الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى وأثرها

(١) ألف ليلة واللغة الفرنسية

ذكرنا من قبل ترجمة جالان بوصفها أول نصٍّ مطبوع لألف ليلة وليلة. وقد ظلَّ هذا النص هو السائد في الأدب الفرنسي إلى أن قام الدكتور «ماردروس» بترجمته للكتاب. وقصة حياة ماردروس عجيبة في حدِّ ذاتها؛ فجدُّه كان من مواطني القوزاق بروسيا، وحارب مع القائد المسلم شميل ضد ضمِّ الروس للقوزاق، وبعد هزيمة القوزاق، انتقلت أُسرة ماردروس إلى مصر، حيث وُلِد جوزيف ماردروس في القاهرة عام ١٨٦٨م، وترعرع وسط بيئتها العربية. وبعد ذلك، هاجر ماردروس إلى فرنسا ودرس الطبَّ ثم عمل مُفتش صحة في وزارة الداخلية الفرنسية، وقضى الكثير إبَّان عمله ذاك في الجزائر. وقد أصدر عددًا من الكتُب ذات الموضوعات الشرقية، بيد أن اسمه ارتبط بترجمته لألف ليلة وليلة، التي صدرت بين الأعوام ١٨٩٩–١٩٠٤ في ستة عشر جزءًا. وقد فاخر ماردروس بأن ترجمته هي أدق وأكمل ترجمة حرفية للكتاب، وإن كنا قد أشرْنا إلى مُبالغاته الإيروتيكية في فصلٍ آخر من كتابنا هذا. وقد استقبلت الأوساط الفرنسية الترجمة الجديدة استقبالًا حسنًا، ربما لأنها الأولى بعد ترجمة جالان، أوسع فيها الإنجليز الكتاب ترجماتٍ وتعليقات ذاع صِيتُها. وكانت تلك الترجمة هي التي اعتمد عليها الكثير من الأدباء الفرنسيين الذين عاصروا صدورها وما بعد ذلك، ومنهم أندريه جيد ومارسيل بروست. وكان ماردروس من الذكاء أن أهدى الترجمة إلى ذكرى «ستيفان مالارميه» الشاعر الفرنسي المشهور، كما أنه أدرج اهداءاتٍ في المجلدات المُتتالية لرموز الأدب الفرنسي المعاصر، ومنهم بول فاليري وريمي دي جورمون وأناتول فرانس.

وقد زعم ماردروس أول الأمر أنه يترجم الكتاب عن نصِّ بولاق الذي اعتبرَه أفضل النصوص العربية. ولكن، حين بدأ النقاد يلاحظون اختلافاتٍ بين ترجمته وبين النص البولاقي العربي، غيَّر ماردروس قوله، وذكر أنه يترجم في الواقع عن مخطوط جزائري يعود إلى القرن السابع عشر، ادعى أنه الأصل لطبعة بولاق المصرية المطبوعة. ولكن ظهر بعد ذلك أنه لا وجود لِمثل ذلك المخطوط وأن ماردروس اخترعه اختراعًا، وأنه كان يُترجم القصص المُتناثرة في المخطوطات المُتعددة لألف ليلة، ويزيد عليها من خياله واستطراداته، خاصة ما يتَّصل بالنواحي الإيروتيكية، كما أبرزْنا في الفصل الخاص بذلك. ومن الإضافات الغريبة التي أوردها ماردروس في ترجمته مثلًا، السؤال الذي وجَّهه الملك شهريار إلى شهرزاد بعد حكاياتها عن الحيوانات، حين يسألها عن اللغة التي تستخدِمها تلك الحيوانات وهي تتحدَّث، فتُجيبه وكلها ثقة: «في لغةٍ عربية فصيحة ناصعة يا مولاي!» وهذا من ألاعيب المُترجم الكوميدية، إذ لا يرِد ذلك في أيٍّ من مخطوطات ألف ليلة.

وفي عام ١٩٢٣م، عرض الناشر البريطاني «جوناثان كيب» على المغامر المعروف ت. إ. لورانس، المشهور بلورانس العرب، أن يقوم بترجمة نص ماردروس الفرنسي إلى اللغة الإنجليزية؛ ووافق لورانس على ذلك ولكن المشروع لم يتحقَّق، وقام بالترجمة بعد ذلك «باويز ماترز».

وقد خلَّفت قصص ألف ليلة وليلة أثرها في الأدباء الفرنسيين منذ ظهورها عام ١٧٠٤م، وساعدت على دفع الولع بالشرق والعرب والإسلام، الذي بلغ ذروته بغزوة نابليون لمصر، واصطحابه لجمهرةٍ من العلماء والدارِسين الذين أجرَوا مسحًا عامًّا تجلى في سِفر «وصف مصر». وقائمة الكتَّاب الذين تأثروا بألف ليلة من الفرنسيين طويلة، منهم «فولتير» في قصته «الصدِّيق» ZADIG التي ترِدُ فيها قصة الاستدلال المنطقي الذي قام به الأمراء الثلاثة في حكاية «أبناء ملك اليمن» في ألف ليلة وليلة، إضافة لموضوع الكتاب على وجه العموم. وقد أثرت حكاية ألف ليلة وليلة المذكورة — عن طريق قصة فولتير — في المقالة التي كتبَها ت. ﻫ. هكسلي عام ١٨٨١م بعنوان «أسلوب زاديج: التنبؤ الاسترجاعي كوظيفةٍ علمية».

أما تأثُّر الكاتب العظيم بروست لخُطى ألف ليلة وليلة فسنُفرد له مكانًا في فصلٍ آخر.

وقد استمرَّ التأثير للكتاب لدى الأُدباء الفرنسيين إلى يومِنا هذا، فقد ذكر الكاتب الفرنسي المُعاصر «أوليفييه رولان»، بمناسبة حضوره معرض الكتاب بالقاهرة في يناير ٢٠٠٥، أنه قد استفاد من «ألف ليلة وليلة» في كتابة روايته «اختراع العالم» L’INVENTION DU MONDE.

(٢) لُغات أخرى

وقد تُرجمت ألف ليلة وليلة إلى معظم اللغات الأوروبية بعد صدورها بالفرنسية لأول مرة، وإن كانت الترجمات قد تمَّت عبر لغاتٍ وسيطة وليست عن العربية الأصلية. وبعد ذلك ظهرت ترجمات مباشِرة عن العربية في عددٍ من اللغات الأساسية.

ففي ألمانيا، صدرت ترجمات ألمانية للقصص إثر ظهورها بالفرنسية والإنجليزية. بيد أن الترجمات الأدبية الكاملة بدأت منذ عام ١٨٢٥م على يد المُستشرق «هابشت»، تلاها ترجمة «فايل» في الأعوام ١٨٣٧–١٨٤١م فترجمة «هننج» أعوام ١٨٩٥–١٨٩٩م في ٢٤ مجلدًا. ولكن أشهر الترجمات الألمانية هي التي قدَّمها المُستشرق «إينو ليتمان» (١٨٧٥–١٩٥٨م) وهي ترجمة كاملة للكتاب نقلًا عن نصِّ كلكتا الثاني مع بعض الاستعانة بنصوص ريتشارد بيرتون. وقد قام ليتمان بشيءٍ غريب لم يسبقه إليه أحد، وهو أنه عمد إلى ترجمة أبيات الشعر التي فيها فُحش إيروتيكي، لا إلى الألمانية القديمة، بل إلى اللاتينية! وقد ظلَّت ترجمته هي المُعتمدة في الأوساط الألمانية إلى أن سمِعنا مؤخرًا بصدور ترجمةٍ ألمانية جديدة عُرِضت في معرض فرانكفورت للكتاب ٢٠٠٤م بمناسبة احتفاء المعرض بالثقافة العربية. وقد تأثر عملاق الأدب جيتة بألف ليلة والكتب الشرقية والإسلامية عمومًا، وظهر ذلك واضحًا في ديوانه الشرقي. ومن بين من تأثَّروا بالحكايات العربية من أُدباء اللغة الألمانية غير جيتة هنريش هايني وتوماس مان وريلكة.

وفي إيطاليا، قام المستعرب «فرانشسكو جابرييل» بالإشراف على ترجمةٍ لألف ليلة وليلة نقلًا عن طبعة بولاق وكلكتا الثانية. ومن بين من اعترفوا بتأثير الكتاب فيهم الروائي المشهور ألبرتو مورافيا والروائي الشاعر السينمائي باولو بازوليني.

أما في روسيا، فقد ترجم ألف ليلة وليلة م. أ. ساليير، وظهرت الترجمة خلال الأعوام ١٩٢٩–١٩٣٣م، عن دار النشر «أكاديميا» تحت رعاية مكسيم جوركي الذي أقام دار النشر الحكومية تلك كي يُوفر للأدباء والمُترجمين الروس مجالًا للنشر، وكيما — على رأى «روبرت إروين» — يُنقِذهم من الموت جوعًا! ولكن أثر الليالي بالطبع يسبق تلك الترجمات، فنحن نجِد أن الكاتب الروسي بوشكين قد أورد قصة تمثال البرونز الذي يُنبئ عن هجوم الأعداء — وهي من قصص ألف ليلة وليلة — في حكايته القصيرة «الديك الذهبي» التي حوَّلها رمسكي كورساكوف بعد ذلك إلى أوبرا مشهورة.

أما بالنسبة للغة الإسبانية، فالأمر يعود إلى ما قبل طبعة جالان، حيث كانت القصص تُروى شفاهةً منذ الوجود العربي والإسلامي في إسبانيا، إلى حدِّ ظهور قصصها في كُتبٍ باللغة الإسبانية في مهدها الأول، كما رأينا تفصيلًا في موضوع العصور الوسطى. وسوف نضرب أمثلةً في فصلٍ آخر على تأثر سرفانتس بالقصص العربي في قصصه وفي دون كيشوت؛ كما أن مُعاصره المسرحي الكبير «لوبي دي فيجا» (١٥٦٢–١٦٣٥م) له مسرحية معروفة اسمها «الصبية تيودور» مُماثلة تمامًا لحكاية «الجارية تودُّد» في ألف ليلة وليلة. وهذا دليل واضح على ذُيوع قصص ألف ليلة في إسبانيا منذ القدم.

وقد وُجدت الترجمات الشعبية الإسبانية لقصص ألف ليلة وليلة منذ ظهورها، ومن الطبيعي أن تنتقل أيضًا إلى بلدان أمريكا اللاتينية. وقد اشتُهرت بعد ذلك ترجمة الإسباني «رافاييل كاسينوس — آسينس»، مُعلم بورخيس، لألف ليلة وليلة؛ وكذلك هناك ترجمة رائعة للمُستشرق الإسباني «خوان فيرنيت». أما عن الأثر الذي تركته تلك القصص في أدب اللغة الإسبانية فبعيدُ الغور، ويستحقُّ مبحثًا مُستقلًّا. ولكننا نُشير هنا إلى أكبر المُهتمين بألف ليلة وليلة وهو الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (١٨٩٩–١٩٨٦م)، الذي كتب عنها وأشاد بها كثيرًا في كتُبه ومحاضراته. وله عبارة شهيرة عنها صارت مثلًا، مفادها أن ألف ليلة وليلة كتاب بلَغَ من الأهمية والشهرة واستقراره في وجدان الناس أنه حتى لا يُهمُّ أن يكون المرء قد قرأه! ومن المأثور عن بورخيس أنه لم يكن يسافر إلى مكانٍ سيقضي فيه بعض الوقت إلا ويصطحب معه مجلدات ألف ليلة وليلة، بترجمة ريتشارد بيرتون ذات السبعة عشر جزءًا. أما عن الروائي الكولومبي المشهور جابرييل جرسيه ماركيز، فيكفي أن نقتبس هنا ما قاله عن الكتاب في سِيرته الذاتية «أن تعيش لتحكي» في معرض امتحانٍ شفوى تقدَّم له: «سار كل شيءٍ روتينيا إلى أن سألني عن الكتب التي قرأتها، ولفتُّ نظرَه أنني قرأت كتبًا كثيرة ومختلفة على الرغم من حداثة سِني، وأني قرأتُ ألف ليلة وليلة في طبعةٍ للكبار التي لم يَحذفوا منها بعض المقاطع الصعبة التي أثارت حفيظة الأب أنجاريتا. أدهشَني أنه كان كتابًا مُهمًّا، لأنني اعتقدتُ دائمًا أن الكبار لا يمكنهم أن يُصدقوا أن الجان يخرج من الزجاجات أو أن الأبواب تُفتح بكلمةٍ سحرية.» (ترجمة طلعت شاهين). ومن هنا نعرف كيف أثرت حكايات ألف ليلة وليلة في تشكيل أسلوب الواقعية السحرية عند ماركيز.

وقد تأثر أيضًا بالقصص العربي شاعر غرناطة الأندلسي جرسيه لوركا، والشيلي العظيم بابلو نيرودا. ومما يذكر أن نيرودا كان يكتب في أول عهده في سنتياجو دي شيلي مقالاته وشعره في جريدة تُسمَّى «علي بابا»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤