السلطان قائلًا: هذا هو المقصود بعينه. إنها قصة حربية.

– تمام. لا تشغل بالك.

وطبعت زوجته قبلةً على خدِّه، واستدارت لتنام.

وثابر السلطان على عزمه. والحقُّ أن المثابرة لم تكن مَطلوبة، ذلك أنه وقد بدأ بالفعل، انطلق في طريقه. إن هذا الأمر ينطوي على أكثر ممَّا يظنُّ المرء، إذ بالإمكان أن يُصبح هوسًا كاملًا. لم يكن يعرف هو نفسه ماذا سيحدُث في الغد. فقد كانت هناك طرُق كثيرة لقوله. وتكلَّم بأساليب كثيرة، ليلة وراء ليلة.

… كان مسدس الكولت عيار ٤٥ ميلليمترًا يبدو كاللعبة في يدَيه. وقال في هدوء: لا أحد يتحرك! ضعوا كل شيء على الطاولة!

وتأوَّهت شهرزاد. وتوقَّف السلطان عن الكلام.

– ما الأمر؟

– قصة أخرى من نفس النوع .. أعترف أن بها شيئًا من الزخارف الأسلوبية .. ولكن، ما القصد منها؟

– هناك امرؤ سوف يُقتَل.

– أجل يا عزيزي، أعرف ذلك.

– وبعدَها يجب أن نعرف من ارتكب الجريمة ولماذا.

– وما أهمية ذلك كله؟

فتجاهلها السلطان، وأخذ يُصغي إلى صوته في شغف: وطرحَني الهنديُّ أرضًا، ورفع في وجهي مقصًّا. كان قد سيطر عليَّ تمامًا. وتسلَّلت يداه نحو عنقي.

كان يجرب. واتسع مجاله وموضوعاته.

تساءلت شهَرزاد ذات ليلة وهي تتنهَّد: ماذا تعني البندقية الإشعاعية؟ ولماذا هم يتجهون إلى تلك المجرة؟

– إنهم في مركبةٍ فضائية. وأرجوكِ ألَّا تُقاطعيني.

– معذرة. ولكن، مرة أخرى، ما معنى ذلك كله؟

قال السلطان وقد هبط عليه وحي مُفاجئ: إنها حكاية رمزية.

وابتسم مَزهوًّا بنفسه. وأُسقط في يد شهرزاد ورشقته بنظراتها عبر الوسادة. واستمر السلطان: طاخ، طيخ، طوخ. وأغلقت شهرزاد عينيها في إعياء.

وبدأ السلطان حياةً جديدة. وملأه شعور بهدف يسعى إليه. وشعر بنفسه أكثر شبابًا وحيوية. وشكر للسماء أن تُحقِّق من إمكاناته في الوقت المناسب، فلن يكون هناك بعدُ أي تبديد لمواهبه في أمور التجارة والأموال التي لا غاية من ورائها. أي أحمق بوسعه أن يقوم بتلك الأعمال. واتَّبَع رجيمًا في الأكل، واعتنى بقص شاربه وصقله. وألقى بحلله وارتدى ثيابًا فضفاضة رأى أنها تعبِّر عن طبعه الفني بصورةٍ أفضل.

وسألته دينارزاد: كيف الحال؟ وبالمناسبة، إني مُعجبة بذلك الرداء. جذَّاب للغاية. إنك فيه تُشبه كلارك جيبل.

وفتل السلطان شاربه قائلًا: بوسعي أن أقول دون تكلُّف أو تَواضُعٍ لا داعيَ له: إن الأمور تسير في خير حال. إني أسير في الدرب الصحيح. لقد أتقنتُ أساسيات العمل.

– ومن هي التي أوحت لك بهذه الفكرة؟

بيد أن السلطان لم يكُن ليعترِف بهذا الفضل لأهله.

– إنَّ السِّر في الأمر كله هو الأكشن. ضع الأكشن في مَوضعه السليم يستقِم لك كلُّ شيء. أتعلمين؛ صيد الطيور ومصارعة الثيران واصطياد الأسماك الضخمة والإفراط في الشراب والتصرُّف بدون اكتراثٍ عند الإصابة بالجراح المُميتة. عندي منها بعض الأفكار الرائعة. مادة هائلة. لا يمكن أن تفشل.

– عظيم. أما هناك من قصة حُب؟

– بالطبع. حُب فاشل بطبيعة الحال. أصدُقُك القول. إن ذلك يجلب الدموع إلى مقلتي.

– وما رأيها هي في ذلك؟

– إن أُختك لا ترى إلا في اتجاهٍ واحد. إني أُنتج أروع القصص، وأشدَّها تشويقًا وإثارة، وكل ما تفعله هي هو أن تتساءل عن المضمون والعلاقات. إني أقول إن بها مضمونًا، ففيها أحداث، أليس كذلك؟ كما أن شخصياتي لها الكثير من العلاقات الشائقة؛ فهم يقتلون بعضهم البعض وينقذ الواحد منهم الآخر من أشدِّ المصائر سوادًا ويتعاطَون الغراميات الجامحة. إن ما لا يفعلونه هو الانهماك في أحاديث لا تنتهي.

ورغم ذلك، كان السلطان مُتأثرًا بالنقد الذي تُوجهه شهرزاد لقصصه. حسنًا، أهي تُريد مضمونًا وعلاقات؟ وتُريد عُمقًا. حسنًا، سيكون لها ما تريد.

واندفع السلطان في التيار، وترك نفسه وراء إلهاماته وطفق القَصَص يَنساب منه. كان يقصُّ الحكايات كأنما هو إنسان أصابه مس. حكى قصصًا طويلة تزخَر بالفقر والظُّلم الاجتماعي وتعجُّ بالشخصيات الحية، وتنضح بصخبِ وعجيج لندن في القرن التاسع عشر. ألم تكن تُريد شخوصًا؟ وجوًّا؟ .. بيد أن التعب انتابه من كل ذلك، فمالَ إلى قصص العاطفة والقوة والخيانة وسط الحقول ومَذاود البقَر. وغلَب عليه التدفُّق الوهَّاج، فلم يعُد يشعر بمن يُصغي إليه. وفي مرةٍ أو مرتَين، حين توقف لالتقاط أنفاسه، لاحظ أن شهرزاد تُنصت الآن وقد تبدَّت نظرة مختلفة في عينَيها. فقال: صنف جيد. أليس كذلك؟

– لو كنتُ مكانك لما جربتُ وراء هذه الجدران القصة التي يعرض فيها الزوج زوجتَه في المزاد. لسوف ينقضُّ عليك النقَّاد قذفًا وتجريحًا.

فعدَّل السلطان خططه مرةً أخرى، وغاص في أعماق النفس الإنسانية الغامضة، وأصبح رجالُه ونساؤه يفورون ويتعاركون ويشرحون.

وتساءلت شهرزاد: جنس مثلي؟ هذا شيء جديد عليَّ.

ووافقها السلطان: وعليَّ كذلك. بيد أنه مُلغِز. ألا تعتقِدين ذلك؟

وأصبح يشقُّ البحار في السفن، ويجوب أقصى بقاع الأرض. وأصبح يحكي عن الحب والحرب والجريمة والعقاب. كان الأمر كما لو أن ثمَّة قوة قاهرة تدفعه. وحين يتطلَّع مِن وقتٍ لآخر إلى زوجته كان يرى في وجهها النظرة الضارعة التي كان يعلَم أنها ارتسمت ذات مرةٍ في عينَيه هو نفسه. ولكن لم يكن بمقدوره أن يتوقَّف. لم تكن ثمة رحمة لأيٍّ منهما، وكان عازمًا أن يمضي فيما يفعل إلى الأبد. وعندئذٍ، في فجر يوم من الأيام، دلف الأطفال مُندفِعين إلى الحجرة وتجمَّعوا عند طرف السرير. وقطع السلطان كلامه. وتصايح الأطفال، وهتف أحدُهم كما يفعل الأطفال عادةً: احكي لنا حكاية!

ونظر السلطان إلى شهرزاد. كان ثمة شعاع غريب يتراءى في عينَيها. قالت: حسنًا. اجلسوا في هدوء وسوف أبدأ.

وجلس الأطفال. واعتدل السلطان في مجلسه على الوسائد.

قالت شهرزاد: يُحكى أنه كان هناك صياد فقير …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤