أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي

(١) الترجمات الإنجليزية

وكانت ترجمات جالان هي التي تلقَّفها المُترجمون في الدول الأوروبية الأخرى، فقد صدرت طبعات بالإنجليزية لألف ليلة وليلة نقلًا عن طبعة جالان فور صدورها تقريبًا، في طبعاتٍ شعبية أول الأمر سرعان ما ذاعت وانتشرت بين القراء على جميع المستويات وجميع الأعمار. واتخذت الترجمة الإنجليزية اسم «مُسامرات الليالي العربية» ARABIAN NIGHTS ENTERTAINMENT، رغم أن جالان احتفظ باسمها الأصلي بالفرنسية LES MILLE ET UNE NUITS. وبحلول عام ١٧٩٣م، كانت قد صدرت ١٨ طبعة من الترجمات الإنجليزية، وتضاعف ذلك العدد في الأعوام الأربعين التالية. وتمَّت كذلك ترجمة كل ما صدر من تتابُعات وتَكمِلات لألف ليلة وليلة في فرنسا إلى الإنجليزية بعد صدورها بالفرنسية بوقتٍ وجيز. وهكذا قام «روبرت هيرون» بترجمة ما أصدره «جاك كازوت» بمعونة العربي ديونيسيوس شاويش تحت اسم «تكمِلة ألف ليلة وليلة»، إلى الإنجليزية تحت عنوان «الحكايات العربية» ونشرها في لندن عام ١٧٩٢م. ويستبين من ذلك مدى النجاح الذي لاقته ألف ليلة وليلة في إنجلترا، حيث تركت أثرها البالِغ في معظم الأدباء والكتَّاب البريطانيين على مُختلف العصور، بدءًا من وردزورث وكولردج، حتى جيمس جويس وما بعده. وما تزال ألف ليلة وليلة تُمارس أثرها حتى يومِنا هذا كما سنرى في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
وكانت أول ترجمة «أدبية» لألف ليلة وليلة من الفرنسية إلى الإنجليزية هي التي قام بها «إدوارد فوستر» عام ١٨٠٢م في خمسة مجلدات مع مُقدمة ضافية، ثم ترجمة «جوناثان سكوت» عام ١٨١١م؛ من بعد عشرات الطبعات الشعبية التي يطلق عليها بالإنجليزية GRUB STREET EDITIONS نسبة إلى شارع «جراب» الذي كانت تُطبع فيه الكتب الشعبية. أما أول ترجمة إنجليزية «كلاسيكية» مأخوذة عن نصٍّ عربي مباشرة، فقد جاءت على يدَي المستشرق المُستعرِب المعروف إدوارد وليام لين (١٨٠١–١٨٧٦م)، وظهرت أولًا في أجزاء شهرية خلال الأعوام ١٨٣٨–١٨٤١م، ثم نُشرت بعد ذلك في ثلاثة مجلدات. وقد أقدم لين على ترجمة ألف ليلة وليلة كحلقةٍ من الأعمال التي توفر عليها كمُستشرقٍ تخصَّص في الموضوعات العربية والإسلامية، والتي بدأها بكتابه الهام «عادات المصريين المُحدثين» عام ١٨٣٦م. وتضمُّ أعماله الأخرى ترجمة أجزاءٍ من القرآن الكريم، ثم مُعجمه الضخم العربي-الإنجليزي الذي تقصَّى فيه تاريخ الكلمات العربية واستخداماتها، والذي سبقت فكرته فكرة المعجم الإنجليزي المُطوَّل أكسفورد الذي صنَّفه اللغوي الإنجليزي «جيمس مري» (١٨٣٧–١٩١٥م) بدءًا من عام ١٨٨٤م والذي صدر تحت الاسم الذي اشتهر به منذ عام ١٩٣٣م وهو OXFORD ENGLISH DICTIONARY، وما زال يصدُر مُجدَّدًا إلى يومِنا هذا مع الإضافات الضرورية.

وقد اعتمد لين في ترجمته لألف ليلة وليلة على نُسخة بولاق العربية، مع بعض الإضافات من طبعتَي كلكتا الأولى وبرسلاو. وقد قصد لين من ترجمته أن تكون مناسبةً للقراءة العامة، لذلك هذَّبها وحذف منها كل العبارات والمواقف التي لا تُلائم المفاهيم الأخلاقية الشائعة في عصره الفيكتوري. كما أنه لم يُترجِم الليالي كاملة، بل اختار منها ما اعتبره أساسيًّا وهامًّا، وما يُصوِّر العادات والتقاليد العربية والشرقية.

والترجمة الإنجليزية الهامة التالية قام بها «جون بين» (١٨٤٢–١٩٠٦م)، الذي أبدى نبوغًا مُبكرًا في الشعر واللُّغات، مما مكَّنه — وهو ما يزال في التاسعة عشرة من عمره — من ترجمة أشعار عن الألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية واليونانية واللاتينية والتركية والفارسية والعربية! وفي عام ١٨٧٧م، أسس هو ومجموعة من رفاقه «جماعة فيون» بغرَض رئيسي هو نشر ترجمة «بين» الإنجليزية لقصائد الشاعر الفرنسي القروسطي «فرانسوا فيون». وقد قامت نفس الجماعة بنشر ترجمة «بين» لألف ليلة وليلة عن طريق الاشتراكات المُسبقة — هربًا من الرقابة — واقتصرت على ٥٠٠ نسخةٍ فقط مع التعهُّد بعدم إعادة طبعها في حياة المُترجم، رغم أن الطلَب على الاشتراك فيها تعدَّى الألفَين.

وقد اعتمد «بين» في ترجمته على نسخة كلكتا الثانية التي تُعتبر من النسخ الأكثر اكتمالًا بوجهٍ عام. وبما أنه كان شاعرًا في الأصل، فقد تناول الأشعار التي تتخلَّل حكايات ألف ليلة تناولًا جادًّا وترجمها ببراعة، بيد أنه لم يُحاول نقل الأسلوب السجعي العربي الذي يبدو كثيرًا في العبارات العربية للكتَّاب. وقد نظر «بين» إلى ترجمته بوصفها عملًا أدبيًّا محضًا، ولهذا لم يُعنَ بوضع ملاحظاتٍ أو حواشٍ على الترجمة تتعلق بالعادات العربية والإسلامية، كما فعل لين من قبله وكما سيفعل بيرتون من بعده. وقد استغرق العمل في الترجمة ست سنوات، وصدرت في تسعة مجلدات خلال الأعوام ١٨٨٢–١٨٨٤م. ثم ترجم «بين» بعدها قصصًا إضافيةً من طبعتي كلكتا الأولى وبرسلاو، ونشرها عام ١٨٨٤م بعنوان «حكايات من العربية».

وكان «بين» مغرمًا بالكلمات الإنجليزية القديمة والمهجورة، واستخدمها كثيرًا في ترجمته، وساعده في ذلك، الاتجاه الذي كان سائدًا أيامه في بعث النصوص الإنجليزية القديمة وإعادة نشرها، وبدء صدور القاموس الشامل للغة الإنجليزية الذي سبقت الإشارة إليه. ومن العجيب أن ترجمة «بين»، رغم الإقبال الذي نالته وقت صدورها، قد طواها النسيان بعد صدور ترجمة بيرتون، ولا يكاد أحد يذكرها اليوم، رغم أن الترجمات الأخرى السابقة عليها ما تزال تحتلُّ مكانة كبيرة، كترجمة لين.

وقد شجَّع النجاح التجاري لترجمة «بين»، ووجود عدد كبير من المشتركين الذين لم يحظوا بنسخة من الترجمة، شجَّع المستشرق الرحالة المغامر السير ريتشارد بيرتون (١٨٢١–١٨٩٠م) على المضي قُدمًا — أو بالأحرى الشروع — في ترجمته الخاصة به لألف ليلة وليلة. ورغم أنه كان دائمًا يذكُر أنه بدأ في الترجمة قبل أن يسمع بترجمة «بين»، فمن الثابت الآن أنه لم يبدأها إلا بعد ذلك. وقد قبِل «بين» عروض المساعدة التي أرسلها له بيرتون، واستشاره في العديد من الأمور. وقد صدرت ترجمة بيرتون في عشرة أجزاء، عن طريق الاشتراكات أيضًا، عن دار نشر وهمية تحمل اسم «كاماشاسترا»؛ وأتبعها بسبعة أجزاء أخرى بعنوان «الليالي التكميلية». وقد ضمَّت تلك الأجزاء السبعة عشر كل القصص والحكايات والنوادر التي احتوتها كل النسخ والطبعات المختلفة لألف ليلة وليلة؛ مما جعلها طبعة «جامعة» حقيقية للكتاب، وإن لم تكن أكثرها «شرعية» من الناحية الأكاديمية؛ إذ إننا نجد فيها الكثير من النصوص التي قد لا تمتُّ بِصِلة لألف ليلة الأصلية، ولكنها، منذ أن دخلت في طبعة بيرتون، أصبحت منها. كذلك احتوت طبعة بيرتون على شروحات وتعليقات وحواشٍ مُسهِبة جعلت من الترجمة دائرة معارف عن عادات العرب والمسلمين والشرقيين عمومًا في كل المناطق والعصور، وإن كان العديد منها قد اعتمد على أراء بيرتون وملاحظاته الشخصية ودراساته الأنثروبولوجية، التي جمعها إبان رحلاته العديدة في البلاد العربية والإسلامية.

ويتفق المُحققون اليوم على أن بيرتون قد اعتمد كثيرًا على ترجمة «بين»، بل ونقل الكثير منها حرفيًّا، وتعمَّد تغيير كلماتٍ قليلة وإدخال تعديلات شكلية حتى يُبرر ترجمته «الجديدة». وقد وازنت الباحثة «ميا جيهارت» بين الترجمتَين، وأثبتت التشابُه التام في كثيرٍ من ترجمات القصص بين بيرتون و«بين». وقد سار بيرتون على نهج استخدام الكلمات المُعقَّدة المهجورة، وإن حاول نقل إيقاع السجع العربي إلى الترجمة الإنجليزية، وحافظ على تقسيم الليالي التي يقطعها صياح الديك كل ليلة، وهو ما أهمَلَه «بين» تمامًا.

ومن عجبٍ أن الترجمة التي تدخُل اليوم في عداد «الكلاسيكيات» هي ترجمة بيرتون، وهي التي تصدر اليوم في طبعاتٍ مختلفة لهواةِ اقتناء الكتُب، وآخِر طبعاتها الفاخرة صدرت في ١٧ جزءًا عن دار «إيستون برس» وهي الطبعة التي اعتمدتُ عليها في هذا الكتاب أحيانًا.

(٢) ألف ليلة وليلة والأدباء الإنجليز

ساهمت الترجمات الأدبية العديدة التي ظهرت في اللغة الإنجليزية لألف ليلة وليلة منذ أواخر القرن الثامن عشر، في إذكاء الأثر البالغ الذي تركته حكاياتها لدى مُعظم أدباء وكتَّاب إنجلترا طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فنحن نرى مِن الكِتاب الذي حرَّره وكتب مُقدمته البروفيسور «كراكشيولو»، مدى تأثُّر هؤلاء الكتَّاب بقصص «الليالي العربية». وقد أصَّل الكِتاب أثر ألف ليلة وليلة على الأدباء التالين: جوناثان سويف، جوزيف أديسون، ألكساندر بوب، لورانس ستيرن، توماس كارلايل، إدوارد جيبون، والتر سكوت، وردزورث، كولردج، روبرت سذي، تشارلز ديكنز، ويلكي كولنز، وليام ثاكري، روبرت لويس ستيفنسون، جورج ميريدث، جوزيف كونراد، ﻫ. ج. ويلز، هنري جيمس، وليام بتلر ييتس، جيمس جويس، ت. س. إليوت. فيا لها من كوكبةٍ رائعة من الأسماء!

وبالطبع، يتراوح مدى الأثر الذي خلفته القصص العربية في نفوس هؤلاء الأدباء وإنتاجهم من واحدٍ لآخر. فإذا تناولنا مجموعةً من الكتَّاب الذين عاشوا في نفس الفترة ما بين أواخِر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وهم ما يمكن أن نُسمِّيهم بالرومانسيين، لوجَدْنا أنهم جميعًا قد تأثروا بحكايات ألف ليلة وليلة، وأشاروا إليها في كتاباتهم. بل إن من النقَّاد من قال إن الحركة الرومانسية أصلًا قد تفجرت في إنجلترا نتيجة «اكتشاف» الكتَّاب والفنانين لحكايات ألف ليلة، التي أدخلت إلى وعْيِهم أنواعًا من الخيال والمشاعر المُتدفقة والأحاسيس العاطفية التي لم يَجِدوها من قبل فيما طالَعوه من كتُبٍ ودراسات، وذلك بدءًا من صدور طبعة من الليالي العربية الجديدة عام ١٧٩٢م التي أثارت ذكريات شعراء البحيرة عن مُطالَعاتهم السابقة في قصص ألف ليلة وليلة. ولنأخذ هؤلاء الأدباء الرومانسيين في مجموعهم أولًا. وتذكُر الباحثة «ميريام ألموت» عن بعض أولئك الشعراء، أنهم أعادوا اكتشاف حكايات ألف ليلة وليلة نتيجةً لصدور تلك الطبعات الجديدة منها، وترجمات لقصص شرقية وعربية، في نفس الفترة التي بدأ فيها تكوينهم الفكري والثقافي والأدبي، وتزامن مع أبدع نتاج قرائحهم. وقد أشاعت المُقدمة التي كتبَها «هنرى ويبر» لكتابه «حكايات من الشرق» الذي جمع فيه حكايات ألف ليلة وليلة وقصص عربية أُخرى في صورةٍ جذَّابة، وأصدره عام ١٨١٢م، في إشاعة اهتمامٍ مُتجدِّد بتلك الحكايات. وهو يقول في تلك المقدمة: «مَن ذلك الذي لا تغمره البهجة إذ يتذكَّر العواطف والانفعالات التي صاحبت قراءته للمرة الأولى لحكايات ألف ليلة وليلة … ومن السليم أن نؤكد أن حكاياتٍ خيالية مثل مصباح علاء الدين السحري، والمغارة التي أوى إليها الأربعون لصًّا، قد أسهمت في تسلية وإمتاع جميع الأجيال التي تعاقبَتْ منذ ظهور تلك الحكايات لأول مرة، أكثر ممَّا ساهمت به كل الأعمال التي قدَّمها الخيال الأوروبي من أجل تثقيف الشباب وإمتاعه. إن مثل هذا الرصيد من الخيال الأصيل والصور الفنية الباهرة والعناصر الغرائبية العجيبة التي تعرِض العِبَر الأخلاقية بمهارةٍ وليس بشكلٍ مُتعنِّت مُفتعَل من الأمثال المفروضة، بل في صورة أمثولات سارة مقبولة، لا يمكن أن تُوجَد في أي عملٍ آخر من أعمال الخيال.»

فمثلًا، تمتلئ الخواطر التي كان يخطُّها كولردج، والخطابات التي تبادلها مع أصدقائه، بذكرياته عن ألف ليلة وليلة، التي يزعم أنه بدأ قراءتها وهو في السادسة من عمره، ويُشير إلى حكاياتها وشخوصها كثيرًا. فهو يقول في دفتر خواطره: «أعطني الأعمال التي ملأت شبابي بالبهجة والحبور، أعطني … أعطنى «الليالي العربية.» وفي موضعٍ آخر يقول عن ألف ليلة وليلة:

«ولمَّا كنتُ قد قرأت مجلدًا من تلك الحكايات مرارًا وتكرارًا قبل عيد ميلادي الخامس، فلا بدَّ أن يكون معروفًا نوعية الخيالات والأحاسيس التي كانت تنتابني حينذاك. كان الكتاب، على ما أذكُر، يقع في ركنٍ من نافذة البهو في منزل والدي العزيز، ولا يمكن أن أنسى الشعور الذي هو مزيج من الرهبة والرغبة الجارفة الذي كنت أحسُّ به كلما نظرتُ إلى المجلد وتأمَّلتُه، إلى أن تغمر شمس النهار الغرفة وتُغطيه بأشعتها؛ وعندئذ، وليس قبل ذلك، كنتُ أحسُّ بالشجاعة لأن أمسك بالكنز الثمين وأُهرَع به إلى ركنٍ مشمسٍ في الفناء.» وكان كولردج يربط بين الحكايات الخيالية الخرافية، ومنها ألف ليلة وليلة، وبين القدرة على الحلم الذي يتجاوز الواقع الذي يعيشه الإنسان. وكان يعزو دهشة البعض من تقديره لليالي العربية إلى عدم قُدرتهم على الحلم. وكل هذا لا يترك مجالًا للشكِّ في الدور الذي لعبته حكايات ألف ليلة وليلة، بما أثارته في نفسه من توهُّج وأحلام وأخيلة، في تشكيل نظرية «الخيال» لدَيه، والتفريق الذي وضعه بين الخيال IMAGINATION والتخيُّل FANCY.

ويربط البروفيسور كراكشيولو بين قصيدة كولردج المشهورة «الملَّاح الهرِم» وبين قصص السندباد البحري، بينما يُقدِّم الباحث «ألان جرانت» تحليلًا إضافيًّا لفكرة القدَر والمصير والشرِّ ومدى مسئولية الانسان عن أفعاله، ويربط بها ما بين مسئولية الملاح الهرِم عن قتل طائر البطريق ومسئولية التاجِر عن قتل ابن الجني المارد في القصة التي ترِد في أوائل حكايات شهرزاد.

أما عن وردزورث، فإن قصيدته البيوجرافية «المُقدمة» مليئة بالإشارات إلى ألف ليلة وليلة والأثر الذي خلَّفته في نفسه. هاك مثلًا هذا الجزء الذي ورد في الكتاب الخامس منها:

وكان عندي آنذاك كنز ثمين؛
كتاب صغير مُجلد بقماش أصفر اللون؛
مختارات قليلة من «الحكايات العربية».
وحين علمتُ،
كما أعلم الآن لأول مرة،
مِن رفقائي في هذا المقام الجديد،
أن هذا الكنز العزيز الذي بحوزتي،
إن هو إلا قطرة مِن مُحيطٍ كبير،
وأن هناك مجلدات أربعة كبيرة منه،
تنسج كلها على نفس المنوال،
كان الأمر حقًّا بالنسبة لي،
كشفًا يتعدَّى الأرض إلى السماء والجنان.

أما ثالث شعراء البحيرة، روبرت سذي (١٧٧٤–١٨٤٣م) فعندنا قصيدته الطويلة «ثعلبة» التي كانت نتاج قراءاته في تراث المكتبة الشرقية، ومنها ألف ليلة وليلة.

وبالنسبة للشاعر الأشهر، اللورد بايرون، فله مجموعة كاملة من القصائد الطويلة، أطلق عليها مُترجِمه الدكتور محمد عناني اسم «حكاياته الشرقية»، وهي تشمل «عروس أبيدوس» التي أسماها «حكاية تركية»، و«القرصان» و«حصار كورينثة».

وكانت أُلفة بايرون بالمؤلَّفات الشرقية وثيقة. وممَّا يُروَى عنه أن ناشره «جون مري» أبدى قلقه من أن بايرون — في إحدى قصائده — قد أورد اسم «قابيل» على لسان أحد المسلمين؛ فردَّ بايرون: «هل تظنُّ أن أهل الجليل وحدَهم هم من يعرفون آدم وإبراهيم وداود وحتى موسى … لا شك أنك ستُدهش إذا علمت أن «زليخا» هي الاسم الفارسي لزوجة «بوطيفار»، وأن هناك قصيدة طويلة عنها هي ويوسف بالفارسية.» وكان يقصد من ذلك أن تلك الشخصيات التي وردت في الكتاب المُقدس، موجودة كذلك لدى المسلمين في كتابهم المُقدس وعقيدتهم الإسلامية. وهذا ما يؤكد قول الدكتور عناني، في حواشيه على ترجمته لرائعة بايرون «دون جوان» من أن بايرون كان «شديد الإعجاب بالعقيدة الإسلامية ويكثر من الإشارة إليها.»

وفي الملحمة الشعرية الرائعة «دون جوان»، تخرج خيالات ألف ليلة وليلة من وعي بايرون في الفقرة التالية:

وعلى البُعد وقف مُهرج قزم يحكي حكاياته الخيالية،
إلى حلقة هادئة وخطَّها الشيبُ من المُسنين الذين يُدخنون،
عن الكنوز السرية التي عُثر عليها في أودية خفية،
وعن الإجابات اللماحة الرائعة من أفواه الأعراب المزَّاحين،
وعن الرُّقى التي يُكتسَب بها الذهب وتَشفي الأمراض المستعصية،
وعن الصخور المسحورة التي تَفتح بابها لمن يَطرقه،
وعن الساحرات من السيدات اللائي يستطعْنَ بعملٍ واحد،
تحويل أزواجهن إلى وحوشٍ (ولكن هذه الحكاية حقيقية).
الفقرة ٣٤ من النشيد الثالث، ترجمة الدكتور محمد عناني
ويعلق الدكتور عناني على هذه الفقرة قائلًا: «الصورة الأولى هي صورة افتح يا سمسم! من حكاية علي بابا في ألف ليلة وليلة، ولم تكن الحكايات قد تُرجِمت كاملة في ذلك الوقت، وربما سمع بها بايرون من بعض الرواة، وأما الزوجات اللائي يحولن أزواجهن إلى وحوش فمرجعها ملحمة الأوديسة لهوميروس، حيث تُحول الساحرة كيركي CIRCE الرجال إلى وحوش (في الكتاب العاشر).» وأضيف أنا أن ثمة حكايات في ألف ليلة عن نسوة ساحرات حولن الرجال إلى وحوش وتماثيل أيضًا، كما جاء في قصة الملك الذي تزوَّج ابنة عمِّه، ولمَّا اكتشف خيانتها له سحرته إلى مسخ نصفه حجر ونصفه إنسان، وسحرت سُكان مدينته إلى أسماكٍ مختلفة الألوان. وهناك أيضًا الحية — الجارية في قصة كبيرة الصبابا زبيدة (من قصص الحمال والبنات) التي سحرت أختَي الصبيَّة إلى كلبتَين من الكلاب السود. وفي حكاية «سيدي نعمان» (وهي غير موجودة في المجلدات العربية الشائعة وإن وردَت في ترجمة جالان)، يكتشف صاحب هذا الاسم أنه تزوَّج من «غولة» تأكُل لحوم الموتى، فلمَّا يُجاهرها بذلك أملًا في إصلاحها، ترشُّ عليه بعض مياه السِّحر فتُحوِّله إلى كلب. وثمة صور أخرى من السحر تمتلئ بها ألف ليلة وليلة سنتحدَّث عنها في فصلٍ خاص.

أما «جون كيتس»، فقد استمدَّ الكثير من موضوعات قصائده الطويلة من الأساطير، الكلاسيكية أساسًا، وإنما بعد أن صبغها بالصبغة الشرقية والعربية المُقنَّعة. فقصيدته «ليلة القديسة آنييز» تحكي قصةً أشبه بقصص ألف ليلة وليلة. وهي تدور حول القديسة آنييز، حامية الشابَّات العذارى، وليلتها تقع في ٢٠ يناير من كل عام، وفيها يتبدَّى للعذراوات — إن هنَّ قُمنَ ببعض الطقوس المُعينة — صورة الحبيب الذي سيتزوَّج منهنَّ في المستقبل. ويحيك كيتس حبكة قصته الشِّعرية عن أُسرتَين إقطاعيتَين في عداءٍ وخلاف مُستمرَّين، يُذكِّر بعداء آل كابيوليت وآل منتاجيو في روميو وجولييت. وعلى نفس نسَق الحبيبَين في مأساة شكسبير الشهيرة، يُحِب «بورفيرو» ابنة الأسرة المعادية «مادلين» ويُخطط للفوز بها في ليلة القديسة آنييز، بمساعدة مُربية مادلين العجوز. وفي تلك الليلة، تُقيم أسرة مادلين حفلًا كبيرًا يصطخب بالموسيقى والمراح والشراب في قلعتهم الحصينة، ولكن العاشق بورفيرو ينجح بواسطة المُربية في الدخول إلى القلعة والاختباء في غرفة نوم مادلين. وتأوي مادلين إلى غرفتها قبل انتهاء الاحتفالات، كيما تقوم بطقوس الليلة التي سترى فيها خيال زوجها الموعود، فتركع مُبتهلةً إلى قديستها، ثم تأوي إلى مخدعِها. وتصوير كيتس لهذه المشاهد يمتلئ بالصور الغرامية والإيروسية من كل نوع، مصبوبةً في قالبٍ شعري رومانسي رفيع. ويغلف الشاعر صورَه الحسِّية الإيروسية بالغاية النهائية التي تتفق مع المواقف الأخلاقية في عصره، وهي أن تلك العلاقة هي مُقدمة للزواج في خاتمة المطاف. ويدلف الحبيب إلى مخدع حبيبته، التي تتقبله بوصفه تجسيدًا لوعود ليلة القديسة آنييز. بيد أن مادلين تفيق على الحقائق الحسِّية التي ينطوي عليها ذلك اللقاء، ويؤكد بروفيرو لها حُبَّه بترتيب هروبهما معًا لإتمام الزواج بها. ويهرب العاشقان مُتسلِّليْن وسط المُحتفلِين والحراس الذين خدَّرهم التعَب والشراب.

وقد نجحت القصيدة نجاحًا كبيرًا، فقد صور كيتس ببراعة فائقة صور الحُب التي سادت سابقًا في رومانسات العصور الوسطى، مُضيفًا إليها الحس الشاعري العميق الذي تميَّز به، والصور البلاغية الجديدة، وتصوير أجواء الحلم واليقظة، والتداخُل بين الحُب العذري والحُب الحسِّي، في أجواءٍ تلفُّها غمامات الأساطير والأحلام. وكل ذلك يقربها من صور العشق والهيام التي نجدها كثيرًا في ألف ليلة وليلة بين أبناء الملوك والأمراء وبناتهن. ويُشير البروفيسور «كراكشيولو» على وجه الخصوص إلى الفقرة ٣٠ من القصيدة، ويرى أنها تلعب على نفس أوتار «حكاية الفرس المسحور» في ألف ليلة. كما أنها تُعدِّد الأصناف والمأكولات العربية التي جاء ذكرها في قصة الحمَّال والثلاث بنات. وتَجري الفقرة على النحو التالي:

وعند ذاك، وإلى جانب الفراش،
حيث القمر يُلقي بضوئه الفضي الخافت،
أعد المائدة في سكون، والشجن يغمُر فؤاده؛
إذ هو يُغطِّيها بمفرش،
نسجَتْه الألوان الذهبية والقرمزية والسوداء،
رقية من رقيات إله النوم الناعس!
وكان النفير الصاخب لاحتفالات منتصف الليل،
والطبول النحاسية،
والأبواق التي تتردَّد أصداؤها في كل الأنحاء،
تصكُّ أذُنَيه بالإزعاج،
حين تصِل إليه في منتهاها،
فأغلق باب البهو من خلفه،
وخفتت الضوضاء كليةً.

•••

وما تزال مادلين في نومها المُوشَّى باللازورد،
مُتدثِّرة بأغطيةٍ وملابس كتَّانية،
نائمة يفوح منها عطر اللافندر،
بينما أخرج بروفيرو،
كومًا من التفاح المُوشَّى بالسُّكر،
والسفرجل، والبرقوق، واليقطين،
والجيلاتين الذي يُضارع القشدة حلاوة،
وأشربة العسل المُصفَّى،
بنكهة القرفة الدارصينية،
ومعها ما لذَّ وطاب من المنَّا وحلو التمر،
مما تجلبه السفائن من الديار المغربية،
والطيبات المُتبلة بالأفاويه،
وكلها تأتي من أقاصي سمرقند الحريرية،
ولبنان أشجار الأرز.

•••

ورص كل هذه الطيبات بيده المُتوهِّجة،
في أطباقٍ ذهبية وفي سِلال وهَّاجة،
موشَّاة بالفضة المضفورة،
فتبدَّت باذخةً في هدأة الليل،
تُفعِم أرجاء الحجرة بالنور المُضمَّخ بالعطر.
والآن، يا حبيبتي، يا ملاكي الجميل،
استيقظي!
إنك أنت فردوسي، وأنا عابد جمالك،
افتحي عينيكِ بحقِّ القديسة «آنييز» الحانية،
وإلا غفوتُ إلى جواركِ،
فروحي تتحرَّق شوقًا إليك.

وعلى نفس النحو تأثر «شيللي» بالجو الشرقي الذي أشاعته الترجمات الأدبية المُتتالية لألف ليلةٍ وليلة وغيرها من المؤلَّفات الشرقية، فنجد تُراثه الشعري مليئًا بالإشارات العربية والشرقية؛ وله قصيدة ملحمية بعنوان «ثورة الإسلام»، بيد أنها — فيما يبدو — قد حملت هذا العنوان لمجرد جذب أنظار القرَّاء حيث سادت مَوجة الولَع الشرقي بعد نشر عددٍ من الترجمات الأدبية الباذخة من القصص العربية وألف ليلة وليلة. وكان عنوان القصيدة الأصلي «لاؤن وسيثنا، أو ثورة المدينة الذهبية: رؤيا للقرن التاسع عشر»؛ فأصبح عنوانها «ثورة الإسلام، قصيدة في اثنَي عشر نشيدًا».

وفي أول قصائده الناجحة «ألاستور»، حين يُريد شيللي أن يُصور زُهد الشاعر الشاب في العواطف الأرضية، يختار «صبية عربية» كي تُقدِّم قلبها وحبها للشاعر. بيد أنه يُعرض عنها، وفي المقابل، يدلف إلى رؤيا حلمية يتجمَّع فيها رمز خياله عن الجمال والحق والحُب ونهَمه وراء المعرفة الحقة. ويسعى وراء تحقيق رؤاه في عالَم الواقع، حيث تقوده خطاه القهقرى عبر تاريخ الحضارات الإنسانية، وإلى الشرق: الجزيرة العربية وفارس وجبال الهند، وإلى كشمير، مكان رؤياه الحلمية. وقد كتب شيللي كذلك قصيدة سمَّاها الحشاشين، إشارة إلى تلك الطائفة الإسماعيلية التي أقامها شيخ الجبل في قلعة آلموت، ومنهم جاءت الكلمة الإنجليزية ASSASSIN.

وقد بدأ شيللي كتابة يوميَّات مع حبيبته وزوجته لاحقًا ماري، بدأها منذ اليوم الذي هربا فيه سويًّا إلى أوروبا، ٢٨ يوليو ١٨١٤م، في مفكرة ذهبية ابتاعاها في باريس. ونحن نعرف من تلك اليوميات الكتُب التي كانا يقرآنِها، ونجد من بينها كتاب «قصص الشرق» لهنري ويبر، والكتاب الذي أصدره الفرنسي جاك كازوت بمعاونة السوري دوم شاويش وضمَّا فيه ترجمةً لحكاياتٍ جديدة من ألف ليلة وليلة. وقد ذكرت ماري في تلك اليوميات قراءتهما لقصة النائم الذي استيقظ بالذات. ومِن بين الكتُب الأخرى التي كانا يُطالِعانها كتاب الواثق لبيكفورد، وثعلبة لسذي، والصديق لفولتير. كما قرأ شيللي كذلك كتاب «تاريخ العرب» لسيمون أوكلي، وهو كتاب ضخم من جزأين كان قد صدر قبل ذلك بعنوان «الفتح العربي لسوريا وفارس ومصر». وقد أمدَّت تلك الكتُب شيللي بمعلوماتٍ ثمينة وخيالٍ دافق ظهر في العناصر العربية والشرقية في عددٍ من قصائده. كذلك يُشير النقَّاد إلى تأثُّر «ماري شيللي» نفسها بتلك الخيالات الشرقية، التي نتجَ عنها روايتها «فرانكنشتاين» التي أصبحت رائدةً في روايات الخوارق وروايات الرُّعب والأشباح، ويعُدُّها البعض أول روايةٍ من روايات الخيال العلمي. وقد بدأت ماري شيللي كتابتها في مباراةٍ لكتابة قصة أشباح مع زوجها ولورد بايرون حين كانا في فيلَّا بُحيرة جنيف، في أمسيةٍ ماطِرة راعِدة بارِقة احتجزتهم في الداخل!

أما توماس دي كوينسي (١٧٨٥–١٨٥٩م) فله قصة طريفة مع ألف ليلة وليلة؛ فرغم أنه كان يتذكر حكاياتها وهو صغير بشيءٍ من الرعب، فقد ذكر في سِيرته الذاتية كيف أن صورةً من صور حكاية علاء الدين والمصباح السحري قد أمدَّته بفكرةٍ أساسية من نظريته بأن العالَم يتألف من «تداعِيات». والصورة جاءته من الساحر الأفريقي وهو يضع أُذنه على الأرض كي يتسمَّع الخُطى في آفاق الدنيا ليعرِف في أي مكانٍ يُوجَد الصبيُّ الذي سيُمكِّنه من العثور على المصباح السحري. فالساحر «يمتلك القدرة على قراءة حروفٍ من الألفبائية جديدة ولا نهاية لها … نبضات القلب، حركات الإرادة، خيالات الذهن، ويتعيَّن عليه أن يُعيدَها في حروفٍ هيروغليفية تنطق بها خطوات الصَّبي الطائرة.» وقد وجد دي كوينسي في تلك الصورة إلماحًا بفكرة أن «كل شيءٍ موجود في الدنيا له معنًى وغرض، وأن أصغر شيء في الوجود لا بد أن يكون انعكاسًا لأكبر شيءٍ فيه.» وكان الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس هو مَن ذكر أن قصة علاء الدين لا تحتوي على هذا المشهد، وأن دي كوينسي لا بدَّ أنه حلم به أو صوَّره له خياله، فصاغ من ذلك أفكارًا أصيلة به، وأثرى كتاباته بها، وأنه — فوق كل شيء — أضاف بذلك بُعدًا جديدًا على القصة الأصلية دخل في صُلبها الأساسي.

وننتقل إلى السير والتر سكوت (١٧٧١–١٨٣٢م)، الذي يُعتبر أبا الرواية التاريخية. يذكر أندرو لانج في تعليقه على سلسلة روايات ويفرلي التي أرَّخ فيها سكوت لاسكوتلندا في قالبٍ قصصي، كيف استعان سكوت بالليالي العربية في فكرة التسجيل الخيالي لعملية اندماج الاسكتلنديين، وهم شعب باترياركي وعسكري مِثلهم في ذلك مثل عرب الصحراء، في خضم المُجتمع التجاري والثقافي، على نحوٍ مفاجئ. وترجع معرفة سكوت بألف ليلة وليلة إلى أيام صباه، حين كان مُتعودًا على أن يقرأ منها على أفراد الأسرة. ورغم أن الإشارات إلى حكايات ألف ليلة تنتشِر في كل مؤلَّفاته، فإن الرواية التي تعكس أثرًا مباشرًا للكتاب العربي هي روايته «الأثرى» THE ANTIQUARIAN من سلسلة روايات ويفرلي أيضًا. ففيها نجد تأثيرات قصة النائم الذي استيقظ، التي تُحيط بحبكة رواية سكوت وتأثيرها النفسي. أما روايته الأساسية «ويفرلي»، فهي منسوجة نسيجًا عربيًّا خالصًا، فكأنها البساط السحري الذي ورد ذِكره في «حكاية الأمير أحمد وبري بانو»، وحوادثها تُلقي ظلالها عليها أيضًا. ففي الحكاية الألف ليلية، تقود عواطف رومانسية مجهولة كلًّا من الأمير أحمد والأميرة بري بانو إلى بريةٍ مجهولة، حيث يكتشِف كلٌّ منهما المقام السردابي لابنة أحد أقوى وأعتى ملوك الجان، والتي يبلُغ من حُسنها أن ينسى الأمير ذكرى أي حبٍّ له قبلها. وفي «ويفرلي»، يتبدَّى فنار مُرتفعات اسكتلندا «كمركبةٍ نارية يخترق بها الجنيُّ الشرير، في قصةٍ شرقية، الأرضَ والبحر.» ويستمرُّ النسج الشرقي في رواية سكوت حتى مُنتهاها، حين يُشرف «فيرجس» على الموت ويُفكر في شعبه الذي سيُصبح بلا قائد، ولكنه يتبصَّر فيُدرك أنَّ ويفرلي لا يمكن أن تكون بالنسبة لعشيرته مجرد مغارةٍ سحرية تنفتح بتعزيمة «افتح يا سمسم»! وحين أراد ناقد مجلة «الناقد البريطاني» الحديث عن رواية سكوت، خصَّ بثنائه العناصر العربية في النسيج الروائي، ذاكرًا أنها أنسب شيءٍ للنمط الذي أراده المؤلف في تقديم اسكتلندا للإنجليز، قائلًا في مقاله: «ينبغي لهذه القصة أن تُوضَع في نفس مرتبة «مسامرات الليالي العربية» حيث الحكاية — وإن جذبت الانتباه أحيانًا — ما هي إلا أقل أهميةً بالقياس إلى الصورة الصادقة التي تُقدِّمها لعادات الشرق وتقاليده.» ويُبين الأستاذ كراكشيولو ببراعةٍ أن ألف ليلة وليلة تُعين القارئ على تفهُّم خصائص روايات سكوت التاريخية تفهُّمًا أفضل، من حيث النقاط التالية:
  • (١)

    الأمثلة التي يبدو فيها البناء القصصي مُفككًا بينما هو في الواقع شبكة مُعقدة من الإيحاءات والتوازُنات والتناقُضات.

  • (٢)

    التنوُّع الشديد للمادة المتناولة.

  • (٣)

    صهر أنواع أدبية مقتبسة من شتَّى المصادر مما يُمكِّن من توسيع نطاق الشكل الروائي ذاته.

  • (٤)

    الرجفة التي يَخلقها وضع ما هو فوق الواقع إلى جوار المألوف اليومي.

  • (٥)

    المزج الإبداعي بين الخيالي والواقعي الشامل لثقافاتٍ مُتتالية.

  • (٦)

    المسافات الشاسعة التي يُغطيها الرحالة في روايات سكوت.

  • (٧)

    التنوُّع الشامل في تصوير شخصيات من جميع الطبقات، بحيث تتضمَّن الملوك والأرستقراطيين والفلاحين والخارجين على القانون والمِهنيِّين والتجار والعمال.

  • (٨)

    مهارة النساء وحسن تدبيرهن واتساع حيلتهن.

وفي هذا الفصل عن سكوت، يُورِد الأستاذ كراكشيولو نموذجًا للخطوات التي يتأثر فيها الكاتب الإنجليزي خصوصًا بقصص الليالي، حيث يتلقى المرء أول تأثيراته في مرحلة الطفولة عن طريق حكايات وقصص الأهل، ثم يُعيد المرء بعد ذلك الإمساك بذكريات الطفولة تلك عن طريق اكتشاف أبعادٍ جديدة لتلك القصص العربية، ويتم ذلك عن طريق عدَّة سُبل منها:

  • (١)

    ظهور تعليقات أو أبحاث جديدة عن تلك القصص، سواء كانت أدبية أو أنثروبولوجية؛

  • (٢)

    القيام برحلاتٍ فعلية إلى أقطار عربية وإسلامية، أو تَمثُّل ثقافات تلك الأقطار عن طريق الفنون خاصة المعمارية منها والتصاميم العربية والإسلامية.

  • (٣)

    ظهور حكايات وقصص جديدة من قصص ألف ليلة لم تكن قد نُشِرت من قبل.

  • (٤)

    صدور ترجمات جديدة لألف ليلة وليلة أو طبعات جديدة للترجمات السابقة.

  • (٥)

    التصاوير والتصاميم العربية والإسلامية التي تُصاحب طبعات ألف ليلة وليلة.

  • (٦)

    الأثر الانعكاسي، أي أثر الكتَّاب والأدباء الذين تأثروا بتلك القصص وظهر ذلك الأثر في كتاباتهم.

ثم يُقرِّر البروفيسور أنه في خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت الإضافة الرئيسية الوحيدة بعد أنماط العصور الوسطى ثم عصر النهضة، هو نمط سلسلة روايات ويفرلي؛ وأن الأثر التكويني لوالتر سكوت، الذي امتدَّ منذ عصر جين أوستن حتى وفاة الملكة فكتوريا، لا يمكن فصله عن حكايات وقصص ألف ليلة وليلة. ويذكر الباحث جون هايدن (في كتابه «سكوت: الموروث النقدي» الصادر عام ١٩٧٠م) كيف نقل سكوت الدروس القصصية التي استقاها من كتاب ألف ليلة وليلة لا إلى الكتَّاب الإنجليز فحسب، بل ولكتَّاب أوروبا وأمريكا، ذاكرًا الاستجابات المُكثفة لذلك لدى هنريش هايني، جوتة، ستندال، بلينسكي، مارك توين.

(٣) الأدباء الإنجليز في أواخر القرن التاسع عشر

وننتقل بعد ذلك إلى مجموعةٍ زمنية أخرى من الأدباء الإنجليز، وهم الذين ازدهروا في أواخر القرن التاسع عشر، ومنهم ثاكري وديكنز وويلكي كولنز وجورج ميريديث وجورج إليوت وروبرت لويس ستيفنسون.

ولم ترتبط ألف ليلة وليلة في ذهن وليام مكبيس ثاكري (١٨١١–١٨٦٣م) بالخوف والرُّعب كما في طفولة كولردج ودي كوينسي، بل بالخيال والتسلية. وقد تعمَّقت معرفة ثاكري بأمور الشرق خاصة بعد رِحلته إلى تلك البلاد التي أنتجت كتابه «ملاحظات رحلة من كورنهيل إلى القاهرة الكبرى» الذي صدر عام ١٨٤٥م، والتي زار فيها كثيرًا من حواضر الأمم التي ورد ذِكرها في قصص ألف ليلة وليلة. وفي ذلك الكتاب، يمدح ثاكري قصص ألف ليلة بقولِه: «إن حكاياتها تخلو من الواقعية المُزعِجة في سردها للأحداث العنيفة، مما لا يترك إحساسًا بالفاجِعة لدى قارئها. فمرجانة، حين تقتُل الأربعين لصًّا بالزيت المغلي، لا تبدو أبدًا أنها تُسبِّب لهم أي أذًى حقيقي، ورغم أن الملك شهريار يقطع رقاب العذارى قبل مجيء شهرزاد، فإن القارئ يتصوَّر حقًّا أن هؤلاء الفتيات يَعُدْن إلى الحياة ثانيةً في غرفةٍ خلفية من غُرَف قصر السلطان، حيث يرقُصنَ ويُغنِّين على أنغام العود والقيثارة!»

ويبدو أثر تلك القصص في كثيرٍ من روايات ثاكري، وأهمها «سوق الغرور». ففي تلك الرواية، ينقل المؤلف ذكريات مُطالعته لألف ليلة إلى شخصية «وليام دوبن»، الذي يستلقي في ظلِّ إحدى الأشجار بملعب المدرسة ليُطالِع ألف ليلة وينسى معها كل شيءٍ عن حاضره. وتلعب الإشارات إلى قصص الليالى دورًا «تناصِّيًّا» هامًّا في سياق أحداث سوق الغرور، حيث يتأصَّل شعور وليام دوبن بالدونية الطبقية تجاه مَحبوبته إميليا سدلي؛ لأن أباه مجرد تاجِر بقالة في المدينة. ولهذا تتزوَّج حبيبته من شابٍّ لا قيمة له إلَّا غناه ووسامته وهو جورج أوزبورن. وحكايات ألف ليلة تمتلئ بشخصيات التجار، وتُصوِّرهم في منزلةٍ محترمة وتمتلئ بالثناء على تلك المهنة، وفيها يرتقي الكثير من التجار إلى مرتبة الحُكام والوزراء، بل والملوك أيضًا. وإشارات الرواية إلى ألف ليلة تتركَّز في حكايتَين هما الرحلة الثانية للسندباد البحري، وحكاية الأمير أحمد والحورية بري بانو. ودوبون يجد سلوى وعزاءً في تلك القصص التي تُصوِّر نجاح شخصياتٍ في مثل منزلته في الارتقاء إلى مصافِّ الأثرياء وإلى الزواج بمحبوبتهم في نهاية الأمر. فالسندباد البحري، وهو أصلًا من التجار، يعود من سفرته الثانية التي حمله فيها طائر الرخ إلى وادي الجواهر، مُحمَّلًا بكل أصناف اللؤلؤ والياقوت والزبرجد. وفي الحكاية الثانية، يتنكَّر الأمير أحمد في هيئة تاجرٍ حيث يصادف الحورية الأميرة بري بانو ويفوز بقلبها والزواج منها، بل ويُصبح في النهاية سلطانًا من سلاطين الهند!

وكان لحكايات ألف ليلة وليلة بالنسبة لثاكري نفس الأثر التشجيعي والتعويضي الذي مثَّلته لوليام دوبن. فواقع أن حياة ثاكري افتقرت في معظمها إلى السعادة والاستقرار، جعلت من أحلام طفولته وصباه مادةً ثمينة بالنسبة له. وقد قال مرة لصديقه أمير الشعراء تنيسون وهو يُهنئه على مجموعته «قصائد الملوك»: «لقد جعلتني أشعر بالسعادة التي تعوَّدتُ أن أشعر بها في صباي مع الليالي العربية.»

ومن الحكايات الأخرى التي تردَّدت كثيرًا عند ثاكري، قصة النشار، وهو اسم الأخ الخامس لحلاق بغداد الذي كان يقصُّ حكايات إخوته الستة على مسامع الخليفة هارون الرشيد. والحكاية معروفة وقد تكون سابقةً على ألف ليلة، وهي قصة الشاب الفقير الذي يرِث مائة دينار عن أبيه ولم يدْر ما يصنع بها؛ فاشترى بها زجاجًا ووضعه في طبقٍ كبير وجلس في مَوضع بالسوق ليبيعَه. وبينما هو جالس، يشطح به الفكر فيتخيَّل أنه قد باع الزجاج بضعف الثمن الذي اشتراه به، ويظلُّ في تلك التجارة يبيع ويشتري حتى يربح ربحًا عظيمًا، فيشتري دارًا جميلة وخيولًا وسروجًا مُذهبة، ويبعث في خطبة ابنة الوزير التي اشتهرت بحُسنها، ويتبادل الهدايا النفيسة مع أبيها الوزير فيسعى الجميع إلى إرضائه وخدمته. وفي يوم الزفاف يتعالى على عروسه وهي تُقبِّل يدَه ورجله، ثم تُناوله قدحًا ليشرب وهو يتمنَّع، ولمَّا تلحُّ عليه ينتفِض ويُبعدها عنه برفصةٍ من قدمه، هكذا: ويرفُص الرجل الحالِم أمامه فيضرب الطبق الذي عليه الزجاج ويضيع كل رأس ماله هباءً نتيجة رعونته وانسياقه وراء الخيال. والقصة طويلة بعد ذلك ولكن هذا الجزء هو ما يجذب ثاكري فيها. والغريب أن نفس الحكاية — الأمثولة — ترِد في «خرافات أيسوب» التي يقرأها الغربيون في دراستهم الأولى، بيد أن ثاكري يُفضل حكاية ألف ليلة وليلة على حكاية خرافات أيسوب. وهي ترِد عند أيسوب بعنوان «الصبية والدلو» وتحكي عن الفتاة ابنة الفلاح التي حلبت البقرة وساقها الخيال وهي عائدة بالدلو المليء باللبن بأنها ستبيعه زبدًا وتربح منه مالًا تُنشئ به مزرعةً كبيرة تدريجيًّا، وتُصبح ثرية فتلبس أفخر الثياب، ويخطب الفتيان ودَّها ولكنها تردُّهم عنها وترفض ودَّهم، وهزَّت رأسها عند ذلك الحد إذ تُمثِّل الرفض، مما يُطيح بدلو اللبن أرضًا ويتبدَّد حلمها هباءً. وهي نفس الحكاية التي تُردِّدها الأمثال الشعبية في العديد من الثقافات؛ ونقول عندنا — ضمن أمثلةٍ أخرى — «يا كركدن، لا تحسبن، تا تقبضن!» وقد وردت إشارات إلى تلك الحكاية خصوصًا في روايتَي «هنري إزموند» و«بندنيس». وظهرت أيضًا في «سوق الغرور»، إذ بطلتُها «بيكي شارب» تحلم بالزواج من «جو سدلي» دون أن تعرفه ويعرفها:

«لقد بنَتْ لنفسها أبهى قلعةٍ في الهواء وأصبحت هي الآمِرة فيها، ومعها زوج يقبع في خلفية الصورة … وهي تشتمل على أفخر الشيلان والعمامات والقلائد الماسية، وتمتطي صهوة فيل يسير على إيقاع ذي اللحية الزرقاء، تتهادى إلى لقاء ملك المغول. أحلام النشار الساحرة!»

ومِن المُلاحظ أن ثاكري كان معجبًا أيضًا بحكاية الأخ السادس، الذي دعاه الأمير البرمكي إلى وليمةٍ فاخرة وإنما وهمية تمامًا. وهذا يُوحي إلى ما كان ثاكري يُوليه لقوة الخيال، وقدرته على التخفيف من سطوة الحرمان عن طريق الأحلام والفانتازيا. وكان هو ذاته يُشبِّه نفسه بالنشار، حين يُخطِّط ويحلم بالمجلات التي ستستعين به وبكتاباته، وهو ما عبَّر عنه كذلك عن طريق «آرثر بندنيس» في الرواية التي تحمل الاسم الأخير حين يقول: «يالي من نشَّارٍ كبير، لأني ربحتُ خمسة جنيهات من القصائد التي ألفتُها، وها هم قد تعاقدوا معي لكتابة نصف دستة من المقالات للصحف!»

أما تشارلز ديكنز (١٨١٢–١٨٧٠م) فيبدو أنه قد تلقى أول انطباعاته عن ألف ليلة وليلة من التصاوير والرسومات التي تضمَّنتها طبعات الكتاب، ويُقال إن الصورة التي تركت أثرًا في نفسه أكثر من الصور الأُخرى هي التي تُبين الملكَين شهريار وشاه زمان فوق الشجرة يتطلَّعان إلى الصَّبِية زوجة الجِنِّي في قفصها الزجاجي المسحور. بيد أن أثر ألف ليلة وليلة في أعمال ديكنز لم يظهر فيما قبل عام ١٨٣٩م، إلى أن صدرت في ذلك العام ترجمتا «تورنز» و«لين»، مما جعله يُعيد اكتشاف حكاياتها، مُتزامنًا مع قراءاته لروايات والتر سكوت التاريخية أيضًا، وكانت نتيجة ذلك ما ذكره الباحث ك. فيلدنج أنه، باستثناء أعمال شكسبير، لم يُثِر خيال ديكنز شيء أو أشار إلى شيءٍ في رواياته أكثر من حكايات الليالي العربية؛ وكان يرى نفسه شبيهًا بشهرزاد وهو يكتُب قصصه ورواياته. ويبدأ أثر الكِتاب عند ديكنز منذ روايته «ساعة السيد همفري»، حين أخذ الروائي الإنجليزي يجرب أسلوب القصة الإطار مُستخدِمًا قصص يأجوج ومأجوج في بداية الرواية. ويبدو عظم امتنانه للكتاب في مقالةٍ كتبَها في الجريدة الأسبوعية «ساعات منزلية» — التي كان يُصدرها عام ١٨٥٨م — بعنوان «شجرة عيد الميلاد»، ويتحدَّث فيها عن شجرة عيد ميلاد خيالية يضع فيها ديكنز أعز الهدايا التي يُحبها. وفي أعلى الشجرة هناك طبعًا لعب الأطفال وحدَها، ويأتي تحتها الكتُب التي أحبَّها، مثل «ذات الرداء الأحمر»؛ ثم:

«صه! غابة مرة أخرى — ليست غابة روبن هود ولا فالنتاين أو القزم الأصفر … بل ملك شرقي في طيلسان وعمامة برَّاقتَين. لا وحق الله! بل ملكان شرقيَّان، إذ أرى آخَر ينظُر من وراء كتفه. وتحت الشجرة، على الحشائش، يرقد جسد ماردٍ ضخم بلون الفحم، غارق في نومه، ورأسه على حِجر سيدة، وبالقُرب منهما صندوق زجاجي، مُغلق بأقفالٍ أربعة من المعدن البرَّاق، حيث يُبقي السيدة حبيسة حين يكون مُستيقظًا. إني أرى المفاتيح الأربعة في زناره الآن. وتُشير السيدة إلى الملِكَين أعلى الشجرة فيهبطان في رفق. إنها مناظر الليالى العربية الباهرة.»

«أواه! الآن تُصبح كل الأشياء العادية غير عادية وسِحرية بالنسبة لي. كل المصابيح سحرية، وكل الخواتم مُطلسمة، وأصص الزهور العادية مليئة بالكنوز التي يُغطيها بعض التراب؛ والأشجار مُهيَّأة كيما يستخفي علي بابا وراءها، وقطع اللحم كيما تُلقى إلى وادي الماس حتى تلتصق الجواهر الثمينة بها وتحملها النسور إلى أعشاشها حيث يُفزعها الصيادون بصيحاتهم العالية. والفطائر تُصنع حسب وصفة ابن وزير البصرة، الذي أصبح خبَّازًا بعد أن ضُبط في سراويله الداخلية على بوابة دمشق. وكل الإسكافيين هم مصطفى، وهم يَخيطون الناس الذين حملوهم إليهم مُقطَّعين أربعة أجزاء.»

«وأى خاتم حديدي مُلقًى على الحجر إن هو إلا مدخل كهفٍ ينتظر الساحر، وركوة النيران الصغيرة، والسحر الأسود، ما سيجعل الأرض تهتز. وكل البلح المستورد يأتي من الشجرة نفسها التي جاءت منها تلك البلحة المنكودة التي ألقى التاجر نواتها فقلعت عين ابن الجِني الخفي. وكل حبَّات الزيتون تأتي من المحصول الذي وضعه التاجِر اللص بدلًا من الذهب في جرةِ صديقه؛ وكل التفَّاح هو مثل الثلاث تفاحات التي اشتراها الرجل من بستان الخليفة والتي سرق العبد الأسود واحدةً منها من ابن الرجل. وكل الكلاب ترتبط بذلك الكلب المسحور الذي كان يُميز النقود المُزيفة بيدِه. ويستدعي الأرز إلى الذاكرة تلك المرأة المخيفة التي هي في الحقيقة غولة لا تأكل إلا حبَّاتٍ قليلة من الأرز كي تلتهِم وجبتَها المُرعبة في المقابر بعد ذلك. أما حصاني الهزَّاز … فلا بدَّ أن يكون له زرٌّ في عنقه حتى يطير بي، كما فعل الحصان الخشبي بالأمير الفارسي أمام بصر أبيه الملك.»

«… وحين أصحو في فراشي عند مطلع الصباح، في أيام الشتاء الباردة المظلمة، والثلج يلقي بظلاله على إفريز النافذة، أسمع دينارزاد تهتف: أختاه، أختاه، إن كنتِ ما تزالين مُستيقظة، أرجو أن تُكملي حكاية ملك الجزُر السوداء. وترد شهرزاد: لو سمح السلطان بإبقائي يومًا آخَر يا أختي. وعندها يبرُز السلطان الكريم، ولا يُعطي أي أمرٍ بالقتل، ونتنفَّس نحن جميعًا الصعداء.»

ويستبين من ذلك المقال مدى المُتعة التي تبعثها الذكرى الكاملة للحكايات، فنشعر أن ديكنز كان بوسعه المُضيَّ في ذكر قائمة الأشياء العادية التي تتردَّد في ألف ليلة وليلة إلى ما لا نهاية. ويستبين من روايته «أوقات صعبة» رأيه الثابت بأن القدرة على الاستمتاع بالأمور العجائبية لازمة للصحة العقلية للإنسان؛ كما أن الأطفال عادةً ما ينتابهم العجَب من تلك الحكايات، وكلما زادت قُدرتهم على التعجُّب، زاد اقترابهم من الله.

ومن الروايات الأخرى لديكنز التي تستخدم ألف ليلة وليلة لزيادة زخم بعض المواقف والإشارات فيها: «مارتن شزلويت» و«ديفيد كوبرفيلد» و«آمال كبار». ففي شزلويت، يَعتبر ديكنز قدرة المرء على الاستمرار بالتمتُّع بالحكايات العجيبة التي جذبته في طفولته، دليلًا أكيدًا على طيبة القلب وسلامته، أما اللامبالاة أو الاستعلاء اللاهي عن تلك الحكايات فهو دليل التبلُّد الحسِّي والمكر. وقد بدا ذلك في شخصية «توم بينش» المُعجَب بكتُب الحكايات الفارسية الذي يراه في واجهة محل الكتب، في حين يسخر مستر «بكسنيف» من الحكايات العربية في حديثه إلى مارتن شزلويت ويخلط بينها، مُعبرًا تمامًا عن طبيعة شخصيته التي يريد ديكنز أن يُصوِّرها. وفي «أوقات صعبة»، يُصوِّب ديكنز سهام نقده الجارح لكل مَن لا يؤمن بقيمة العجائب في حياة الإنسان. ويذكر الباحث «ميشيل سلاتر» أن إحدى حكايات ألف ليلة وليلة المُحببة إلى قلب ديكنز هي قصة الصعلوك الثالث، صاحب حكاية جبل المغناطيس، والشبَّان العشرة الذين يُسوِّدون وجوههم ويبكون على مصيرهم كل ليلة، وقد أمدَّته بصورٍ واستعارات أصيلة في كلٍّ من روايتَيه «الصغيرة دوريت» و«قصة مدينتَين».

وأكثر الصور شهرةً لدى عشاق ديكنز هي العملية التي استُخدِمت في سبيل إعادة تأهيل البخيل «سكروج» في «ليلة الكريسماس». فالخطوة الأساسية لعملية الإصلاح تلك، هي إعادته إلى ذكريات طفولته، التي كان يستمتع بها بالحكايات الخيالية وعلى رأسها ألف ليلة وليلة:

«ولمسه الشبح على ذراعه، وأشار إلى صورته وهو صغير، عاكفًا على قراءاته. وفجأة، ظهر رجل يشتمل على ملابس غريبة يقِف خارج النافذة، ومعه فأس مُعلقة في حزامه، ويقود حمارًا مُحملًا بالحطب. هه! إنه علي بابا، علي بابا العزيز الطيب. أجل، أجل، أعرفه … وذلك الآخر، ما اسمه، الذي تُرك أمام بوابة دمشق في سرواله الداخلي، ألا تراه! وخادم السلطان، الذي علَّقه الجني مقلوبًا، ها هو قائم على رأسه. يستحق ما جرى له، فكيف يجرؤ على الزواج من الأميرة؟!»

كذلك لم يفُت ديكنز استخدام الليالي العربية في نقده الاجتماعي والسياسي في عهده؛ فقد استخدمها في هجومه على الظلم الاجتماعي في عدم توفير تربية أخلاقية مُلائمة للطبقات الفقيرة في نفس الوقت الذي تقسو الحكومة على أفراد تلك الطبقات إذا هم انحرفوا إلى الجريمة، مُشبهًا ذلك الموقف برغبة الجِني في مُعاقبة التاجر لأنه ألقى نواة البلح ففقأ عين ابن الجني، رغم أنه لا حيلةَ له ولا يدَ في ذلك الأذى. واستخدم نفس الإشارات من ألف ليلة ليصب جام سخريته من عجز الحكومة البريطانية في عهده في مجال السياسة الخارجية في قضية حرب القرم، فنشر مقالة سمَّاها «ألف دجَّال ودجَّال» سخر فيها من شخصية لورد بالمرستون رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، مغيرًا ألفاظ حكايات شهيرة في ألف ليلة لتُلقي بظلال السخرية المريرة من سياسات عصره البالية.

وقد شارك «ويلكي كولين» (١٨٢٤–١٨٨٩م) تشارلز ديكنز الصداقة والزمالة … والإعجاب بألف ليلة وليلة. وقد تبادل الكاتِبان الصديقان مجموعةً كبيرة من الرسائل، وتتبدَّى فيها إشارات كثيرة لمَّاحة لقصص الكتاب. وقد أفرد البروفيسور «كراكشيولو» فصلًا كبيرًا بقلمِه في الكتاب الذي حرَّره عن أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي لويلكي كولينز، عدَّد فيه الإشارات الكثيرة في أعمال كولينز لقصص ألف ليلة، والتأثرات التي تلقَّاها مِن مؤلِّفين آخرين تحدَّثوا عن الكتاب، خاصة والتر سكوت ودي كوينسي وديكنز. وقد استخلص البروفيسور أن أكثر ما تأثر به كولينز هو طريقة الإطار، والسرد الذي يُشبه الصندوق الصيني، أو العروسة الروسية، حيث تتولَّد القصص من رحِم قصصٍ أخرى، على نحوٍ دائري لا نهائي. وقد استبان التأثر بمجموعة القصص العربية في قصتَين لكولينز هما «بعد الظلام» و«ملكة القلب»، في جمعهما للقصص داخل القصص، التي تروى في الليل بغرض كسب الوقت لمزيد من التلاحم الإنساني.

بيد أن تركيز مقال البروفيسور كراكشيولو كان على رواية ويلكي كولينز «الماسة الصفراء»، التي تتبَّع فيها مصير أشهر ماسةٍ في التاريخ وهي «الكوهينور»، وربط بينها وبين التغلغُل البريطاني في الهند والعلاقات الغربية بالشرق عمومًا. وقد انتهج كولينز في الرواية عناصر التشويق الواردة في قصص الرواية البوليسية، واعتمد طرُق الاستجواب والاستدلال المُستقاة من توثيق النصوص عند العرب والمسلمين، بتسلسُل الرواة ودرجة موثوقيتهم.

وقد استخدم كولينز الإشارات إلى ألف ليلة وليلة وحكاياتها المشهورة كيما يُضيف أبعادًا جديدة على ما يقصُّه في رواياته؛ كما أنه وجد في تلك الحكايات الوسيلة التي تُمكنه من تأمين إضفاء الثراء والعُمق على شخصياته، اللازمَين لتوضيح النتائج السيكلوجية والأخلاقية التي ترتَّبت على تكوين إمبراطورية بريطانية فيما وراء البحار، ونظام للتصنيف الطبقي في إنجلترا ذاتها.

وكان «روبرت لويس ستيفنسون» (١٨٥٠–١٨٩٤م) أكثر صراحةً من سابقيه حين أفرد كتابًا خاصًّا أطلق عليه «الليالي العربية الجديدة» نشرَه عام ١٨٨٢م. وكان ينظر إلى حكايات ألف ليلة وليلة بوصفها أدبًا خالصًا لا يهدف من ورائه إلى مواعظ أخلاقية أو أهمية فكرية. وقد قال عنها في عام ١٨٨٢م:

«هناك مثلًا كتاب محبوب أكثر من كتب شكسبير، يأسر النفوس في عهد الطفولة ويُبهج النفس في الكبر، وأعني به الليالي العربية، حيث لا تجد مواعظ أخلاقية ولا اهتمامات فكرية. إننا لا نتعرَّف على وجوهٍ أو أصوات إنسانية وسط جمهرة الملوك والجنِّيات والساحرات والشحَّاذِين. فالمغامرات الخالصة فيها تُوفِّر المتعة والتسلية وفيها الكفاية.»

وقد استخدم ستيفنسون أسلوب توالي القصص وتوالُدها، من شخصيةٍ إلى أخرى، بنفس طريقة قصص ألف ليلة وليلة، حيث شخصية تُسلِّم الحدث إلى شخصية أخرى، دافعة القصة والسرد إلى الأمام. وهذا ما يحدُث في قصتي «نادي الانتحار» و«ماسة الراجا» من مجموعة «الليالي العربية الجديدة». ففي القصة الأولى، بعد أن يهرُب الشابُّ من نادي الانتحار:

«وهنا (يقول المؤلف العربي) تنتهي حكاية الشاب والكعكات، وهو الآن ربُّ أسرة مُحترمة في شارع وجمور، بميدان كافندش. ولن أذكر رقم المنزل لأسبابٍ واضحة. أما مَن يريدون أن يُتابعوا مغامرات الأمير فلوريزل مع رئيس نادي الانتحار، فيُمكنهم أن يقرءوا حكاية الطبيب وصندوق ساراتوجا.»

وهذا هو المعادل لما تقوله شهرزاد حين تنتهي من حكايةٍ لتبدأ بأخرى، من مثل «وأين يكون هذا من حكاية …» كيما يقول لها الملك شهريار: «وكيف كان ذلك؟» لتنطلق في رواية الحكاية الجديدة.

كذلك كان ستيفنسون مُغرمًا بفكرة «القرين المُضاد» التي تتبدَّى كثيرًا في قصص ألف ليلة، أي شخصَين مُتلازِمَين يكونان على طرفَي نقيض، مثل السندباد البحري: التاجر الناجح والمغامر الجسور، والسندباد البري الفقير؛ وأبو كير: الصباغ الشرير المُحتال، وصديقه أبو صير: الحلاق الطيب المُتسامح. وقد برز ذلك التشخيص التَّضادي في بعض قصص الليالي العربية الجديدة، وفي رواية «سيد بالانتري»، في شخصية الأخوَين: جيمس الشرير، وهنري الطيب. وفي رواية «عفريت القارورة»، استخدم ستيفنسون مزيجًا عجيبًا من حكايتَي «علاء الدين والمصباح السحري» و«الصياد والجني»، حيث صور شخصية أحد أبناء هاواي ويُدعى «كييف» يخاطر بحلول اللعنة عليه بشرائه قارورة الجِني، الذي يُلبي طلبات صاحبِه بشرطٍ واحد: أنه إذا مات صاحب القارورة وهي ما زالت بحوزته، يذهب إلى الجحيم مباشرة. والقصة بهذا تحمِل أيضًا ظلالًا من أسطورة فاوست. وتتضمَّن قصة ستيفنسون ملامح ألف ليلية، من تحريمات واشتراطات، منها أنه إذا رغب «كييف» في التخلُّص من القارورة ببيعها، فعليه أن يقبل فيها ثمنًا أقل ممَّا دفعه فيها، مما يُعقِّد الأمور. كما أن عفريت القارورة يختلف عن عفريت علاء الدين، فهو جِني شرير يقوم بمسخ صاحبه ذات مرةٍ إلى حجر، كما أنه لا يَهَبه القصر الذي طلبَه منه، بل يجعله يَرِثه عن عمِّه وابن عمِّه بعد أن يُدبِّر مصرعهما غرقًا في البحر. ويبيع كييف القارورة، ويتأهَّب للزواج من حبيبته، حين يكتشف أنه قد أصيب بالبرص؛ فيُضطر بذلك إلى استعادة القارورة طلبًا للشفاء. وعلى نسق حكايات ألف ليلة، يُنهي ستيفنسون قصته نهايةً سعيدة، بأن يجعل رجلًا شريرًا يسرق القارورة من كييف، فيتخلَّص بذلك هو وزوجته من تلك اللعنة الجُهنمية. ونرى من هذا كيف تناول ستيفنسون عناصر من الكتاب العربي وأضفى عليها عناصر أشدَّ ظلمةً وجهامة، ومضى معها إلى نهاية ما يمكن أن تحتمِله القصة الأصلية، مُضيفًا بذلك معاني جديدةً عليها بما يتفق مع الفكرة الأخلاقية التي أراد توصيلها إلى قارئه.

وقد بنى «جورج ميريدث» (١٨٢٨–١٩٠٩م) شُهرته على روايةٍ احتذى فيها حذو قصص ألف ليلة وليلة، وأعطاها اسمًا غريبًا هو «قص شعر شجبات» وعنوانًا فرعيًّا «مُسامرات عربية» وصدرت عام ١٨٥٥م. وكان ميريدث من المؤمنين بأن الوقت قد حان للروائيِّين الإنجليز لنشدان حيوية وانفتاح الحكاية العربية كما حدث في القرون الوسطى، وأن تلك الحكايات يمكن أن تُخصب أرضية الرواية المُعاصرة بما فيها من تعبيراتٍ اجتماعية ومُتعة قصصية في نفس الوقت. وقد طالع ميريدث ألف ليلة وليلة في طفولته وكانت كتابَه المُفضل في صباه؛ وقد بنى روايته الأولى على نهجها، ذاكرًا في مُقدمته أن روايته محاولة لاحتذاء «أسلوب وطريقة الحكائين الشرقيِّين». وكان ميريدث يحكي قصصًا كهذه لابنته المُتبنَّاة كل ليلة، ويبدو أن روايته هي نتيجة تلك القصص الخيالية التي كان يبتدِعها كل ليلة. بيد أن «حلق شعر شجبات» هي في الواقع مكتوبة للكبار. وفيها نقرأ:

«والآن، قصة «شبلي باجراج» والكرة التي تتبعها، والمملكة التي في جوف الأرض التي وصل إليها، والقصر المسحور الذي دخل إليه، والملك النائم الذي قام شبلي بحلْق شعره، والأميرتَين اللَّتَين أطلق سراحهما، والعفريت الذي كانت تسيطر عليه إحداهما وتحبسه في زجاجة …»

ويجد «شبلي باجراج» نفسه في سلسلةٍ من الانطلاقات والمِحَن في نضاله لحلْق الشعر السحري لشجبات الذي يُخضِع المدينة، التي لها نفس اسمه، لطُغيانه، كيما يُحرِّر المدينة وأهلها منه. ويفضل النقاد اليوم اعتبار الرواية «أليجورية» تُمثل القضاء على الظلم الإنساني والاجتماعي، وإزالة الأوهام والخرافات التي تُهدِّد الحرية الإنسانية، عنها بوصفها رواية قصصية عادية. وهي تمتلئ بالتيمات المأخوذة من ألف ليلة، مثل طائر الرخ، والجِنِّي الذي يخدم سيدتَهُ ثم ينقلب عليها، والمصباح السحري … إلخ.

ورواية ميريدث الثانية، «هاري رتشموند»، تحكي قصة نضج بطلها في مسيرة حياته، على نسق مغامرات الأمير قمر الزمان وأحداثها؛ فهاري محكوم بشخصية أبيه «روي» الذي يبني حياته على الأوهام والأحلام، على نحو ما جاء في قصص الصعاليك الثلاثة. وفي رواية ميريدث تلك، يقرأ الأب والابن «الليالي العربية»، وهي إشارة ورمز لِما سيقوم به الأب من إدخال ابنه في سلسلةٍ من الوقائع والأحداث التي تُشبِه ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة. وتوفر قصص الكتاب العربي ذريعةً لهاري رتشموند كيما يُضفي عقلانيةً على الوهم الذي يُقدِّمه له أبوه: «وفي ثنايا هذه الليالي العربية، جلسنا على بساطٍ طار بنا إلى القارة الأوروبية، حيث اعتللتُ ثم شُفيتُ عن طريق شمِّ إحدى التفاحات، ووجَّه أبي حركاتنا عن طريق منظارٍ تلسكوبي كان يُنبئنا بأسماء الفنادق الجاهزة لاستقبالنا.» بيد أن ذلك الوهم لا يمكن أن يدوم، فعدم القدرة على التمييز بين الفانتازيا والواقع مُناسب للطفل، أما إذا جاء من جانب الكبار، فيكون أثره مُدمرًا.

ويقوم ميريدث في تلك الرواية بعملية تناصٍّ غير ظاهري بينها وبين حكاية الأمير أحمد وبري بانو في ألف ليلة، كي يُصوِّر إسقاطاتٍ كثيفة على حياة هاري رتشموند وعلاقاته بعددٍ من الفتيات والسيدات، إلى جانب علاقاته المُعقدة بأبيه، على النحو الذي سارت عليه أحداث الحكاية العربية، بما في القصتَين من مشاعر غيرة وخيانة تشفُّ عن ملامح أوديبية ظاهرة في رواية ميريدث، كما تذكر الباحثة «كورنيليا كوك» في مقالها عن ميريدث وألف ليلة. ويتحرَّر هاري رتشموند من أسْر طفولته التي شيَّدَها أبوه من حوله، ولا يصِل إلى تحقيق الذات الناضج إلا خارج الإطار الأبوي، بعد التغرُّب عن أبيه وهزيمة الأب ووفاته.

وثمة رواية ثالثة لميريدث هي «إيفان هارنجتون» تضرب أيضًا على أوتار ألف ليلة وليلة، حيث يتم تصوير إيفان فيها بوصفه علاء الدين الآخر. والساحر الذي كان يتسلَّط على علاء الدين، هو توم كوجلزبي الذي يقوم أيضًا بدور هارون الرشيد في تحقيقه للعدالة ولكن ليس قبل تدبير بعض «المقالب» لمعارفه، على نحو ما فعل الخليفة العربي مع أبي الحسن، النائم اليقظان. وتمتلئ هذه الرواية بالشخصيات المضادة، على نسَق سندباد وهندباد، بل إن المؤلف يسير على نفس النمط، لنجد أسماء مثل كارنجتون وبارنجتون يتلازَمان مع هارنجتون!

ولا يفوتنا قبل الانتقال إلى مجموعةٍ أخرى من الأدباء الإنجليز التالِين لهؤلاء أن نذكُر أن ثمة عددًا من المفكرين والمؤرخين في تلك الفترة قد أبدَوا اهتمامًا مُماثلًا بالحكايات العربية والشرقية، فقد طالع المؤرخ المشهور إدوارد جيبون، صاحب «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» ألف ليلة وليلة في سِنٍّ مُبكرة، ووجد أنها كتاب «لن يكفَّ عن امتاع القارئ بما يُقدمه من صورٍ مؤثرة للعادات الإنسانية والمعجزات الغريبة.» ويذكُر كاتب سيرة جيبون، ج. م. يونج، أن إعزاز جيبون لحكايات ألف ليلة وليلة قد يكون السبب في التعاطف الحار الذي يُبديه في كتابه تجاه الشرق الأدنى — خاصة الخلافة العباسية — الذي يفوق تعاطُفه مع أوروبا في عصور الإقطاع.

وكما ألهمت قراءة إلياذة هوميروس قيام البروفيسور شيلمان بكشْف آثار طروادة وأطلالها، ألهمت قراءات السير هنري لايارد لحكايات ألف ليلة وغرامه بقصص الحصان الأبنوس ومدينة النحاس قيامه بعد ذلك بالكشف عن أطلال نينوى عام ١٨٤٠م.

أما أغرب الآراء فهي التي ذكرَها «روبرت إروين» من أن الصفات الغرائبية والعجائبية لحكايات ألف ليلة وليلة قد تركت فيما يبدو أثرًا قويًّا في ذهن الكاردينال نيومان في طفولته، أدَّت به إلى أن يقبل بسهولةٍ، بعد ذلك، الإيمانَ الكاثوليكي، الذي تُمثِّل فيه المعجزاتُ واقعًا حقيقيًّا في نفس المؤمنين. كذلك تُمثل حالة توماس كارلايل (١٧٩٥–١٨٨١م) واقعةً فريدة في الدافع له إلى الاهتمامات الشرقية والإسلامية التي انتهت إلى محاضرته الهامة عن رسول الإسلام بوصفه البطل في صورة الرسول، إذ يذكر الباحث «جيمس أنتوني فرود»، الذي أرخ لحياة كارلايل في جزأين عام ١٨٨٤م، أن قراءته وحُبه لقصص ألف ليلة وليلة كانت هي الدافع لدَيه للاهتمام بالأمور الشرقية، والاطلاع على أصول الدين الإسلامي وحياة النبي محمد، ، وتخليص كل ذلك مِن الأغاليط والخرافات التي شاعت في الغرب، وكانت محاضرة كارلايل التي ضمَّها في كتابه الهام «عن الأبطال وعبادة البطولة» الصادر عام ١٨٤١م، من أوائل الكتابات الموضوعية عن الإسلام ونبيه في وقتها، والتي غيَّرت أفكار الأوروبيين عن الإسلام ونبيه الكريم تغييرًا جذريًّا.

(٤) أوائل القرن العشرين

تناولنا في فصولٍ أخرى من هذا الكتاب أعمالًا لكونراد وويلز، ونُضيف هنا تفاصيل أخرى عن صِلتهما بألف ليلة وليلة.

رغم صدور ترجمةٍ بولندية لألف ليلة وليلة عام ١٨٧٤م، قبل أن يُغادر كونراد موطنه بولندا بعام، نجده قد تعرَّف على الكتاب في طبعاته الفرنسية، ثم اتَّصلت معلوماته عن الإسلام والمسلمين منذ إقامته في الملايو، وعبر مُطالعاته لكتُب السير ريتشارد بيرتون، خصوصًا كتابه عن زيارته لمكة والمدينة. وقد نجح الباحث «هانز فان مارل» في إرجاع الكثير من الإشارات والأفكار عند كونراد عن الإسلام إلى كتب بيرتون.

وبما أن كونراد كان بحارًا وضابطًا بحريًّا، ومعظم رواياته تدور حول البحر والجزُر والرحلات البحرية، فقد انصبَّ اهتمامه «الألف ليلي» على رحلات السندباد، وكانت الصورة البديعية التي أثرت فيه وتردَّدت في أعماله هي صورة «شيخ البحر» الذي لاقاه السندباد البحري في سفرته الخامسة، والذي خدعه وركِب فوق كتفَيه وسخَّره كأنه بهيمة تحمِله من مكانٍ إلى مكان. وقد استخدم كونراد ذلك الرمز لتصوير العبء الثقيل الذي يمكن أن تحمله شخصية من شخصياته. وقد وردت تلك الصورة في روايتيه «الأوتوكراسية والحرب» (١٩٠٥م) و«نوسترومو» (١٩٠٤م). وقبل ذلك، كتب كونراد في خطابٍ له عن المصاعب التي يُلاقيها في كتابة قصته «العودة» قائلًا «إنها مثل شيخ البحر بالنسبة لي، فليس بوسعي أن أُنزلها من فوق كتفي.» ويُعيد نفس الصورة في خطابٍ له إلى «مننجهام جراهام»: «إننى كشيخ البحر، لا يمكنك أن تتخلَّص منِّي بمجرد اقتراح أن أكتب إلى أخيك.»

ويستخدم كونراد كذلك صورة الغول، بالكلمة ذاتها التي دخلت بصورتها العربية، لتصوير الرُّعب والخوف، وقد ارتبطت عنده كذلك بموضوع آكلي لحوم البشر، الذي كتب عنه كثيرًا. ومن المُلاحَظ أن بداية تردُّد هذه الإشارات عن شيخ البحر والغول قد بدأت عند كونراد مباشرةً بعد نشر بيرتون لترجمته لألف ليلة وليلة.

وإذا كان كونراد يَستخدم إشاراته إلى ألف ليلة وليلة كي يُعبر عن قوى خانقة، فإن ويلز — على وجه العموم — يربط بينها وبين السعة والإمكانيات والتطلُّعات المُستقبلية. ويقول ويلز في رسالةٍ له إلى أُمِّه أنه كان في فترة عام ١٨٩٤م «يكتب كي يعيش» ويشير في مذكراته «تجربة في السيرة الذاتية» إلى أنه كان نتيجة لذلك «يتلقط» الأفكار التي يُمكنه استخدامها في مقالاته وقصصه إبَّان ذلك الوقت. ويعود إلى تلك الأيام قيامه بكتابة قصته «جزيرة إيبيورنيس» وهي تنويعة فُكاهية — علمية على قصة رحلة السندباد الثانية (مع مزيجٍ من روبنسون كروزو)، حين يتخلَّف السندباد في جزيرة جرداء يعثر فيها على بيضة طائر الرخ. وفي قصة ويلز، يُشير الراوي صراحةً إلى قصة السندباد، ويذكر طائرًا عملاقًا هو الإيبيرونيس، ويقول «إن رخ السندباد لم يكن إلا أسطورة لذلك الطير.» قبل أن يشرع في سرد روايته عن غرَقِهِ ولجوئه إلى جزيرةٍ يكتشف فيها بيضةً ضخمة. وقد كتب ويلز قصته تلك عام ١٨٩٤م، وفيها حاشية يُعلق بها بيرتون على الرحلة الثانية للسندباد البحري يذكُر فيها أنواعًا أخرى من الطيور الأسطورية، ويقترح أصلًا مُشتركًا لها في ذكريات «طائر التروداكتيل المُجنَّح الهائل الحجم وغيره من المخلوقات المُخيفة المجنَّحة … وثمة أساس آخر لا يحتاج إلا إلى قليل من المبالغة … ويمكن أن يكون السندباد يُشير إلى طائر الإيبيوريس في مدغشقر …» ومن هنا يأتي تأثر ويلز بترجمة بيرتون لليالي العربية وتعليقاته عليها، واستخدامه نفس كلمة بيرتون لعنوان قصته. ويتساءل «روبرت إمبسون» في مقاله عن ويلز وألف ليلة وليلة، بعد أن شرح كيف كتب ويلز قصة «آلة الزمن» مُطوِّرًا إيَّاها في أشكالٍ مختلفة إلى أن وصلت إلينا في شكلها الحالي: «هل قادت قراءة ألف ليلة وليلة ويلز إلى الأسلوب الهيكلي للقصة الإطار الذي استخدمه في آلة الزمن؟» (انظر أيضًا فصل «القصة الإطار» في كتابنا هذا).

وكما يُشير إلى قيام ألف ليلة وليلة بلَعِب دورٍ هام في مؤلفات ويلز المُبكرة، فقد استمرَّ ذلك التأثير في مدِّه بمصادر وإلهاماتٍ عديدة بعد ذلك. ففي روايته المشهورة «تاريخ مستر بولي»، يُمثل الأدب بصفةٍ عامة الإمكانيات الواسعة للحياة الإنسانية، ويقوم علامةً على الانطلاق فيما وراء القيود التي تفرضها التقاليد والظروف. وحين يشتري مستر بولي عددًا من كتب الأدب، يكون كتاب ألف ليلة وليلة من بينها، ويُمثل ذلك النوع من الأدب الخلاق؛ في حين يُقدِّم المؤلِّف أشخاصًا آخرين يُمثلون الوجه الآخر الذي يفرض القيود ويحجر على انطلاق الفكر والخيال، مثل شخصية مستر فولز.

وهناك روايتان أُخريان تتَّصِلان اتصالًا مباشرًا بقصص ألف ليلة، أولاها رواية «النائم يستيقظ» (١٨٩٨م) التي تأخذ نفس العنوان الفرنسي والإنجليزي لحكاية النائم اليقظان في ألف ليلة، ونفس فكرة الاستغراق في النوم، ولكنه يُطوِّر الموضوع بأن يجعله يدُور حول «جراهام» الذي ينام ثم يستيقظ بعد مرور مائتي سنة، فيكتشف أنه قد أصبح ملكًا على الأرض. وعندها يتوقَّف التناصُّ بين شخصيته وشخصية التاجر أبي الحسن، ويصبح مُتلازمًا لشخصية الخليفة هارون الرشيد، فيتَّخذ «وزيرًا» لنفسه، ويطوف ليلًا في شوارع مدينته مُتنكرًا لاستطلاع أحوال الناس. والرواية الثانية بعنوان «البحث العظيم» (١٩١٥م)، وفيها يستمدُّ ويلز صورًا من ألف ليلة وليلة ليُصوِّر قدرة العجائب على تشكيل الحياة وتنظيمها على نحوٍ لا يُوفِّره الواقع. وفيها يقوم «بنهام» ببحثٍ يتحدَّد عن طريق إشارة إلى ألف ليلة: «لقد ظن في البداية أن ما على المرء إلا أن يكدَّ ويسعى لبلوغ الآمال؛ ولكن — بعد حياة من السعي والكد — أصبح على قناعة بأن هناك شيئًا … شيئًا من نوع افتح يا سمسم … يقوم فجأة بفتح المغارة السحرية للكون أمام بني البشر، تلك المغارة الثمينة التي تكمن في كل شيء يؤمن به المرء.» ويحلم «بنهام» بشيء مُماثل لما حدث لجراهام في رواية النائم يستيقظ حين يجد نفسه مالكًا لكل شيء، وينتهي حلم بنهام في نهاية القصة بأن يجد نفسه متجولًا في العالم «ملوكيًّا، لا يعرفه أحد … أخيرًا أصبح، إذا صح القول، هارون الرشيد مرة أخرى، يتجوَّل في أنحاء الدنيا في سكينة، لأن الأمان الذي يشيع في قصره لن يُطلعه على أسرار أمراض البشرية.»

(٥) عملاقان من أيرلندا

وطبعًا، من سيكون أوَّلهما غير العظيم جيمس جويس؟!

وحين ذكر «فكتور شلوفسكي» أن العمل الفني ينشأ من خلفية أعمال أخرى ومن خلال ارتباطاتٍ بها: لم يكن ذلك ينطبق أكثر ما ينطبق إلا على أعمال جويس. وثمَّة الكثير مما يُوثِّق صِلة جويس بألف ليلة وليلة؛ فكانت لديه نسخة من الترجمة الإيطالية وهو يعيش في تريستا. وحين انتقل إلى باريس، استبدل بها نسخةً من ترجمة ريتشارد بيرتون من ١٧ جزءًا. ويوثق «توماس كونوللي» في كُتَيبه عن «المكتبة الشخصية لجيمس جويس» وجود تلك الترجمة لدى الكاتب، ويُشير إلى الأماكن التي ترك فيها جويس أوراقًا فاصلةً للرجوع إليها لاحقًا. وقد ذكر «بادرايك كولوم» وزوجته ماري في كتابهما الهام «صديقنا جيمس جويس» (١٩٥٩م) ما يلي:

ولمَّا كانت «فنجانز ويك» تتناول الحياة الليلية، فقد أراد أن يتعرَّف على الأعمال الأخرى التي اتخذت حياة الليل نقطة انطلاقٍ لها. وكان أحد تلك الأعمال: «الليالي العربية» … فقد كان إطارها يتعلق بالليل، كما أننا نعرف أن المجموعة تأصَّلت في قصص الطوَّافين ليلًا. ورغب جويس أن يقوم أحد بقراءة الليالي العربية كيما يُخبره ببعض ملامحها. لذلك أرسل إلى شقتي ستة عشر مُجلدًا من ترجمة بيرتون للكتاب. وكان أول شيء ذكرته له عنها محطَّ اهتمامه: أن خلفية الحكايات العربية حكايات فارسية، بل إن الراوية وأختها تحمِلان اسمَين فارسِيَّين. وكان جويس مفتونًا بالطريقة التي تُفضي بها إحدى الثقافات إلى ثقافةٍ أخرى، وأراد أن يعرف عما إذا كان هناك تناظُر بين نشوء الحكايات العربية من الفارسية وبين نشوء حكايات الملك آرثر من الحكايات والأساطير الكلتية؛ وسأل عن معنى اسمَي الراوية وأختها. وقد طالعت الأجزاء الستة عشر جميعها … وحدثت جويس عن ملامح كثيرة فيها. ولا بد أن يظهر في فنجانز ويك الخليفة وهو يتجوَّل ليلًا مع وزيره، غير أن السطور التي أنا على يقينٍ بأنه استمدَّها من قراءتي فهي التي تدور حول «الأختان اللتان تتحدثان ليلًا».

ويبدو أن معرفة جويس بالسندباد البحري قد تزامنت مع معرفته بالأوديسة لهوميروس، إن لم تكن قد سبقتها. فنحن نعرف من فصل «تليماخوس» في رواية عوليس لجويس، أُلفة ستيفن ديدالوس — وهو جويس — بعرضٍ بطريقة البانتومايم (إشارات وإيماءات دون كلام) جرى تقديمه في دِبلن عام ١٨٩٢م — حين كان جويس في العاشرة من عمره — عنوانه «بانتومايم توركو المُرعب»، وهو جزء من العرض العام «بانتومايم السندباد البحري».

وتمتلئ الملاحظات والتخطيطات التي كان جويس يكتبها قبل البدء في كتابة «فنجانز ويك» — بدءًا من عام ١٩٢٢م — بالإشارات إلى قصص وشخصيات ألف ليلة وليلة. ففي جزءٍ مُعنوَن «الأختان»، يكتب جويس: «الليالي العربية، سلسلة من القصص، قصص داخل قصص.» ويُشير إلى «مفخرة شهرزاد». وهذا قد يُوحي أيضًا أن قصته القصيرة «الأختان» في مجموعة «أناس من دبلن» كان مقصودًا بهما شهرزاد ودينارزاد أيضًا، فمن المؤكد أن هيكل القصة هو صورة للقصة الإطار وبداخلها قصص متفرقة: بيان عن «موتر العجوز» وقصصه التي لا تنتهي، يتبعه بيان عن «الأب فلين» وقصصه، ويُكمل ذلك قصة إليزا عن أخيها. ويُلاحظ أن أخت إليزا، تبدو وكأنها «على وشك أن تستغرق في النوم» حين كانت أختها تروي لها القصة. وفي فنجانز ويك، تظهر «الأختان» كذلك في «مُتنزَّه فينيكس»، ويُقدِّمهما جويس بعبارة «سكرتزيرازد ودونيازاد اللتان تتكلَّمان ليلًا على نحوٍ لا يمكن السيطرة عليه».

ومن الجلي أن «فنجانز ويك» — مثله مثل ألف ليلة وليلة — هو كتاب ليلى. وقد أشار الناقد «كلايف هارت» إلى أن ثمة حكايتَين من الكتاب العربي يرفدان الهيكل الحلمي لفنجانز ويك. فعلى نحو ما يحدُث لأبي الحسن مِن تَمثُّل شخصيةٍ أعظم منه، يغفو بطل الكتاب مُتعدِّد الشخصيات «وبعد نعسةٍ له يستيقظ في مثوى مُختلف ليجِدَ أنه قد أصبح الأب بالفعل.» ويوازي تردُّد أبي الحسن بين عالمَين، التقلُّبَ الحيزي والمكاني لفنجان. وهناك أيضًا حكاية «حياتا السلطان محمود»، التي جعل فيها أحد الحكماء الصوفيين سلطان مصر يشعُر خلال لحظاتٍ قليلة وضع فيها رأسه في نافورة القصر أنه قد أمضى سنواتٍ طوالًا في عملٍ شاق، فيُقدِّم بذلك عمرًا كاملًا في لحظةٍ قصيرة. وقد وفرت تلك النسبية الزمنية الفريدة مصدرًا هامًا لجويس يضغط فيه الزمن ويبسطه كيما يُظهر الحنكة الروائية والصنعة السردية التي تُناسِب كتابه. وقد استوحى جويس فكرة الاضطراب الزمني كذلك من التداخُل في أزمنة القصص التي يضمُّها كتاب ألف ليلة؛ فمن المُفترَض أن شهريار وشهرزاد كانا يعيشان في زمن الساسانيِّين السابقين على الإسلام، بينما شهرزاد تحكي عن هارون الرشيد والمأمون بل والظاهر بيبرس، وهم لم يظهروا على مسرح التاريخ إلا بعد الساسانيين بآمادٍ طويلة!

وتزخر فنجانز ويك بإشاراتٍ وتمثُّلات عديدة أخرى من ألف ليلة وليلة، بيد أن «لعب» جويس بالكلمات، وتغييره فيها ونَحته لكلماتٍ مُركبة وكلمات لا وجود لها، يجعل من الصعب تقديم فكرة باللغة العربية لتلك التوازيات على نحوٍ واضح. ولا شكَّ أن أي ترجمةٍ مُرتقبة لفنجانز ويك إلى العربية ستكون من مفاخر الترجمة، بما يُضارع كلًّا من عمل جويس وألف ليلة وليلة.

وحين نرتدُّ إلى رواية جويس الأساسية «عوليس» نجدها تمتلئ هي الأخرى بإشارات ألف ليلة وحكاياتها وشخصياتها. فبطلاها «المستر بلوم» و«ستيفن ديدالوس» يطوفان بمدينة دبلن كطواف هارون الرشيد في بغداد. وتتردَّد في أفكار بلوم وتهويماته الفانتازية صور الشرق، كما في فصل «كاليبسو»: «مكانٌ ما في الشرق … أتجوَّل في طرُقٍ مسقوفة. وجوه مُعمَّمة تمرُّ بي. مغارات مُظلمة فيها محلات السجاد، رجل ضخم، توركو المُرعب، يجلس عاقدًا ساقَيه، يُدخِّن نرجيلة ملفوفة الخرطوم … أطوف هنا وهناك طوال اليوم. قد أُصادف لصًّا أو اثنَين … سماء الليل، قمر، بنفسجي، لون رباط جورب «موللي» الجديد. شرائط. اسمع. فتاة تعزف على إحدى تلك الآلات التي ما اسمُها: القانون.» وهو مُغرم بكل ما هو شرق أوسطي، مما يُسهِّل دخول زوجته موللي — المولودة في جبل طارق العربي الأصل — إلى خيالاته.

وصورة عوليس بطل الملحمة اليونانية الأوديسة، إذ اتخذ جويس الهيكل الهومري نموذجًا علويًّا لروايته، تمتزج — بالضرورة — بصورة السندباد البحري، فهناك أوجه شَبَهٍ عديدة بين الاثنين وما يُصادفانه في ترحالهما، ولهذا يتردَّد ذكر السندباد كثيرًا أيضًا في رواية جويس. ونُمثِّل على ذلك بهذه الفقرة التي وردَت في أواخر الرواية، بعد إياب الرحالة إلى منزله في دبلن، التي عالجها جويس بأسلوبه المعهود في تشكيل اللغة والألفاظ على نحوٍ تركيبي خيالي. والفقرة من ترجمة الدكتور لويس عوض:

«مع رفاقه. ومَن رفاقه؟»

السندباد البحري. السندباد البحَّار والصندباد الصياد والخندباد الخياط والبندباد النجار والحندباد الحداد والفندباد الفلاح والبندباد البناء والهندباد الهجاء والرندباد الرقاص والكندباد الكشاف والدندباد الدساس والطندباد الطحان والزندباد الزمار والسجندباد السجان والغنغباد الفثفاث.»

«متى كان ذلك؟»

«حين مضى إلى الفراش المُظلم فوجد مُربعًا حول بيضة الفرخ، فرخ الرخ، رخ السندباد البحري في ليلة الفراش، فراش كل فرخ، فرخ كل رخ، رخ مظلمباد النوار.»

أما عملاق الأدب الأيرلندي الثاني فهو وليام بتلر ييتس (١٨٦٥–١٩٣٩م)، صاحب جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٢٣م. وإنتاج ييتس غزير مُتنوع، وله تجارب عميقة في الصوفية والأدب التلقائي، تُوِّجت بكتابه الصوفي العميق «رؤيا». وكالعادة، عرف ييتس ألف ليلة وليلة منذ طفولته، وقد وُجدت في مكتبتِه نُسخة من كتاب «خمس قصص مُحببة من الليالي العربية في كلماتٍ مُبسطة»، الصادر عام ١٨٧١م، وعليها إهداء من والده إليه. وقال عن قصص ألف ليلة بعد ذلك في رسائله: «إن تقاليدنا لا تسمح لنا إلا بالبركة، فالفنون هي امتداد لصور الغبطة والسعادة. طوبى لصُوَر الموت البطولي (شكسبير)، طوبى للحياة البطولية (سرفانتس)، طوبى للحكيم (بلزاك). وإلى ذلك كله، هناك سبب أكثر إقناعًا كيلا نسمح بأساليب الدعاية في حياتنا. إني سوف أكتبها بأسلوب «الليالي العربية» التي أقرأ فيها كل يوم. هناك ثلاثة أشخاص في غاية الأهمية: (١) رجل يعزف على الناي (٢) رجل ينحت تمثالًا (٣) رجل بين ذراعي امرأة. لقد قال جيته إن علينا أن نعتزل، وأنا أعتقد أن الدعاية هي ما يجب أن نعتزله … لقد وجدتُ اقتباسًا في ترجمة «بويز ماترز» (لطبعة ماردروس الفرنسية لألف ليلة وليلة) … يمكن أن تكون شعارًا لكتاب تعليمي للأطفال … حين تذكر شهرزاد للملك أنها سوف تحكي له ثلاث أقاصيص ترى أنها أخلاقية ولكن قد يظنها آخرون غير ذلك. ويقترح الملك أن يصرفا أخت شهرزاد الصغيرة كي لا تسمعها … ولكن شهرزاد تقول: «كلَّا ليس هناك من خجَلٍ في الحديث عن الأشياء التي لدَينا تحت الزنار.»

كذلك يكتب ييتس في كتابه «أساطير» أن شكسبير وبلزاك وألف ليلة وليلة هي «أدب جاد بالنسبة لأولئك الذين ينشدون الحقيقة بشكلٍ جِدِّي.» وكان يُقدِّر تلك الأعمال بوصفها ذات صفاتٍ موسوعية. ويُعيد تأكيد اختياراته حين يقول:

«كان ليونيل جونسون يرى أن المرء يجب أن يكون قد قرأ كلَّ الكتب الجيدة قبل أن يكون قد بلغ سِن الأربعين ثم يكتفي بعد ذلك بستة كتُب، فقلت إني أريد ستة مؤلفين وليس ستة كتب؛ يأتي شكسبير أولًا، ثم الليالي العربية في أحدث طبعاتها الإنجليزية، ثم وليام موريس الذي يمدُّني بكل القصص العظيمة بما فيها هوميروس وقصص البطولة، ثم بلزاك.»

وكان إعجاب ييتس بأسلوب ألف ليلة الواقعي القاسي هو الذي قاده إلى عمل بلزاك الموسوعي في سلسلة رواياته عن المجتمع الفرنسي التي يجمعها عنوان «الكوميديا الإنسانية». وقد ظهر أثر شكسبير وألف ليلة وليلة وبلزاك في قصص ييتس، وفي كتابه الصوفي الروحي «رؤيا». وفي قصائد ييتس، يظهر اهتمامه بشخصية هارون الرشيد، لا الشخصية التاريخية، بل الأدبية والأسطورية. ففي قصيدته القصصية المعنونة «هدية هارون الرشيد» يُصوِّر لنا حكاية أشبَهَ بحكايات ألف ليلة في شكل أقصوصةٍ شعرية تحكي عن هارون الرشيد بعد أن أوقع بالبرامكة نكبتَهم المعروفة. ويتَّخِذ الرشيد عروسًا جديدة، ويشرك أحد نُدَمائه؛ النطاسي الفيلسوف المترجم «كوستا بن لوقا» في أفراحه بأن يُهدِيَه عروسًا حسناء شابة. ولدهشةِ الجميع، تقع العروس الشابة في حُب الفيلسوف الشيخ. وتظهر خاصية عجيبة في العروس بعد الزواج، وهي أنها تتحدَّث في أثناء نومِها بأمورٍ فكرية وفلسفية تتضمَّن كل ما كان ابن لوقا يبحث عنه في دراساته وقراءاته في مكتبة الخليفة العباسي العامرة؛ ولكن، حين تستيقظ الزوجة، كانت تعيش كفتاةٍ عادية تقوم بواجباتها المنزلية دون أن تدري بما تتفوَّه به في نومها. وأصبحت الزوجة قرةَ عين زوجها الفيلسوف، ولذلك لم يذكُر لها أبدًا أسرار ما كانت تقوله في الليل خشية أن تظن أن حُبه لها واهتمامه بها راجعان إلى المعرفة التي تتفوَّه بها في نومِها وليس من أجلها هي بذاتها.

وقد عاد ييتس لموضوع كوستا بن لوقا في «رؤيا»، حيث يشرح «مايكل روبارتس» — الشخصية التي ابتدعها ييتس — أن ديانة «الجودوالي» — التي ابتدعها ييتس أيضًا — كانت تحوز كتابًا عليمًا يُدعى «طريق الروح بين الشمس والقمر»، منسوب إلى كوستا بن لوقا، وهو فيلسوف طبيب مسيحي في بلاط هارون الرشيد، ثم ضاع الكتاب بعد ذلك مع كتابٍ صغير آخر يصِف حياة ذلك الفيلسوف. ويبدو في القصيدة أيضًا — وفي كتاب «رؤيا» — ما يفيد أن أتباع ديانة الجودوالي قد استمدُّوا من الأقوال التي كانت زوجة كوستا بن لوقا تتفوَّه بها في نومها، تعاليم كانوا يَخطُّونها على الرمال لِتلقين شبابهم تلك الأقوال وتَوعيتهم بها.

ومن المعروف أن ييتس قد انغمس — ضمن أنشطته المُتعدِّدة — في دراسات «الروحانية» وعلوم الغيب الخفية التي شاعت في أيَّامه، وانعكس ذلك في الكثير من كتاباته، خاصة قصائده وقصص مايكل روبارتس، وأساسًا في عمله الأساسي «رؤيا»، في نُسختَيها. وفي مسعى ييتس إلى تأسيس بعض أفكاره عن الروحانية والعلوم الغيبية على ركيزةٍ لا تقبل الجدل، عثر — عن طريق كتاب ألف ليلة وليلة — على الطرق التي يمكن بها تقديم تلك العلوم والتجارب الروحانية عن طريق القصص الخرافية والأدب الشعبي المعروف والأدب الشعبي المُخترَع. وقد لجأ في ذلك إلى استخدام التراكيب السردية الواردة في ألف ليلة كيما يتمكَّن من تنظيم نظرياته المُستعرضة بصورةٍ منهجية تُناسب عصره.

الصانع الأمهر

ومن يكون هذا الصانع الأمهر سوى «توماس ستيرنز إليوت»، الذي — إلى جانب جيمس جويس وغيره — أصبح من رُوَّاد الحداثة في الأدب، برغم كونه — على حدِّ قول لويس عوض — شاعرًا رجعيًّا وناقدًا رجعيًّا!

وقد تحدثتُ مع صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد — الكاتب والمترجم الأمهر، والمرجع العربي في إليوت — عن إليوت وألف ليلة وليلة، فأبدى انزعاجه الشديد لذلك الموضوع، رغم أن الأمر هو قبل كل شيءٍ أمر موازنة ومُقارنة وليس أمر تأثُّر وتأثير قد لا يكون له مَحل في المقام الأول. وعلى ذلك فسوف أقتصر هنا على ترجمة مقالة «جون هيث-ستابس» القصيرة عن الموضوع، وهي التي اختتمت كتاب البروفيسور كراكشيولو الذي اعتمدتُ عليه أساسًا في موضوع ألف ليلة وليلة والأدب الإنجليزي، والمقال بعنوان: «ملك الجزُر السوداء وأسطورة الأرض الخراب»:

«سوف نُذكِّر القارئ — دون الدخول في تفاصيل مجموعات سردية مُتشابكة — أن تكملة قصة الصياد والجِني هي حكاية الملك الشابِّ صاحب الجزُر السوداء. وتتعلق تلك الحكاية بسلطانٍ يخرج في طلب ما يبحث عنه، فيُصادف أولًا بُحيرة مليئة بسمك أبيض وأحمر وأصفر وأزرق، ثم يعثر على قصرٍ مهجور به هذا الملك المسحور، الذي وقع ضحية زوجته الساحرة الشريرة التي حوَّلت نصفه الأسفل إلى رخامٍ أسود. وكان الملك قد فاجأ زوجته مع عبد أسود كريه، فأشهر عليه السيف وتركه مُعتقدًا أنه قد قتله، ولكنه كان حيًّا وإن لم يعُد قادرًا على الحركة أو الكلام. وقد أقامت الزوجة ضريحًا في القصر ادَّعت أنه لابن عمٍّ لها، وأودعت فيه عشيقها لترعاه. ولما يثور الملك الزوج على ذلك، تعرف هي مَن أوقع بعشيقها فتسحره إلى حجَر مِن وسطه إلى أسفله. وحوَّلت كذلك مملكته إلى جبالٍ أربعة بينهم بحيرة سحرت فيها سُكان المملكة إلى السمك الذي سبق ذكره: السمك الأبيض هم المُسلمون، والأحمر الزرادشتيون، والأصفر اليهود، والأزرق المسيحيون. ويعمل السلطان على مساعدة الملك المسحور، فيقتل العبد ويُرغم الملكة الشريرة على فكِّ السحر عن زوجها الملك الشابِّ وإعادة المملكة وسكانها إلى حالتهم الطبيعية. وتُعيد الساحرة الملك إلى حالته الأولى برشِّ ماءٍ عليه من قارورة صغيرة. ويتم التخلُّص من العبد الأسود والملكة الساحرة.»

ويبدو لي أن هناك بعض التشابُه المُثير للاهتمام بين تلك الحكاية وبين الرومانسات الأوروبية في العصور الوسطى التي تتناول الكأس المقدَّسة. ففي تلك الرومانسات، يمرُّ البطل بالأرض الخراب، مملكة الملك الصياد. وكان ذلك الملك قيِّمًا على أثرَين مُقدَّسَين: الكأس المقدسة (وهي الكأس التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير، والتي استُخدِمت بعد ذلك لتلقِّي دمه وهو ينزف على الصليب)، والحربة التي طعن بها الحارس الروماني جانب المسيح. ونتيجةً لخطأ ارتكبه الملك، تحلُّ عليه المصائب، فقد طعنته الحربة المُقدسة في فخذَيه فأصبح مُقعدًا لا يستطيع حراكًا. وفي الوقت ذاته، ضرب البوار مملكته فأصبحت أرضًا خرابًا. ويتمكن البطل — عن طريق استخدام الصيغة الشعائرية الصحيحة — من إعادة الملك إلى طبيعته الأولى وردِّ الخصوبة إلى أرض بلاده.

وقد ألمحت جيسي م. وستون، في كتابها «من الطقوس إلى الرومانس» (وقد أصبح الكتاب مشهورًا بوصفه قد ألهم ت. س. إليوت تركيبة قصيدته «الأرض الخراب») إلى أنه يمكن إرجاع هذه الأساطير المسيحية إلى أنماط طقوس الخصب ما قبل المسيحية، من النوع الذي افترضه كتاب فريزر «الغصن الذهبي» وعلينا أن نفترض وجود مرحلةٍ بدائية من الثقافة تتركز فيها تلك الرمزية في شخص الملك المقدس، الذي يحكُم بناء على علاقته بالإلهة التي تضفي أيضًا الحياة على أرضه. وتكفل خصوبة الملك المُستمرة خصوبة الأرض، وحين تضعف خصوبته، لا بدَّ من قتله وإحلال آخر محلِّه. وهذا الآخر لا بدَّ من اعتباره نفس الملك وقد وُلِد من جديد أو ابتُعث حيًّا. وهكذا فنحن نجد في الشرق الأدنى القديم مفهوم الإله الذي يموت، سواء كان آتيس أو أدونيس أو أوزوريس. وهو حبيب الإلهة أو زوجها أو ابنها، وهي التي تحزن حين يموت مع موت السَّنة وتفرح عند عودته مع عودة الخصب في الربيع. وقد ألمع «روبرت جريفز» في كتابه «الإلهة البيضاء» — إذ أقام تحليله على أساطير عددٍ من الثقافات المختلفة — إلى نمَطٍ تُوزِّع فيه الإلهة حُبها بين قرينَين، إله السَّنة الذاهبة، وإله السَّنة القادمة، حيث ينتصر ويخسر كل منهما مرةً بالتناوب في صراع شعائري.

فإذا نظرنا إلى الموضوع من ذلك الجانب، فبوسعنا أن نرى في الملك الصياد، وفي تحول ملك الجزُر السوداء إلى حجر، رموزًا واضحة، إلى حدٍّ كبير، للعجز الجنسي الذي يؤدي بدَوره إلى انتقال العجز إلى أرضهما. وفي القصة العربية، تُصبح الإلهة هي الملكة الشريرة التي تنقل حُبها إلى قرينٍ جديد يُثخَن بالجراح وتَحزن هي عليه كالحُزن على أدونيس وأوزوريس. وفي قصص الكأس المقدسة، يبدو أن الإلهة تتمثَّل في «الصبية الشوهاء» التي تظهر في الكثير من تلك القصص كرسولة الكأس أو حامِلته، والتي يتوحَّد قُبحها مع جدب الأرض الخراب. ولا شك في أن قيام الملكة في القصة العربية برشِّ الماء يعكس طقسًا من طقوس درِّ المطر؛ وقارورتها غير ذات شأنٍ بالمقارنة بالكأس المُقدسة. وقد كان المُعلقون المسيحيون مُتردِّدين نوعًا ما في رؤية رمزَي الأنثى والذكر في الكأس المُقدسة والحربة، على التوالي. أما أنا فلا أرى ما يُزعِج في الفكرة التي تُنادي بأن رموز وهْب الحياة الإيجابية لثقافةٍ في دورها البدائي يُمكن أن تلبس قِيمًا جديدة وتصطبغ بصبغةٍ روحية في سياقٍ ديني أكثر علوًّا.

ويُمثل السلطان أو الفارس الذي يخرج ساعيًا، الملك الجديد أو الذي يُولد ثانيةً والذي يُعيد الخصب إلى الأرض اليابسة. وفي كِلتا القصتَين، لا يحل السلطان ولا الفارس محلَّ الملك، كما نظن أنه يفعل في الأسطورة الأصلية؛ بل هناك في الحكاية العربية ما هو عكس ذلك، حيث يقوم السلطان الساعي في خاتمة المطاف بتبنِّي ملك الجزُر السوداء.

وأعتقد أنه لا بدَّ من اعتبار أن كلًّا من قصص الكأس المُقدسة والحكاية العربية يُستمَدَّان من أصلٍ مُشترك. فكلٌّ منهما يتضمَّن ملامح يفتقدها الآخر، وإذا اجتمعا معًا يُلقيان الضوء على نمَط الطقوس الأسطورية المُفترضة. وتعتقد جيسي واطسن أن النمَط الطقوسي الذي لمسته وراء قصص الكأس المُقدسة قد جلبه إلى الغرب التجار الفينيقيون في الأزمنة المُبكرة، بيد أن هذا الرأى يجب اعتباره اليوم تبسيطًا للأمور. فعلى وجه الخصوص، ليس هناك دليل حقيقي على أن تُجار القصدير الفينيقيين قد وصلوا إلى بريطانيا على وجه الإطلاق. ومع ذلك، يمكن أن تكون فينيقيا القديمة، حيث راجت عقيدة الإلهة البحرية «أترجاتيس» أو «درسيتو»، هي نقطة البداية لكل تلك الأساطير.

ولقد قيل كثيرًا بطبيعة الحال إن قصص الرومانسات الغربية في القرون الوسطى قد تضمَّنت مادة ذات أصلٍ عربي. وكثيرًا ما حدث ذلك، بيد أن العناصر الرئيسية في أساطير الكأس المُقدسة تعود فيما يبدو القهقرى إلى الأعراف الكلتية. وواقع أن المملكة التي يحكمها الملك في القصة التي نُشير إليها هنا تُسمى الجزر السوداء، يفتح إمكانيةً هامة: هل لدَينا هنا حالة قصة غربية تُهاجر ناحية الشرق؟ هل يمكن أن تكون الجزُر السوداء بأي حالٍ هي إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا — التي كان وجودها معروفًا — ولو من بعيد — لدى الجغرافيين العرب؟»

وتجدُر الإشارة أيضًا إلى ما ذكره الباحث كراكشيولو من تأثر إليوت بجوزيف كونراد واهتماماته العربية والبوذية، مما دعاه إلى وضع اقتباسٍ من رواية كونراد قلب الظلمات لقصيدته «الأرض الخراب»، قبل أن يحذف عزرا باوند الاقتباس. وقد ذكر ستيفن سبندر في كتابه عن إليوت أن إليوت قال له إنه كان يفكر — وقت كتابته للأرض الخراب — في اعتناق البوذية.

ونُشير أيضًا إلى أن إليوت قد كتب وهو في السادسة عشرة من عمره قصة قصيرة عنوانها «قصة حوت» بها أصداء مماثلة لرحلة السندباد البحري الأولى، إذ إنها تدور حول بحارَيْن غرقت سفينتهما وعاشا فوق ظهر حوتٍ هائل الحجم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤