مقدمة

هذه السيرة الهلالية السياسية الكبرى

من الملفت والمؤسف أن النص الأصلي المدوَّن لهذه السيرة الهلالية السياسية الكبرى، ما يزال إلى أيامنا في عداد المخطوطة المحفوظة بمكتبة الدولة المركزية ببرلين، مثلها مثل مثيلتها «الأميرة ذات الهمة» (٢٦ ألف صفحة).

بمعنى أن النص الفعلي للهلالية، لم تصله إلى أيامنا يد المطبعة بعد، وما يزال في عداد النص المخطوط اليدوي، ومن هنا فالاختلافات كبيرة، والمغالطات لا تنتهي، والإضافات التي أضافها الرواة والنساخ والمنشدون على مدى العصور تتبدى واضحة بين ذلك النص المخطوط للهلالية، وبين بقية النصوص والطبعات الشعبية المتداولة على طول عالمنا العربي، من محيطه لخليجه، وهي بالتحديد الرقعة الجغرافية التي تغطي هذه السيرة حركتها من حروب وهجرات وأحداث لا تبعد بنا، بتحالفاتها وتناقضاتها، عما نعانيه اليوم على طول البلدان والكيانات العربية، حتى ليبدو أن أحداث سيرة الهلالية كانت على دراية قومية وافية منذ حوالي عشرين قرنًا من الزمان، في حروبها وتصديها لليهود، سواء في خيبر والجزيرة العربية، أو في منطقة شرق الأردن المتاخمة لفلسطين — التي تدعوها السيرة ببلاد «السرو وعبادة» — أو في فلسطين ذاتها، في القدس وغزة وعكا ويافا.

بل هي تتعقب قلاع وفلول اليهود — كما تدعوها السيرة وتسوقها بشكل مباشر — في حلب الشهباء، واللاذقية — التي فيها أُسر دياب بن غانم — والقلاع المتاخمة لحماة وحمص ودمشق، وهكذا.

وتُلقي المخطوطة الرئيسية للسيرة المزيد من الضوء الساطع على منابع ومكونات هذه السيرة، بالإضافة إلى حفاظها على حلقاتها الرئيسية، التي هي في عداد ثلاث سير متتابعة، وتضرب أولاها بجذورها في العصور التي تعارفنا عليها بالجاهلية السابقة لظهور الإسلام، والتي قد تصل بنا إلى بضعة آلاف سنة؛ إذ تغطي الحلقة الأولى للسيرة بدء تواجد العرب التاريخي في الجزيرة العربية منذ الجاهلية الأولى أو العصور السابقة واللاحقة للإسلام، وهجرتهم الأولى إلى الأردن وفلسطين أو بلاد السرو، إلى أن تتوقف بنا الأحداث مع بدء ظهور الإسلام … وكيف أن هلال بن عامر وفد على النبي على رأس قومه — أو قبائله «المتحالفة» — ولعب أولئك الهلاليون دورًا في ترسيخ أركان الدين الجديد، حتى إن النبي أسكنه وادي العباس.

وتبدت فيما بعد فروسية وشجاعة الهلالية في جبل «المنذر»، أبو العرب المناذرة، وكيف تعرَّف إلى الأمير «مهذب» وتزوج بابنته «هذبا»، حتى إذا مضت على زواجهما عشرة أعوام ولم يُرزق منها بطفل، قرر الزواج بأخرى.

ثم رحل إلى بلاد «السرو وعبادة» — إلى الأردن وفلسطين — حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها «عذبا». وبعد ذلك نرى السيرة تحدثنا أن «هذبا» التي خلَّفت له «جابرًا»، كما وضعت «عذبا» جبيرًا، ولم يمضِ على ولادة الطفلين زمن طويل حتى ترى الغيرة تدب بين الاثنتين ونرى كلًّا منهما تريد المنذر لها ولابنها، وينتهي الأمر بطلاق «عذبا» ورحيلها مع ابنها «جبير» إلى نجد. ومن نسل جابر وجبير انحدرت إلينا بطون بني هلال ونساؤهم الذين قاموا بالأدوار الهامة في مختلف فصول الحلقة الأولى من السيرة، فجابر ولد له «عامر، وتامر، وهشام، وحازم»، ومن نسل هؤلاء انحدر «رزق» والد أبي زيد، وسرحان والد السلطان حسن بن سرحان.

أما جبير فقد ولد له «رياح، وحنظل، والنعمان»، ومن ذرية رياح جاء دياب، فمن سلسلة النسب هذا يتبين لنا أن أبا زيد من نسل جابر، بينما دياب من ذرية جبير.

وعقب جيل جابر وجبير يرد خبر زواج «رزق» من «خضراء»، وكيف أنه رُزق منها بفتاة تُدعى «شيحا» وفتى يُدعى «بركات»، وكان الولد أسود اللون؛ لذلك اتُّهمت خضراء في عرضها، وانتهى الأمر إلى رحيلها وابنها إلى بلاد الأمير الزحلان عدو بني هلال، فيكرم الأمير وفادتها ويعنى بها وبتربية ابنها ويوكل أمر تعليمه إلى كاهن أو معلم، فكان يعلم بركات — أو أبا زيد الهلالي — العلوم والحرف واللغات والحيل والمكائد التي اشتهر وتفوق بها:

ولساني عبراني اليهود بينفعك
ولسان سرياني تصير مشير

وكذا الطب والرياضيات والكيمياء، والصباغة والمعادن:

والطب أيضًا دانيال أعلمك
وعلم الحساب وكل علم ظهير
وأعلمك علم الصباغات كلها
تصبغ لروحك ما تريد يا أمير

ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان، فيتصدى لهم بركات ويأخذ والده أسيرًا، ويعترف له الهلاليون بشجاعته، ويطلقون عليه اسم «سلامة» ويُعجب به الزحلان، فيزوجه بابنته «غصن البان» وتعلو مكانة «سلامة» في أعين الهلاليين الذين رأوا كيف أن مهابته وذكاءه ومهارته آخذة في الزيادة؛ لذلك تعارفوا عليه باسم «أبي زيد الهلالي سلامة»، وبعد أن تفرغ السيرة من سرد حروب الهلاليين مع الزحلان أو قبائل بني زحلان تنتقل إلى جيل سرحان، وتحدثنا عن خبر تعرفه بشما، ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة، من تلك الحيل التي اشتهر بها الهلالية، خاصةً أبا زيد.

وشما أو شماء هنا في موقع الكاهنة أو الإلهة الأنثى القمرية، أو التي تتبع التقويم القمري، وتقود المهاجرين مشيرة بالحرب والسلم والمشورة، كما هو حال أولئك العرب الجاهليين، وتقويمهم القمري وليس الشمسي، وهو ما واصل تواتره كما هو معروف بالنسبة للتقويم الهجري القمري السائد إلى أيامنا.

فالسيرة الهلالية تفرط إلى أقصى حد بالنسبة لظاهرة شخصياتها الأنثوية، ومثل تلك الأميرة الكاهنة شماء:

انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية
الشعر مثل الليل
كأنه سباسب خيل
والوجه مثل السيل
بعيون هندية

بل إن السيرة في تاريخها لأجيالها المبكرة تضفي الكثير من الحكايات والفابيولات الجانبية والاستطرادية حول قصة الأمير سرحان قائد التحالف الهلالي وحبه وتعشقه لشماء والدته:

شما تلفتيني
بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني
من فوق شبربة
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شوبة

فهذه الإلهة الكاهنة شما، التي كان لها وحدها «ثلث المشورة» عبر حروب ومنازعات بني هلال في الهند وسرنديب واليمن والجنوب العربي بعامة … هذه إلهة تتشابه في الكثير من الوجوه مع إلهات الحرب الأنثيات، وأبرزهن الإلهة «أثينا» في قيادتها للتحالف القبلي الهليني اليوناني في حروب وحصار طروادة.

ومثلها هنا مثل «الجازية»، فيما سيلي من أحداث الريادة وفتوحات بني هلال في الشام وفلسطين ومصر وليبيا لحين حصار تونس والمغرب العربي بعامة حتى الأندلس التي كان يحكمها أبو زيد الهلالي.

وهنا نكون قد وصلنا إلى الحلقة الثانية، أو المجلد الثاني لسيرة الهلالية، التي تبدأ أحداثها برحلة السلطان حسن وأبي زيد من بلاد السرو التي نُرجح أنها وادي الأردن وفلسطين إلى نجد، بقومهما بالطبع بنو دريد وبنو الزحلان إلى نجد، حيث تعيش قابل بني زغابة المنحدرة من ذرية جبير، إلى أن تصل بنا إلى نسب بطل التحالف اليمني والجنوب العربي بعامة، الأمير غانم، وابنه دياب.

أما السبب الدافع لتلك الهجرة، من ربوع وادي الأردن وفلسطين، فلم يكن سوى القحط والجفاف.

والملفت هنا أنهم عبر هجرتهم الجماعية إلى نجد، يخوضون أولى حروبهم، مع من؟ مع يهود التحالف اليهودي الخيبري، وهي حروب طويلة ومضنية تستغرق وقائعها الجانب الأكبر من الحلقة الثانية للهلالية، لحين تحقيق انتصاراتهم على اليهود الخيبريين الذين كانوا في بعض عصورهم التاريخية يتصدون لمحاربة الأكاسرة الفرس المجوس.

ففي هذا الجزء أو الحلقة الثانية للهلالية وسيرتهم، تستقر تحالفاتهم من عرب نجديين أو حجازيين قيسيين، وجنوبيين يمنيين قحطانيين أو حميريين.

وتجيء هذه التحالفات تحت شارة أو راية أو طوطم الهلال.

فيقدِم السلطان حسن بن سرحان على الزواج من أخت دياب بن غانم وتُدعى «نافلة»، وفي ذات الوقت يقطع السلطان حسن عهده لقائد ورأس التحالف اليمني دياب بن غانم على أن يزوجه أخته «نور بارق» التي تسمَّت بالغازية أو الجازية، التي سترث أمها السالفة «شماء» في قيادتها لحروب وهجرات بني هلال حتى ليصبح لها ثلث المشورة.

وتحدُث عبر هذه الحلقة الثانية سلسلة من الحروب والإغارات القبلية تمتد ساحتها على طول الجزيرة العربية.

فنجد وصفًا للمعارك التي قامت بين الهلالية، والعقيلي، وحنظل، والهيدبي، ثم تنتهي إلى الاصطدام بين أبي زيد ودياب، ولا تنتهي هذه الحلقة إلا بعد أن تطيل في الحديث عن بطولة العرب عامة والهلالية خاصة وانتصاراتهم على الإفرنج.

وتغريبة بني هلال، أو الحلقة الثالثة من حلقات هذه السيرة، تعنى بأعمال الهلاليين في الغرب خاصة في شمال إفريقيا. وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة لا شك فيها، كما أن بني هلال عرفتهم الجاهلية وعاشوا في الإسلام وقاموا وحلفاؤهم بنصيب وافر في سبيل العمل على تعريب تلك البلاد جنسًا وثقافة، فابن الأثير يحدثنا في كامله بأن رسول الله تزوج في العام الرابع من زينب بنت خزيمة أم المساكين وهي من بني هلال، ثم يذكرهم مرة عند الحديث عن غزوة هوازن ومرات كثيرة أخرى في مناسبات مختلفة، أما خروجهم إلى إفريقيا، فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين، أذكر منهم هنا ابن خلدون، فقد جاء في ص٦٢-٦٣ من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه:

كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبيديين بإفريقيا وخطب للقائم العباسي وقطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدده، ثم إنه استوزر الحسين بن علي التازوري بعدُ.

إلى أن يحل الجدب بنجد والحجاز، ولا تجد هذه القبائل البدوية الرعوية مقرًّا لها سوى الهجرة والترحال بحثًا عن الزرع والضرع. فيستقر الرأي على ضرورة استكشاف المسالك إلى البلدان المتاخمة للجزيرة العربية، وهكذا اندفع فارس التحالف الهلالي أبو زيد الهلالي، مصطحبًا الأمراء الثلاثة أبناء السلطان حسن بن سرحان، مرعي ويونس ويحيى إلى تونس؛ ليقعوا في أسر حاكمها الزناتي خليفة، فيأمر بسجنهم بينما يطلق سراح أبي زيد ليعود إلى نجد، وبدلًا من إحضار فدية الأمراء الأسرى، فإنه يجهز الجيش لغزو تونس.

وهكذا يسير أبو زيد على رأس قومه بني زحلان، والسلطان حسن مع بني دريد، ودياب بن غانم على رأس قومه بني زغبة، ويؤتى بالجازية من مكة لتكون في الطليعة، ثم نقرأ قصصًا كثيرة حول هذه الجيوش والتقائها بالخفاجي عامر، والملك الغضبان، والخزاعي، وشبيب التبعي والبردويل بن راشد، وأشهرها هي قصة بني هلال مع «الماضي» حاكم صعيد مصر، وما كادت تتحرك هذه الجيوش لملاقاة الزناتي خليفة حتى زودها أبو زيد بخططه الحربية الخطيرة، فهو يضلل جواسيس العدو مرة، ويستولي على عيون المياه مرة أخرى، ويأتي بحيل لا تقل طرافة عن حيل قواد الحرب المعاصرين، وقد أطلق مرة المنادي ينادي العرب: «كل من كان عنده ناقة والدة يبعد ابنها عنها أو فرس والدة يبعد ابنها عنها، وكل من كان عنده حصان طلوق يجيبه عند فرس شايع ويلحقونا على عين الخطيري، وتخلي العرب كلهم يدقوا طبولهم في نزولهم على العين، (فسمع الزناتي حنين المهاري، وصهيل الخيل، وحس الطبول)، فينكسر قلبه قبل ما يجي لنا الحرب.» كما أنه كثيرًا ما استخدم النساء للتسرب إلى داخل البلاد والقيام بأعمال السلب والنهب لإيقاع الذعر بين الأهلين والتمهيد لدخول الجيوش، وكان تنفيذ هذه المهمة يوكل عادة للجازية التي كانت تقوم بها خير قيام. فاسمعها مثلًا تتحايل على منصور أحد بوابي تونس وتمنيه وتغريه بمختلف المغريات:

افتح لا تخالف
إنك رجل عارف
وانظر د الوصايف
لرية وسارة
روحي يا صبية
ماد لا بلية
قد جتنا المنية
لعند الديار
وشوف نجلا المليحة
مع حسنة الرجيحة
حين ترخي المسيحة
مع طرف الخمار
تنصب لك علامة
ما بين الغراما
قل يالله السلامة
في هذا النهار

وبعد حديث طويل نجد الجازية تتغلب على منصور، ويفتح لها ولمن معها من نساء ورجال البابَ ويتمكن الهلاليون من إطلاق سراح مرعي ويونس، ثم تدور الدائرة على الزناتي فيُقتل بفضل خطة وضعتها ابنته سعدى التي شُغفت بمرعي عندما كان في سجن أبيها، فهي التي أشارت على الهلالية بإرسال دياب إلى أبيها ومنازلته؛ لأن ديابًا أقدر الفرسان على منازلة خليفة.

خلا الجو للعرب في تونس، واستولوا على عروش الغرب السبعة، وشرعوا في تقسيمها بينهم كما أخذوا في الاستعداد لغزو مراكش. وهنا نجد النزاع الذي كان قائمًا بين العرب في الجزيرة — أعني بين اليمنية والقيسية — ينفجر مرة أخرى في إفريقية، فيمثل أبو زيد القيسية ودياب اليمنية، وقد مهدت السيرة لذلك أحسن تمهيد، فهي في جدول الأنساب الذي ساقته من قبل جعلت ديابًا ينحدر من فرع تجري في عروقه دماء حمير، فهو دياب بن غانم بن رياح بن حمير بن رياح بن جبير، فذكْر «حمير» هنا لم يأتِ عبثًا وإنما تمهيد لسائر الخصومات التي قامت بين أبي زيد من ناحية ودياب من ناحية أخرى، وهو يعلل لنا قتل دياب للسلطان حسن وأبي زيد فيما بعد.

أدت هذه القبائل القيسية رسالتها في شمالي إفريقية وجعلته عربيًّا جنسًا وثقافة ودينًا حتى يومنا هذا، وبعد ذلك نقرأ خبر انتقال دياب إلى السودان والحبشة، ويُقتل دياب ويتولى ابنه نصر الدين الزغبي حكم بلاد الغرب، وتنتقل بعض القبائل القيسية إلى صعيد مصر ثانيةً، فأعلى النوبة، فالخرطوم، فدارفور، حيث نسمع عن وجود قبائل عربية مثل الرزيقات نسبةً إلى رزق والد أبي زيد وقبيلة سليم نسبة إلى بني سليم، وهنا تؤيد السيرة أبحاث المؤرخين ورجال اللغات السامية، فهم مجمعون على أن لهجة صعيد مصر، وعرب أولاد علي غرب الإسكندرية، ومالطة، وشمالي إفريقية، وأعلى النوبة، وكردفان، وجنوب الخرطوم، ودارفور، لهجة واحدة لها مميزاتها الخاصة التي تميزها عن سائر اللهجات العربية.

وأخيرًا يمكن القول: إن استقرار هذه القبائل العربية خارج الجزيرة لم ينسِها يومًا نجدًا، وجمال نجد، وحرية نجد، وقد عبَّر مرعي عن هذا الحب بقوله يخاطب سعدى بنت خليفة:

يا سعدى نجد العريضة مرية
ربيت بها أهلي وكل جدود
بلدي ولو جارت عليا مرية
وأهلي ولو شحت عليا تجود

وهكذا حكم الجيل الثاني الذي تعارفت عليه سيرة الهلالية، بجيل اليتامى، من أبناء السلطان حسن ودياب بن غانم، وأبي زيد الهلالي العالم العربي، مشرقًا ومغربًا حتى الأندلس ومداخل أوروبا الجنوبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤