عليكم بيئتكم

وإذا كانت الجزيرة منزل العربية الأول، ومنها خرجت إلى غيرها من منازل ومواطن جديدة، فالخطوة التالية لدرس الجزيرة هي درس الأوطان الجديدة العربية، أو درس عربية المواطن الجديدة.

والبيئة الطبيعية — كما كرَّرنا — بوتقة الدهر، ومختبر الزمن، يُجري فيها تجاربه الإلهية، ويطبع الحياة بنتائج هذه التجارب؛ فتسجِّلها الأحداث، وتخلِّدها الوقائع. وما التاريخ كما بيَّنا، إلا الوصف الصحيح الدقيق لهذا كله، وتاريخ الأدب بعض هذا الوصف الصحيح الدقيق، فالواقع الشاهد يرد الدرس إلى هذه الأصول البيئية الواضحة، ويجعل الأخذ بهذه الفكرة في البيئة كما قلنا، قضية العلم في تاريخ الأدب.

وإذا كان الدرس للبيئة، فأصحابها هم أحق بها وأهلها، يمارسون من ذلك ما هو في أنفسهم، ومنهم، ولهم، وهم أهدى إليه سبيلًا، وأقوم فيه قيلًا.

ولو كانت الفطرة قد خالفت نواميسها في حياة هذه العروبة وحدها، وجعلت من منازلها الفسيحة، ومساكنها المتباعدة وطنًا واحدًا استوى فيه الشرقي والغربي، والسهلي والجبلي، والزراعي والصناعي، فقد كان من الصواب أن تُقسَّم أجزاء هذا الوطن الموحَّد — رغم قوانين الكون وسنن الوجود — إلى قِطَع وأقسام، يقوم كل قبيل من الدارسين بفحص قسم منها، والتوافر المتخصِّص على درسه وتفهُّمه، ولكنك لن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا. وما شذَّت العربية في حياتها عمَّا خضعت لقهره وانقادت لفعله، لغى الدنيا، وشعوب العالم، فخصَّصتها المخصِّصات الإقليمية، واحتكمت فيها عوامل البيئة المادية، فميَّزت فيها أقسامًا تحتاج إلى الدراسة المفردة، وهي التي نريد ليقوم بها كل قوم في خاصتهم، حين ندعوهم «عليكم بيئتكم».

•••

البيئة الطبيعية بحقيقتها، وكما سمعت من وصفها بأنها «بوتقة الدهر ومختبر الزمن»، تمزج العناصر التي تلقي بها الحياة فيها أوثق مزج، وتُخرِج منها ذلك الكائن الذي ألَّفت بين أجزائه قُوًى فوق كل قوة ومقدرة تحتكم في سائر القُدر. وبهذه البيئة الطبيعية لها توجِّه البيئة المعنوية إلى جانب موجهاتها الأخرى. فليس يصح مع هذا كله أن يحاول دارس أدب أو غيره، أن يفصم عُرًى أحكمت وثاقتها يد القدر، فيبتر ماضيًا عن حاضر، أو يصنع مستقبلًا بارئًا منهما! وهكذا ندرك في جلاء أن أمس واليوم قطعتان من الزمن، وأن هذا الغد بقيَّتهما وتمامهما، لو كان الزمن شيئًا يُقطع أو يُتصور مُجزَّأً، ولكنه منيع عن هذا، حتى في الذهن.

وليس لدارس أن يقطع يومه عن أمسه، ويبدأ درسه وفهمه من حيث يريد هو ويحتكم! بل عليه أن يُقدِّر ما أسلفنا من أثر نواميس الحياة في الكائنات التي تنتظمها بيئة واحدة، وتربط بينها أواصر فطرية من صنع يد الله. وأصحاب الفنون والآداب — كما ذكرنا — أحوج الناس إلى تقدير هذا كله؛ لأن فنونهم وآدابهم أشد تأثُّرًا بذلك، بل هي مظهره الجلي البيِّن. وإذن تُدرس البيئة منذ عُرف لها تاريخ على نحو ما بيَّنا من ذلك في بحث أثر الإقليمية في المنهج، وما يتبع في دراسة مصر بخاصة، وعلى مثل ذلك تُدرس البيئات الأخرى كلها (انظر [الأدب المصري]).

فيدرس أصحاب الأدب في مصر بيئتهم، ويدرس أصحاب الأدب في الشام، وفي المغرب، وفي العراق تلك البيئات،١ مقدرين الخصائص الفطرية التي حبتها الطبيعة إياها، ومازتها بها عن سواها؛ فتأثَّر بها قاطنوها، وتأثَّرت جوانب حياتهم المعنوية بتلك المزايا. ثم بغيرها من جوار، ونقلة، واتصال، وأخذ ووراثة … إلى آخر تلك المؤثِّرات على نواحي النشاط المعنوية للجماعة الإنسانية. ويكون ما عرفه أصحاب أولئك البيئات سبيلًا لمعرفتهم، ما نال حياة العربية في منزلها بينهم، حين طرأت على ذلك القديم المستقر والميراث المتلقَّى.

وسيدرك هؤلاء الأدباء بهذا الدرس أن اللغة من حيث هي مادة القول، قد أخذت من لغات الحديث ولهجاته التي خالطتها، وكان لها معها صراع يختلف في كل موطن ومنزل عنه في غيره من المواطن والمنازل، باختلاف القوى الحيوية التي تُسيِّر حياة هذه الجماعة، إذ كانت معنوية البيئة المغربية غير معنوية البيئة العراقية والمصرية … إلخ.

وسيرون أن العربية بذلك قد ماتت فيها كلمات وأُهملت فيها كلمات أخرى، وحُبِّبت إلى المتكلِّمين كلمات غير أولئك. وأن العربية في مصر قد تخلَّفت عنها بفعل الزمن ونواميس الحياة اللغوية لغة عامية خاصة. وسيدرك هؤلاء الأدباء أن أصحاب العربية أنفسهم قد اختلفت قبائلهم وأنسابهم، فيما نزلوه من تلك المنازل؛ فكانت في مصر قبائل، وفي الشام قبائل، وفي المغرب قبائل؛ فغلبت بهذه الكثرة والقلة لهجات من العربية دون لهجات، وكلمات دون كلمات، إذ تبعت أهلها وناطقيها طبعًا.

وسيدرك هؤلاء الأدباء حين يدرسون بيئتهم الخاصة أن أساليب بعينها قد تقبَّلها ذوق الإقليم دون أساليب، وأن فنونًا من القول الأدبي شعره ونثره، قد راجت دون فنون أخرى من ذلك، حين تبع هذا ولا مراء، مزاج أهل الإقليم، وأصحاب البيئة، سواء في ذلك الأوائل الأصليون، أو من سكنوا تلك البيئة من الوافدين الطُّرَّاء عليهم.

وسيكون أهل كل بيئة أقدر — كما بيَّنا — على تتبُّع ذلك وتلمُّسه، واستشفاف الخفي الغامض منه، حين يحتاج تفطُّنه إلى قوة نفسية، ومقدرة وجدانية، هم ورثتها وحملتها.

وسيدرك هؤلاء الأدباء حين يدرسون منطقتهم — في العصر الإسلامي نفسه — أن نصيبها من النشاط الديني والعقلي والأدبي في الإسلام قد تفاوت — ولا بد — عن نصيب غيرها من الولايات أو الأقاليم الإسلامية الأخرى؛ إذا كانت تلك حاضرة دولة عصرًا ما، وتلك لم تكن، وكانت هذه جارةً قريبةً لمستقر السلطان والحكم، حين كانت تلك جارةً بعيدةً نائية، وهكذا.

وما إن ننكر أن لهذه الحضارة الإسلامية أنماطًا مُوحَّدة، وأصولًا عامةً كبرى، قد تأثَّرت بها تلك البيئات المتعدِّدة المتباعدة تأثُّرًا متشابهًا ومتحدًا، يمكِّن من تعميم القول، وإطلاق الحكم. ولكن ذلك هو ما لا نقبل أن يكون مصدر انخداع، يصرفنا عن إدراك الزائد الخاص الذي تفرَّدت به كل بيئة تفرُّدًا ليس هينًا ولا يسيرًا في حساب البحث الدقيق والنظر المتمعِّن.

•••

وبالذي وصفنا من دراسة كل قبيل لموطنهم، مع ما تلتقي فيه تلك المواطن من تأثُّر بالأصول العامة المشتركة، يمكن أن يكوِّن بين أصحاب البيئات المختلفة ألوانًا من التعاون والتفاهم، وتبادل الفوائد الثقافية والنتائج الدراسية، تبادلًا تتوثَّق به الصلة بين تلك الأقطار المتجاورة، والجماعات المتحابة، على أساس من الفهم الصحيح للواقع، لا عن ضرب من الدعوة الساذجة لصلة مبهمة متوسِّعة.

ومن هنا يمكن أن تكون الموضوعات الإنسانية، والمعاني الأدبية العامة، التي عرفها الأدب العربي في تلك المنازل المتعدِّدة، موضع الدراسة المتعاونة بين أصحاب البيئات العربية الإسلامية المختلفة، يبيِّنها كل منهم، ويتحدَّث بها من عرفها إلى غيره من بني عمومته، فيفهم عنه ويستفيد بدرسه.

وستكون الفنون العربية الخاصة التي امتاز بها الذوق العربي الشرقي، وآثرها الوجدان العربي، ونمَّتها الطبيعة الشرقية، وحمتها أصول الحضارة الشرقية، وامتاز بهذا كله الشرق العربي، عن غيره من الغرب أو الشرق غير العربي، ستكون مثل هذه الفنون وموضوعاتها مادة درس، يتعاون فيه الأدباء وأصحاب هذه اللغة على اختلاف دورهم، ويتناقلون بينهم نتائجه وثمراته.

وسيكون أعلام الأدب الذين اتصلوا بأكثر من بيئة، وتجاوبوا مع أكثر من إقليم — وهم غير قليلين في رجال هذا الأدب — سيكونون موضوع درس مشترك إلى حد ما، يحسن فيه التآزر، وتتوزَّعه أقاليم. فأبو نواس عراقي اتصل بمصر، وأبو تمَّام ذو صلة بمصر، وقد اتصل بغيرها من البيئات، والمتنبي نزيل مصر قد أشأم وأعرق. ومن هنا يكون أولئك الرجال وأمثالهم موضوع درس بين أصحاب هذه البيئات، يستكملون بتوزيعه فهم هؤلاء الرجال، وتحليل فنهم، أولى من أن يتحدَّثوا جميعًا عنهم حديثًا معادًا مكرَّرًا، يعيد فيه آخرهم ما أبداه الأول، وردَّده قبله غير واحد.

•••

وعلى هذا تكون فكرة الإقليمية في الأدب عاملًا منظَّمًا لتوزيع الدرس، وتقاسمه بين الدارسين، فتتحد بذلك الدراسة الأدبية للتراث العربي، وتعمق نظرات دارسيها، كما ستكون فكرة البيئة دافعةً إلى تلمُّس النواحي المشتركة من قرب أو بعد، بين أولئك الأقربين الذين تمتهم قرابات قريبة، ووصلتهم بالدنيا وشائج عامة، فيتعاونون تعاونًا مجديًا، يخصِّص كل نشاط بعمل، لا تعاونًا مكرَّرًا، يتواردون فيه على الغرض الواحد، ويرمون به الهدف الواحد، فيُضيعون من القوى ما كان خليقًا بأن يوجَّه إلى جانب آخر من الغاية، ويبتغي طرفًا من الهدف، فيكون العمل أكمل، والمعرفة أمكن.

كما أن هذه الفكرة سترسِّخ الشعور بالشخصية في نفس أصحاب الإقليم، وتدفعهم إلى المشاهدة المتمعِّنة في أنفسهم، والفحص المتعمِّق لذواتهم، فيتناولون من درسها ما هم أقدر عليه وأبصر به، ويخرجون بنتائج تزيد معرفة هذه الوحدة بنفسها، ومعرفة الباحثين بحقيقتها وقوتها وطاقتها، فتتكوَّن بذلك مجموعة من المعرفة الأدبية لهذا التراث الفني وغيره، تفصيلية كاملة، لا معرفة مجملة عامة، لمجموعٍ مؤلَّف من قُوى عدة، تستحق كل واحدة منها الدرس المتخصِّص، الذي تتطلَّبه الحياة العلمية الجادة الطامحة. فإذا ما اكتملت هذه المعرفة بوحدات هذه الكثرة، وحدةً وحدة، فقد تهيَّأ سبيل المعرفة المكتملة المجموع المؤتلف منها، وعاد التقسيم والتفصيل كما قلنا، عاملًا من عوامل الاتحاد المؤسَّس، والتماسك القائم على دعائم.

•••

وهنا نسمع الحريصين على التقوِّي بالوحدة العربية يخافون خطر التمزُّق إذا ما احترمنا هذا الواقع، وقدرنا أثر البيئة، يخافون أن يذهب كل قوم بعصبيتهم التاريخية، فيذهبون معها باتجاههم الأدبي غير العربي؛ فتنبت بذلك الأواصر التي تربط هذه الأقاليم ذات الصلة بالعروبة، والتي تعمل — من أجل الحياة — على توثيق صلاتها، وتقوية روابطها.

وهذا الذي يخشونه ويقولونه يُحوجنا إلى الوقوف ثانيةً عنده هنا في شيء من الأناة، أكثر من الوقفة القصيرة التي أشرنا فيها قبل الآن إلى جملة الرأي عند حديثنا في رد دعاوَى أصحاب الوحدة التامة، التي تنكر تميُّز إقليم عن آخر قد استعمل العربية، واتصل بها (انظر [الأدب المصري – إقليمية الأدب – حول الإقليمية]).

نقف هنا لنقول لهم: أمَّا ما تخشونه من ذهاب كل إقليم مع عصبيته التاريخية؛ فيذهب أهل مصر مع الفرعونية ودعاتها، ويذهب أهل الشام مع الفينيقية ودعاتها، وأهل العراق مع الآشورية مثلًا، وأهل المغرب مع البربرية، وتلك أمنية المستعمر الغاصب؛ فهذا ما نخشاه أشد من خشيتكم له، ونؤثر أن نبرأ من كل دراسة لأدب، أو فن، أو علم، إن كانت منتهيةً بنا يومًا ما، بل لحظةً ما، إلى شيء من ذلك؛ يمكِّن للمستعمر، ويهيِّئ للغاصب!

نقف هنا ونحن نحدِّث عن معالم المنهج الصحيح لدراسة الأدب وتاريخه، على توزيع إقليمي، يُقدِّر البيئة وأثرها؛ نقف لنقول لهم إن هذا التصحيح الذي أسلفناه للمنهج كافٍ وحده كل الكفاية لإفساد هذه الفكرة ودحضها وتسفيه الدعاة إليها، فهذا الذي ندعو إليه ونؤيده من فكرة الإقليمية، وأساس البيئة، خليق بأن يُلقم هؤلاء الفراعنة أو الفينيقية أو الآشورية أحجارًا! ألم تروا كيف وصفنا البيئة بأنها بوتقة الدهر ومختبر الزمن، وأنه يجري فيها مزج العناصر وتأليف الأجزاء، وأننا من أجل هذه المشاهد من فعل القدر، لا يد لنا بإنكار البيئة الطبيعية المادية، ولا بالتخلُّص من آثار البيئة المعنوية؛ فهل ترون الذين يصفون البيئة هذا الوصف، يستطيعون أن يفهموا، بل أن يقبلوا كيف بقي عنصر فذ مستعصٍ خارج عن الناموس، لا ينفعل، ولا يتأثَّر، ولا يمازج العناصر التي أذابتها وإياه قوة الوجود في بوتقة الدهر؟!

وهل تروننا حين ننكر عليكم أن تكون العربية يوم طرأت على إقليم من الأقاليم كمصر، قد خلصت من التأثُّر بما لقيته في هذا الإقليم ممَّا قرَّره الزمن، ورسَّبته السنون، وركزته الأجيال؛ هل تروننا حين ننكر عليكم ذلك إنكارًا علميًّا، ونذودكم عنه، بل نذود عنه أنفسنا نحن، وما ينازعها إليه من وراثة وثقافة، وميول قريبة قوية، نعود فنسلِّم لأصحاب الفرعونية أن هذه الفرعونية قد قامت في مختبر الزمن حجر عثرة، بل معدِن عثرة عَصِي على قوى الحياة فلم ينفعل بشيء ممَّا طرأ عليه قبل العربية، ولا تأثَّر بشيء ممَّا جاءته هذه العربية، به من مزاجها ودمها ودينها و…، و… إلخ؟!

أحسب أن تصحيحنا للمنهج على هذا الوجه كافٍ أوفى الكفاية لأن يدفع في صدور أصحاب الفرعونية، ويردعهم ردعًا علميًّا نزيهًا، لا يتحدَّث عن الهوى، ولا يشير إلى التعصُّب، ولا يندِّد بالشهوات والرغبات والمنافع، بل ينطق في ذلك بلسان العالِم المجرِّب دون غيره. فإنا نُذكِّرهم بأن وجود غيره مبطل لدعوى توحُّده.

يا أصحاب العروبة المتحكمة، ويا أصحاب الفرعونية المزعومة، ثم يا أصحاب أمثال هذه النزعات في الأقاليم المختلفة، إنما ندعو إلى الوحدة البيئية، والشخصية الإقليمية التي مزجت عناصرها كف الرحمن، وألَّفت أجزاءها سنن الكون، فكانت كائنًا موحَّدًا مهما تتعدَّد عناصره، وتتنوَّع أجزاؤه، قد حفظت له البيئة وطبيعة الإقليم ووحدة التاريخ شخصيته الواضحة، وكِيانه الثابت. فحُقَّ على الذين يفهمونه ويدرسونه أن ينظروا إليه في هذا الكِيان وتلك الشخصية، من أجل ذلك قلنا إننا إنما نتحدَّث عن الأدب المصري، وندرس الشخصية المصرية، والمزاج المصري، وهي الشخصية الواضحة، والمزاج المتميِّز، مع ما يطرأ عليه من عوامل المخالطة والمصاهرة، والمفاجأة والمداخلة، فيتمثَّل ذلك ويتغذَّى به، كما يتمثَّل الحي ويتغذَّى بما يدخل جسمه من ألوان الغذاء، وعناصر النماء؛ ليحفظ بها شخصه ووجوده. وإن تأثَّر بشيء من ذلك، فهو التأثُّر الذي يستطيع الفاحص تبيُّنه ووصفه وتدوينه، في حياة كل أمة، وشخصية كل جماعة عُرف لها طابع، وادُّعيت لها شخصيته وكِيانه.

إذن نحن إنما نتحدَّث عن مصر والمصرية، بما ائتلف من هذه المصرية في فعل الزمن بعناصر تداخلت، ودماء تمازجت، وقُوًى تواصلت، فرعونيةً كانت وغير فرعونية، من شرقية عربية، أو سامية، وغربية يونانية، أو رومانية. ولسنا دعاة عنصر من هذه العناصر وحده دون غيره، ولا المتعصِّبون للون من هذه الألوان وحده دون غيره، فإنا نُذكِّرهم بأن وجود غيره مُبطل لدعوى توحُّده، ومشاركته غيرَه مفسدة للتمسُّك بتفرُّده، وأصحاب الفرعونية في إنكار ما بعدها مبطلون، كإبطال أصحاب العروبة في إنكار ما قبلها سواءً بسواء، ولا فضل لواحد منهم على صاحبه في حساب المنهج المحدَّد وأسلوب الدرس المنصِف، كلهم غير صائب.

•••

وإذن فالأصل الذي بنيت عليه فكرة الإقليمية يبطل بذاته وجوهره دعوة الفرعونية، ومثلها من الآشورية والفينيقية والبربرية، ويبقى بعد ذلك أننا حين ندرس هذا العصر الأخير والدور المماثل في حياة أمة من هذه الأمم، التي اتصلت بالعروبة فتركت لها العروبة لغةً وفنًّا نقلت إليها دينًا وتقاليد؛ لن نستطيع إنكار هذه الصلة الشاهدة القائمة التي نجمع مواد درسها ونقف جهدنا عليها. وقبل الآن قلت إن الذي ينكر مصرية مصر تُكذِّبه أهرامها وما إليها من سواطع ماضيها، والذي ينكر عروبة مصر يُكذِّبه لسانها، وتنادي على خطئه مآذنها. مصر إذن ليست إلا هذا كله، قد ألَّفت منه بيئتها وشخصيَّتها وذاتيَّتها.

«فإذا لزمتم بيئتكم؛ فما حول الأدب — ثم الأدب — ثم تاريخ الأدب».

وإذا أدرك كل قبيل أنهم من بيئتهم منذ أول الدهر، وقد ربطهم القدر بها، وكتب تاريخهم فيها، حتى ما تفهم صلتهم ببعيد عنهم، أو قريب لهم، في خارجها إلا على هدًى من تاريخها، ونور من ماضيها، فلا بد إذن من أن يرتبط كل درس لحياتهم في جوانبها المختلفة بهذه البيئة، التي تُوجِّه بواقعها الطبيعي المادي حياتهم، وتلوِّن بهذا الواقع المادي كل نشاط معنوي لهم فيها.

وعلى أساس ما بَيَّنا من منهج مُصحَّح، تُدرس الحياة الأدبية في كل بيئة من البيئات المتميِّزة المنحازة، من حيث هي جانب من حياة العربية بعد الإسلام، إن يتفق مع سائر الجوانب والنواحي، فإنه لا بد أن يمتاز ويختص بشيء له في اللغة وأدبها وفنها، ما دمنا إنما أقمنا تقسيم البيئات — كما كرَّرنا ذلك مرارًا — على أساس من الفواصل المادية والفوارق الفطرية.

وتتوزَّع هذا الدرس وحدات جيش المعرفة في البيئة، فإذا ما ذهب أهل الأدب والتاريخ الأدبي ليدرسوا تلك الحياة الأدبية، على الأسلوب الدقيق الذي وصفناه قبل الآن — فيما ناقشنا من أمر المنهج الأدبي ونُظمه قديمًا وحديثًا — وجب أن نبدأ هذه الدراسة بالنظر فيما سمَّيناه «ما حول الأدب»، أو «ما لا بد منه لفهم الفن الأدبي».

وإذ ذاك يجب أن تقوم بهذا الدرس الوحدة المختصة به، وأن يلتمسه أصحاب الأدب عند أهله كاملًا دقيقًا، مفصَّلًا عميقًا. ففيما حول الأدب يجب أن نعرف الشعب الذي سكن تلك البيئة عن طريق دراسة جنسية شعبية مُفصَّلة، وندرس البيئة المادية دراسةً إقليميةً مفصلةً كذلك، على أن نطلب ذلك كله عند أصحابه، والمتفرِّغين له، من المتصدِّين للدراسة الجغرافية وما إليها، لا أن نقوم به على صورة ناقصة وتناول قاصر؛ لأن أصحابه الأوَّلين قد شُغلوا عنه بغيره من دراسة أوروبا وأمريكا، في انصراف عن الواجب القومي، الذي ينبغي أن يُحكم في البرامج والدراسات، لتكون كلية الآداب في مصر مصريةً لمصر قبل كل شيء آخر، بل دون شيء آخر لو أمكن ذلك.

وفيما حول الأدب يجب أن نعرف البيئة المعنوية في مظاهرها المختلفة التي بيَّناها في الخطوة الثانية من معالم المنهج، فتعرف أكثر ما يمكن أن يُعرف عن الحياة العلمية في فروعها المختلفة. فالحياة الفنية في ألوان الفنون المتعددة، والحياة الاجتماعية بأوسع ما تشمله من نشاط المجتمع، فرديًّا، أو أُسريًّا، وجماعيًّا، واقتصاديًّا، أو سياسيًّا وعمليًّا … إلخ. على أن نطلب ذلك كله كذلك عند المختصين به والمتفرِّغين له، من أصحاب الدراسة التاريخية وما إليها، لا أن نقوم به نحن بصورة ناقصة، وتناول قاصر، كالذي وصفناه في الدراسة الجغرافية؛ لأن أصحابه الأولين قد شُغلوا عنه بغيره من دراسة، أو قد تناولوا منه جوانب وأهملوا جوانب. فإذا ما تيسَّر لطلبة الأدب أن يقصدوا إلى قسم الجغرافيا وإلى قسم التاريخ وإلى غيرها من الأقسام، أو أن يتفضَّل عليهم أساتذة هذه الأقسام، بما فيه وفاء حاجتهم من هذه المواد التي لا بد منها ليستطيعوا التقدُّم إلى فهم النصوص الأدبية، التي هي — كما قلنا — لون من الفنون لا تُفهم إلا بعد فهم ما سواها؛ إذا ما تيسَّر ذلك كانت الكلمة للواجب القومي، وكانت المنفعة العلمية الموجودة قريبة التحقُّق.

وبعد الإلمام بهذا يتقدَّم أصحاب الأدب لفهم النصوص الأدبية بعد جمعها المستوعب الشامل، على أن يتأثَّلوا ما لا بد منه لهذا الفهم من خبرة بالنفس الإنسانية، يلتمسونها كذلك عند أهل هذه الدراسة المختصين بها، وهنا نشعر أنه لا بد أن يُدرس قسم الفلسفة دراسةً نفسيةً وافية، يكون من بين فروعها علم النفس الأدبي، الذي وصفنا ما نحتاج إليه منه، في الحديث عن البلاغة وعلم النفس، أو الأدب وعلم النفس، والتفسير وعلم النفس، فإذا ما ظفروا بذلك كله على وجه مرضٍ من مقاومة وحدات الجيش العلمي، كان العنصر نصيب هذا الجيش المتماسك المُوحَّد، الذي يُصوب إلى هدف واحد، هو رفع مستوى حياة وطنه وإقليمه الذي هو أعرف الناس به، وأقدر الناس على فهمه، وأعظمهم واجبًا أمامه، وأوفاهم بحقه عليه.

ومن فهم الأدب بهذه الوسائل كلها استطاع بلا مراء أن يؤرِّخ الأدب هذا التأريخ المرجو، الذي حدَّثنا عنه من قبل، فوصف سير الحياة الأدبية، وأثر النواميس الكونية فيها وصفًا دقيقًا صحيحًا جديرًا بأن يسمى تاريخ الأدب، ويُقسم أقسامًا وأدوارًا على أساس مفهوم سليم، لا يؤخذ عليه شيء ممَّا أخذناه على التقسيم الزمني السياسي الذي لا وجه له، ولا دلالة فيه، إلا على أيسر العوامل تأثيرًا في حياة الأدب والأدباء.

•••

ولا يحسبنَّ أبناء الشرق الذين هم أحوج الناس اليوم إلى التواصل والتعاون، أننا بهذا التوزيع العلمي الذي تلزمهم فيه بيئتهم، نقطع عليهم طريق هذا التواصل والتعاون في درس البيئات، كلا؛ فقد بيَّنا لهم في الخطوتين السابقتين من معالم هذا المنهج، أن منهما ما لا يقوم إلا على التعاون، كدراسة الجزيرة العربية، ومنهما ما يتحقَّق به التعاون المثمر بين وحدات قوية الشخصية، واضحة الشعور بنفسها. وقد تكرَّر هذا المعنى وبُيِّن في الخطوة الثانية، بما أصبح القول بعده ملتحقًا باللغو العابث.

ولكنا رغم ذلك نعود لنبيِّن أن هذه الدراسة الخاصة للبيئة على النظام السابق للمنهج، تُحوج أهل كل بيئة إلى التعاون مع من حولهم، وتكشف لهم هذه الحاجة عن روابط وصلات، قد توثَّقت فيما مضى بين بيئاتهم وأسلافهم فيها.

فبدراسة ما حول الأدب في ماضي البيئة، سنعرف بما كان من هذه الروابط الجنسية والعملية بين هاتيك الأقطار، كما أن دراسة ظواهر الحياة المعنوية ستكشف أيضًا عما كان في هذه المعنويات من تأثير وتأثُّر وتبادل وتفاعل. فإذا ما كان العصر الإسلامي وقصدوا إلى درسه، فقد قلنا إن هذا العصر يصل بينهم بروابط متشابهة، تتكامل معرفتها بالدراسة الخاصة في كل بيئة؛ فالعقائد وما إليها من الدينيات، والشرائع وما إليها من المذاهب، وكتاب الدين وما يتصل به من علوم، والسنة وما حولها من معارف، كل أولئك وما إليهم روابط تشابه تصل بينهم، وتحملهم على تبادل النتائج في درسها، ومثل هذا ممَّا ينبغي أن يتم التعاون عليه، بعقد المؤتمرات، والانتفاع بما يصل إليه أصحاب كل بيئة من الحقائق والمعلومات، حتى إن هذه الدراسة لا تكتمل على وجهها الصحيح إلا إذا وُزِّعت هذا التوزيع واتصلت هذا الاتصال. ألم تر أن المذهب المالكي مثلًا قد كان في الحجاز، ومصر، والعراق، والأندلس؟ فلو درسه شخص، هذه كلها لما استوفى ولا أوفى، ولو درس كل قبيل بيئتهم حق الدرس؛ لعرفوها في المذهب وعرفوا المذهب فيها، واستعان كل قوم بمعرفة إخوانهم على استكمال معرفتهم؛ فعُرفت بعد ذلك حياة هذا المذهب معرفةً صحيحةً مفصلةً كاملة. وقِس على هذا المثال الفقهي غيره من المثالات الاعتقادية والنِّحَل، والعلوم القرآنية في تاريخ القرآن وموضوعاته، والسنة في روايتها ودرايتها. وهكذا يكون هذا التقسيم كما أسلفنا توزيعًا مصلحًا للدرس، معينًا على النفاذ العميق فيه، كما يكون في الوقت نفسه منظَّمًا للتعاون، مسدِّدًا طريقه، مبيِّنًا النواحي المحتاج إليها منه، لا دعوةً مبهمة، وعملًا مشتركًا غير منسق، ومكرَّرًا غير متخصِّص.

والأمر فيما حول الأدب وفي الأدب وتاريخه على هذا المثال تمامًا، وقد سبقت الإشارة إليه، وبات القول بعد ذلك بأن الإقليمية تقطع أواصر الارتباط بين هذه الأمم، أو توهن صلاتها اللغوية، والدينية، والأدبية المشتركة كما باطل الأساس، وقولًا بالهوى لا حجة عليه ولا شبه حجة له. بل اتضح من الإقليمية أنها تؤدي إلى عكس ذلك تمامًا، على حين تصحِّح الفكرة الأدبية كما تصحِّح المنهج الأدبي.

ولو شئت بعد التفصيل أن أضع بين يدي القارئ خلاصة ذلك كله، حتى لا يضطرب عليه الرأي، ولا يشق عليه الحكم أو النقد.

١  وفي تقسيم هذه البيئات وتمييزها تكون الكلمة للعلم الطبيعي، يحدِّدها ويقسِّمها؛ فقد يضم بعضها إلى بعض، ويفصل بعضها عن بعض، وما ألتزم أنا من ذلك كله إلا أن مصر بيئة خاصة لها تميُّز واضح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤