خليل مطران شاعر الحرية

١٨٧٢–١٩٤٩
figure

شاعر الحرية والعروبة، حمل لواء التجديد في الشعر، نيفًا ونصف قرن من الزمان، وبلغ الذروة في عالم الشعر والفن والبلاغة والخيال.

وُلِد سنة ١٨٧٢ في بعلبك إحدى المدن الشهيرة بلبنان، ونشأ نزَّاعًا إلى الحرية سمحَ النفس، كريم الخلق، صفيَّ السيرة، محبًّا للخير، وديعًا في شَمَم وإباء، معتزًّا بكرامته، عيوفًا عن الصغائر.

ضاق صدرًا منذ صباه بجوٍّ يضغط على حرية الرأي والفكر، فارتحل إلى باريس يُتمِّم فيها دراسته وعلومه، وهناك ارتوى من مَناهل الآداب الغربية، وإذ كانت شاعريته وليدة فطرته وسليقته، فقد اتجهت نفسه بتأثير الأدب الفرنسي إلى التجديد في شعره، فجمع بين البلاغة العربية والأساليب والمعاني الأوروبية.

ثم هاجَر إلى مصر، واتخذها موطنه الثاني، بل موطنه المختار.

أخلص لها، وغرَّد في أكنافها، وتعشَّق نيلها وأرضها وسماءها، وهو ثالث الثلاثة الذين عاشوا معًا وانتهت إليهم زعامة الشعر في العصر الحديث؛ شوقي وحافظ ومطران.

ألهمه حبُّ الحرية نظمَ القصائد الرائعة في تمجيدها والذود عنها، والجهاد في سبيلها، فكان من أعلامها الخالدين.

كان إنسانًا في شخصه وفي أخلاقه وفي شعره وأدبه.

كان في شعره يَنشُد الكمال، ويحلِّق في أجواء الحرية والوطنية.

كان يستلهم شعره من المُثل العليا، وفي ذلك يقول عن نفسه في الاحتفال بيوبيله الذهبي سنة ١٩٤٨:

كان في الشعر لي مرامٌ خطيرُ
فعدا طوقيَ المَرامُ الخطيرُ
هائم في الوجود أسأله الوحـ
ـيَ كما يسأل الغنيَّ الفقيرُ
أكبَروني ولست أُكبِر نفسي
أنا في الفن مُستفيدٌ صغيرُ
لا يَضِق صدرُ شاعر بأخيه
يكره الفضلُ أن تضيق الصدورُ
والسموات لو تأمَّلتَ فيها
ليس تُحصى شموسُها والبدورُ
كل جِرم يعلو ويُصبِح نجمًا
فله حيِّز وفيه بدورُ
والنجوم التي تلوح وتخفى
ربَواتٌ وما يضيق الأثيرُ

وبهذه الروح العالية والنفس الصافية والود الخالص والإيثار والأريحية، عاش محبوبًا من مُعاصِريه؛ يُحِبهم ويُحِبونه، وينشُد لهم الخير والكمال.

وقد أرَّخ في شعره الوطني العذب مراحل النهضة المصرية والشرقية، وسجَّل حوادثها ووقائعها، وترجم لرجالها وأشخاصها، وغذَّى بقصائده الروح الوطنية جيلًا بعد جيل.

يمتاز شعره بسعة الخيال وجمال التصوير وبلاغة التعبير، هذا إلى اقتباسه من آداب اللغة الفرنسية التي درسها وتمكَّن منها تمكُّنه من آداب اللغة العربية، فجمع بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، وهو زعيم مدرسة التجديد في الشعر العربي، وسار على نهجه تلاميذه ومُريدوه.

وقد عبَّر أبلغ تعبير وأرَقَّه عن منهج التجديد في شعره، بقوله في مقدمة الطبعة الثانية لديوانه سنة ١٩٤٨ قال:

هذا شعري، وفيه كل شعوري، هو شعر الحياة والحقيقة والخيال، نظمتُه في مختلف الآونة التي تخلَّيتُ فيها عن العمل لرزقي، نظمتُه مُصبِحًا ومُمسيًا، مُنفردًا ومُتحدثًا مع عُشرائي، وقيدتُ فيه زفراتي وأحلامي، وسجلت بقوافيه أحداث زماني وبيئتي في دقة واستيفاء.

أُتابِع السابقين في الاحتفاظ بأصول اللغة، وعدم التفريط فيها، واستيحاء الفطرة الصحيحة، وأتوسع في مذاهب البيان مُجاراةً لما اقتضاه العصر، كما فعل العرب من قبلي. أما الأمنية الكبرى التي كانت تجيش بي، فهي أن أُدخِل كل جديد في شعرنا العربي بحيث لا يُنكَر، وأن أستطيع إقناع الجامدين بأن لغتنا أم اللغات إذا حُفِظت وخُدِمت حق خدمتها؛ ففيها ضروب الكفاية لتُجاري كل لغة قديمة وحديثة في التعبير عن الدقائق والجلائل من أغراض الفنون، وإني لَأرجو أن يرى المُطلِعون على هذا الجزء الثاني وما يليه من أجزاء «ديوان الخليل» مصداقًا لدعواي.

وقال عنه صِنوه وصديقه حافظ يُشيد بنزعته في التجديد:

هو في طليعة أولئك الذين خرجوا من أفق التقليد وصدَّعوا قيود التقييد، وأوسعوا صدر الشعر العربي للخيال الأعجمي، وأفسحوا فيه للقصص وتصوير الحوادث، وطوَّفوا بسرد وقائع التاريخ، ففتح بذلك فتحًا جديدًا شن فيه الغارة على أهل الحفاظ والتمسيك.

وكان من أركان المسرح العربي بما كتب لهذا المسرح وعرَّب؛ فقد ترجم ليالي ألفريد دي موسيه، ورواية هرناني لفكتور هيجو، كما ترجم لكورنيل مسرحيات «السيد» وسينا وبوليكت، وترجم روايات شكسبير؛ هاملت، ومكبث، وعطيل، وتاجر البندقية.

النهضة العربية

قال سنة ١٩٠٨ يُحيي نهضة الشعوب العربية:

داعٍ إلى العهد الجديد دعاكِ
فاستأنِفي في الخافقَين عُلاكِ
يا أمة العرب التي هي أُمنا
أي الفَخار نمَيتِه ونماكِ؟
يمضي الزمان وتنقضي أحداثه
وهواك منَّا في القلوب هواكِ
إنا نُقاضي الدهرَ في أحسابنا
بالرأي لا بالصارم الفتَّاكِ
ومِلاكُ شِيمتنا الوفاء فإنه
لِسعادة الأقوام خيرُ مِلاكِ
آمالُنا آلامُنا، أرواحُنا
أشباحُنا يومَ الفداء فِداكِ
بالعلم ننشر ما انطوى من مَجدنا
وبه نُزكِّي في الورى ذِكراكِ

مطران ومصطفى كامل

كان بينه وبين الزعيم مصطفى كامل صداقةٌ وودٌّ داما طول العمر، كان مُؤيدًا لدعوته نصيرًا لرسالته، دافَع عنها في حياة مصطفى، وظل وفيًّا لها بعد وفاته، ويبدو مبلغ إعجابه به وتقديره لعبقريته في قصيدته التي أنشدها سنة ١٩٠٨ في حفلة الأربعين لوفاته، وقد نشرها في ديوانه وصدَّرها في طبعته الأولى بهذه الكلمة التي تُعَد في ذاتها قصيدة من النثر المنظوم، قال: «مُصاب الشرق في رجُله المفرد، وبطله الأوحد، مصطفى باشا كامل، أيتها الروح العزيزة! إن في هذا الديوان الذي أختتمه برثائك نفحات من نفحاتك، ودعوات من دعائك، فإلى هيكلك المدفون بالتكريم تحية الأخ المُخلِص للأخ الحميم، ووداع المُجاهد المتطوِّع للقائد العظيم.»

وجعل عنوان القصيدة «حق الوطن وحق الإخاء» قال:

أعلى مكانتَك الإلهُ وشرَّفا
فانعم بطِيب جواره يا «مصطفى»
اليومَ فُزتَ بأجرِ ما أسلفتَه
خيرًا وكلٌّ واجدٌ ما أسلفا
وجُزيتَ مِن فاني الوجود بخالد
ومن الأسى الماضي بمُقتبَل الصفا

•••

أعظِمْ بيومك في الزمان ومن له
بك واصفًا ذاك الجلالَ فيُوصفا
حيث الوفود من المَلائك أقبلوا
حافِين حولك في السرير وعُكَّفا
وتحمَّلوك على الأشعة وارتقوا
سِربًا يجوز بك الدراري مُوجِفا
فوردتَ وِردك في الخلود منعَّمًا
والأرض مائدة عليك تأسُّفا
لم تُلفَ قبلك أمةٌ في مشهد
يذْرو الرجالُ به المدامعَ ذُرَّفا
يمشون مِن حول الجنازة ضائقًا
بهم الرحيبُ من المَسالك مَصرفا
مُتثاقِلين من الوقار وإنما
ساروا بطَيفٍ ناحل أو أنحفا
بحرٌ من الأحياء نعشُك فوقَه
فُلكٌ يظلِّله اللواء مُرفرِفا
يبكون في آثاره العلَم الذي
آثارُه من رفعة لا تُقتفى

•••

سعَت الخوادرُ حاسراتٍ والأسى
مُلقٍ على الأبصار سِترًا أغدفا
ولئن سفرنَ ولم يخَلنَ فإنه
خَطبٌ ألانَ برَوعه صُم الصفا
فزِع الشباب إلى الشيوخ بثأرهم
من دمعهم إن خانهم مُتكفكِفا
ومن الغضاضة أن دعا داعي العُلا
بعد الفقيد فتًى بهم فتوقَّفا
جزع النصارى واليهود لمسلم
هو خير مَن والى وأوفى مَن وفى
بكَوا المرجَّى في خلافٍ عارض
ليُزيل ذاك العارض المتكشِّفا
واشتد رُزء المسلمين وحزنهم
لما مضيتَ ولست فيهم مُخلِفا

•••

مَن بعدَ كاتبهم وبعدَ خطيبهم
يُعلي لهم صوتًا وينشر مصحفا؟
من يُبرئ الإسلامَ مِن تُهَم العِدى
ويردُّ نقد الناقدين مزيَّفا؟
يُبدي لأعيُن جاهليه فضله
ويُزيل ما يلدُ التناكر من جفا
ويُثير من غضب الغضاب لمَجده
هِممًا تُعيد له المقام الأشرافا
لكن من أعلام جندك حوله
سُمرًا تهزُّ لكل خَطبٍ مَعطفا
ولعل حرًّا لا يدين به انبرى
ليذود عنه خصمه المتعسِّفا
قِف أيها الناعي عليه جمودَه
فلقد تجاوزتَ الهدى مُتفلسِفا
إن يعترِ الشمسَ الكسوفُ هنيهةً
أيكون مَنقصةً لها أن تُكسَفا؟
وهل الكسوف سوى تعرُّض حائل
يَثني أشعتها إلى أن يُكشَفا
لم تنزل الأديان إلا هاديًا
للعالمين ورادعًا ومثقِّفا
بشعارِ حيَّ على الفلاح وما بها
أن قصَّر الأقوام عنه فأخلفا
وبكلِّ أمرٍ موجبٍ إصلاحَهم
أن خالَفوه فما استحال ولا انتفى
قد كان للإسلام عهدٌ باهر
فلَنا به هذا الرُّقي مُسلَّفا
ملأ البلاد إنارةً وحضارة
ومُنَى السماحة عوده مُستأنَفا
فالخير كل الخير فيه مُقبلًا
والشر كل الشر أن يتخلفا
يدعو البقاء إلى التكافؤ بالقوى
بين العناصر أو يهين ويضعفا
والخلق جسمٌ إن ألمَّ ببعضه
سقَمٌ ولم يُتلافَ عمَّ وأتلفا
بشرى البرية بعد مُزمِن دائها
بسلامة الإسلام وهي لها شفا
إن أغضبَت تلك السلامة جائرًا
أرضَت خبيرًا بالحياة ومُنصِفا
يا من نهضتَ بنصره وأبَنتَه
حق الإبانة هل تُبالي مُرجِفا؟
ما زلتَ في مصر تُقيم منارَه
حتى أنار الكون منها مُشرِفا

•••

مصرُ العزيزةُ قد ذكرتُ لك اسمها
وأرى ترابك من حنين قد هفا
وكأنني بالقبر أصبح مِنبرًا
وكأنني بك مُوشِك أن تهتفا
مصرُ التي لم تحظَ من نُجبائها
بأعزَّ منك ولم تعزَّ بأحصفا
مصر التي لم تبغِ إلا نفعَها
في الحالتَين مُلاينًا ومعنِّفا
مصر التي غسَلَت يداك جِراحها
بصبيب دمعك جاريًا مستنزَفا
مصرُ التي كافحتَ لدَّ عُداتها
متصدِّرًا لرُماتها مستهدِفا
مصر التي سُقتَ الجيوش مناقبًا
ومُنًى لتكفيَها المُغِير المجحِفا
«مصر التي أحببتَها الحب الذي
بلغ الفداء نزاهةً وتعفُّفا»
«حتى مضيتَ كما ابتغيتَ مؤلِّفًا
من شملها ما لم يكُن ليؤلَّفا»
أمنيةٌ أعيَت خلالك دونها
لو لم يُضافِرها رداك فيُسعِفا
وهي التي لو قُسِّمت لَنما بها
شعبٌ يعزُّ بنفسه مُستنصِفا

•••

مَن كان أجرأَ منك يوم كريهة
بالحق لا شكِسًا ولا متصلِّفا
مَن كان أقدرَ منك تصريفًا لما
يُعيي الحكيم مدبِّرًا ومصرِّفا
من كان أطهرَ منك خُلقًا جامعًا
فيه مَهيبَ الطبع والمُستظرَفا
من كان أزهد منك إلا في الذي
يُجدي البلادَ فتبتغيه مُلحِفا
من كان أسمع منك منَّاعًا لما
تهوى ومِعطاءً لغيرك مُسرِفا
من كان أصدق منك لا متنصِّلًا
مما تقولُ ولا تُعاهِد مُخلِفا

•••

لَهفي على فخر الصِّبا هادي النُّهى
عالي اللواء حمى المروءة والوفا
يا مَن نعى تلك الفضائل والعُلا
أغدَت مَعالمهنَّ قاعًا صفصفا
لا لا وحقِّك يا شهيد وفائه
ورجائه كذبَ النعيُّ وأرجفا
ما أنت بالرجل الذي يُمسي وقد
مُلِئ الوجود به ويُصبِح قد عفا
إني أراك ولا تزال كعهدنا
بك في جهادك أو أشد وأشعفا
ثابِر على تلك العزائم ذائدًا
عن مصر تضرب في البلاد مطوِّفا
أصدِر صحائفك التي تُحيي بها
نِضو الطريق وتدفع المتخلِّفا
تجري بها الأنهار وهي دوافقٌ
هِممًا وتُوشِك أن تطمَّ فتجرفا
وتكاد أسطُرها تهبُّ نواطقًا
ويكاد يعزف كلُّ حرف مَعزفا
فإذا حنوتَ على الحِمى متحبِّبًا
فهو النسيم وقد ذكا وتلطَّفا
وكأنما الألفاظ مما خفَّفت
نقشَ المدادُ رسومها وتخفَّفا
تُستام من أثوابها أرواحُها
وتعافُ تحلية لئلَّا تُكشَفا
قم للخطابة في المجامع وامتلِك
تلك النفوس مروِّعًا ومشنِّفا
أعِد القديم من الممالك والقرى
ذكرى وعرِّفنا الحياة لنعرفا
شدِّد عزائمنا وقاتِل ضعفنا
حتى نبيتَ ولا نرى متخوِّفا
ما هذه الآيات يَرمي لفظُها
شررًا وتهوي الشهب فيها أحرُفا
ما ذلك الترصيع ليس مرصَّعًا
ما ذلك التفويف ليس مفوَّفا
وحيٌ بأهجية إذا ما أطلقَت
هبطت رواسبَ عنه والمَغزى طفا
تُحيي حرارتُها ويهدي نورُها
متماهِل الإشراق أو متخطَّفا
تالله ما أنت الخطيب وإنما
وقَف القضاء من المنصة موقِفا
عن نطقِه تقعُ الصروف مواعظًا
وكأمرِه أمرُ الزمان مصرَّفا

•••

يا حبذا لو كلُّ ذلك لم يزَل
لكنه حُلمٌ مضى مستطرَفا
والآن نحن لدى ثراك نحجُّه
مُتلهِّبين تشوقًا وتشوُّفا
نُثني وهل يوفَى ثناؤُك حقَّه
وبأي ألفاظ المحامد يُكتفى
ماذا يُعيضك من شبابك نظمُنا
فيك الرثاءَ منسَّقًا ومصفَّفا
ويُعيض منك وكنت جوهرة الحِمى
صوغُ الكلام مرصَّعًا ومُزخرَفا

•••

يا أخلص الخُلصاء أبكي بُعده
كبكاءِ مصر تحرُّقًا وتلهُّفا
هذا مثالُك لاحَ يرعانا وقد
كشف الجوى عنه الحجاب فأشرفا
جاد الهلال برسمه تاجًا له
وكسَته ناسجةُ الطهارة مُطرَفا
يا من رماه عداته بتطرُّف
حققتَ آمال الهدى متطرِّفا
«كهواكِ للأوطان فليكُن الهوى
لا مفترًى فيه ولا متكلَّفا»
يجري على قدر المطالب ناميًا
ويجلُّ في مجراه عن أن يصدفا
أنشأتَ من مصر الشتات بفضله
مصرَ الفتاةَ حِمًى يُعِز ومَألفا
أحدثت فيها أمة أندى يدًا
للصالحات وبالعظائم أكلفا
عرَّفتَ أهليها حقيقة قدرهم
وكفاهمُ من قدرهم أن يُعرَفا
نفحاتُ روحك خامرَت أرواحهم
فهُمُ مرامُك ساء دهر أو صفا
حصنٌ أشمُّ تساندَت أجزاؤه
علمًا وأمَّنه النُّهى أن يُنسَفا
فارقُد رقادك إن ربَّك قد محا
بك ذنبَ مصر كما رجوتَ وقد عفا

وله في سنة ١٩٣٣ قصيدة عصماء ألقاها لمناسبة مرور عام على وفاة حافظ إبراهيم، ضمَّنها وصفًا رائعًا للنهضة القومية التي كوَّنت حافظًا، وجعلته الشاعر المطبوع المُترجِم عن آمالها وآلامها، وكيف أن هذه النهضة هي غرس مصطفى كامل، وكيف تعهَّدها بجهاده إلى أن مات، وبموته كانت الآية التي تم بها استقرارها، قال فيها:

طرأتْ حالةٌ تيقَّظ فيها
لدعاة الهدى ضميرُ السوادِ١
فإذا «حافظ» وقد بثَّ ما في
نفسه من تجهُّم واربدادِ
وبدا للمُنى الجلائلِ فيها
أفقٌ واسع المَدى لارتيادِ
ما تجلَّى نبوغُه كتجلِّيـ
ـه وقد هبَّ «مصطفى» للجهادِ
يوم نادى الفتى العظيم فلبَّى
مَن نَبا٢ قبلَه بصوت المُنادي
وورى٣ ذلك الشعور الذي كا
ن كمينًا كالنار تحت الرمادِ
فتأتَّى بعد القنوط الدَّجُوجـ
ـي٤ رجاءٌ للشاعر المجوادِ
مسَّ منه السوادَ فانبجست نا
ر ونور من طيِّ ذاك السوادِ
أكبرَ الدهرُ وثبةً وثبَتها
مصرُ مفتكَّة من الاصفادِ
وثُغاءٌ٥ غدا هزيمًا٦ فألقى
رُعبه في مَرابض الآسادِ
ما الذي أخرج الشجاعة من حيـ
ـث طوَتها قرونُ الاستبدادِ
وجَلا غُرة الصلاح فلاحت
تزدهي من غياهبِ الإفسادِ
فإذا أمةٌ أبية ضيم
ما لها غير حقها من عَتادِ
نهضَت فجأةً تُنافِح في آ
نٍ عدوَّين أسرفا في اللدادِ
أجنبيًّا ألقى المَراسيَ حتى
تُقلِع الراسيات في الأطوادِ
وهوانًا كأنما طبع الشعـ
ـبَ عليه تقادمُ الإخلادِ
حلبةٌ يُعذَر المقصِّر فيها
والخواتيم رَهن تلك المَبادي
ليس تغييرُ ما بقوم يسيرًا
كيف ما عُوِّدوه من آمادِ؟
غير أن الإيمان كان حليفًا
لقلوب الطليعة الأنجادِ
فاستعانوا به على ما ابتغوه
غير باغين من بعيد المرادِ

إلى أن قال:

بعد وثبٍ في إثر وثبٍ عنيف
وارتداد في الشوط غِبَّ ارتدادِ
ساوَر الأمةَ الترددُ والتَا
ث٧ عليها في السير وجهُ الرشادِ
لا تسَل يومذاك عن جلَد القا
دة في مُلتقى الخطوب الشدادِ
كلما ازدادت الصعاب أبَوا إلا
كفاحًا وعزمُهم في ازديادِ
يبذلون القوى وفوق القوى غيـ
ـر مُبالين أنها لنفادِ
و«الزعيمُ الأبرُّ» أطيبهم نفـ
سـًا عن النفس في صِراع العوادي
هل يُنجِّي شعبًا من اليأس إلا
حدثٌ من خوارق المُعتادِ
مصطفى مصطفى بحسبك إن يُذ
كَر فداءٌ أن كنتَ أول فادي
مصطفى مصطفى لِيَهنئك أن أحـ
ـييتَ قومًا بذاك الاستشهادِ
دب فيهم روحٌ جديد له ما
بعده في القلوب والأخلادِ٨
تنقضي الحادثات بعدك والرُّو
ح مقيمٌ فيهم على الآبادِ
كاد يومٌ شُيِّعتَ فيه يريهم
لمحةً من جلال يوم المعادِ
صدروا عنه بالتعارف فيما
بينهم وهو قوة الأعدادِ
واستشفوا لبأسهم فيه سرًّا
كم تَحامى أن يُدرِكوه الأعادي
هذه مصر الفتية هبَّت
في صفوفٍ فتيَّة للذيادِ
رجلٌ مات مُخلِفًا منه جيلًا
رابط الجأش غير سهل المقادِ
عهد نور من الحفاظ ونار
بعد طول الخمود والإخمادِ
تَخذَت عبقريةُ الشعر فيه
سُلمًا للعروج والإصعادِ
أبلغَت «حافظًا» من الحظ أوجًا
زاد منه العلياء كل مرادِ

إزاحة الستار عن تمثال مصطفى كامل

وله في سنة ١٩٤٠ قصيدة عن مصطفى كامل نظمها لمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله بعد أن ظل حبيسًا في «مدرسة مصطفى كامل» من سنة ١٩١٤، قال:

أمِنوا بموتك صولة الرئبالِ
ماذا خشوا من فتنة التمثالِ؟
حبسوه عن مُقَل إليه مَشوقة
فاضت أسًى ودموعهن غوالي
حتى أرادت مصر غير مرادهم
وجلاء من أوفى بَنيها جالي
أتُهيئ استقلالَ قومك جاهدًا
وتُذادَ عنهم يوم الاستقلالِ؟
أُنصفتَ بعض الشيء بل هي توبة
في بدئها ولكل بدء تالي
فلقد تئوب وجدُّ غيرك عاثر
فيما ادعى صلفًا وجدك عالي
يا حُسن عَودك والكنانة حرة
تلقاك بالإكرام والإجلالِ
أيروعك الحشد الذي بك يحتفي
من غُرِّ فتيانٍ وصيد رجالِ
ماذا بثثتَ من الحياة جديدة
في هذه الآساد والأشبالِ
بعثٌ لموطنك العزيز رجوتُه
وسواك يحسبه رجاءَ مُحالِ
خاطرتُ فيه بالشباب وبذلُه
سرفٌ لمطلوبٍ بعيدِ نوالِ

•••

أيْ مصطفى! ولَّت سنونُ وما اشتفى
شوقي إليك فهن جِدُّ طوالِ
عجبٌ بقائي بعد أكرم رفقة
زالوا ولم يشَأ القضاء زوالي
هم صفوة الدنيا وكانوا صفوها
فأحقُّ حيٍّ بالأسى أمثالي
حزنٌ بعيد الغَور في قلبي فإن
وجب الرثاء فإنما يُرثى لي
ماذا أقول وهذه أسماؤهم
وشخوصهم ملء الزمان حيالي
تعتادني في مسمعي أو ناظري
وإلى يميني تارة وشمالي
إني لَأحفظ عهدهم وأصونه
في كل حادثة ولست بآلي
وكأن حسيَ حسهم فرحًا بما
يقضي الحِمى من حقهم ويُوالي
كم في مَغارسهم جنًى ألفيته
متجدِّدًا بتعاقبِ الأحوالِ
سلوى أتاحَتها مَآثرهم وقد
يغدو الفراق بها شبيه وصالِ
وكذاك مَجد العبقرية والفدى
لا ينقضي بتحولِ الأحوالِ

•••

أيْ مصطفى ما كنت إلا كاملًا
لو كان يتصف امرؤ بكمالِ
ماذا لقيت من الصِّبا ونعيمه
غير المكاره فيه والأهوالِ
إني شهدت شهادة العينَين ما
عانَيت في الغدوات والآصالِ
متطوِّعًا تسخو بما يُفني القوى
من جهد أيام وسهد ليالي
إذ قمتُ بالأمر الجسام ولم يكن
فيمن أهبت بهم مُجيب سؤالِ
حال التورع دون إغراء المُنى
زمنًا نما من مُسعِد ومُوالي
والقوم في ظمأ ووعدك مطمع
لكن يرَون له رفيف الآلِ
تسعى ويعترض السبيلَ قنوطهم
في كل حِلٍّ منك أو ترحالِ
فتظل تضرب في جوانبه وما
تُلقي إلى نظر الحبوط ببالي
لك دون ما تبغي مضاءُ مصمِّم
لا ينثني وبلاءُ غيرِ مُبالِ
حتى إذا وضح اليقين وصدَّقت
دعواك آيةُ ربك المتعالي
فثويتَ أظهر ما تكون على عدى
مصر بعقبى دائك المُغتالي

•••

هزَّت مَنيتك البلاد ولم تكن
بأشد منها هزةُ الزلزالِ
فالقوم من جزع عليك كأنهم
آلٌ وقد رُزئوا عزيزَ الآلِ
كشف الأسى لهم الحجاب فأيقنوا
أن الحياة مَطالب ومَعالي
وتبيَّنوا أن الخنوع مهانة
لا يُستطال بها مَدى الآجالِ
لله حُسن بلائهم لما أبَوا
متضافِرين دوامَ تلك الحالِ
وتوثَّبوا بعزيمة مصدوقة
برئَت من الأحقاد والأوجالِ
يَرِدون حوضًا والمنايا دونه
مستبسِلين ضروبَ الاستبسالِ
حتى أُتيحَ الفتح يجلو حسنه
في يومه إحسان يوم خالي
فتحٌ بدا اسمك وهو في عنوانه
متخضِّبًا بدم الشباب الغالي
إيهًا شديد الحب للبلد الذي
لا أنت ساليه ولا هو سالي
أبهِجْ بأوبتك السَّنية طالعًا
في أفقه كالكوكب المتلالي
للذِّكر آفاق سحيقات المدى
ولزهرها المتألقات مجالي
فإذا دنت منَّا فتلك عوالم
وإذا نأت عنَّا فتلك لآلي
تطوي من الأدهار ما لا ينقضي
وتجول في الأفكار كل مجالِ
أنوار وجهك طالَعَتنا اليوم من
برجٍ حللتَ به لغير زيال
قد أثبتَتها مصر بين عيونها
فالحال مُتصِل بالاستقبالِ
نعم الثواب لذي مآثر في الفدى
فرضَت محبته على الأجيالِ

•••

فِتيان مصر وعهدها غير الذي
عانَته في الأصفاد والأغلالِ
حيُّوا مُديل حياتها من يأسها
ومُذلِّل الآلام للآمالِ
حيُّوا زعيم اليقظة الأولى بها
وخطيب ثورتها في الاستهلالِ
هذي مَواكبها وتلك وفودها
في مُلتقًى ذي روعة وجمالِ
حفلت برمز نهوضها ومثاله
ما لا تُداني صنعة المثَّال
لكنها مُهجٌ بنَته ولم تكن
إلا ذرائعها فضول المالِ
وكفاه فخرًا أن ذاك المال لم
يكُ مكسَ جابٍ أو تطوُّل والي
رسمٌ يلوح وفيه معنى أصله
فيروع بين حقيقة وخيالِ
لان الحديد له فصاغ لعَينه
أثرًا على الأيام ليس ببالي
كم في بليغ سكوته من عِبرة
أوفى وأكفى من فصيحِ مقالِ
هو خالد ويظل مِدرهَ قومه
في كل نازلة وكلِّ نِضالِ

تحيته للمجاهدين في المؤتمر الوطني ببروكسل سنة ١٩١٠

ونظم في سنة ١٩١٠ قصيدةً ناجى فيها الوطنيين الأحرار الذين اغتربوا عن مصر لحضور المؤتمر الوطني الذي عُقِد برئاسة المرحوم محمد فريد بمدينة بروكسل في سبتمبر سنة ١٩١٠، وقال:

أتُراه فوق مناكب الأدهارِ
شفقٌ تخلَّف عن بديعِ نهارِ٩
حقبٌ دجَت منها السُّفوح ولم يزَل
فوق الذُّرى منها بريقُ نضارِ١٠
يا مغرب الماضي أمَا من آية
فتعود في سحَر من الأسحارِ؟
هذا صباحٌ مُقبِل من غيبه
فتبيَّنوه يا أولي الأبصارِ
تجد العيون على نواصي أفقه
ضوءًا تألَّق من وراءِ ستارِ
سحَر الرجاء بدا لكم وإزاءَه
شفق البقية من عُلًا وفَخارِ١١
شقَّان من حَليٍ أغرَّ تصوغه
تاجًا لمصر أناملُ المقدارِ١٢
تاجٌ ستلبسه الفتاة مخلَّفًا
عن أمها في سالفِ الأعصارِ
ويكون من آياته وشُعاعه
آيات مَجد رجالها الأخيارِ

•••

نُجباءَ مصر الواترين لعِزها
وجلالها من ذلة وصغارِ١٣
خُوضوا غمار الضيم دون رجائكم
لا فوز إلا بعد خوضِ غمارِ
ما شاء سعدُ الدار أن تشقَوا له
فاشقَوا له ما شاء سعدُ الدارِ
إن شقَّ ترحالٌ فهذي هجرةٌ
لا شُقةٌ١٤ في مثلها فبدارِ
سِيروا تتموا في الحياة فطالما
كان التقاعس مُؤذِنًا ببوارِ
ما اللُّج وادَع أو تشاكَس حارنًا
إلا ذلول الراكب الكرَّارِ١٥
ما البَر أنجد أو أغار بِجائب
إلا سليب خُطًى ونهبُ قطارِ١٦

•••

ركبَ النجاة استطلِعوا لبلادكم
في الغرب كلَّ مطالعِ الأنوارِ
هُزوا منابره بعالي صوتكم
حتى يرنَّ صداه في الأقطارِ
أنتم جنود السِّلم رُسل جهاده
أنتم أشعة مصر في الأمصارِ
أنتم أشعة حزمها شفَّافةً
عن حزنها والنورُ بثُّ النارِ
ترجون أن تحيَوا وتحيا مصركم
حق الحياة وما بها من عارِ
لا تسأمون تغربًا في مُبتغًى
أسمى الهنَات وأشرفَ الأوطارِ

•••

«الحُكم شورى لا تفرُّد صالحٌ
في غير حُكمِ الواحدِ القهارِ»
لا تسترقُّ عشيرةٌ وديارُها
لعشيرةٍ غلَّابةٍ وديارِ
العدل إن يُقصَد فليس بكائن
في نُكر معرفة وغصبِ جوارِ
الرأي تكمد شمسُه في موطن
متناقِضٍ الإعلانِ والإسرارِ
الخير تُفقَد سُبله في مجمع
متعارِضِ الإقبال والإدبارِ

•••

ماذا عليكم أن تكون شعاركم
هذي المطالبُ وهي خيرُ شعارِ
لستم بسفَّاكي دمٍ لستم إلى
غير الحقيقة طامحِي الأنظارِ
لستم غلاة والأقل مرامكم
بين الشعوب السُّبَّق الأحرارِ
لستم غلاةً خال ذلك منكمُ
من لم يخَلكم من ذوي الأخطارِ١٧
ليس الذي تبغونه من مطلب
إلا أحقَّ مَطالبِ الأحرارِ
من لم يخل في مصر عبدًا شاكيًا
في فترة التفكير والإضمارِ
أجزِعْ بسارٍ آمنٍ في معهد
وثبَت عليه فجاءةُ التَّزآرِ١٨

•••

إني لَيُعجبني كبيرُ مرامكم
وهو الحقيق بغاية الإكبارِ
وأقول للمُزري بسنِّ صغاركم
ليس العظيمُ نفوسُهم بصغارِ
«أمُهاجري أرض الكنانة إنكم
وجميعُ من فيها من الأنصارِ»١٩
امضوا دعاةً للهدى واستنصِفوا
بالحق للبلد العزيز الجارِ
كونوا الشهود له على أعدائه
برجوعِ شمسِ نهارِه المُتواري

الثبات في الكفاح

وقال لما زاد اضطهاد الحكومة للأحرار وسلَّطَت قانون المطبوعات على الصحف:

شرِّدوا أخيارها بحرًا وبرَّا
واقتلوا أحرارها حرًّا فحرَّا
إنما الصالح يبقى صالحًا
آخرَ الدهر ويبقى الشر شرَّا
كسِّروا الأقلام هل تكسيرها
يمنع الأيديَ أن تنقش صخرا؟
قطِّعوا الأيديَ هل تقطيعها
يمنع الأقدام أن تركب بحرا؟
حطِّموا الأقدام هل تحطيمها
يمنع الأعيُن أن تنظر شزرا
أطفِئوا الأعيُن هل إطفاؤها
يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا؟
أخمِدوا الأنفاس هذا جهدكم
وبه مَنجاتنا منكم فشكرا!

وقال في هذا المعنى حين توعَّدَته الحكومة بالنفي من مصر على أثر نشره الأبيات السابقة:

أنا لا أخاف ولا أُرجَّى
فرَسي مؤهَّبة وسرجي
فإذا نبا بيَ متنُ بَر
فالمطية بطنُ لُجِّ
لا قول غير الحق لي
قولٌ وهذا النهج نهجي
الوعد والإيعاد ما كانا
لديَّ طريق فلجِ٢٠

يُحيي رأس السنة الهجرية

ونظم سنة ١٩١١ قصيدة عصماء حيَّا بها العام الهجري ١٣٢٩، خاطَب فيها شباب مصر ودعاهم إلى الاعتبار بما في هجرة الرسول الكريم من المعاني الجليلة، والأغراض السامية، وأهاب بهم أن يُضاعِفوا جهودهم لبعث الحياة في مصر والشرق، قال:

هلَّ الهلال فحيُّوا طالعَ العيد
حيُّوا البشير بتحقيقِ المواعيدِ
يا أيها الرمز تستجلي العقول به
لحكمة الله معنًى غيرَ محدودِ
كأن حُسنك هذا وهو رائعنا
حُسن لبكرٍ من الأقمار مولودِ
«لله في الخلق آياتٌ وأعجبُها
تجديدُ رَوعتها في كل تجديدِ»

•••

فِتيانَ مصر وما أدعو بدعوتكم
سوى مُجِيبين أحرارًا مناجيدِ٢١
سوى الأهلَّة من علمٍ ومن أدب
مؤمِّلين لفضلٍ غيرِ مجحودِ
المُستسِر شعار المقتدين به
العاملين بمغزًى منه مقصودِ٢٢
ما زال من مبدأ الدنيا يُنبِّئنا
أن التمام بمسعاة ومجهودِ
فإن تسيروا إلى الغايات سيرته
إلى الكمال فقد فُزتم بمنشودِ

•••

يا عيدُ جئتَ على وعدٍ تُعيد لنا
أولى حوادثك الأولى بتأبيدِ
بل كنتَ «عيدَين» في التقريب بينهما
معنًى لطيفٌ يُنافي كلَّ تبعيدِ
رُدِدتَ يومًا يُسَر المؤمنون به
ولم تكُن بادئًا يومًا لتعييدِ

•••

رسالةُ الله لا تُنهى بلا نصَبٍ
يُشقي الأمينَ وتغريبٍ وتنكيدِ
رسالة الله لو حلَّت على جبل
لاندكَّ منها وأضحى بطنَ أُخدودِ
ولو تحمَّلها بحرٌ لَشبَّ لظًى
وجفَّ وانهال فيه كلُّ جُلمودِ
فليس بدعًا إذا ناء الصَّفي بها
وبات في ألمٍ منها وتسهيدِ
ينوي الترحُّل عن أهل وعن وطن
وفي جوانحه أحزانُ مكبودِ
يكاد يمكث لولا أن تدارَكه
أمرُ الإله لأمرٍ منه موعودِ

•••

فإذ غلا القوم في إيذائه خطَلًا
وشرَّدوا تابعيه كلَّ تشريدِ
دعا الموالين إزماعًا لهجرته
فلم يُجِبه سوى الرهط الصناديدِ
مضى هو البدء والصِّديقُ يصحبه
يُغامِر الحزن في تيهاءَ صَيخودِ٢٣
مولِّيًا وجهه شَطر «المدينة» في
ليلٍ أغرَّ على الأدهار مشهودِ
حتى إذا اتخذ الغارَ الأمينُ حِمًى
ونام بين صفاه نومَ مجهودِ
حماه وشيٌ بباب الغار مُنسدِل
من الأُلى هدَّدوه شرَّ تهديدِ٢٤
يا لَلعقيدة والصِّديقُ في سهَر
تُؤذيه أفعى ويبكي غيرَ منجودِ
«إن العقيدة إن صحَّت وزلزلَها
مُفني القُرى فهى حصنٌ غيرُ مهدودِ»
أما الصِّحاب الذين استأخروا فتلَوا
سارين في كل مَسرًى غيرِ مرصودِ
ما جند قيصر أو كسرى إذا افتخروا
كهؤلاء الأعزاء المطاريدِ٢٥
كأنهم في الدُّجى والنجمُ شاهِدهم
فرسان رؤيا لشأنٍ غيرِ معهودِ
كأنهم وضياءُ الصبح كاشِفهم
آمالُ خيرٍ سرَت في مهجةِ البيدِ
في حيطة الله ما شعَّت أسنَّتهم
فوق الظِّلال على المُهرية القُودِ

•••

عانى «محمد» ما عانى بهجرته
لمَأربٍ في سبيل الله محمودِ
وكم غَزاةٍ وكم حربٍ تجشَّمها
حتى يعود بتمكين وتأييدِ
«كذا الحياة جهادٌ والجهاد على
قدر الحياة ومَن فادى بها فُودِي»
أدنى الكفاح كفاحُ المرء عن سفَهٍ
للاحتفاظ بعمرٍ رهنِ تحديدِ
ليغنم العيش طَلقًا كل مُقتحَم
ولْيبغِ في الأرض شقًّا كلُّ رِعديدِ
ومن عدا الأجلَ المحتوم مطلبُه
عدا الفناء بذِكرٍ غيرِ ملحودِ

•••

لقد علمتم وما مِثلي يُنبِّئكم
لكنَّ صوتيَ فيكم صوتُ ترديدِ
ما أثمرَت هجرةُ الهادي لأمَّته
من صالحاتٍ أعدَّتها لتخليدِ
وسوَّدَتها على الدنيا بأجمعها
طوال ما خلُقَت٢٦ فيها بتسويدِ
بدا وللشِّرك أشياعٌ تُوطِّده
في كلِّ مَسرحِ بادٍ كلَّ توطيدِ
والجاهليون لا يرضَون خالقهم
إلا كعبدٍ لهم في شكلِ معبودِ
مؤلِّهون عليهم من صناعتهم
بعضَ المعادن أو بعضَ الجلاميدِ٢٧
مستكبِرون أُباة الضَّيم غُر حِجًى
ثقالُ بطشٍ لِدان كالأماليدِ٢٨
لا ينزل الرأي منهم في تفرُّقهم
إلا منازلَ تشتيتٍ وتبديدِ
ولا يضمُّ دعاءٌ من أوابدهم
إلا كما صِيحَ في عُفرٍ عباديدِ
ولا يُطيقون حُكمًا غير ما عقدوا
لذي لواء على الأهواء معقودِ

•••

بأيِّ حلمٍ مُبيد الجهل عن ثقة
وأيِّ عزمٍ مُذِل القادة الصِّيدِ
أعاد ذاك الفتى الأميُّ أمَّته
شملًا جميعًا من الغُر الأماجيدِ
لَتلك تاليةُ الفرقان في عجَبٍ
بل آية الحق إذ يُبغى بتأكيدِ
صعبان راضَهما؛ توحيد معشرهم
وأخذُهم بعد إشراكٍ بتوحيدِ
وزاد في الأرض تمهيدًا لدعوته
بعهده للمسيحيين والهودِ
وبدئه الحُكم بالشورى يتمُّ به
ما شاءه الله عن عدل وعن جودِ
هذا هو الحق والإجماع أيَّده
فمن يُفنِّده أَولى بتفنيدِ

•••

أيْ مُسلمي «مصر» إن الجِد دينكم
وبئس ما قيل: شعبٌ غيرُ مجدودِ
طال التقاعس والأعوام عاجلة
والعام ليس إذا ولَّى بمردودِ
هُبُّوا إلى عمل يُجدِي البلاد فما
يُفيدها قائل: يا أمَّتي سُودي
سعيًا وحزمًا فودُّ العدل ودُّكم
وإن رأى العدلَ قومٌ غيرَ مودودِ
تعلَّموا كلَّ علم وانبغوا وخذوا
بكلِّ خُلقٍ نبيهٍ أخذَ تشديدِ
فكُّوا العقول من التصفيد٢٩ تنطلقوا
وما تُبالون أقدامًا بتصفيدِ

•••

««مصر» الفؤاد فإن تُدرِك سلامتها
فالشرق ليس وقد صحَّت بمفئودِ»٣٠
الشرق نصف من الدنيا بلا عمل
سوى المتاع بما يُضني وما يُودي
والغرب يرقى وما بالشرق من هِمَم
سوى التفاتٍ إلى الماضي وتعديدِ
تشكو الحضارة من جسمٍ أشلَّ به
شطرٌ يُعَد وشطرٌ غيرُ معدودِ

•••

أبناء «مصر» عليكم واجبٌ جلَلٌ
لبعثِ مَجدٍ قديم العهد مفقودِ
فليرجع الشرق مرفوعَ المقام بكم
ولتُزهَ «مصر» بكم مرفوعةَ الجِيدِ
ما أجمل الدهر إذ يأتي وأربُعُنا
حقيقة الفعل والذِّكرى بتمجيدِ
والشرق والغرب مِعوانان قد خلصا
من حاسدٍ كائد كيدًا لمحسودِ
صنوان برَّان في علم وفي عمل
حُران من كلِّ تقييد وتعبيدِ
لا فِعلَ يُخطئ فيه الخيرَ بعضُهما
إلا تدارَكه الثاني بتسديدِ
ولا خصومة إلا في استباقهما
لما يعمُّ بنفعٍ كلَّ موجودِ
هذى الثمار التي يرجو الأنام لها
من رَوضكم كلَّ نامٍ ناضرِ العودِ
لمصر والشرق بل للخافقَين معًا
دع زعمَ كلِّ عدوِّ الحق مرِّيدِ٣١

•••

جُوزوا على بركات الله عامَكم
فقد تبدَّل منحوسٌ بمسعودِ
رجاؤكم أبدًا ملءُ النفوس فما
يُنفى بحسنى ولا يُوهَى بتهديدِ
بدا الفلاح وفي هذا الهلال لكم
بشرى التمام لوقتٍ غيرِ ممدودِ
غدًا نرى البدر في طِرسِ السماء محا
بخاتم النور زلَّاتِ الدُّجى السودِ

يُحيي بعثة الأطباء إلى حرب طرابلس

وقال سنة ١٩١١ يُحيي بعثة الأطباء المصريين الذين ارتحلوا إلى ليبيا لمعاونة المجاهدين العرب الذين قاوَموا العدوان الإيطالي:

سِيروا على بركات الله واغتنِموا
أجر الجهاد وأجر البِر بالناسِ
ليَشفِ مِبضعُكم والرفقُ يُعمِله
صدع الرصاص وجرح الصارم القاسي
لَهفي على شُوس٣٢ أبطال تَلوكهمُ
غولُ الردى بين أنياب وأضراسِ
كانوا وقد ركِبوا للحرب أبهج ما
ترى العيون غياضًا فوقَ أفراسِ
واليوم قد عثَروا تندى نضارتُهم
ندى الجفاف وتخبو شعلةُ الباسِ
كُونوا لهم إن شكَوا إخوانَ تأسية
وإن هم استوحشوا إخوانَ إيناسِ
رُدوا على الوطن الباكي أعزَّته
ودافِعوا الموت عنهم دفعَ أكياسِ٣٣
فإن أسقامهم في كل جارحة
منا وآلامهم في كلِّ إحساسِ
لله مَسعاتكم والحق يشكرها
والخَلق يذكرها ترديدَ أنفاسِ
مَبرةٌ طهُرَت أرواحُكم وسمَت
بها مراتب فوق الضيم والياسِ
خُوضوا المصاعب لا يُلمِم بأنفسكم
ما قد تُلاقون من ضر ومن باسِ
هذا الهلال لكم رأدَ النهار هدًى
وفي اعتكار الدياجي خيرُ نبراسِ
وإن في ظلِّه النادي برحمته
لَبَلسمًا لجراح القلب والراسِ
أيْ عصبةَ الخير داوُوا أبرياءَ هوَوا
صرعى مطامعَ قُواد وسُواسِ
لو صوَّر الله في جسمِ امرئٍ ملَكًا
لَصوَّر الملَكَ الإنسيَّ في آسٍ٣٤

عتب وطني

وقال سنة ١٩٢٠ يعتب على أحرار مصر في موقف تردد:

إن تكونوا حُماتها وبنيها
ما لتلك الذئاب تعتسُّ فيها؟٣٥
أفترضَون أن تهون عتيدًا
بعد ذاك الإباء في ماضيها؟
«تلك أوطانكم تُباع عليكم
صفقةً بخسةً فمن مُشتريها؟»

رثاؤه لمحمد فريد

ونظم قصيدة رائعة في رثاء الزعيم الشهيد محمد فريد سنة ١٩١٩، قال:

أفريدُ لا تبعد على الأدهار
أنت الشهيد الخالدُ التذكارِ
بالأهل بالدم بالرفاهة بالغنى
فدَّيت مصر وفُديَت من دارِ
حرَّرتَ نفسك دائبَ المَسعى إلى
تحريرها لتعزَّ بعد صغارِ
مسترسِلًا والدهر في إقباله
مستبسِلًا والدهر في الإدبارِ
ثبتًا إذا ما الراسخون تقلقلوا
مُتوافِق الإعلان والإسرارِ
فبرَرتَ بالعهد الذي عاهدته
ووفَيتَ في الإيسار والإعسارِ
ما كان ذاك العمر إلا قُربة
موصولةَ الآصال بالأسحارِ
ومن المُنى ما ليس يُوفى حقه
حتى يكون الجُود بالأعمارِ

فريد ومصطفى:

إني لَأذكُر مصطفى ورفيقَه
في مستهلِّهما وفي الإبدارِ
متوخِّيًا إعتاقَ مصر كلاهما
وكلاهما لأخيه خيرُ مُباري
وكلاهما يسعى الغداةَ مذلِّلًا
سُبل النجاح لمُقتفي الآثارِ
وكأن مصر حيالَ كلِّ مُخاطِر
إذ ذاك في شغل عن الأخطارِ
في قلبها حب الحياة طليقة
لكنها تخشى أذى الإظهارِ
وضميرها آنًا فآنًا يُجتلى
فيُرى كما اقتدح الزنادَ الواري
عرفا حقيقتها وبثَّا بثها
ثقة وما كانا من الأيسارِ
لم يلبثا مُتآزِرَين بِنِية
مصدوقة في خفية وجهارِ
حتى إذا ما أيقظا إيمانها
فذكا ذكاء النور قبل النارِ
أبدَت أساها يومَ فارَق مصطفى
هذا الجوار ورام خيرَ جوارِ

فريد رئيسًا للحزب الوطني:

ذهب الرئيس فنِيطَ عبء مقامه
بالأنزَه الأوفى من الأنصارِ
أفريد هذا الشأو قد أدركتَه
وسبقَت مَن جاراك في المضمارِ
فتقاضَ أضعافَ الذي قدَّمتَه
واستسقِ صوبَ العارض المدرارِ
إن تلتمس جاهًا أصِب ما تشتهي
أو رفعةً فاظفَر بالاستيزارِ
والشرق يقبَل قد علمت مِن الأُلى
يتحملون غرائبَ الأعذارِ
الشعب شِبهُ البحر لا تأمن له
ما أمنُ مُقتعدٍ متونَ بِحارِ
فغدًا ويا حذرًا لمثلك من غد
قد تستفيق ولات حين حذارِ
يسلو الأُلى عبدوك أمس وربما
كُوفِئت من عُرف بالاستنكارِ
فتبيتُ صفرَ يدٍ وكنت مليئها
وتذوق كلَّ مرارةِ الإقتارِ
لكن أبيتَ العرض إلا سالمًا
وإن ابتُليت بشقوة وضرارِ
لم تعتقد إلا الولاء وقد أبى
لك أن تُلبيَ داعيَ الإخفارِ
وسموتَ عن أن يستميلك خادع
بالمنصب المُزجَى أو الدينارِ
«فظللتَ مبدؤك القويم كعهده
عند الوفاء وفوق الاستئثارِ»
تزداد صدقَ عزيمة بمِراسه
ورسوخ إيمان بالاستمرارِ
ما إن تبالي ساهرًا مترصِّدًا
يرنو إليك بمُقلةِ الغدارِ
يجني عليك لغير ذنب باغيًا
والبغي جنَّاء على الأطهارِ
من كان جارُ السوء يومًا جارَه
عُدَّت فضائله من الأوزارِ

فريد في السجن:

قُل للرئيس إذا مررتَ بسجنه
إن السجون مَعاهدُ الأحرارِ
«وافيتَه طوعًا ورأيك ثابت
أن اعتقالك مُطلَقُ الأفكارِ»
إن يحجبوك فإن فكرك رافع
نورًا تُضاء به سبيلُ الساري
كم تحجب الظلمات طودًا شامخًا
فيلوح فوق ذُراه ضوءُ منارِ
إنا لَنسمع من سكوتك حكمة
ونرى هدًى في وجهك المُتواري
وإذا النفوس تجرَّدَت لمرامها
غنيَت عن الأسماع والأبصارِ
حاشاك أن تأسى وهل تأسى على
علم بأن التِّم بعد سِرارِ
الأنبياء انتابَهم زمنٌ به
لزموا التفرد عن رضًا وخيارِ
لجئوا إلى الخلوات واحتبسوا بها
شظِفي المَعايش لابسي الأطمارِ
مُستجمِعين مُروِّضين قلوبهم
لقيام دعوتهم على الأخطارِ
ومن الغيابات التي أمسوا بها
بعثوا الهدى كالشمس في الإزهارِ
سَل مُوحِشًا في طور سينا سامعًا
كَلِم المهيمن في اصطعاقِ النارِ
سَل طيف جلجلة يكاد من الطوى
يسمو به راقٍ من الأنوارِ
سَل خاليًا بحرًا يُلبي ربه
في الغار عن صرعاته في الغارِ
بالعزلة اكتملوا ورُب مُروِّض
للنفس حرَّرها بالاستئسارِ
لا شيء أبلغ بالدعاة إلى المُنى
من أن تُمحِّصهم يدُ المقدارِ

فريد في طريق المنفى:

لم يكفِه ما كان حتى جاءه
ما فوق غلِّ الجِيدِ والإحصارِ
«النفي بعد السجن تلك عقوبة
أعلى وأغلى صفقة للشاري»
«يسمو بها السجن القريب جداره
شرفًا إلى سجن بغيرِ جدارِ»
لا يترك الجاري عليه حكمه
إلا ليُدرِكه القضاء الجاري
أيُّ السفائن تستقل كأنها
إحدى المَدائن سُيِّرت ببخارِ
ينأى بها عن أهله ورفاقه
دامي الفؤاد وشيكَ الاستعبارِ
ينبو ذُرا البلد الأمين بمثله
والزاحفات أمينةُ الأجحارِ
متلفِّتًا حين الوداع وفي الحشى
ما فيه من غُصَص ومن أكدارِ
متشبِّعًا متروِّيًا مما يرى
لشفاء مَسغبة به وأُوارِ
يرنو إلى صُفر الشواطئ مُنطِقت
أعطافها بالأزرق الزخارِ
ويذوب قبل البَين من شوق إلى
أُنْس الحِمى وجماله السحارِ
يستاف ما تأتي الصَّبا بفضوله
من طِيب تلك الجنة المعطارِ
وبسمعه لحن المواطن جامعًا
لغةَ الأنيس إلى لُغى الأطيارِ
لهفي عليه مشرَّدًا قبل الردى
سيهيم في الدنيا بغيرِ قرارِ
من أجل مصر يؤم كلَّ مُيمَّم
في قومه ويزور كلَّ مَزارِ
لا يومَ يسكن فيه من وثبٍ ومَن
بسكينةٍ للكوكب السيَّارِ؟
في غربةٍ موصولةٍ آلامُها
أنضَته في الرحلات والأسفارِ
تنتابه الصدمات لا يشكو لها
إلا شكاة المِحرَب الكرَّارِ
ثقة بأن الفوز ليس لجازع
في العالمين، الفوزُ للصبَّارِ
وتعضُّه الفاقات لا يلوي بها
عزًّا ويسترها بسترِ وقارِ
حرصًا على المُتطوِّلين بفضلهم
أن يجنحوا وجَلًا إلى الإقصارِ

فريد في مرضه:

ما كان هذا الحد حد عذابه
تُردي الأسودَ ضرورةُ الأخدارِ
صال الشقاء على فريدٍ صولة
بين الجوانح أنذرَت ببوارِ
قصرَت لياليه على مجهوده
واليوم عُدن عليه غيرَ قصارِ
ما بال ذاك الوجه بعد تورُّد
خلع النضارة واكتسى ببهارِ؟
ما بال ذاك الوجه بات من الضنى
كالرسم في جرفٍ به منهارِ؟
ما بال ذاك العزم بعد مضائه
عثرَت به العلَّات كلَّ عِثارِ؟
ما بال ذاك القلب بعد خفوقه
تنتابه هدآتُ الاستقرارِ؟
أمسى يُعالِج سَكرة في نزعه
من لم يذُق في العمر طعمَ عقارِ
ولو استطاع لَما أضاع دقيقة
يمضي الزمان بها مُضيَّ خسارِ
وفَّى بما أعطاه حق بلاده
والموهبات تُرَد ردَّ عواري
أمكانه هذا أتلك حُليُّه
والبيت خالٍ والمُقلِّد عاري؟
أكذاك يختم في الشقاء حياته
من كان جمَّ الجاه والإيسارِ؟
ماذا تفي من حقه بعد الذي
عاناه كلُّ قلائدِ الأشعارِ؟
إن الذي يبلوه شاري قومه
غير الذي نتلوه في الأسطارِ

عظة وفاته:

مات الرئيس فراعَ مصرَ وأهلها
ذاك النعيُّ وذاعَ في الأمصارِ
مات العصاميُّ العظاميُّ الذي
ما كان بالعاتي ولا الجبارِ

تحية الختام:

أفريد هذا ما يُهيِّئه الفدى
لعشيرةٍ فدَّيتَها وديارِ
نَم إن مصرًا عنك راضية وفُز
من شكرها بمثوبةِ الأخيارِ
أوشكتُ أجزع فانتهيت بأنني
آنست فيك مشيئةً للباري

تحية الشهداء

قال في حفلةٍ أُقيمَت سنة ١٩٢٤ لتحية أرواح شهداء الحركة الوطنية:

إلى أرواح الشهداء

تحيةً أيها القتلى وتسليما
بلغتم الشأوَ تخليدًا وتعظيما
«لا يعبد المرء ربًّا لا ولا وطنًا
بمثل إغلائه القُربان تقديما»
قُلتم وصدَّق ما قلتم تحمُّلُكم
أذًى يردُّ فِرندَ الصبر مثلوما٣٦
ما الموت إن كان إنقاذ البلاد به
من غاصبٍ وانتصافُ الشعب مظلومًا
يُحطَّم العظمُ منكم دون بُغيتكم
فتصبرون ويأبى العزم تحطيما
بِرًّا ﺑ «مصر» وخوفًا أن يُسلِّمها
إلى العِدى واهِنو الإيمان تسليما
ليس الشهادة إلا من يموت على
حق ومن لا يُبالي فيه ما سِيما
امضوا رفاقًا كرامًا حسبكم عِوضًا
مَجدٌ عزيز على الخُطاب إن رِيما
للمُشتري بصباهُ عِز أمته
ذِكرٌ يُديم اسمه بالتِّبر مرقوما
وللتي استبدلت بالقبر مَرتعها
قِسطٌ من الفخر فوق العمر تقويما
لا تحسبوا مصر تنساكم فكُلُّكمُ
يبقى على الدهر مرئومًا ومرحوما
وفي المرابع من أرواحكم نسَمٌ
تظلُّ تأتي بها الأرواح تنسيما

تحية للذين أُطلِقوا من الاعتقال

وقال في هذه القصيدة مُخاطِبًا من أُفرِج عنهم من الاعتقال:

يا خارجين كرامًا من محابسهم
ومُبهجي كلِّ قلب كان مغموما
كم كُبِّل الحق بالأصفاد من قِدَم
ثم انطوَين وباء البُطلُ مهزوما
يا سوءَ دهرٍ قضَته قبل نهضتها
«مصرٌ» يخيِّم فيها الذل تخييما
تَهِي قوى الليث من عَيث الذئاب بها
ويلتوي الأمر تحليلًا وتحريما
فاليومَ عاد إلى رأيٍ يشرِّفها
مَن ظن إقليمها للخفض إقليما
دلَّت على قوة فيها صلابتكم
تذود عنها الأشِداء المقاحيما
هل يُجزئ الشكر مِن ضيمٍ تحمَّله
بالأمس من منكمُ في رأيه ضِيما
قد أثَّموكم وكم من مُثلةٍ نزلَت
بالأبرياء وبالأبرار تأثيما
وبعض ما عاقبوكم فيه جَعلُكمُ
صِدقَ الهوى للحِمى دينًا وتعليما
لا حاكمًا دون ما أوحت ضمائركم
تُراقِبون ولا تَرعَون محكوما

•••

لقد ظفرتم بما أدنى القصيَّ لكم
من المرام فليس الفوز مزعوما
هل استقام زمانٌ لا يقوِّمه
بنُوه بالصبر والإقدام تقويما؟
أو نال حريةً قومٌ بها جدُروا
وهم يُبالون تقتيلًا وتكليما؟٣٧

•••

يا سادةً كالنجوم الغُر منزلةً
وسيِّدات كعقدِ الدُّر منظوما
حمدًا لإقبالكم هذا وحفلتكم
تُهنِّئون الصناديد المقاديما
مِن الأُلى ما ونَوا عن واجب فبنَوا
لعزِّ«مصر» طرافًا٣٨ كان مهدوما
أولئكم إن بدا من فضلهم أثرٌ
فكم لهم من جميلٍ ظلَّ مكتوما
فلتَحيَ «مصرُ» وأبرارٌ نُجلُّهمُ
ونحتفي بهمُ حبًّا وتكريما

رثاؤه لأمين الرافعي

ومن قصيدة له في رثاء المرحوم أمين الرافعي الذي انتقل إلى جوار ربه في ٢٩ ديسمبر سنة ١٩٢٧، وقد أُلقِيت هذه القصيدة في حفلة تأبينه:

باعوا المخلَّد بالحُطام الفاني
وشرَيتَ بالأغلى من الأثمانِ
تلك الحياة أمانةٌ أدَّيتها
بتمامها لله والأوطانِ
بالصبر والإيمان أُخلِص بدؤُها
وختامها بالصبر والإيمانِ
أعرضتَ عن لذاتها منذ الصِّبا
والروض تُغري والقطوف دواني
متوخِّيًا من دونها أمنية
لم يُوهِ وحدتَها شتيتُ أماني
تهوى البلادَ ولا هوى لك غيرها
أو تُفتدى من ذلة وهوانِ
ظلَّت تُنازِعك الصروف بما بها
من مُنة وظللتَ ثبتَ جَنانِ
مُستنزفًا دمك الزكيَّ ولم يُرَق
بشَباةِ قرضاب ولا بسنانِ
في صولة للدهر تعقُب صولةً
مُنتابةً في الآن بعد الآنِ
حتى قضيتَ شهيدَ رأيك وانقضى
ما كنت تلقى دونه وتُعاني
ويحَ الأبيِّ تسوءه أيامه
وتسرُّ كلَّ مُماذقٍ٣٩ مِذعانِ
ممن يقدَّم في الرجال وما به
إلا الطِّلاء بكاذبِ الألوانِ
ماذا دهى «الفسطاط» حين تجاوَبت
أصداؤها لنواك بالإرنانِ؟٤٠
وجلا عن القدَر المخبَّأ ليلُها
وبدا الصباح مقرَّحَ الأجفانِ

•••

خَطبٌ أرانا في مجالات الفِدى
والصدقِ كيف مَصارعُ الشجعانِ
فالشرق في شرَقٍ من الدمع الذي
أجرى العيون وفاض بالغُدرانِ

•••

أيْ «مصطفى» يبكيك قومك كلما
عادَتهمُ ذكرى فتى الفتيانِ
يوم الوفاء دعا فكنتَ لواءه
وطليعةً لطليعةِ الفرسانِ
هذا شهيدٌ من ولاتك خامسٌ
يهوي بحيث هوَيتَ في الميدانِ
لَكأنهم والموتُ أسوأُ مَغنم
يتراكضون إليه خيلَ رهانِ
بذلوا النفوس كما بذلتَ وأرخصوا
ما عزَّ من جاهٍ ومن قُنيانِ
فإذا ذُكرتَ وأنت عنوان الفِدى
فاسم الرفاق تتمةُ العنوانِ

وظل خليل مطران يُغرِّد بشعره ألحان الحرية، ولا ينقطع عن التغريد حتى فاضت روحه الكريمة مساء ٣٠ يونيو سنة ١٩٤٩.

١  يريد الجمهور.
٢  نبا: تجافى وتباعد.
٣  ورى الزند: خرجت ناره.
٤  المظلم.
٥  الثغاء: صوت الشاة والمعز.
٦  الهزيم، صوت الرعد.
٧  التاث عليه الأمر: اختلط والتبس.
٨  الأخلاد: العقول.
٩  يُشير إلى ذكرى المجد القديم وأنها باقية على الدهر ويُعبِّر عنها بالشفق؛ أي النور المتخلف عن الشمس بعد غروبها.
١٠  الحقب: السنون. ودجا: أظلم. والذرى؛ جمع ذورة؛ أعلى الشئ. والنضار: الذهب. أي أن عهود التأخر قد تركت ظلامًا مُخيمًا على البلاد، ومع ذلك لا يزال فوق الذرى نور الشمس التي غربت.
١١  أي ينجلي فجر الأمل وأمامه الذكرى الساطعة للمجد القديم.
١٢  الحَلي، وجمعه حُلِي: ما يصنع من مصوغ المعدنيات، أو الحجارة الكريمة. والمقدار هو القدر، يريد أن مجد الماضي والمجد المأمول للمستقبل يتقابلان كشِقَّي تاج لمصر.
١٣  يُخاطِب ركب المؤتمر وأعضاءه، ويصفهم بأنهم ذاهبون ليثأروا لمصر مما أصابها من ذلة وضيم.
١٤  الشُّقة: السفر البعيد.
١٥  لج البحر أمواجه: أي ليس البحر إن سهل أو صعب إلا كالركوبة الذلول للفارس الذي يروضها.
١٦  الجائب: المسافر.
١٧  أي لستم غلاة كما توهَّم ذلك من ظن أنكم لستم من ذوي الكفايات والأقدار.
١٨  أجزع: أي ما أشد جزعًا. والفجاءة: مصدر فجأه. والتزآر: زئير الأسد. يريد أن الإنجليز فوجئوا بالحركة الوطنية في ذلك العهد، كما يفاجأ الساري بزئير الأسد.
١٩  يُسمي أعضاء المؤتمر المهاجرين، وسكان مصر الأنصار، تشبيهًا لهم بالمهاجرين والأنصار في صدر الإسلام.
٢٠  الفلج: الظفر.
٢١  المناجيد: الشجعان السباقون إلى النجدة.
٢٢  المستسر: المستتر؛ أي القمر الذي لم يبدُ في مطلعة إلا أقله.
٢٣  التيهاء: أرضٌ يتيه فيها السالك. وصيخود: شديد الحر.
٢٤  إشارة إلى ما نسج العنكبوت ببابه فضلَّل المُتعقِّبين للرسول.
٢٥  المطاريد: فرسان الطِّراد في الحرب.
٢٦  خلقت: استحقت.
٢٧  الجلاميد: الصخور.
٢٨  لدان: جمع لدن، وهو اللين.
٢٩  التصفيد: التقييد.
٣٠  المفئود: المصاب فؤاده.
٣١  مريد: الخبيث.
٣٢  شوس: جمع أشوس، وهو الشجاع الجريء.
٣٣  أكياس: جمع كيس، وهو الفطن الذي يُحسِن الفهم.
٣٤  آس: أي مُداوٍ للجروح.
٣٥  تعتس: تطرق ليلًا.
٣٦  الفرند: حد السيف.
٣٧  التكليم: التجريح.
٣٨  الطراف: البيت.
٣٩  مماذق: أي غير مخلص.
٤٠  الإرنان: رفع الصوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤