الذيل

١

الكلام على التصوير في الإسلام: أمُحَرَّم هو، أم مكروه، أم مباح، طويل مُتشعِّب. عرض له القدماء وكذلك المحدثون من شرقيين وغربيين، ومن أقرب ما نشره هؤلاء مقال للأستاذ كريزويل، فيه ثبت للمصادر، تراني أزيد عليها جملة في ذيل النص الفرنسي، وأما ها هنا فأجيء بنص كامل غير معهود، ينهض ضد التحريم المُطلَق، ويسوِّغ جملة التصاوير التي وقعت إلينا من الآثار الإسلامية أو وصفها الأقدمون، دنيويةً كانت أو دينية، وقد خَلَت من تمثيل الإله؛ لأن تصوير الله تصوير الأجسام مُحَرَّم أشد التحريم، ولا يوافق روح الإسلام. والنص قدَّمته بالفرنسية في مقرِّ الجمعية الآسيوية بباريس، ١٠ / ١١ / ١٩٥٠، وبالعربية في المجمع العلمي المصري بالقاهرة ٣ / ٣ / ١٩٥١.

ثم إن لهذا النص شأنًا عظيمًا من أربع جهات:
  • الأولى: أن صاحبه من فحول علماء الإسلام في فهم نصوص القرآن، واستقراء دقائق العربية، وهو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان، المعروف بأبي علي الفارسي النحوي، المتوفى سنة ٣٧٧ﻫ/٩٨٧م. وأبو علي هذا — على ما ورد في أول ترجمته في «معجم الأدباء» لياقوت: «أوحد زمانه في العربية.» وقال فيه الجزري في «غاية النهاية في أسماء رجال القراءات …» (القاهرة ١٩٣٢، ج١، ص٢٠٦-٢٠٧): «انتهت إليه رياسة علم النحو، وصحب عضد الدولة فعظَّمه كثيرًا، ثم لحق بسيف الدولة فأكرمه، أخذ عنه النحو أئمة كِبار كابن جني»، وُلِد في فسا بالقرب من شيراز، إلا أن أُمَّه عربية سدوسية، وقد طَوَّف كثيرًا في بلاد الشام، ومات في بغداد، وكان أتاها وهو ابن تسع. فهو عالم من علماء العربية، له خطر في الملة الإسلامية، وحظوة عند أمرائها.
  • والجهة الثانية: أن النص قديم، فهو من النصف الثاني للمائة الرابعة.
  • والجهة الثالثة: أنه صَدَر من عالم مُتبحِّر ثقة، مُسجِّلًا موقف الإجماع في ذلك العهد ليناهض آراء الآحاد.
  • والجهة الرابعة: أنه يدل على ما وصل إليه التشدُّد بعد ذلك في البلدان العربية، من ذلك حكم تاج الدين السبكي المولود في القاهرة سنة ٧٢٧ﻫ، المتوفى في دمشق سنة ٧٧١ﻫ، يقول السبكي هذا في كتابه «مُعيد النِّعم ومُبيد النِّقم»، (القاهرة ١٩٤٧، ص١٣٥): «الدهان، وعليه ألا يُصوِّر صورة حيوان، لا على حائط ولا سقف، ولا آلة من الآلات، ولا على الأرض، وأجاز بعض أصحابنا التصوير على الأرض ونحوها، والصحيح خلافه.»

هذا، والنص عثرت عليه في نسخة من كتاب ألَّفه أبو علي، عنوانه: «الحجة في علل القراءات»، وهو غير مطبوع، والنسخة موجودة في مكتبة البلدية بالإسكندرية، ورقمها ٣٥٧٠ج، وهي غير كاملة إذ تنقص الجزء الخامس، ولها صُوَر مأخوذة بالتصوير الشمسي في دار الكتب المصرية بالقاهرة، ورقمها ٤٦٢ قراءات، وتاريخ النسخة ٣٩٠ﻫ، فليس بينها وبين وفاة المؤلِّف سوى ثلاث عشرة سنة، وخطها جميل، وخطؤها قليل، والنص يقع في الجزء الثاني من الصفحة ٦٧ إلى ٦٩ ودونكه:

[ص٦٧] فأمَّا قوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ١ وقوله: بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ،٢   اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ،٣   وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا،٤ فالتقدير في ذلك [ص٦٨] كله: اتخذوه إلهًا، فحذف المفعول الثاني. الدليل على ذلك: أن الكلام لا يخلو من أن يكون على ظاهره كقوله: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا،٥ وقوله:٦ «متخذًا في ضَعَوات تَوْلَجا»،٧ أو يكون على إرادة المفعول، فلا يجوز أن يكون على ظاهره دون إرادة المفعول الثاني، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.٨
ومن صاغ عجلًا أو نَجَرَه أو عمله بضرب من الأعمال لم يستحقَّ الغضب من الله، والوعيد عند المسلمين، فإذا كان كذلك عُلِم أنه على ما وصفنا من إرادة المفعول الثاني المحذوف في هذه الآي، فإن قال قائل: فقد جاء في الحديث: «يُعذَّب المُصوِّرون يوم القيامة»، وفي بعض الحديث: «فيُقال لهم أَحْيُوا ما خلقتم»،٩ قيل: «يُعذَّب المُصوِّرون» يكون على من صَوَّر الله تصوير الأجسام، وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد [ص٦٩] التي لا توجب العلم، فلا يُقدَح لذلك في الإجماع على ما ذكرنا.

٢

لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب «الحيوان»، القاهرة ١٩٣٨، ج٢، ص١١٠، كلام لطيف على هذه الآية، يشهد بما أذهب إليه من تخيُّل الفنان المسلم لعجائب المخلوقات المجهولة، وأنا عارض هنا قول الجاحظ:

وكان بعض المُفسِّرين يقول: مَن أراد أن يعرف معنى قوله: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فليوقد نارًا في وسط غيضة، أو في صحراء، أو في برية، ثم ينظر إلى ما يَغشى النار من أصناف الخلق من الحشرات والهمج، فإنه سيرى صُوَرًا، ويتعرَّف خلقًا لم يكن يظن أن الله تعالى خلق شيئًا من ذلك العالم، على أن الخلق الذي يغشى ناره يختلف على قَدْر اختلاف مواضع الغِياض والبحار والجبال، ويعلم أن ما لم يبلغه أكثر وأعجب، وما أردُّ هذا التأويل، وإنه ليدخل عندي في جملة ما تدل عليه الآية، ومَن لم يقل ذلك لم يفهم عن ربه، ولم يفقه في دينه.

ومما يؤكد هذا الكلام الطريف ما ورد في «روح المعاني» للآلوسي، القاهرة ١٣١٠، ج٤، ص٣٤٣-٣٤٤، عند شرح الآية المذكورة:

ويخلق غير ذلك الذي فَصَّله سبحانه لكم، والتعبير عنه بما ذكر؛ لأن مجموعه غير معلوم، ولا يكاد يكون معلومًا … والعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتَّجدُّد، ولاستحضار الصورة.

٣

لهذه المنمنمات راجع كتابي: «منمنمة دينية تمثِّل الرسول من أسلوب التصوير العربي البغدادي» بالنَّصَّين العربي والفرنسي، من منشورات المجمع العلمي المصري، القاهرة ١٩٤٨، وانظر في رسالتي «كتاب الترياق، مخطوط عربي مُصوَّر من خاتمة القرن الثاني عشر» بالفرنسية، مع موجز باللغة العربية، من منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، تحت الطبع الآن.

٤

للفيلسوف أبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي، المتوفى سنة ٣٣٩ﻫ، «كتاب الموسيقى الكبير» وهو مخطوط، منه نسخة محفوظة في دار الكتب المصرية، رقمها ٣٥١ فنون جميلة، مأخوذة بالتصوير الشمسي عن نسخة في إستنبول تاريخها ٦٥٤ﻫ. ففي الصفحة ٤٥٩ من هذه النسخة يقول الفارابي:

والألحان بالجملة على ما قد قلناه في موضع آخر: صِنفان، على مثال ما عليه كثير من سائر المحسوسات الأُخَر المُركَّبة، مثل المبصرات والتماثيل والتزاويق، فإن منها ما أُلِّف لتلحق الحواس منه لذة فقط من غير أن توقِع في النفس شيئًا آخر، ومنها ما أُلِّف ليفيد النفس مع اللذة أشياء أُخَر من تخيُّلات أو انفعالات، ويكون بها محاكيات أمور ما أُخَر. والصنف الأول هو قليل الغَناء، والنافع منها هو الصنف الثاني، وهي الألحان الكاملة …

وأما تفصيل كلام الجرجاني فتجده في «أسرار البلاغة» القاهرة ١٩٣٩، ص٢٩٧.

٥

أنشر هنا رسالة لطيفة في «الألوان»، لا أعرف لها نظيرًا في أدبنا الموروث، وهي تدل على ما في الألوان من قِيَم رِقاق تتصل بالوجدانيات، حتى إنها تثير في النفس الزكية ضروب الفرح أو الغَمِّ، وهذا من أحدث المسائل التي يتناولها اليوم علماء النفس في الغرب.

عثرت على هذه الرسالة في مخطوط محفوظ في «الظاهرية» بدمشق فنسختها، وعنوان المخطوط: «كتاب مُفرِّح النفس»، وهو يقع في ثلاث وثلاثين ورقة، ضمن مجموعة رقمها ٣٢، ليس على المخطوط تاريخ، ومرجعه إلى المائة الثامنة اعتمادًا على نوع خطه، وأما اسم المؤلف فقد ورد في الصفحة الأولى «تصنيف العالم الفاضل شرف الدين أبي نصر محمد بن أبي الفتوح البغدادي ثم المارديني المعروف بابن المرَّة».

وهذا الكتاب المخطوط يشتمل على عشرة أبواب؛ الأول: مقدمة في ذِكْر النفس وبعض أصولها، وسائر الأبواب في أصناف اللذات المكتسبة للنفس من طرائق الحواس المختلفة، ويجد القارئ ها هنا الباب الثالث (من صفحة ٤ب إلى ٧أ)، وهو الخاص باللذة المكتسبة للنفس من طريق حاسة البصر، والأبواب كلها مشتركة بين الطب والحكمة والتصوُّف، على طريقة العصور الوسطى.

وفي أثناء التحري أصبت نسختَين من هذا المخطوط: الأولى في دار الكتب المصرية، رقمها ٤٨٣ طب، تاريخها ١١٩٦ﻫ، والثانية في خزانة القديس يوسف لليسوعيين ببيروت، رقمها ٣٩٢، وتاريخها ١٣٢٩ﻫ، هذه منقولة نقلًا عن نسخة الظاهرية، وتلك تطابق هذه مع خلاف يسير، وقد عَوَّلت في نشر الرسالة على نسخة الظاهرية، وذكرت في الهامش رواية النسخة المحفوظة في دار الكتب المصرية، مشيرًا إليها بهذا الحرف: «ق».

هذا، ولم أجد «ابن المرَّة» المنسوب إليه الكتاب فيما رجعت إليه من المصادر، وبعد الفحص والتحقيق بان لي أن الرجل انتحل كتابًا ألَّفه طبيب من المائة السابعة للهجرة، وقد تصرَّف فيه على جهة الاختصار مع الاقتطاع، بعد أن حذف من الديباجة اسم الأمير الذي وُضِع لأجله الكتاب. وأما الطبيب الذي ألَّف الكتاب أصلًا فهو بدر الدين المظفر ابن قاضي بعلبك مجد الدين عبد الرحمن بن إبراهيم، نشأ بدمشق، واشتغل فيها بصناعة الطب فبرع وتقدَّم، وكانت وفاته في حدود سنة ٦٦٠ﻫ. وأما اسم الأمير الذي وُضِع له الكتاب، فهو سيف الدين المشد أبو الحسن علي ابن عمر بن قُزْل المتوفى سنة ٦٥٦ﻫ.

ودونك المراجع التي هدتني إلى هذه الحقيقة:
  • (١)

    «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة، القاهرة ١٣٠٠ﻫ، ج٢، ص٢٥٩–٢٦٥: عرف ابنُ أبي أصيبعة المتوفى سنة ٦٦٨ بدر الدين المظفر، وراسله في شأن كتابه «مُفرِح النفس»، ووصفه هكذا: «مفيد جدًّا في فنه»، وذكر أنه أُلِّف للأمير ابن قُزْل، ويزيد أن لبدر الدين مقالة في مزاج مدينة الرقة وأهويتها، ويوافقه في هذا حاجي خليفة كما سترى.

  • (٢)

    «مطالع البدور في منازل السرور» لعلاء الدين علي بن عبد الله البهائي الغزولي الدمشقي، القاهرة ١٢٩٩ﻫ، ج٢، ص٧-٨: يذكر الغزولي، المتوفى سنة ٨٥١ﻫ، كتاب «مفرح النفس» وينسبه إلى بدر الدين المُظفَّر، ثم يقتبس منه خاتمة الرسالة التي أنشرها هنا، وهي خاصة بتأثير التصاوير في أصناف الأرواح، وقد عارضت نص الخاتمة هذه بنص المخطوط المنسوب إلى ابن المرَّة فوجدتهما متواطئين في الغرض والمعنى وأكثر اللفظ، على أن النص الذي أورده الغزولي عن كتاب المظفر أوفى وأعلى، وبمثل هذه المعارضة يتبين للقارئ كيف سطا ابن مُرَّة على كتاب المظفر فانتحله بعد تصرُّف يسير فيه.

    هذا، وقد عُني علماء الآثار الإسلامية بما اقتبسه الغزولي من كتاب «مفرح النفس»، انظر:
    • A. MUSIL, Kusejr ‘Amra. Wien 1907, p. 237, n. 65.
    • Tu. ARNOLD, Painting in lslam, Oxford 1928, p. 88.
    • زكي محمد حسن «الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي» القاهرة ١٩٣٩، ص٦١.

  • (٣)

    «كشف الظنون» لحاجي خليفة، إستنبول ١٩٤٣، ج٢، ص١٧٧٢: يستند حاجي خليفة المتوفى سنة ١٠٦٧ﻫ إلى ابن أبي أصيبعة، ويقتبس من ديباجة الكتاب، وفيها ذكر الأمير ابن قزل، وهذه الديباجة توافق ما جاء في نسخة الظاهرية، ونسخة دار الكتب المصرية الموصوفتَين فوق، ما عدا ذكر ابن قزل، إلا أن خلطًا وقع في هذا الفصل من «كشف الظنون» (ومعلوم أن هذا الفهرست المُطوَّل بيَّض مؤلِّفه منه إلى حرف الدال فحسب)، وذلك أن اسم المؤلِّف لكتاب «مفرح النفس» جاء في آخر الفصل بدلًا من أن يكون في أوله، فحل محله هنا: «بدر الدين عبد الوهاب بن سحنون الدمشقي، المتوفى سنة ٦٩٤». هذا وفي «كشف الظنون» أيضًا، ج٢، ص١٧٨٣، ذكر مقالة بدر الدين المظفر في «الرقة وأهويتها». ومن هذا الفصل الأخير استقيتُ تاريخ وفاة المظفر، فإن ابن أبي أصيبعة لم يذكره.

  • (٤)

    «شذرات الذهب» لابن العماد، القاهرة ١٣٥١ﻫ، ج٥، ص٤٢٦. وكذلك «معجم الأطباء» لأحمد عيسى، القاهرة ١٩٤٢، ص٢٨٠–٢٨٢: ليس فيهما عند ذكر ابن سحنون الطبيب، كتاب عنوانه «مفرح النفس»، كما ورد خلطًا في «كشف الظنون».

  • (٥)

    «شذرات الذهب» ج٥، ص٢٨٠: تاريخ وفاة الأمير ابن قزل.

كتاب مُفرِّح النفس
(ص٤ب) الباب الثالث
في اللذة المكتسبة للنفس من طريق حاسة البصر

اعلم أن المشهور عند الأطباء، وعند أكثر الناس أن حاسة البصر [ص١٥] محسوسها الألوان فقط، وليس كذلك، فإنها تُحِسُّ بسبعة وعشرين جنسًا من المُدرَكات، كل واحد يخالف الآخر، بخلاف حاسة السمع، فإنها لا تُحِسُّ إلا بالأصوات فقط.

فمُدرَكات حاسة البصر: الألوان، والضوء، والظُّلْمة، والأطراف، والحجم، والبُعْد، والقُرْب، والوضع، والشكل، والتفرُّق، والاتصال، والعدد، والحركة، والسكون، والملاسة، والخشونة، والكثافة، والشفيف، والظل، والحَسَن، والقبيح، والبشاشة، والاختلاف، والضحك، والبكاء، والرطوبة المُعتبَرة بالسَّيَلان، واليُّبْس المُعتبَر بالتماسك.

وهذه الأمور قد حرَّرتها العلوم الدقيقة الحكيمة، واطَّلعت عليها النفوس الفاضلة القدسية، ومن هذه المدركات المعدودة ما بحاسة البصر إليه مَيْل كثير، وفي أصنافه ما تلذ به النفس لذة أعظم وأوفر،١٠ كالألوان. وهي تنقسم إلى قسمَين: بسيط، ومركَّب، فالبسيط عند بعضهم لونان: الأبيض والأسود، وجميع الألوان المركبة منها على قَدْر اختلاف أجزائها، وعند بعضهم أربعة، وهي: الأبيض، والأسود، والأحمر، والأصفر، وما عدا هذه الألوان فمركب منها على قدر اختلاف أجزائها.
فالنفس تبتهج١١ بما كان من الأجسام له اللون الأحمر والأخضر والأصفر والأبيض، إما بسيط أو مركب بعضها من بعض، فنظر هذه يوجب راحة النفس، ولذة القلب، وسرور العقل، ونشاط١٢ الذهن، وتوفُّر القوى، وانبساط الأرواح. وإنما قلنا ذلك لأنها ألوان مشرقة نيِّرة، فالنفس لإشراقها ونورانيتها [ص٥ب] تميل إلى ما ناسبها، فتُحدِث هذه الحالات المذكورة؛ لأن النور محبوب ومعشوق، وانظر إلى فرحك وانبساطك، وانشراحك وحركتك، وتصرُّفك بالنهار، وفراغك وسكونك، وتجمُّعك بالليل، وما سبب ذلك إلا النور تارة، والظلمة أخرى.
والألوان السُّود والزُّرق والكُمد وما شاكل ذلك، وما يتركب منها، تُكدِّر الأرواح، وتعمي القلوب وتولِّد الأخلاط السوداوية، وما يحدث عنها من الفِكَر الرَّدِيَّة، والهموم١٣ المودية، والأحزان الملازمة، لا سيما إذا كانت هذه الألوان الرديَّة في لُبْس الإنسان، فإنها تقرِّر هذه الأمور الرديَّة بملازمتها لحاسة البصر.
وقد ذكر بعض الفضلاء له تعليلًا حسنًا: وهو أن النفس إذا نظرت إلى الألوان الرديَّة المذكورة من السواد وغيره مما ناسبه تنفر منه، وتجتمع لمضادتها له، على ما قرَّرنا من أن النفس نورانية، فإذا تجمَّعت بالضرورة يصحبها تجمُّع الأرواح النيِّرة، ويلزم تجمُّعها تكاثفها، ويلزم تكاثفها غِلَظها، ويلزم غِلَظها بردها، ويلزم بردها تولُّد أخلاط سوداوية كالهموم والفِكَر وضيق الصدر والوسواس والماليخوليا،١٤ وما أشبه ذلك. فالحذر الحذر، لمَن يروم شرف نفسه وراحة قلبه، من فعل ذلك.
وهذا المعنى قد ألمَّ به جماعة من الفضلاء المتقدمين والمتأخرين، وخصوصًا الشيخ الرئيس ابن سينا، وفخر الدين ابن الخطيب.١٥
واعلم أن النفس تُسَرُّ وتلتذُّ وتبتهج بالنظر إلى المواضع الفسيحة لذة عظيمة؛ لأن الروح تلطف بنظرها إلى ذلك، فلا جرم أن المواضع المتنزهة كلَّما كانت أوسع كانت أنفع، لا سيما [ص٦ا] إذا لم يكن للعين جدار يردُّها عن تمام نظرها. وانظر إلى ابتهاج النفس في البساتين والأرضين التي فيها نبات جامع للألوان الحسنة المذكورة، ومع سعتها. وما أحسن ما قيل: «العينان طاقتا النفس». فلا ينبغي للعاقل أن يجعل نظر نفسه١٦ في طاقتَيها إلى ما يضرها، بل يجتهد كل الاجتهاد على المعونة في إيصال الراحة إليها.
وانظر إلى حكمة الله — عز وجل — لمَّا تجمعت الأرواح والقوى في باطن الأبدان في الشتاء، وغلظت وتكاثفت بورود البرد عليها، وانخزالها بذلك، جعل لها ما يجبرها في الربيع، ويُظْهِرها ويُنَمِّيها ويفرحها ويسليها بوجود البهار١٧ والأنوار والأشجار، والأثمار التي خَصَّها بالألوان المفرحة على ما قرَّرناه، وهي: الأبيض، والأحمر، والأخضر، والأصفر.
ولم يخلق١٨ شيئًا من الأشجار والأثمار والأنوار أسود، لحكمته وعلمه أنها ردِيَّة للنفس، مُكدِّرة للأرواح، والغرض بسطها وتفريحها، فخلق المناسبة لها ورفض المضادة عنها، وانظر إلى حكمته كيف جعل هذه الألوان الأربعة المذكورة — أعني: الأصفر، والأبيض، والأحمر،١٩ والأخضر — في أعظم الأجساد وأشرفها وأبهجها وأعزها وأحسنها منظرًا، وهي: الذهب الأصفر، واللؤلؤ الأبيض، والزمرد الأخضر، والياقوت الأحمر. ولم يجعل شيئًا من الأحجار أعزَّ منه ولا أشرف، وجعل غاية كل واحدة منها أن يكون بهذا اللون المذكور، فتبارك الله أحسن الخالقين.
واعلم٢٠ أن النظر في الصورة الحسنة المليحة في الكتب إذا جمعت مع حسن صورتها [ص٦ب] وصنعتها الألوان والأصباغ المذكورة، والاعتدال في مقادير الصور وحسن الأشكال مما٢١ ينفي ويُنَقِّي الأخلاط السوداوية، ويزيل الهموم الملازمة والكُدورة عن الأرواح؛ لأن النفس تلطف وتشرف بالنظر فيها، فيتحلَّل ما فيها من الكُدورة.
وهذا المعنى قد ذكره محمد بن زكريا الرازي،٢٢ وبالغ في ملازمة فعله لمَن يجد في نفسه أفكارًا ردِيَّة وهمومًا ملازمة.
وتفكَّر في كَوْن الحكماء المتقدمين الذين استخرجوا الحمام على ما ذُكِر في مُدَد٢٣ من السنين، نظروا وعلموا وتيقَّنوا أن الإنسان إذا دخلها تحلَّل من قواه شيء كثير، فاتفقوا بحكمتهم، وجالوا بفكرتهم، واستخرجوا بعقولهم ما يجبر ذلك سريعًا، فقرَّروا أن يرسموا صُوَرًا بأصباغ حسنة، يوجب النظر إليها زيادة القوى والأرواح، وقسَّموا ذلك التصوير إلى ثلاثة أقسام، وذلك٢٤ أنهم علموا أن أرواح البدن ثلاثة أصناف: الحيوانية، والنفسانية، والطبيعية، فجعلوا كل قسم من التصوير سببًا لتقوية قوة٢٥ من القوى المذكورة، والزيادة فيها. أما الحيوانية فالقتال والحرب والملحمة، وأما القوة النفسانية فالعشق والتفكير في العاشق والمعشوق، وأما القوة الطبيعية فالبساتين وصُوَر الأشجار والأثمار والأطيار، وما أشبه ذلك؛ ولهذا السبب إذا سألت المُصوِّر عن تصوير الحمام يذكر لك هذه الصفات، ولا يعلم لها تعليلًا، وصارت جزءًا من أجزاء الحمام الفاضل، وما سبب عدم معرفته٢٦ بذلك إلا بُعْد السنين وتقادم العهد، فما خُلق شيء سدًى [ص١٧] وما جُعل شيء هدرًا.

٦

«صبح الأعشى» للقلقشندي، القاهرة ١٩١٣، ج٣، ص٩.

٧

رواه أحمد عن أبي ريحانة، ومسلم والترمذي عن أبي مسعود، وأبو يعلى عن أبي سعيد، وغيرهم — اطلب «كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتُهِر من الأحاديث على ألسنة الناس» لإسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة ١١٦٢ﻫ. وهو مخطوط في جزء واحد، منه نسخة في دار الكتب المصرية، تاريخها ١١٦٩ﻫ، رقمها ١٢٨١ حديث، راجع الورقة ١١٤ب — هداني إلى هذا المرجع الصديق العالم بالحديث الشيخ أحمد محمد شاكر.

٨

«الصاحبي» لابن فارس، القاهرة ١٩١٠، ص١٢ — «صبح الأعشى» للقلقشندي، ج٣، ص٥، ٧، ١٢ — «مفتاح السعادة» لطاش كبري زاده، حيدر آباد الدكن ١٣٢٩، ج١، ص٦٩ وما يليها.

٩، ١٠

«صبح الأعشى» ج٣، ص٢٤، ص٥ وأيضًا ٢٥.

١١

«رسالة أبي حيان التوحيدي في علم الكتابة» نشرها Franz Rosenthal، ونقلها إلى الإنجليزية في مجلة Ars Islamica (جامعة Michigan) الجزء ١٣-١٤، ص٢٢، ٢٥ (راجع هنالك أيضًا الترجمة ص١٥ والهامش).

١٢

أيضًا: «أول مخلوق القلم»: رواية الترمذي، وأبي دواد، وزيد بن علي، وأحمد بن حنبل، والطيالسي. راجع «مفتاح كنوز السنة» المذكور في رقم ١، مادة: «القلم والخليقة» وفي «صبح الأعشى»، ج٢، ص٤٣٤-٤٣٥ روايات مع أصحابها.

١٣

«نهاية الأرب» للنويري، القاهرة ١٩٢٩، ج٧، ص٢٧.

١  البقرة: ٥١–٩٢.
٢  البقرة: ٥٤.
٣  الأعراف: ١٤٨.
٤  الأعراف: ١٤٨.
٥  العنكبوت: ٤١.
٦  هنا بياض في الأصل مقدار كلمة، ولعله: «وقول الشاعر» أو «وقول جرير» فالبيت له.
٧  جاء في الأصل مشكولًا: «متخذًا من عضوات تولجا» وهو خطأ، ففي «ديوان جرير» القاهرة ١٣٥٣ﻫ: «متخذًا في ضعوات تولجا»، وكذلك في «لسان العرب» مادة ض ع ا (أرشدني إلى هذه المظنة الصديق العالم باللغة الشيخ محمد رفعت فتح الله أستاذ الصرف والنحو في الأزهر)، والضَّعوات جمع ضَعَة — أصلها ضَعَوَ — شجر بالبادية، والتولج: كناس الظبي، وهناك رواية أخرى وجدتها في «لسان العرب» مادة ت ل ج: «متخذًا في صفوات تولجا» والصفوات جمع صفاة: الحجر الصلد الذي لا ينبت.
٨  الأعراف: ١٥٢.
٩  الحديث: «إن الذين يصنعون هذه الصُّوَر يُعذَّبون يوم القيامة، فيُقال لهم أَحْيُوا ما خلقتم» (رواه البخاري ومسلم، مع اختلاف في اللفظ)، ثم الحديث: «إن أشدَّ الناس عذابًا يوم القيامة المُصوِّرون» (رواه البخاري ومسلم أيضًا)، وهناك أحاديث أخرى تتصل بهذَين رواها البخاري ومسلم وغيرهما، على ما أوردها المنذري في «الترغيب والترهيب» (القاهرة ١٣٢٤ﻫ، ج٤، ص٢٠٨–٢١٠)، وإذا أنت أردت التوسُّع؛ فعليك بالرجوع إلى «مفتاح كنوز السنة» من تصنيف فنسنك وعبد الباقي، (القاهرة ١٩٣٣)، مادة «الصور».
وأزيد أن الحديث (أو ما معناه) — وهو الذي إليه رجع أبو علي الفارسي — وجدته في الكتب المعتمدة، تارةً بالعبارتَين: «يُعذَب المُصوِّرون يوم القيامة»، ثم «فيُقال لهم أحيوا ما خلقتم»، وتارةً مقصورًا على العبارة الأولى، ارجع في هذا إلى «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم»، مثلًا:
  • (أ)

    بالعبارتَين: عند البخاري: «كتاب اللباس»، الباب ٩١، ٩٥، ٩٧، «كتاب التوحيد» الباب ٥٦، «كتاب البيوع»، الباب ٤٠، ١٠٤. عند مسلم «كتاب اللباس والزينة»، الباب ٩٨، ٩٩.

  • (ب)

    بالعبارة الأولى وحدها: عند البخاري: «كتاب اللباس»، الباب ٨٩، ٩٢، «كتاب الأدب»، الباب ٧٥. عند مسلم «كتاب اللباس والزينة»، الباب ٩٦، ٩٧، ١٠٠، ١٠١.

١٠  في الأصل وفي «ق»: «وهذه المُدرَكات المعدودة بالحاسة البصرية إليه مَيْل كثير، وفي أصنافه ما تلتذ به النفس أعظم وأوفر» على أن في «ق»: «تلذ» بدلًا من «تلتذ».
١١  «ق»: «نتهيج».
١٢  «ق»: «نشاطة».
١٣  الأصل و«ق»: «الهمم»، والسياق يقتضي «الهموم» ثم هي راجعة بعد أسطر، وكذلك في الخاتمة.
١٤  كذا في «ق»، وفي الأصل: «المالنخوليا».
١٥  يريد بابن الخطيب: أبا عبد الله بن عمر بن الحسين، فخر الدين الرازي، ويعرف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي، المتوفى سنة ٦٠٦ﻫ، ألَّف في الطب في جملة ما ألَّف.
١٦  «ق»: «فلا ينبغي للعاقل يجعل نفسه في …» ففيه سقط.
١٧  «ق»: «النهار» وهو تحريف البهار، وهو بهار البر: نبات طيب الرائحة، له زهرة صفراء تنبت في الربيع.
١٨  يريد: «ولم يخلق الله عز وجل.»
١٩  سقط: «الأحمر» في «ق».
٢٠  من هنا خاتمة الفصل، فعارضه بما جاء في «مطالع البدور» للغزولي، كما نبهت قبل ذلك، وهنالك تجد زيادات.
٢١  «ق»: «بما» وهو تحريف، و«مما» هنا خبر «أن» (النظر في الصورة …).
٢٢  هو: أبو بكر الطبيب المشهور Rhazès، توفي سنة ٣١٣ﻫ، وقد ذكر له ابن أبي أصيبعة «رسالة في الحَمَّام ومنافعه ومضاره» (عيون الأنباء ج١، ص٣٢١).
٢٣  الأصل: «مدة» والتصحيح عن «ق» ونص الغزولي.
٢٤  الأصل: «واحدًا» التصحيح عن «ق».
٢٥  الأصل وعن «ق»: «لقوة» التصحيح عن نص الغزولي.
٢٦  الأصل و«ق»: «معرفتهم» والهاء راجعة إلى المُصوِّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤