البدايات

(١) أنطوان جالان

في عام ١٧٠٤م، أصدر الفرنسي «أنطوان جالان» أول حلقةٍ في ترجمته الفرنسية لقصص من «ألف ليلة وليلة». وقد افتتح بذلك بداية سلسلةٍ طويلة لا تزال مُستمرةً إلى يومِنا هذا، من الطبعات والترجمات والحكايات المختلفة المُتعدِّدة التي تدور كلها حول ذلك الكتاب؛ الأسطورة! وتُعتبَر ترجمة جالان تلك، أول نسخةٍ تخرج من المطبعة لألف ليلة وليلة، وبهذا تكون هذه الترجمة الفرنسية قد سبقت أي نُسَخ عربية في الطباعة؛ حيث إن أول نسخةٍ تخرج مطبوعةً باللغة العربية كانت في كلكتا بالهند عام ١٨٣٥م.

ومنذ بدأت ترجمة جالان في الصدور، لم ينقطع إقبال القراء عليها واستمتاعهم بها وشغَفهم بمُطالعة قصصها التي ملأت حياتهم بالخيال والعجائب التي لم يكونوا قد سمِعوا بها من قبل. وأنطوان جالان (١٦٤٦–١٧١٥م) هو أحد روَّاد الولَع بالشرق وأدبه وآثاره؛ وقد وُلِد في بلدة «رولو» بمقاطعة «بيكاردي» الفرنسية، ودرس اللغات الكلاسيكية ومبادئ التركية، مما أهَّله لأن يلتحِق عام ١٦٧٠م بالعمل مع المركيز دي نوانتل الذي كان سفيرًا لفرنسا لدى السلطان العثماني بالقسطنطينية. وهناك، درس جالان العربية والفارسية، وعمَّق معرفته بالتركية واليونانية، وقام برحلاتٍ عديدة في المنطقة، زار فيها سوريا وفلسطين واليونان، بهدف جمع الآثار والمُقتنيات الشرقية — ومنها المخطوطات والعُملات والتماثيل والميداليات — للسفير الفرنسي ثم للملك لويس الرابع عشر. وقد مكنه ذلك من أن يتمَّ تعيينه بعد عودته إلى فرنسا أمينًا للعملات والميداليات في المتحف الملكي. وقد عاود جالان زياراته وإقاماته لمُدَدٍ طويلة لتركيا والأقطار العربية حتى عودته النهائية لفرنسا في أواخر عام ١٦٨٨م، حين بدأ في العمل في ترجمات ومؤلفات عن الموضوعات الشرقية.

وفي عام ١٦٩٢م، يعمل جالان مساعدًا لبارتيليمي دي إيربوليه في مشروعه الضخم بوضع المؤلَّف الهام «المكتبة الشرقية، أو المعجم العام لكل ما يخص معرفة شعوب الشرق»، الذي كان أول محاولة لوضع دائرة معارف عن الإسلام وشعوبه، والذي يعتبره النقاد بداية الاستشراق الغربي بمعناه الأكاديمي. وقد واصل جالان العمل في الموسوعة بعد وفاة إيربوليه عام ١٦٩٥م، ونُشِر العمل الكامل في ١٧٩٧م. وقد ألهَمت المادة التي وردت في هذا المعجم الكثير من الأعمال ذات الموضوعات العربية، ومنها رواية «الواثق» لوليام بكفورد، والعمل الشعري الضخم «ثعلبة» لروبرت سذي.

بيد أن شهرة جالان قد اعتمدت أساسًا على ترجمته لألف ليلة وليلة. ففي التسعينيَّات من القرن السابع عشر، حصل جالان على مخطوطةٍ عربية بها قصص رحلات السندباد البحري، فنشرها عام ١٧٠١م. وشجَّعه نجاح تلك القصص على البدء في ترجمة مخطوطاتٍ حصل عليها من بعض معارفه في سوريا تحتوي على قصص ألف ليلة وليلة، ويبلُغ مجموعها أربعة مخطوطات، تُعتبَر الآن (باستثناء صفحةٍ واحدة من مخطوطٍ أقدم يرجع إلى القرن التاسع الميلادي) أقدم مخطوطات عُثر عليها من الكتاب، ولا تزال ثلاثة مخطوطات منها في المكتبة القومية بباريس، بينما فُقد المجلد الرابع من هذه المخطوطات الأولى.

وبدأت ترجمة جالان في الظهور بدءًا من عام ١٧٠٤م. وفي مدى عامَين، بلغ عدد المجلدات المنشورة بالفرنسية سبعة، احتوت على جميع القصص التي وردت في المخطوطات الأولى التي كانت في حوزة جالان، مُضافًا إليها قصص السندباد البحري، وقصة أخرى من مخطوطٍ مجهول تحتوي على حكاية «قمر الزمان والأميرة بدور». ولمَّا لم يجِد الناشر مادة جديدة لدى جالان بعد ذلك، عمد — رغم اعتراض جالان وغضبه — إلى إصدار مجلدٍ ثامن تضمَّن قصصًا سابقة كان جالان قد ترجمها، مع قصصٍ أخرى ترجمها المُستشرق الفرنسي — زميل جالان — «فرانسوا بتي دي لا كروا»، تلبيةً لطلَب القرَّاء في المزيد من هذه القصص التي لاقت إقبالًا شديدًا.

وقد حفَّز ذلك جالان على البحث عن مزيدٍ من المخطوطات والمصادر لقصصٍ جديدة من ألف ليلة وليلة يُلبي بترجمتها طلب الناشر والقراء. وبناء على ذلك، قام صديق لجالان — هو الرحَّالة بول لوكاس — إلى دعوة أحد السوريِّين المَوارنة ويُدعى «حنا دياب» لزيارة فرنسا، وقدَّمه إلى جالان بوصفه حائزًا لمخطوطاتٍ جديدة لألف ليلة وليلة. وقد أمدَّ «حنا» جالان بمادةٍ جديدة غزيرة من الحكايات بما مَكَّنه من إصدار أربعة مجلداتٍ جديدة من الترجمات الفرنسية لقصصٍ من ألف ليلة. ويبدو أن المادة التي وفَّرها حنا لجالان جاء مُعظمها من الذاكرة، حيث كان يتلو على جالان القصص بالعربية، بينما جالان يُدوِّن ترجمة ما يَحكيه له حنا بالفرنسية، ولهذا لا تُوجَد أية مخطوطات عربية لتلك المجلدات الأربعة، التي وصلت بنسخة جالان الفرنسية إلى اثنَي عشر مجلدًا، بما فيها المجلد الثامن الذي سبقت الإشارة اليه. ومن المُلاحظ أن طبعة جالان هذه تحتوي على عددٍ من القصص التي لم تُوجَد في الطبعات العربية الأصلية المتداولة الآن في البلاد العربية، ومنها قصص «علي بابا والأربعون لصًّا» و«علاء الدين والمصباح السحري» و«النائم الذي استيقظ». وقد اصطلح النقاد على تسمية تلك القصص باسم «القصص اليتيمة» حيث انفرد جالان بها.

(٢) الطبعات العربية الأولى

لم تصدُر نُسَخ مطبوعة من كتاب ألف ليلة وليلة قبل بدايات القرن التاسع عشر. وكان صدورها مطبوعةً على النحو التالي، بالترتيب الزمني لبدء الصدور:

  • (١)

    طبعة كِلكتا الأولى بالهند خلال الأعوام ١٨١٨–١٨٢٤م، في مجلدَين صَدَرا تحت رعاية كلية فورت وليامز التابعة لشركة الهند الشرقية، البريطانية، بتحرير الشيخ أحمد بن محمود شيرواني، بغرض توفير نصوصٍ عربية لدارسي اللغة العربية في الهند وخاصة موظفي شركة الهند الشرقية. وتحتوي هذه الطبعة على مائتي ليلة فقط.

  • (٢)

    طبعة برسلاو التي بدأت في الصدور عام ١٨٢٥م بإشراف البروفيسور مكسميليان هابشت (أو هابخت كما ذكر في الكتاب) الذي أصدر منه ثمانيةَ أجزاء، وبعد وفاته تولَّى البروفيسور فلايشر إصدار أربعة أجزاءٍ أخرى منه، اكتملت عام ١٨٣٨م. وقد درس هابشت على يد المستشرق الفرنسي الكبير سلفستر دي ساسي في باريس قبل أن يذهب إلى برسلاو أستاذًا للغة العربية هناك. وقد ذكر أنه قد تلقَّى مخطوطًا لألف ليلة وليلة من تونس من طرف مردخاي بن النجار، وبدأ يُترجمه إلى الألمانية، قبل أن يتحوَّل عوضًا عن ذلك إلى نشر المخطوط العربي ذاته. ويُجمع الباحثون اليوم على أن المخطوط التونسي لم يكن له وجود وأنه ليس إلا من بنات أوهام هابشت!

    والغريب أن كتبًا كثيرة تذكر اسم «برسلاو» دون أن تُفسِّر ذلك الاسم أو تُحدِّد مكانه، حتى عثرتُ أخيرًا على تعريفٍ كامل لبرسلاو في المُقدمة الشيِّقة التي كتبَها الدكتور جابر عصفور للطبعة الثالثة المُصوَّرة عن طبعة برسلاو، الصادرة عن دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة عام ٢٠٠٢م. ومنها نعلم أن «برسلاو هي التسمية الألمانية لمدينة بولندية قديمة … وتقع على نهر أودر في الجنوب الغربي من بولندا بالقرب من الحدود الألمانية. وقد استولت عليها القوات البروسية سنة ١٧٤١م خلال عهد فردريك الثاني، ضمن الصراع الأوروبي، فأصبحت مدينة ألمانية منذ ذلك الوقت، وظلَّت كذلك إلى أن هُزمت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، فعادت المدينة إلى بولندا عام ١٩٤٥م، واستعادت اسمها البولندي القديم فروتسواف الذي ينطق بالإنجليزية WROCLAW.» وإني أُثبت هنا هذه المعلومة الهامة نظرًا لصعوبة الحصول عليها في سياق ألف ليلة وليلة.
  • (٣)

    طبعة بولاق في مصر التي نشرت في مُجلدَين عام ١٨٣٥م، وتُسمَّى أيضًا طبعة القاهرة. وقد صدرت عن المطبعة التي أنشأها محمد علي في مصر عام ١٨٢١م في حي بولاق، وكانت أول مطبعةٍ محلية من نوعِها بعد المطبعة العربية التي جلبها نابليون معه في غزوته المصرية. وقد أشرف على هذه الطبعة من ألف ليلة الشيخ عبد الرحمن الصفتي، وكانت هي أساس الترجمة التي قام بها إدوارد لين إلى الإنجليزية.

  • (٤)

    طبعة كلكتا الثانية التي صدرت خلال الأعوام ١٨٣٩–١٨٤٢م في أربعة مجلدات بتحرير وليام ماكناتن، الذي استعان في إصدارها بما سبقها من طبعات، وبهذا بدت أقربَ ما تكون إلى الطبعة «الكاملة» لألف ليلة وليلة. وقد استعان بهذه الطبعة المُترجمون «تورينز» و«بين» و«بيرتون» و«ليتمان».

(٣) المخطوطات العربية

أما المخطوطات المُتوافرة حاليًّا من ألف ليلة وليلة بأي شكلٍ من أشكالها فقد أمكن حصرُها كما يلي، نقلًا عن كتاب الدكتور محسن مهدي:

  • (١)

    مخطوطات أنطوان جالان، وهي عبارة عن أربعة مجلدات، لا يُوجَد منها الآن سوى ثلاثة محفوظة في المكتبة القومية بباريس.

  • (٢)

    المخطوط الذي ترجم منه «ديونيسيوس شاويش» و«جاك كازوت» ترجمتهما «تكملة ألف ليلة وليلة»، التي أصدراها في باريس في الأعوام ١٧٨٨–١٧٨٩م. ويحتوي المخطوط على قصصٍ لم ترِد في ترجمة جالان؛ وهو في مجلدَين: الأول في ١٢١ ورقة، والثاني ١٣٠ ورقة ومُودَع في المكتبة الوطنية الفرنسية أيضًا. ويذكر الباحثون أن هذا المخطوط غير أصلي، وإنما كتبه شاويش بنفسه نقلًا عن مخطوطاتٍ لقصص عربية مُتناثرة في الكتب، وقدَّمه على أساس أنه مخطوط لقصصٍ مُتصلة تُتمِّم حكايات ألف ليلة وليلة.

  • (٣)

    مخطوط ميخائيل الصبَّاغ. وهو في مجلدَين، نسخَها صاحِبُها عن مخطوطٍ قال إنه كُتِب في بغداد في أول القرن التاسع عشر. وقد حصل «دي بارسيفال» على المخطوط بعد عام ١٨٠٦م، واختفى المخطوط بعد ذلك إلى أن اشتراه «زوتنبرج» حوالي عام ١٨٨٦م وأهداه إلى المكتبة القومية بباريس حيث هو الآن.

  • (٤)

    مخطوط المكتبة الرسولية بالفاتيكان. في مجلدَين.

  • (٥)

    مخطوط مكتبة جون رايلندز بمانشستر. مُجلد في ٢٢٩ ورقة.

  • (٦)

    مخطوط المكتب الهندي بلندن. ٣٨٩ ورقة.

  • (٧)

    مخطوط «عابدين». في ٢٣١ ورقة ومُودَع في المكتبة القومية بباريس.

  • (٨)

    مخطوط الأكاديمية التاريخية الملكية بمدريد. في مجلدَين، ٢٣٩ ورقة.

  • (٩)

    مخطوط مكتبة كنيسة المسيح بأكسفورد، مجلد في ١٤٤ ورقة.

  • (١٠)

    مخطوط مكتبة المتحف البريطاني بلندن. ١٨٦ ورقة.

  • (١١)

    مخطوط المكتبة البودلية بأكسفورد. سبعة مجلدات. اشتهر باسم مالكه الأصلي الرحالة المستشرق «إدوارد ورتلي مونتاج» (١٧١٣–١٧٧٦م).

  • (١٢)

    مخطوط «بنوا دي ماييه» (١٦٥٦–١٧٣٨م). جلبَه ماييه من مصر حيث كان يعمل قنصلًا لفرنسا هناك. مُودَع في المكتبة القومية بباريس الآن.

كما يُضيف الدكتور مهدي إلى ذلك مخطوطَين لحكاية سِيرة عمر النعمان، في مكتبة جامعة توبنجن وفي مكتبة جون رايلندر بمانشستر. وقد أورد الدكتور مهدي في كتابه الهام تعليقات مُطوَّلة على تلك المخطوطات، أتبعها بصوَرٍ لصفحاتٍ من كلٍّ منها، مما يُعطي القارئ فكرة عن الخط الذي دُوِّنت به وعن حالتها بوجهٍ عام.

وتجدُر الإشارة إلى أن هناك ورقة مخطوطة من حكايات ألف ليلة، تعود إلى القرن التاسع الميلادي، اكتشفتها الباحثة «نبيهة عبود» ونشرتها عام ١٩٤٩م في مقالةٍ لها. وهي أقدم مخطوط يتعلق بالكتاب، وهو ما يثبت أنه قد تمَّ تدوين حكاياته منذ ذلك العهد المبكر، وأنها كانت متاحةً في مخطوطاتٍ مكتوبة إلى جانب تلاوتها شفاهة منذ أقدم العصور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤