صوت أبي العلاء

١

لله أهل الفضل والعلم، ما أجدرهم بالرحمة وأخلقهم بالرثاء! إني لأراهم غرباء في بلادهم، مجفوِّين من أقاربهم، منبوذين من ذوي معرفتهم، وإني لأرى الفقر قد ضرب عليهم رواقه، وألقى عليهم كَلكله، فحرمهم لذة الأغنياء، بسباء الخمر، وسبي النساء، وبالغ في إذلالهم والغض من أقدارهم، حتى إن أحدهم لينال أقل القوت وأدنى العيش، فيحسبه عطاءً موفورًا، أو نعمةً مسبَغَةً عليه.

وا أسفاه لنار شبيبتي حين تخبو، فلن أجد عنها سلوة ولا عزاء مهما ترتفع بي المنزلة، ولو نُصَّ لي خباء بين النجوم؛ ذلك أن الشبيبة وحدها هي التي تتيح لي اقتضاء لذَّاتي واكتساب حاجاتي، فإذا انقضت فلا أمل في لذة، ولا مطمع في رضاء حاجة. أليس لكل عمر عمل قدرٌ قدِّرَ به، ووقتٌ أتيح فيه، فليس بعد الخامسة عشرة طفولة ولا صِبًا، وليس بعد الأربعين مرح ولا مجون.

أجِدَّك لا يقنعك ما يتاح لك في هذه الدنيا من حظ! رفِّه عليك، واقصد في أطماعك، ووازن بين ما تسدي وما يُسْدَى إليك؛ فلو قد فعلت لتبينت أنك لا تُسْدِي شيئًا، وأن الذي يُسْدَى إليك كثير.

إنما مثل ما يصيب الناس من حسن الحظ وسوئه مَثَل الأرض التي يتاح لبعضها أن ينبت ذكيَّ النبت ورائعه، ولا يتاح لبعضها الآخر إلا أن ينبت غليظ النبت وفجه، ولا يعطي منه إلا الرديء الممقوت.

تواصل حبل النسل ما بين آدم وبيني، وكان ذلك حمقًا تجنبته، وغيًّا برئت منه، فقطعت هذا الحبل ولم أصله، وأعرضت عن الزواج فلم أعقب في هذه الأرض نسلًا، إنما كان اتصال النسل عَدْوَى شاعت في الناس كما يعدي المتثائب جاره، أما أنا فقد برئت من هذه العدوى وعُصِمْتُ من آثارها؛ فلم أتثاءب حين تثاءب جليسي.

إيه للناس! لقد عرفتهم حق المعرفة، وبلوتهم أحسن البلاء، فرأيتهم كلهم هباء، ورأيت أمرهم كله باطلًا. أفتراني زهدت فيهم إلا لأني بهم عليم.

ليتني استطعت أن أستدرك ما مضى، وأتلافى ما فات؛ إذن لأنكرت من أمري بعض ما عرفت، ولغيَّرتُ من مواصلتي القديمة للناس نفورًا منهم وانقطاعًا عنهم، ولكن أين السبيل إلى ذلك وقد اشتعل الرأس شيبًا كأنه النار تأخذ أطراف القصب!

إنما هو القضاء يجب الإذعان له والرضا به؛ فالقضاء إذا حُمَّ قص جناح القطا فلا تنهض، وقلَّم أظفار السباع فلا تصول، وأنت عن فهم هذا القضاء عاجز، ومن الوصول إلى سره ممنوع. ألا تراه يكفُّ بأس ذي البأس، فيمنعه من البطش حين يريد البطش، ويحتفظ للسهل بسهولته وللحزن بحزونته مهما تتعاقب عليهما الأحداث. انظر إلى جبل رَضْوَى ما زال قائمًا على كثرة ما نطحته الجيوش، وانظر إلى أرض قُبَاء ما زالت قائمة على كثرة ما اختلف عليها من الرايات والأعلام. أذعِنْ إذن واستسلِم، ولا تحاول فهمًا ولا تأويلًا؛ فإن القضاء لا يخضع لفهم ولا تأويل.

إنما الحياة شر، فلننصرف عن هذا الشر، وإنما الوجود بؤس، فلنقطع أسباب هذا البؤس، وإنما الآباء جُناة على أبنائهم مهما يبلغوا من علوِّ المنزلة وارتفاع المكانة، ومهما يُتَحْ لهم من التفوق والسلطان. ويزيد جناية الآباء على أبنائهم حدَّةً، ويزيد بُعْدَ الآباء من أبنائهم شدة أن يتاح لهؤلاء الأبناء من الذكاء والنجابة ما يكشف لهم عن هذا الشر العظيم الذي دفعهم آباؤهم إليه حين منحوهم الوجود، واضطروهم إلى الحياة، فورَّطوهم في مآزق لا مخرج لهم منها، ومصاعب لا سبيل إلى اجتيازها، ومشكلات لا أمل في حلها.

خذ حِذْرَك، ولا تسمع لكل ما يقال، ولا تستجب لكل ما تُدْعَى إليه، أسئ ظنك بأدب الأدباء؛ فإنهم لا يدعون إلا إلى المَيْن، ولا يرغِّبون إلا في الباطل، ولا يهدون إلا إلى الضلال.

أتريد أن تعرف الحق فاستمع لي، إنما نحن صيد يطلبنا الموت حيثما اتَّجهنا، ويظفر بنا حيثما اعتصمنا؛ فلا تَفْرَق ولا تَجْبُنْ، وأَقدِم على ما ترى الإقدام عليه؛ فلن يمنحك الفَرَق خلودًا، ولن يُجَنِّبُكَ الجبن موتًا.

فَكِّر أيُّ فرق بين القوي إذا أدركه الخوف، وبين الضعيف إذا مسه الهلع! فكِّر ما خطب الظبي إن أشفق من الموت، وفيم تنكر عليه هذا الإشفاق إذا لم يكن الأسد الهصور بمأمن من الخوف والإشفاق؟

أُولو الفضل في أوطانِهم غُرباءُ
تَشِذُّ وتنأَى عنهمُ القُرباءُ
فما سَبَئُوا الراحَ الكميتَ لِلَذَّةٍ
ولا كان منهم للخِرادِ سِباءُ
وحَسْبُ الفتى من ذِلَّةِ العيش أنه
يروحُ بأدنَى القُوتِ وهو حِباءُ
إذا ما خَبَت نارُ الشبيبة ساءني
ولو نُصَّ لي بين النجوم خِباءُ
أُرابيك في الوُدِّ الذي قد بَذَلْتَه
فأُضْعِفُ إن أَجدَى لديكَ رِباءُ
وما بعد مَرِّ الخمسَ عَشرَةَ مِنْ صبًا
ولا بَعد مَرِّ الأربعين صَبَاءُ
أجِدَّكَ لا ترضى العباءة ملبسًا
ولو بان ما تُسديه قيل عَباءُ
وفي هذه الأرض الرَّكودِ منابتٌ
فمنا عَلَنْدي ساطعٌ وكِباءُ
تَوَاصلَ حبلُ النَسْلِ ما بين آدمَ
وبيني ولم يُوصَل بلاميَ باءُ
تَثَاءب عمروٌ إذا تثاءبَ خالدٌ
بِعَدْوَى فما أعْدَتْنيَ الثُؤبَاءُ
وزهَّدني في الخَلْقِ مَعرفتي بهم
وعِلْمي بأن العالَمِين هَباءُ
وكيفَ تَلَافِيَّ الذي فاتَ بَعْد ما
تَلَفَّع نيرانَ الحريقِ أباءُ
إذا نزل المقدارُ لم يكُ للقَطَا
نهوضٌ ولا للمُخْدِرات إباءُ
وقد نُطِحَتْ بالجيش رَضْوَى فلم تُبَلْ
ولُزَّ براياتِ الخميسِ قُباءُ
على الوُلْدِ يَجْنِي والدٌ ولَوَ أنَّهم
وُلاةٌ على أمصارهم خُطباءُ
وزادك بُعدًا من بنيكَ وزادَهم
عليك حُقُودًا أنهم نُجَبَاءُ
يَرَوْنَ أبًا ألقاهُمُ في مُؤَرَّبٍ
من العَقْد ضلَّت حَلَّه الأرَباءُ
وما أدَبَ الأقوامَ في كلِّ بلدةٍ
إلى المَيْنِ إلا معشرٌ أُدباءُ
تَتَبَّعُنَا في كل نقب ومخرم
منايا لها من جِنسها نُقَباء
إذا خافتِ الأسدُ الخِماصُ من الظُّبَا
فكيفَ تَعَدَّى حكمَهن ظِباءُ

٢

دع ما استقرَّ في طباع الناس من إهمال الحق وإيثار الباطل اغترارًا بالظاهر الكاذب: من لفظ خادع، أو وهم شائع، أو خرافة باطلة. فإنما حياة الناس ألوان من تلك الأباطيل المحترمة كأنها حق. منها ما أجمع الناس عليه في كل جيل وفي كل موطن من تكريم الجُثة بعد الموت مع أنها صائرة إلى التغيُّر والاستحالة وصائرة هباءً بعد حين، وحرصِهم على الحياة واغترارهم بها وانخداعهم بلذَّاتها واندفاعهم خلف الآمال والأمانيِّ، كأنهم خالدون، مع أن الموت لا بد منه ولا مندوحة عنه.

وما الروح في الجسم إلا كالراح في الدنِّ، لكلٍّ مقتضٍ يبتغيها، وطالبٌ يرغب فيها؛ فطالب الراح الإنسان، وطالب الروح الموت.

إن بعض الأدعياء ليعيِّروننا لفظ المَعَرَّة، يزعمون أنها مشتقة من العَرِّ (الجرب). فانظر إلى سخف الناس وما يتورَّطون فيه من الانخداع بالأسماء، والاندفاع فيما تدعو إليه من رغبة أو رهبة غير حافلين بالحق ولا ناظرين فيه. لو أن للأسماء أثرًا في الوجود والحس لكانت الأسود إنما تستمد إباءها من أجَماتها التي تسكنها وهي قَصَب الأَبَاء، ولكان أهل يثرب قد أصابهم التثريب والعيب، مع أنهم أحقُّ الناس بالمدح والمثوبة؛ لما جالدوا عن الدين وذادوا عن حوضه، بضرب يطير الفرخ عن وكر أمِّه، ويُبْطِل مزية الدرْع فيردَّها كالقميص لا تُغني غِناء، ولا تدفع بلاء. ولو كان ذلك حقًّا لكان اسم ذي نَجَبٍ — وهو موضع بجزيرة العرب — عِلَّةً لنجابة سكانه ونبوغِ أبنائه. أجَلْ! إن ذلك باطل، مصدرُه فساد العقول، ومرض القلوب، وانحراف الأمزجة.

وإنك لترى لفظ الدين والخير أشيع الألفاظ بين الناس، يتخذونهما طريقًا إلى الحياة والغِنى، وجُنَّة من الموت والفاقة، مع أن معنى الدين عزيز لا يُنال إلا بالكد، ولا يُدْرَكُ إلا بالمحاولة، ولا يسمو إليه إلا من أعدَّ له العُدَّة من جهاد بالنفس والقوة والمال. وما كنت لآخذ بلفظ الخير، فأزعم بعد ذلك أني خَيِّرٌ، وإن طالما ردَّد الخطباء هذا اللفظ ولَاكَتْه أفواههم؛ إنما الخير معنى يؤثِّر في القلوب والعقول، وتظهر آثاره في الأعمال، لا لفظ تلوكه الأفواه وتذهب به الرياح.

وهل رأيت أَضْعَفَ عقلًا، أو أَسْخَفَ رَأْيًا، أو أَضَلَّ حِلمًا، أو أَسْفَهَ نَفْسًا ممن يتفزَّع ويتشاءم، أو يستبشر ويتفاءل بالألفاظ الخادعة، أو الأمور التي لا أثر لها في عمل الطبيعة! تلك الأعرابية تَفَزَّع وترتاع حين تعرض لها نواعب الغِرْبان أو أسراب الظباء، مع أن الداهية قد تُلِمُّ بالحيِّ البصير الحازم، تفاءَلَ أو تشاءَمَ، لا يؤثر ذلك في قَدَر، ولا يدفع ذلك شيئًا من البلاء.

وأولئك قيس بن عَيْلان أعداهم الغِنَى والثروة، فعادوا من أثرياء الناس وأهل الغنى منهم، ولولا أن سبق بذلك قضاء محتوم وقدرٌ مكتوب لما وَرِيَتْ لهم زَنْدٌ، ولا كان لهم رِفدٌ، ولعادوا إلى ما كانوا فيه من الفقر المدقع، يُغنيهم رَعيُ الكلأ، ويُقنعهم الحصول على أدنى القوت، مختلفين فيما بينهم، لا يجمعهم نظامٌ، ولا يلُمُّ شعثهم قانون، وإنما هو الغَلَبُ والقهر، وهو السلطان والاستبداد.

تُكَرَّمُ أوصالُ الفتى بعد موتِه
وهُنَّ إذا طالَ الزمانُ هَباء
وأرواحُنا كالراحِ إن طال حبسُها
فلا بدَّ يومًا أن يكون سِباء
يعيِّرُنا لفظَ المَعَرَّةِ أنَّها
من العَرِّ قومٌ في العُلا غرباء
فإنَّ إِباءَ الليْثِ ما حلَّ أنفَهُ
بأن مَحَلاتِ الليوثِ أَباء
وهل لحِقَ التثريبُ سكان يثربٍ
من الناس لا بل في الرجال غَباء
همُ ضارَبوا أولادَ فِهْر وجالدوا
على الدين إذ وَشْيُ الملوك عَبَاء
ضِرابًا يُطِيرُ الفرخَ عن وَكْرِ أُمِّهِ
ويَتْرُكُ دِرْعَ المرءِ وهي قَبَاء
وذو نَجَبٍ إن كان ما قيل صادقًا
فما فيه إلا مَعْشَرٌ نُجبَاء
هل الدِّينُ إلا كاعبٌ دون وصلها
حِجابٌ ومَهْرٌ مُعْوِزٌ وحِباء
وما قبِلت نفسي من الخير لفظَه
وإن طال ما فاهت به الخُطَباء
تَفَزَّعُ أعرابيةٌ أن جَرَتْ لها
نواعبُ يستعرضْنَهَا وظباء
وما الأُرَبَى للحيِّ إلا مُسفَّةٌ
على أنهمُ في أمرِهم أُرباءُ
تعادتْ بنو قيس بن عَيْلان بالغِنَى
فثابوا كأن العسجد الثُّوباءُ
ولولا القضاء الحتمُ أُخبِيَ وَاقِدٌ
ولم يُبْنَ حول الراقدين خِباء
وعادوا إلى ما كانَ إن جاد عارضٌ
رأوا أنَّ رَعيًا في البلاد رَباءُ
يُبيئون قتلاهم بأكثر منْهُمُ
وإن قتلوا حُرًّا فليس يُباءُ

٣

شيئًا من الفطنة ونفاذِ البصيرة؛ فإنما الأمر بينك وبيني يقوم على الرياء والنِّفاق. إني لأظهر لك غير ما أُضمر، وأُبدي لك غير ما أُخفي. فليغفر الله لي هذه الزلة، وليتجاوز لي عن هذه السيئة.

ما أكثر ما ينكر الإنسان أمر عشيره! يرى منه ما يرضيه ويخدعه، ولو قد تكشَّف له ما وراء ذلك لرأى شرًّا ونُكرًا.

برئتُ إلى الله من الذين لا يعبدونه وحده ناصحين مخلصين لا يشوب دينهم رياء ولا نفاق.

أُرَائيكَ فليغفرْ لِيَ اللهُ زَلَّتِي
بذاكَ ودينُ العالمين رِئاء
وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظنَّ عَشِيرِه
وإن راقَ مِنْهُ مَنْظَرٌ وَرُؤاء
إذا قَوْمُنَا لم يَعْبدوا اللهَ وحدَهُ
بنُصْحٍ فإنَّا منهُمُ بُرَآء

٤

سألت رجالًا من أهل العلم وأصحاب الفلسفة والبصر بحقائق الأشياء عن مَعَدٍّ ورهطه ماذا أعدوا لاتِّقاء الخطوب، وماذا دبروا لتجنب الأحداث؟ وسألتهم عن سبأ ماذا كان يسبي إذا حارب، وماذا كان يسبأ إذا فرغ للهوه، وإلامَ صار أمره بعد هذا كله؟ فقالوا: إنما هي الأيام قد أُنزل الناس على حكمها، لم يُعْفَ من صروفها مليكٌ يُفَدَّى بالأنفس والأموال، ولا تقيٌّ يدين الناس له بالكرامة أو بالنبوة.

إني لأرى فلكًا يدور بما فيه ومن فيه، وإن لهذا الفلك لسرًّا مصونًا، وخبرًا مكتومًا.

فأعْرِض عن الدنيا، ولا تغررك عن نفسك، لا في شبيبة ولا في شيخوخة. إنما هي نصيحة أُسديها إليك مخلصًا؛ لأني أوثرك بالحب، وأنا أربأ بالذين أحبهم عن طلب الدنيا والتورُّط في آثامها.

لا تطلب الدنيا، واصبر نفسك على أحداثها وكوارثها، وأقم فيها إقامة المجاهد المرابط، فإن ما يُلم بأهلها من النوائب ليست إلا كتائبَ يبثها القضاء، مُفَرَّقة حينًا ومجمَّعة حينًا آخر، ولا مردَّ لها على كل حال.

سأَلْتُ رجالًا عن مَعَدٍّ ورهطِه
وعن سَبَأٍ ما كان يَسْبِي ويَسْبَأُ
فقالوا هي الأيامُ لم يُخْل صَرْفُها
مَلِيكًا يُفَدَّى أو تقيًّا يُنَبَّأ
أرى فلكًا ما زال بالخَلْق دائرًا
له خبرٌ عنا يُصَانُ ويُخبأُ
فلا تطلبِ الدنيا وإن كنت ناشئًا
فإنِّيَ عنها بالأخلَّاء أَربأُ
وما نُوَبُ الأيام إلا كتائبُ
تُبَثُّ سرايا أو جيوش تُعَبَّأُ

٥

بني زمني لا تجدُوا عليَّ، ولا تنقِموا منِّي أن أنكر حالكم، وأذم فعالكم؛ فإني أُنكر من نفسي مثل ما أنكر منكم، وأعيب من فعلي مثل ما أعيب من فعلكم، أشارككم في الحياة، فأشارككم في الإثم، وفي اللوم.

ما أَقْدَرَ الله على أن يردَّنا إلى هذا التراب، فنسكن بعد حركة، ونهدأ بعد عناء!

لقد جاورتْ نفسي هذا الجسم النكد، فما أصابها من جواره إلا الأذى والصدأ الذي يفسد معدنها، ويجلب لها كدرًا بعد صفاء.

بني الدهرِ مهلًا إن ذممتُ فِعالكم
فإنِّي بنفسي لا محالة أبدأُ
متى يتقضَّى الوقت واللهُ قادرٌ
فنسكنَ في هذا الترابِ ونهدأُ
تجاور هذا الجسمُ والروحُ برهةً
فما بَرِحتْ تأذَى بذاك وتَصدأُ

٦

ما أكثر ما يستقبل الناس الصباح، وما أكثر ما يستقبلون المساء! ولكنهم جميعًا ينسَون ما يكون بينهما من الأحداث.

ما أكثر من يمضي من الساسة والقادة وقد سرُّوا الناس بسياستهم وقيادتهم، أو ساءوهم بما دبَّروا وقدَّروا!

إن الملوك والرؤساء ليتتابعون فيما يَرِدون من الهُلْك، ولكن بلادهم تبقى على عهدها ولا تتغير ولا تتبدل؛ فمصر هي مصر، والأحساء هي الأحساء، وما أكثر مَنْ هلك من ملوك مصر وأمراء الأحساء!

أيْ أُمَّنا الدنيا، إنك لخسيسة حقيرة، فأفٍّ لنا نحن أبناءك من أوباش أخساء، ورثنا عنك الخسة وضِعة القَدْر. إنك لتعظيننا أصناف العظات، وتقدِّمين لنا ألوان النصح، بما تتكشفين لنا عنه من السوء والشر، والناس مع ذلك يرونك خرساء لا تنطقين!

مَنْ لصخر بن عمرو أن يكون جسمه صخرًا لا حياة فيه! ومن لأخته الخنساء، أن تكون ظبية ترعى مع الظباء، لا حظَّ لها من عقل! إذن لتجنَّبنا ما أصابهما من القتل، والثُّكْل والحزن.

إن بحرك لهائج شديد الهياج، مضطرب عظيم الاضطراب، تعصف به الشهوات الجامحة، والأهواء العنيفة؛ ونحن في سفن يكتنفها الهول من كل وجه. فمتى يتاح لها الإرساء ومتى تتاح لأهلها العافية!

إنك لتعطفين علينا وترفقين بنا، وما أرى عطفك إلا قسوة، وما أرى رفقك إلا عُنفًا. وإنك لتنظرين إلينا، فنرى في نظرك إلينا رحمة ولينًا، وإنه مع ذلك لَلنَّظَرُ الشزْر، لا يُصوِّر إلا الغلظة والجفاء!

إنما الناس على الأرض في إحَن مستمرة ومِحَن متصلة، يذوق بعضهم بأس بعض، يتساقون الموت كما يتعاطون الشرَّ، على حين لا يصيب الوحش على الأرض من الشرِّ إلا أيسره وأهونه.

فلا تنخدع بما ترى من جبالهم الشمَّاء، وعزتهم القعساء، ومجدهم التليد والطريف؛ فإنما هذا كله باطل وغرور.

إنما أُتيح لهم حظٌّ قليل من لذة، ونصيب ضئيل من نعمة، ثم ارتحلوا فإذا اللذة ألمٌ، وإذا النعماء بأساء.

يأتي على الخَلْقِ إصباحٌ وإمساءُ
وكلنا لصروف الدهر نَسَّاءُ
وكم مضى هَجَريٌّ أو مُشَاكِلُه
من المَقاوِلِ سَرُّوا الناس أم ساءوا
تَتْوَى الملوكُ ومِصرُ في تَغَيُّرِهُم
مصرٌ على العهد والأحساء أحساءُ
خَسِسْتِ يا أمَّنا الدنيا فأفٍّ لنا
بنو الخَسيسة أوباش أخسَّاءُ
وقد نطقتِ بأصناف العظات لنا
وأنت فيما يظن القوم خرساء
ومَنْ لصخرِ بن عمرو أن جُثَّتَهُ
صخرٌ وخنساءَه في السِّرْب خنساء
يموج بحرُكِ والأهواء غالبةُ
لراكبيهِ فهل للسفن إرساء
إذا تعطفتِ يومًا كنتِ قاسيةً
وإن نظرتِ بعينٍ فهي شوساء
إنسٌ على الأرض تُدْمِي هامَها إحَنٌ
منها إذا دَمِيَتْ للوحش أنساء
فلا تَغُرَّنْكَ شمٌّ من جبالِهمُ
وعِزَّةٌ في زمان الملك قعساء
نالوا قليلًا من اللَّذَّات وارتحلوا
برغمهم فإذا النعماء بأساء

٧

إنما العليل المُعَنَّى طبيبٌ إذا عرف علته، واستقصى حقيقة الداء الذي يُعانيه، فاعرف عِلَّتك في هذه الحياة، واستقص حقيقة ما يصيبك فيها من أذى، وما يلم بك فيها من مكروه. إن أصل هذا كُلِّه حاجتك التي لا تنقضي، وتتبُّعك لتحقيق ما تثير الحياة في نفسك من رغبات. والرجل اللبيب هو الذي يشفي نفسه من الحاجة، ويَكُفُّها عن تتبُّع المآرب.

يا ويحَنا! إنا لَنَفِرُّ من الموت، وليس لنا ملجأ من الموت، ونحن مع ذلك نمضي في الفرار، وهو مع ذلك يلحُّ في اقتفاء آثارنا، كأنما نحن الأحِبَّاء قد شطَّت بهم نَوًى بعيدةٌ، والموت عاشق مُلِحٌّ يأبى إلا أن تتصل أسبابه بأسبابنا.

إنَّ الأعِلَّاء إن كانوا ذوي رَشَدٍ
بما يُعانون من داء أطِبَّاءُ
وما شِفاك من الأشياء تطلبُها
إلَّا الألِبَّاء لو تُلْفَى الألِبَّاءُ
نَفِرُّ من شُرْبِ كأسٍ وهي تَتْبَعُنا
كأنَّنا لمنايانا أحِبَّاءُ

٨

إذا تمايز الناس في أخلاقهم وخصالهم، وافترقوا في أقوالهم وأعمالهم، فهم سواء في فساد الطبع وسوء الغريزة.

وإذا كان كل الذين ولدتهم حواء يشبهونني في الطبع والخُلُق والسيرة، فبئس من ولدت حواء للناس.

إنما أوثر العُزْلة وأتجنب الناس؛ لأبرأ من أدوائهم، وأعتصم من شرورهم، وأطَّهَّرَ من آثامهم، إنما أريد أن أكون كبيت الشعر يقوله الشاعر مُفْرَدًا لا سابق له ولا لاحق، فهو بذلك آمنٌ عيوب القافية، إنما يأتينا السوء من الحياة الاجتماعية التي يجاور فيها بعضنا بعضًا، فيشقى فيها بعضنا بجوار بعض.

لقد ناداني المنادي: ألْوَيْتَ فانْزِلْ. فلأفْهَمْ عن المنادي نداءه، فهو لا يريد أنِّي قد بلغتُ اللِّوَى، وإنما يريد أن نبتي قد ألوى، وأن زهري قد ذَوَى، وأنِّي قد أدركت الشيب، فآن لي أن أرعَوِي وأثوب إلى الرشد.

إنما الشيب كهذه النجوم التي لا تكاد تظهر في الدُّجى حتى يتبعها المطر الواكفُ، كذلك الشيب لا تكاد تظهر نجومه في سواد الشعر حتى تنهلَّ العبرات حزنًا وخوفًا وإشفاقًا.

إن مازت الناسَ أخلاقٌ يعاش بها
فإنهم عند سوء الطبع أسواء
أو كان كل بني حوَّاء يُشبهني
فبئس ما ولدت في الخلق حوَّاء
بُعْدي من الناس برءٌ من سَقامهمُ
وقربُهم للحِجا والدين أدواء
كالبيت أُفرد لا إيطاء يدركه
ولا سِنَادَ ولا في اللفظ إقواء
نوديتُ ألويتَ فانزل لا يراد أتَى
سيرى لِوَى الرمل بل للنبت إلواء
وذاك أن سواد الفَوْد غيَّره
في غِرَّة من بياض الشيب أضواء
إذا نجومُ قَتِيرٍ في الدُّجى طلعتْ
فللجفون من الإشفاق أنواء

٩

أَسْرِعْ إلى ما يخلُق بك من نفع الناس مُعرضًا عما لا خير فيه، وبادر بذلك أحسن الأوقات، وأشدها ملاءمة له، وهو وقت الشباب؛ فإن الشباب أوفق وقت لاستيفاء الحاجات واقتضاء اللذات، وهو لا يدوم بل الدهر ماحيه ومُخبي جذوته، وما الشباب إلا كالنار، يجدر بمن يريد الانتفاع بها أن ينتهز فرصة ذكائها وتلظِّيها.

ولقد أصاب قوةَ شبابي وهنُ الشيب، فلم أستطع أن أردَّ ذلك الضعف قوة، ولا أن أحوِّل هذا الخمود استعارًا. ولئن كان الشباب كالنار إن من اليسير عليك إذكاء النار الخامدة بعد خمودها، وليس من الممكن ولا من المتاح أن تسترد شبابًا مضى، أو تستأنف قوة فاتت.

ولست آمن عليك حين تخبو نار شبابك فتريد إذكاءها أن يعود عليك ما تحاول من نفعها ضررًا، وما تطلب من خيرها شرًّا؛ فكل قوة يبذلها الأشيب استئنافًا لحياة الشباب لا تزيده إلا ضعفًا ولا تفيده إلا وهنًا.

أَكْفِئْ سَوامَك في الدنيا مُياسرةً
وأعرضَنْ عن قوافي الشعر تُكْفئها
إن الشبيبة نارٌ إن أردت بها
أمرًا فبادره إن الدهر مُطفئها
أصاب جمريَ قُرٌّ فانتبهتُ له
والنار تُدْفِئ ضيفي حين أدفئها
ألقى عليها جليسي في الدجى حُمَمًا
فقام عنها بأثواب يُرَفِّئها

١٠

أجل! قد عميت الأبصار، وخُتِمَ على القلوب، وأظلمت البصائر حين حُجب عنها نور الحق، فظن الناس أنهم على دين صادق، وإنما هم أهل نفاق ورياء، وليس إلى إصلاحهم من سبيل؛ فقد فقدوا أهم شرط للإصلاح وهو الحياء، وكيف يمكن أن يميل إلى الخير من لا يستحيي من الشر!

أيُّهذا العالَمُ السيئ والمنزل الموبوء! لقد رأينا فيك المصلين، ولكنا لم نر فيك الأتقياء.

ألا لا يكذب الجاهلون؛ فقد خلع الناس ولاية الله من أعناقهم، فليس فيهم له وليُّ ولا صادق أمين.

أيتها البلاد التي اشتملت السعادة والشقاء، واحتوت الفقر والثراء! لقد حقت عليك الكلمة، ومضى فيك القضاء المحتوم بالخزي والتعس؛ فأهلك أشقياء ليس لهم من شقائهم منفذ ولا لهم عنه صارف، لا ينفعهم وعظ، ولا يحكمهم إرشاد، لقد طالما عنَّينا أنفسنا بالنصح والهداية، فوعظ الواعظون وقام الأنبياء، ولمَّا يُجْدِ ذلك نفعًا، ولمَّا يأت بخير. البلاء باق لا زوال له، والداء عَياء لا شِفاء له، وحكم الله فينا نافذٌ لا صارف عنه، ولكنا بفطرتنا أغبياء لا نفهم، وحمقَى لا نعقل:

قد حُجِبَ النور والضياءُ
وإنما دينُنا رياءُ
وهل يجود الحيا أُناسًا
منطويُا عنهم الحياء
يا عالَمَ السَّوْء ما علمنا
أنَّ مصلِّيك أتقياء
لا يكذبنَّ امرؤ جهولٌ
ما فيك لله أولياء
ويا بلادًا مشى عليها
أولو افتقار وأغنياء
إذا قضى الله بالمخازي
فكل أهليك أشقياء
كم وَعَظَ الواعظون منَّا
وقام في الأرض أنبياء
فانصرفوا والبلاء باقٍ
ولم يزل داؤك العَيَاء
حُكْمٌ جرى للمليك فينا
ونحن في الأصل أغبياء

١١

تعالى الله الذي شمل الناس بنعمته، وعمَّهم برزقه، لم يفرِّق بين فاضل وعاطل، ولا بين ناقص وكامل.

لقد وهَتِ المروءة وأخْلَق أدِيمُها، ومضى الحياء وعفتْ آثاره، حتى بُغِّضت الحياة إلى البصير ذي اللبِّ، وكُرِّه العيش إلى الحصيف ذي العقل، وأصبح الموت له راحةً والعدم له نعيمًا. أجل! لقد أصبح الموت خيرًا من حياة ملؤها الشر، وأحبَّ إلى النفس من عيش مفعم بالذل والاستبداد: فقام على الناس — ومنهم الألباء الأذكياء — ظَلَمة معتدون، يحملونهم على ما يكرهون، ويسوسونهم بما لا يحبون، وهم بعد ذلك أوْلى أن يحملوا نفوسهم على الخير، وأجدر أن يأخذوها بالمعروف.

أجلْ! لقد فتَّشت في هذه الدنيا عن أهل الدين الصادق، والاعتقاد الصحيح، الذين لا يشوب صفاء دينهم كدر الرياء، ولا صدأ النفاق ولا دنس الخديعة، فإذا الناس في الدين رجلان: أما أولهما فأبله لا يعقل أو محمَّق لا يفقه، هو البهيمة لا يهديها إلى الحق عقل، ولا يرشدها إلى الخير ضياء. وأما الثاني فذكيٌّ فطن، ولكنه مختال فرح. فأنت من أهل الدين بين ماكر خادع، وجاهل غبي.

ولعمري لو أن الدين والتقى كانا عِيًّا وبَلَهًا أو غفلةً وحمقًا، لقد كانت الأعيار التي ضُرِبت عليها الذلة، والحُمُر التي أُخذت بالنزق والمسكنة، أحق بالدين وأدنى إليه، ولكان ذلك الأجرب الذي أكلَّه العبء الثقيل، وهبت عليه الريح الباردة، فزادته تأذِّيًا بدائه وتألُّمًا بعلته؛ أهدى إلى الدين سبيلًا، وأكثر فيه رشدًا!

أجلْ! لقد عظم الشرُّ في هذه الحياة، واشتد حرص الناس عليها؛ فليس فيهم إلا محب لها ومشغوف بها، حتى جعلهم الحرص كلهم فقراء، لا يعرفون الغِنَى، ولا يذوقون النعمة، وحتى كان ما فيها من شقاء يُغريهم بها، وما في الموت من راحة يصرفهم عنه.

ولقد عظم في نفوسهم أثر الحرص على الحياة، حتى ما تجد لأحد من أصحابه صفيًّا ولا صديقًا. وكذلك باعدت الحياة بين الناس قديمًا؛ فهم أعداء منذ كانوا وقد خُلِقُوا ليكونوا أصدقاء.

إيهِ أيها المحمَّقون! لقد أخطأتكم العبرة، وأضلتكم الموعظة، فغفلتم عما كان يخلُق بكم أن تحفِلوا به وتتنبهوا إليه! علامَ تأسفون إن دهمكم الموت وفارقتكم الحياة؟ أفتعتقدون أن الشمس وهي أذكى منكم نارًا وأجمل بهاءً تحس ما لها من نباهة الشأن وحسن الطلعة، فتأسف إن فارقها جمالها، وتأسَى إن باعدها ضياؤها! أما إن في العالم لعِبَرًا نافعة، ومواعظ صالحة، ولكن الناس أكثرهم لا يعقلون.

تعالى رازقُ الأَحياءِ طرًّا
لقد وَهَتِ المروءةُ والحياءُ
وإن الموت راحةُ هِبْرِزيٍّ
أَضَرَّ بلُبِّه داءٌ عَيَاءٌ
وما لي لا أكونُ وصيَّ نفسي
ولا تعصِي أُمُوري الأوصياءُ
وقد فَتَّشْتُ عن أصحاب دينٍ
لهم نُسْكٌ وليس لهم رياءُ
فألفيتُ البهائم لا عقولٌ
تقيم لها الدليلَ ولا ضياءُ
وإخوانُ الفَطانة في اختيالٍ
كأنهمُ لقومٍ أنبياءُ
فأمَّا هؤلاء فأهلُ مكرٍ
وأما الأوَّلُون فأغبياءُ
فإن كان التُّقَى بلهًا وعِيًّا
فأَعيارُ المذلَّة أتقياءُ
وأرشدُ منك أجربُ تحت عبءٍ
تهبُّ عليه ريحٌ جِرْبِياءُ
وجدتُ النَّاس كُلُّهمُ فقيرٌ
ويُعْدَمُ في الأنام الأغنياءُ
نحِبُّ العيش بغضًا للمنايا
ونحن بما هَوِينا الأشقياءُ
يموت المرء ليس له صفيٌّ
وقبل اليوم عزَّ الأصفياءُ
أتدري الشمس أنَّ لها بهاءً
فتأسَفْ أن يفارقها الإياءُ

١٢

جِدُّوا أيها الناس فيما أنتم بسبيله من تقرب إليَّ وتلطف بي، ومن رفق تُظْهرونه وغش تضمرونه، ومن لفظ حلو تهدونه إليَّ ولومٍ مُر ترمونني به؛ فلقد كثر ما أظهرتم الحب لي، وأصابني من بغضكم طِوالُ السهام وقصارها، وعظام الأمور وصغارها.

جِدُّوا في ذلك كله؛ فلم يكن تقرُّبكم إليَّ ليؤلِّف بيني وبينكم إلا إن صح ائتلاف الذال والظاء.

أراهُم يضحكون إليَّ غِشًّا
وتغشاني المَشَاقِصُ والحِظاءُ
فلستُ لهم وإن قربُوا أليفًا
كما لم تأتلِفْ ذالٌ وظاءُ

١٣

وَيْلي على تلك الذوائب السود قد أغار عليها ذلك الشيب نهاريَّ الثوب، ويمحو ظلمتها بضيائه قليلًا قليلًا حتى يأتي عليها.

أفينبغي أن آسَى على الشباب؟! أم ينبغي أن أفرح بالشيب؟!

أفلا أستطيع أن أتلقَّى الشيب فرحًا مسرورًا، معللًا نفسي بما عسى أن يكون حقًّا من الأماني! فلعل هذا السواد الزائل قد كان دنسًا أصاب تلك الذوائب، ثم عُنِيَ الشيب بإزالته وحَرَص على محوه وإحالته إلى نقاء.

إيه أيتها الدنيا! لقد عشقناك راغبين، ثم أشقينا كارهين، وكذلك العشق شقاء، والحب تعس، والهوى هوان.

إيه أيتها الدنيا! لقد سألناك البقاء، وطلبنا إليك الخلود، على ما فيك من أذى، وعلى ما تشملين من ألم، فأبيتِ ذلك علينا، وصرفته عنا؛ إذ كان الفناء لنا مقدورًا، والبقاء علينا محظورًا.

إيه أيها الراغب في الدنيا، الحريص عليها، الذي كذَّب فيها ظنون الحكماء، واتَّهم في حبها رأي الفلاسفة! لقد خدعتك نفسك وأضلَّتك آمالك؛ فإنما أنت وأصحابك إلى بعاد لا دنوَّ بعده، وفراق لا لقاء معه، إنما أنت وأصحابك عرضة لموت واقع غير مدفوع، وحِمام نازل غير مردود.

دونك ما شئت من دروع ضافية وحصون واقية، ومن معاقل وبروج، ومن أسلحة وقوة؛ فإن ذلك إن استطاع أن يدفع عنك شيئًا من أذاة عدو، فلن يستطيع أن يرد عنك ما تحمله إليك الأيام من رَدًى لا بد منه ولا مندوحة عنه.

لا أُحذِّرك بغير علم، ولا أنهاك عن غير بصيرة، وإنما أصدر في نصيحتي لك عن تجربة صادقة وبحث صحيح. الموت واقع لا شك فيه، قد رهنته الطبيعة لوقت معين، وجعلت له كتابًا ثابتًا وأجلًا محتومًا.

قد زالت الشمس والماء بين يديك، وأنت رجل تنتحل الإسلام، فدونك الظهر، فأدِّ فريضته وأقم صلاته. وقد انحل جسمك ومضى أجلك، وأدبرت عنك الحياة وأنت إنسان ليس من طبيعتك الخلود، فدونك الموتَ فَرِدْ حوضه، واحتسِ كأسه. أقدِمْ أو أَحْجِمْ فإنك ميت من غير ريب. لِمَ تكره الموت، ولم تعاف كأسه وأنت لم تذقها ولم تَبْلُ منها حلاوةً ولا مرارة! هل وجدت الحياة عذبة المذاق لذيذة الجَنى؟ كلَّا! ما أراها إلا كأسًا نحتسيها غافلين عن مرارتها وما فيها من غضاضة، فإذا أقبل الموت وقئنا ما استقر في أمعائنا من هذه الكأس عرفنا مرارة العلقم والصاب، وتبينَّا أننا لم نكن إلا مخدوعين.

ألا إنك مخدوع فأفِقْ من غفلتك، ودَع ما تجشِّمك الحياة من المكروه، وما تصيبك به من الأذى، وما تحملك عليه من إيثار البغضة على المحبة، فكل ذلك باطل لا خير فيه. دونك الحب والمَودة والإخلاص في الإخاء، فاغتنم نصيبك منها قبل أن يدركك الموت فتمضي وقد خسرت الحق والباطل جميعًا.

أَسِيتُ على الذوائبِ أن علاها
نَهارِيُّ القميص له ارتقاء
لعلَّ سوادها دَنَسٌ عليها
وإِنقاءُ المُسِنِّ له نَقَاءُ
ودُنيانا التي عُشِقَتْ وأَشْقَتْ
كذاك العشق معروفًا شقاءُ
سألناها البقاءَ على أَذاها
فقالت عنكمُ حُظِرَ البقاءُ
بعادٌ واقعٌ فمتى التداني
وبَيْنٌ شاسعٌ فمتى اللقاءُ
ودِرعُكَ إن وقَتْكَ سِهَامَ قَوْمٍ
فما هي من رَدَى يومٍ وِقاءُ؟
ولستُ كمن يقولُ بغيرِ علمٍ
سواءٌ مِنْكَ فتكٌ واتِّقاءُ
فقد وجبتْ عليكَ صلاةُ ظُهرٍ
إذا وافاكَ بالماءِ السِّقاءُ
لقد أَفنتْ عزائمكَ الدياجي
وأفرادُ الكواكِبِ أرفِقاءُ
فيَا سِرْبي لتدركَنَا المنايا
ونحنُ على السجيَّةِ أصدِقاءُ
أرى جُرَعَ الحياةِ أمرَّ شيءٍ
فشاهِدْ صِدْقَ ذلك إذ تُقاءُ

١٤

أُفٍّ لهذه الحياة، وأُفٍّ لهذا العالم! لقد احتبساني فيهما أسيرًا، وارتهناني عندهما بحيث لا أُؤمل من أسرهما فكاكًا ولا أرجو من سجنهما انطلاقًا، فكأنِّي وقد وقفت على حال سيئة من الحياة ليس لي عنها مزحلٌ ولا مندوحة، قافُ رُؤبة أرسلها ساكنة ليس لها إلى الحركة سبيل، ونطق بها مقيَّدة ليس لها من الإطلاق حظ.

أُفٍّ لهذه الحياة، وأُفٍّ لهذا العالم! لقد أنهلاني الهموم، وعَلَّاني الخطوب، وأصاباني من أحداثهما بعلل ليس لها شفاء، وأدواء ليس لها دواء؛ فكأنما أصابتني منهما تلك العلة الباقية القديمة التي تصيب الأفعال الجُوف وتَرُدُّ وَاوَها وياءها ألفًا يُعْيي الأطِباء شفاؤها، ويُعْجِزُ الحكماء الطب لها.

إيه أيها الجسم الذي فترت أوصاله، وانحلت قواه، وطال عليه الأمد. لقد أنَى لك أن تستبد بك الصحراء ويتضمنك التراب.

أجلْ! لقد فترت أوصالك، وارتخت مفاصلك. وما ذاك من شرب المدام ولا حب النِّدام، وإنما هي الخطوب المُسْرِية والهموم المدلجة، ألحت عليك فبدلتك من القوة ضعفًا، ومن النشاط فتورًا.

لقد طال بي المقام حتى مَلِلته، وطالت عليَّ الحياة حتى سئمتها. فكم أنا مُعَنًّى بعشرة أمة قد حكمتها الذلة، وسيطر عليها الظلم، واستبد بحقوقها الأمراء، يظلمونها أشد الظلم، ويعسفونها أقبح العسف، ويكيدون لها شر الكيد، ويَعدُون مصالحها، ويتجاوزون منافعها، وإنما هم لها أُجراء، وعنها وكلاء.

أمة قد طالت صحبتي لها واختباري إياها؛ فما دلَّتني التجربة ولا أرشدني الاختبار إلا إلى براءتها من الخير وإقفارها من المعروف، وإلا إلى أنَّ أشدَّها بالشر اتصالًا وأكثرها فيه إغراقًا هم الشعراء الذين قد كانت تُعقد بهم آمال الإصلاح، ويُناط بهم رجاء الخير.

أمة ما أكثر قَوْلَها وأقلَّ عملها! ما أكثر روايتها لأخبار الجود وأحاديث الأجواد! وما أشد بخلها بالمال وضنها بالثراء! كأن ما ترويه من حمد الكرم، وما تَأثِره من مدح الجود، يُغْريها بالبخل والكزازة، ويرغِّبها في الضن والدناءة.

أمة جنتْ من ثمار الحياة ما لم تكن له أهلًا، ولقيت من نعيمها ما لم تكن به خليقة، فأبطرتها النعمة، وأفسدها الغنى. ولم أر شرًّا من نفس الإنسان؛ إذا تجاوزت قدرها جناح بعوضة ساءت حالها، وفسدت طبيعتها، كأنها القصيدة من الشعر يزينها الوزن الصحيح المستقيم، فإذا زيد فيها حرف ظهر للسامع نُكرها، وبان للسمع اختلالها.

أمة أطغتها الثروة، وأطمعتها الحياة، فتزيدت منهما، وتلذذت بهما، كأنها النائم يلذ له النوم فيستزيده، غافلًا عن أنَّ زيادته إنما هي تقصير من أَجَلِه، واستعجال لموته.

سبحانك اللهم! لقد جل شأنك، وخفيت حكمتك على العقول. بسطتَ الغبراء، ورفعت فوقها الخضراء، وأجريت بينهما عالَمًا ما أعرف للخير فيه موضعًا، عالَمٌ عاقل ولكنه شرير، هل تعرف رذائله الحيوانات العُجْم؟ وهل تُشاركه فيها المخلوقات البُلْه؟ هل تحسد الجياد السود القاتمة أخواتها الغُرَّ الواضحة؟ كلَّا! ما أرى للحسد فيها أثرًا، وإنما هو طبيعة الإنسان قد أفسده الطمع والشره، وغيره البخل والحرص.

أُفٍّ لك أيتها الدنيا المتقلبة! ما أرى أنك تثبتين على حال، وما أُشبهك إلا بالحسناء الناعمة، ذات الدلال والغنج، وذات الجمال والبهجة، وذات المنظر الساحر واللفظ الخادع واللحظات المطمعة، ثم هي مع هذا كله طامث، قد لزمها الطمث، وحجبها الحيض، فما تستقيم أقراؤها لطالبها، وما تنتظم أطهارها لمحبها، على أنه بها كَلِفٌ مُعَنًّى، وعليها حريص معذَّب.

لقد هويك الناس فذكيت أهواءهم بالمنى، ونميتها بالآمال، حتى إذا جاء وقت الإثابة واقتضاء اللذات، أوقعتهم في اليأس المهلك والقنوط المميت. لقد شقي بك الأغنياء الذين هم أشد عليك حرصًا وأكثر فيك رغبةً، واستراح منك الفقراء الذين هم أبعد منك مكانًا، وأقل بك اتصالًا!

لقد أفسدت عقولًا كانت خليقة أن تصلح، وعوَّجت طرقًا كانت جديرة أن تستقيم. أولئك الفقهاء لا يتجادلون إلا فيك، وأولئك القراء لا يتقربون إلا لك؛ فأما فقه الدين واستظهار الكتاب، فشيء لا يحفلون به ولا يلتفتون إليه!

لقد أضللت العقول وأفسدت الطبائع حتى لم يبق للنصح إليها طريق وكأنما النصح بالانصراف عنك إغراء بشدة الحرص عليك.

ما لي غدوتُ كقافِ رُؤبةَ قُيِّدَتْ
في الدهرِ لم يُقْدَرْ لها إجراؤُها
أُعللتُ علَّةَ قال وهي قديمةً
أعيا الأطِبَّةَ كلَّهم إِبراؤُها
طال الثَّواء وقد أنَى لمفاصلي
أن تستبدَّ بضَمِّها صحراؤها
فَتَرتْ ولم تفتُر لِشُرْب مدامةٍ
بل للخطوب يغولُها إِسراؤُها
مُلَّ المقامُ فكم أُعاشرُ أمَّةً
أَمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرَّعيَّة واستجازوا كيدها
فعدَوْا مصالحها وهم أُجَراؤها
فِرَقًا شعرتُ بأنَّها لا تقتني
خيرًا وأنَّ شرارها شُعراؤها
أَثَرَتْ أحاديثَ الكرام بزعمها
وأجاد حَبْسَ أكُفِّها إثراؤها
وإذا النفوس تجاوزت أقدارَها
حدَّ البعوضِ تغيَّرت سُجَراؤها
كصحيحة الأوزانِ زادتها القُوى
حَرْفًا فبان لسامعٍ نكراؤها
كَرِيتْ فسُرَّتْ بالكرى وحياتها
أكْرت فجرَّ نوائبًا إكراؤها
سبحان خالقِكَ الذي قرَّتْ به
غبراء توقد فوقها خضراؤها
هل تعرفُ الحسدَ الجيادُ كغيرها
فالبُهْمُ تُحْسَدُ بينها غرَّاؤها
ووجدت دنيانا تُشابه طامثًا
لا تستقيم لناكح أقراؤها
هُوِيتْ وَلم تُسعِفْ وراح غنيُّها
تَعِبًا وفاز براحة فقراؤها
وتجادلت فقهاؤها من حبها
وتقرَّأت لتنالها قُرَّاؤها
وإذا زجرْتُ النفس عن شغفٍ بها
فكأَن زجر غويِّها إغراؤها

١٥

أيا بنة الماء، وذات النُّوَب والأنباء! أنت التي لا تثبت على حال ولا يستقر لها أمر، أنت المضطربة الهائجة، والمرتبكة المائجة، أنت الغرارة الخدَّاعة، والمنَّاحة المنَّاعة.

أفٍّ لك! لقد قلَّ فيك الخير، وكثر فيك الشر. ولقد صغُرت أمورك، وهانت الآمال فيك؛ فأعظم حظ الفائز بك والظافر برغائبك طعامٌ يُسيغه، ورفثٌ ينالُه.

تسيرين على غير حكمة مفهومة ولا نظام مألوف، يسعد فيك المقيم الآمن، ويشقى بك المُجِدُّ الظاعن.

قضاءٌ سَبَقَتْ به الكلمة وجرى به القلم، فما يزال على الناس جاريًا، وعلى العقول خافيًا، قد حيَّر الألبَّاء فهمه، وأعيا الحكماء تعبيره.

أسلاف تسلف، وأخلاف تخلف، وملوك يزول عنها العز ويفارقها السلطان ويُسلمها الأحْبَاء والأّحِبَّاء، وآثام ما تزال تجددها الحاجة، وسيئات ما يزال يخلقها الفقر والبؤس، ونحن لكل هذه السهام أغراض، لا نحس ولا نشعر ولا تسمو عقولنا إلى عظة ولا اعتبار.

دنياك ماويَّة لها نُوَبٌ
شتَّى سماويَّة وأنباء
أُفٍّ لها جُلُّ ما يُفيد بها
مَن فاز فيها الطعام والباء
جُدَّ مُقيمٌ وخاب ذو سفرٍ
كأنه في الهجير حِربْاء
أقضيةٌ لا تزال واردة
تَحَارُ في كونها الألِبَّاء
قام بنو القوم في أماكنهم
وغُيِّبَتْ في التراب آباء
وزال عزُّ الأميرِ وافترقتْ
أَحْباؤه عنه والأحِبَّاء
وكلَّ حينٍ حُوبٌ ومعصيةٌ
زادتهما في الذنوب حَوْباء

١٦

إيه أيها المتفكِّر المتفهِّم والباحث المستبصر! لقد قُضي عليك أن تعيش في عصر ظهر فيه الجهل، وخَفي فيه العلم، وعم دهماءه الحمق، واشتمل على أهله الجمود.

سبحانك اللهم! بك آمنت، ولك أذعنت، لك العبيد والإماء، من رجال ونساء، لك الأرض والسماء والهواء والماء، لك النجوم الطالعة، والكواكب الساطعة.

قل ما شئت من ذلك لا يعمك بقوله حكيم، ولا ينكره عليك فيلسوف، ثم دعني أستغفر الله وأتضرَّع إليه؛ فقد انقضت عني مدتي وأسلمتني أيام إلى الحَيْن.

دعني أفرغ لما أنا فيه من خلوةٍ إلى نفسي وعنايةٍ بأمري.

فإنما نحن في أيام كثُرت فيها الأسماء، وقل فيها الغَناء. يذكرون الكرم والجود، والحق والفضيلة، والخير والبر، وإنما هي ألفاظ تلفظها الأفواه وتلتقفها الرياح. يروون الحكمة والعظة، ويأثِرون النصيحة والهدى، ويدرسون العلم والشريعة، وإنما هي أكاذيب الرواة، وأحاديث الغواة، وأفانين من التجارة اخترعها القدماء، يكسِبون بها عيشهم، ويشترون بها ثمنًا قليلًا. دعني أفرغ لما أنا فيه؛ فقد كَذَبتني الأماني، وتكشفت لي الآمال عن باطلها، وظهرت لعيني الحقائق واضحة، ولكنها بشعة المنظر مُرَّة المذاق.

هل ترى هذه الشهب اللامعة إلا شباكًا قد أعدها الدهر يلقيها على العالم فيصطاد بها فرائسه! أوَما تُبصر كَمْ ترك الردى في الناس من الأفاعيل: كيف فرق بين الأصهار والأحْماء، وكيف باعد بين الآباء والأبناء!

عجبًا للقضاء المحتوم والقدر المكتوب! لقد مضيا على الخلق لا يردهما راد ولا يدفعهما دافع، حتى أصبح الأمل معهما حمقًا، واليأس بين يديهما حزمًا.

أيتها العصماء المكنونة، والحسناء المصونة، لا يخدعنَّك جمالك الخلَّاب للعقول الفتَّان للألباب. لا يخدعنَّك لحظك الفاتر، ولفظك الساحر. لا يخدعنَّك خدك الأسيل، وخصرك النحيل. لا يخدعنَّك وجهك الذي تباهين به ضوء النهار، وشعرك الذي تبارين به فحمة الليل؛ فكل ذلك إلى زوال؛ إنما بَدْرُك إلى أفول، وزهرك إلى ذبول، وجمالك الفاتن إلى فناء. ارتقبي ذلك اليوم الذي سيصوِّب إليك من الحِمام سهمًا لا يطيش، ونصلًا لا يخطئ، ورمية لا يحميك منها معقل ولا حصن. خذي مكان العصماء من رأس الجبل، فإن الموت لَاحِقُك لا محالة، ونازلٌ بك من غير ريب!

أنَّى يكون الخلود أو يقدَّر البقاء لجسم ما أرى حياته وصحته إلا رهنًا باتفاق غرائزه، ووقفًا على التئام طبائعه؛ فهو صحيح إن استوين، وعليلٌ إن التوين.

أذعن أيها الإنسان لحكم الزمان، لا تناقشه حسابًا، ولا تسأله ثوابًا، ولا تطلب منه لشيء علة، ولا ترجُ منه لسؤال جوابًا؛ إنما الزمان أعمى لا يبصر، وأصم لا يسمع، وأحمق لا يعقل، وأعجم لا ينطق. ألا وإن حُكْم العجماوات أن جناياتها مُهْدَرة، وجرائمها مغتفرة.

ألا وإن دنياك نهار وليل، لا تثبت على حال، فهي كالحية الرقطاء، ربما تعجبك ألوانها ولكن في نابها السم الزعاف.

ألا وإن الناس بالموت مَدِينون، ولا بد لهذا الدين من وفاء، ولهذا القرض من قضاء، والموت غريم لا يسهل رده ولا يمكن الإلواء عليه.

ألا وإن الزمان قد قسم الحظوظ بين الناس، فأساء القسمة، لم يراعِ في ذلك عدلًا ولم يتبع قاعدة؛ فأمات بالظمأ كعب بن مامة، وروى بنمير الماء بعده الكثيرين.

لا تلتمس لشيء علة، ولا تطلب لموجود سببًا؛ فذلك شيء قد عُمِّيَ عليك أمره، وحُجِبَ عنك سره. وانقسم العالم منذ كان إلى حيوان نامٍ حساس، ونبات ينمو ولا يحس، وجماد قد حُرِمَ الحس والنمو معًا. وما أعرف لهذا الجسم الذي رزق القوتين، وظفر بالفضيلتين، نافلة من فضل تؤثره بالحياة والحركة، وتختصه بالحس والنمو دون الآخرين.

ما أجهل الناسَ، وما أضلَّ عقولهم، وما أغفلهم عن العواقب، وأغماهم عن مستقبل الأمور! لو أنهم عرفوا حياتهم حق المعرفة وبلوها حق البلاء لهانت عليهم ولصغرت في عيونهم، فلم يغتَلْ فيها بعضهم بعضًا، ولو أنهم إذ كبَّروا منها صغيرًا، وعظَّموا من أمرها حقيرًا، وفرضوا لأنفسهم حسابًا تظهر فيه سيئاتهم وحسناتهم، وتبدو فيه نقائصهم وفضائلهم، ويلقى بعده كل امرئ نتيجة عمله خيرًا أو شرًّا، لو أنهم إذ فعلوا هذا كله خافوا الحساب الذي فرضوه، والميعاد الذي انتظروه؛ لما سفكوا بينهم من الدماء ما يجاري الماء؛ ولكنها طبائع بلهاء، لا تعرف للحق طريقًا، ولا تسلك إلى الهدى سبيلًا.

سلني عن أحق الناس بالرحمة وأولاهم بالرفق والرأفة، أُجبك بأنهم أولئك الذين نشئوا راحمين للضعيف عاطفين على البائسين، ثم تنكرت لهم الأيام، وأرهقتهم من أمرهم عسرًا.

هذه أخلاقنا، وتلك خِلالنا، ما أحمد فيها خُلقًا ولا أرضى منها خَلَّة، ونحن بعد ذلك بأنفسنا مُعْجَبون، وبأخلاقنا مفتونون، نغضب من مقالة الحق، ونحقد على صادق رمانا بخسة الأصل ولؤم الطبع. نعم! نحن أخساء لؤماء.

وأنت أيها الأب الذي سمته التواريخ آدم فغلَّبت على لونك السواد، وَسَمَّتْ زوجك حواء فجعلت على لونها مشوبًا بحمرة، لقد ائتلف منكما مزاج جُمِعَ فيه الخير والشر، ولكن الشر عليه غالب، والسوء فيه موفور.

كُفوا أيها الناس من غُلَوائكم، وخففوا من غروركم؛ فإنما أنتم للأيام أغراض غير موموقة، وأهداف غير مرحومة، ولعمري لن تشفق عليكم الأيام إلا إذا أشفقت الرحا على ما تطحن من حَب، ولن ترثي لكم السنون إلا إذا رثت الأرض لما تضم من الأشلاء. ولكني ما أرى لكم من الذكاء حظًّا، وما أعرف بين عقلائكم وبين بُلْه الحيوان فرقًا، سواءً منكم ذو العقل الراجح والرأي الصائب، ما أجد رجحان أحلامكم وصواب آرائكم يزن خفة أحلام الطير في الهواء، والسمك في الماء.

أفيقوا أيها الناس واستبصروا؛ فإنما أنتم للأيام هُزْأَةٌ، وللزمان ضُحْكَةٌ، وللحوادث مستذَلون. أرأيتم إلى ذلك الملك العزيز قد احتدت شوكته، واشتدت سطوته، وعظم سلطانه، كيف أغارت عليه الأيام زاريةً عليه محتقرة له تستذله استذلال الأرنب!

أجلْ! إنكم لَتَفاضلون في الحياة نعمة وبؤسًا، وإن أقداركم لتختلف رفعة وَضِعَةً، ولكنكم جميعًا إلى فناء، قد اختلفت إليه الطرق وتشعبت إليه المسالك، فلئن كان الفقر لا يميت الملوك وأصحاب النَّعمة والثراء، لقد جعل لها الدهر من غناها رصدًا مهلكًا، ومن ثروتها علة مميتة؛ فهم كالزهرة النضرة، لا يذبلها وقع الأقدام، ولكن يذبلها شم الأنوف.

فيم الطِّعان والضِّراب! وفيم الرِّماء والجلاد! إنما تقتلون أنفسكم في باطل، وتسفكون دماءكم في زور، ولكن! هل ينفعكم النصح، أم هل تفيدكم الموعظة؟ لقد اسودَّت قلوب، وضلت عقول، ولقد أصغى الحكيم إلى نداء الحق، وصَمَّ عنه الجاهل المغرور.

ما الذي أعجبكم من الأيام فتهالكتم عليه؟ وما الذي راقكم من الحياة فتفانيتم فيه؟ إن الأيام لتسلك سبيلها إلى الفناء صُمًّا وعميًا، حتى ليكاد المقامر أن يكون أوثق منها بالربح وأضمن منها لإصابة الخير.

لقد مضى صاحب تيماء، وبقيت تيماء بعده ناطقة بالعبرة والموعظة لو تسمعون أو تعقلون. لقد أَوْمَأَتْ إليكم الثريا واعظة، وأشارت إليكم ناصحة، ثم انقطع إيماؤها، وسكنت إشارتها. لقد أعجزت سرعتها سرعتكم، وأعيا جدُّها جدَّكم، وشهدت نجومها الستة بما أُغفلتم عنه من آية بينة، فعلت كل ذلك فلم يفهم عنها إلا الحكيم؛ على أنه لم يَعُدْ من فهمه وفقهه إلا بالحسرة والأسى.

أسْهلوا أيها الناس فقد أحزنتم؛ وياسروا فقد عاسرتم، واعلموا أنكم في حكم الموت سواء، ليس لغنيكم على فقيركم فضيلة، ولا لأميركم من حقيركم مزيَّة، إنما هي طريق مسلوكة إلى الفناء، أشد وحشة من البيداء، وأكثر ظلمة من غبْر الفلا. ألا فليؤاسِ بعضكم بعضًا، لقد استويتم في الموت فلِمَ لا تستوون في الحياة! لِمَ أجد منكم في الحياة موسرًا ومعسرًا، ومُنعَّمًا وبائسًا! ألا فلتقتسموا تعب الحياة الفانية، كما اقتسمتم راحة الفناء المقيم.

فُقِدَت في أيامك العلماء
وادْلهمَّتْ عليهمُ الظلماء
وَتَغَشَّى دهماءنا الغَيُّ لمَّا
عُطِّلَتْ من وضوحها الدهماء
للمليكِ المذكَّرات عبيدٌ
وكذلك المؤنَّثات إماء
فالهلالُ المنيف والبدرُ والفَرْ
قَدُ والصبح والثرى والماء
والثرَيَّا والشمسُ والنار والنَّثـْ
ـرة والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عا
بك في قول ذلك الحكماء
خلِّني يا أُخَيَّ أستغفر الله
فلم يبقَ فيَّ إلا الذَّماء
ويقال الكِرامُ قولًا وما في العـ
ـصر إلا الشخوص والأسماء
وأحاديثُ حَبَّرْتها غُواةٌ
وافترتها للمكسب القُدَماء
هذه الشهبُ خلتُها شَبَكَ الدهـ
ـر لها فوق أهلها إِلماء
عجبًا للقضاء تَمَّ على الخَلـْ
ـقِ فهمَّتْ أن تُبْسِلَ الحُزَماء
أوَما يُبصرون فِعْلَ الردى كيـ
ـف يَبِيدُ الأصهار والأحماء
غَلَب الْمَين منذ كان على الخلـ
ـقِ وماتت بغيظها الحكماء
فارْقُبي يا عصماء يومًا ولو أنـَّ
ـك في رأس شاهقٍ عصماء
وأرى الأربعَ الغرائزَ فينا
وهي في جُثة الفتى خُصَماء
إن توافقن صح أولا فما يَنـْ
ـفَكَّ عنها الإمراض والإغماء
ووجدتُ الزمان أعجمَ فَظًّا
وجُبَارٌ في حكمها العَجْماء
إن دنياك من نهارٍ وليلٍ
وهي في ذاك حيةٌ عَرْماء
والبَرَايَا حازوا ديونَ مَنَايَا
سوف تُقْضَى ويحضُرُ الغُرَماء
وَرَدَ القومُ بعد ما مات كعبٌ
وارتوى بالنَّميرِ وفدٌ ظِماء
حيوانٌ، وجامدٌ غير نامٍ،
ونباتٌ له بسُقْيَا نَماء
وَلَوَ آن الأنام خافوا من العقبـَ
ـى لَمَا جارتِ المياهَ الدِّماءُ
أجدرُ الناس في العواقب بالرحمـ
ـةِ قومٌ في بَدئهم رُحَماء
وغَضِبنا من قول زاعم حقٍّ
إننا في أصولنا لُؤَماء
أنت يا آدَ آدَمَ السِّرْبِ حوَّا
ؤك فيه حواء أو أدماء
قرمتنا الأيامُ هل رَثَتِ النَّحـَّ
ـامَ لَمَّا ثوَى بها قَرْماء
عالَمٌ حائرٌ كطير هَواءٍ
وهَوَافٍ تضمها الدأماء
وكأن الهمامَ عَمْرَو بن دَرْما
ءَ فَلَتْه من أُمِّه دَرْماء
والبَهَار الشميم تحميه من وط
ء مُعاديك أرنبٌ شماء
وعَرَانا على الحُطام ضِرَابٌ
وطعانٌ في باطلٍ ورِماء
أسْوَدُ القلب أسْودٌ ومتى ما
تَصْغَ أُذني فأُذْنه صمَّاء
قد رمى نابلٌ فأنْمَى وأصْمَى
ولياليك ما لها إنْماءُ
إن ربَّ الحصن المَشيِدِ بتَيْما
ءَ تولَّى وخُلِّفتْ تيماءُ
أومأت للحذاء كفُّ الثريَّا
ثم صُدَّ الحديث والإيماءُ
شهدتْ بالمليك أنجمُها الستـْ
ـتةُ ثم الخَضِيبُ والجَذْماء
فَهِمُ الناس كالجهولِ وما يظفـَ
ـرُ إلا بالحسرة الفُهَماء
تلتقي في الصعيد أُمٌّ وبنت
وتساوَى القَرْناء والجمَّاء
وأنيقُ الربيع يُدركه القيـ
ـظُ وفيه البيضاءُ والسحماء
وطريقي إلى الحِمَامِ كَرِيهٌ
لم تُهَبْ عند هَوْلِه اليَهْماءُ
وَلَوَ انَّ البيداءَ صارمُ حربٍ
وهي من كلِّ جانبٍ صَرْماء
كيف لا يَشْرِكُ المُضيقين في النَّعْمـ
ـمةِ قومٌ عليهمُ النعماء

١٧

يا له من فقيه قد أكثر فيكم الوعظ، وأثقل عليكم النصح، وتردد على نسائكم مرشدًا هاديًا، ومذكِّرًا داعيًا، وأنتم له مُصغون وحوله محتشدون، تذرفون لمقالته الدموع، وتفطرون لألفاظه القلوب! أبصروا فقد عَمِيتم، وانتبهوا فقد غفلتم!

ألا إن صاحبكم محتال كاذب، وغرَّار خادع، يُظهر لكم النسك، ويخفي عنكم الإفك. ينهاكم عن الخمر وهو لها مدمن، ويُظهر لكم الفقر وإنما أفقرته معصيته. سلوه عن كسائه أين أضلَّه وفيم فقده، يَشْكُ لكم صرف الأيام وتتابع الأحداث، ثم سلوا الخمار عن هذا الكساء تجدوه عنده رهينًا بدنٍّ من راح أو زق من عُقار.

ألا إن شر الناس المقترفون لما ينهون عنه؛ إنهم يسيئون من جهتين: يسيئون لاقتراف الآثام، ويسيئون لغش الناس وتضليل العقول.

رُويدَك قد غُرِرتَ وأنت حُرٌّ
بصاحب حيلةٍ يعظُ النساءَ
يحرِّم فيكم الصهباءَ صُبحًا
ويشربُها على عَمْدٍ مساء
تحسَّاها فمِنْ مَزْجٍ وصِرْفٍ
يُعَلٌّ كأَنما وردَ الحِساء
يقول لكم غدوتُ بلا كساءٍ
وفي لذَّاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنهُ يَنهَى
فمن جهتين لا جهةٍ أساء

١٨

ما أشدَّ اغترارَنَا بالحياة واسترسالَنَا في الأمل! نرجو العيش راغبين فيه، ونرجئ الخير متبرمين به، مغرقين في سكر عميق، لا ينبهنا منه إلا صيحة الموت ودعوة الحِمام.

نرجو الحياة فإن هَمَّت هَواجِسُنا
بالخير قال رجاءُ النفس إِرجاءَ
وما نُفيقُ من السُّكرِ المحيطِ بنا
إلَّا إذا قيلَ هذا الموت قد جاءَ

١٩

الصَّمتَ الصمتَ! احتفظ به واحرص عليه؛ فإنه مأمن لك من الشر ومنجاة من الزَّلل. اخبأ نفسك تحت لسانك، لا تحركه فيظهر ما يعيبها من نقيصة، وما يشينها من رذيلة. ما أرى كالكلام مصدرًا للإِثم، ولا كالصمت مبرئًا منه.

الأناةَ الأناةَ، والحزمَ الحزمَ! لا يُغضبنَّك تفوُّق الناس عليك وسبقهم لك، وإن أحسست من نفسك الفضيلة وعرفت لها التقدم؛ فإن الجبل الشاهق لا يتأذَّى حين يعلوه الرقيب صاحب الفتنة، ويتسنَّمه الشرِّير حليف السيئة.

مِمَّ تهرب، وإلى أين تفر! الرَّيْثَ الرَّيْثَ! لقد أزعجك الوباءُ الذي ألمَّ ببلدك، فهل تعرف بلدًا غير موبوء! تفرُّ من رذائل أصحابك، فهل تعرف أصحابًا خلوًا من الرذائل! الْبَسِ العالم على عِلَّاتِه، واصْحَبه على ما فيه من سوء.

القناعةَ القناعة! أرِحْ نفسك من طمع لا يفيد، وشَرَهٍ لا ينفع، ولا تَلُمِ الحظ، ولا تنكر المصادفة؛ فكذلك طبيعة الزمان. انظر إلى الحسناء الفاتنة يسبيها القبيح الشرير، وانظر إلى العُقار ذات الجوهر النقي يسبؤها أَلْأَمُ الناس طبعًا وأكدرهم خلقًا. أرِحْ نفسك من هذا العناء؛ فإن الغاية واحدة، وإن الملك والفقير في حكمهما سواء.

قد نالَ خيرًا في المَعَاشِرِ ظاهرًا
من كان تحتَ لسانه مخبوءًا
باء الكلامُ بمأثمٍ والصمتُ لم
يكُ في الأعمِّ بمأثمٍ ليبوءا
إن يرتفع بشرٌ عليك فكم غدا
عَلَمٌ بتابع فتنة مربوءا
مهلًا أَمِنْ وَبَأٍ فررت وهل ترى
في الدهرِ إِلَّا منزلًا موبوءا
تُسْبَى الكرائمُ والكُميْتُ شرابُها
يُلْفَى لألأم شاربٍ مسبوءا
حِلْفُ العباءة سوف يُصبحُ مثلَهُ
مَلِكٌ ويترك طِيبَهُ المعبوءا

٢٠

احجبوا عن نسائكم وبناتكم من العلم ما لا ينفعهن ولا يجدي عليهن، دعوا ذلك إلى ما يفيد المرأة من حيث هي أم وصاحبة بيت، علِّموها النسج والغزل والردن، ودعوا القراءة والكتاب، أقرئوها الحمد والإخلاص؛ فهما تجزئان عنها في الصلاة ما تجزئ عنها يونس وبراءة.

احجبوا أصواتهنَّ عن الآذان، كما تحجبون أشخاصهنَّ عن الأبصار. إنكم لتهتكون الستر حين تستمعون من خلفه غناء القيان.

علِّموهنَّ الغَزْلَ والنسجَ والرَّد
نَ وخلوا كتابةً وقراءه
فصلاةُ الفتاة بالحمد والإخـ
ـلاص تُجزِي عن يونس وبراءه
تهتِك الستر بالجلوس أمام السـَّ
ـتر إِنْ غنَّت القيانُ وراءه

٢١

آثِر نفسك بالعزلة، وزيِّنها بالوحدة؛ فإنك إن تكن راغبًا في الكمال طامعًا فيه، لم تجد أدنى إليه من الوحدة التي هي أخص صفات الله، وإن تكن رابئًا بنفسك عن الشر ضانًّا بها على الأذى، فلن تجد أوقى لك ولا أجدى عليك من الرغبة عن عشرة الناس، ملوكهم وسُوقتهم، سَرَاتهم وصعاليكهم.

أجل! إنك لن تجد أحفظ لك من العيب، وأضَنَّ بك على الريب، وأنزه لنفسك من الأذى، وأعصم لقدرك من الضعة كالعزلة واجتناب الناس، وإن جرَّا عليك الفقر والضيق. العزلة مكمن عيوبك، وستر لما أنت فيه من رذيلة، فاحذر أن تهتك هذا الستر فيظهر الناس على ما خلفه، والعزلة جُنَّةٌ لك من شرور الناس وأذاتهم، فاحذر أن تدع هذه الجنة فينالك من ضررهم ما لا تطيق.

أفٍّ للناس رجالًا كانوا أو نساءً؛ فإنهم أهل شر وأذى، يمقتهم الحكيم ويذمُّهم العاقل، لا يحمد منهم خَلَّة ولا يرضى لهم خُلقًا. هم في الليل وفي النهار جُناة أشرار، لا يعصمك منهم إلا اجتنابك لهم.

إني لأعظك بالعزلة حين قُدِّرت عليك الحياة فلم تجد عنها مزحلًا، وإني لأكره الحياة لمن لم يَبْلُها، وأمقت العيش لمن لم يذقه، وأتمنى للوليد الذي لمَّا يعرف من الحياة حلوًا ولا مرًّا، ولما ير من العيش خيرًا ولا شرًّا موتًا يريحه من مستقبل أيامه ومستأنف زمانه، موتًا يصرفه عن ثدي أمه قبل أن يرتضع منها قوتًا يشوبه الشر وغذاءً يخالطه السوء، موتًا يقطع ما ينطق به لسان حاله من عبارات الشك في مستقبل أمره؛ أيكون خيرًا أم شرًّا، وعُرْفًا أم نُكْرًا؟ أيكون إلى أهله محسنًا أم مسِيئًا، ولهم نافعًا أم ضارًّا؟

توحَّدْ فإن الله ربَّك واحدٌ
ولا ترغبْنَ في عِشْرةِ الرؤساء
يُقِلُّ الأذى والعيبَ في ساحة الفتى
وإن هو أكدى قلةُ الجلساء
فأفٍّ لِعَصْرَيْهم نهارٍ وحِنْدِسٍ
وجنسَيْ رجالٍ منهمُ ونساء
وليتَ وليدًا ماتَ ساعةَ وضعهِ
ولم يرتضع من أُمِّهِ النُّفساء
يقولُ لها من قبل نُطْقِ لسانهِ
تُفيدين بي أن تُنْكَبي وتسائي

٢٢

الويلُ كل الويل للعلماء، والخُسْر كل الخسْر للحكماء، إذا لم يُقَدَّر لعلمهم أن ينفع الناس شيئًا، ولم يُتَحْ لحكمتهم أن تكف عنهم سوءًا.

لقد تم في الناس قضاء الله بما هو كائن من خير وشر، فهو يمضي لا معقِّب لحكمه ولا راد لأمره، وعبثًا يحاول المصلحون أن يغَيِّروا منه قليلًا أو كثيرًا. أجل! لقد أمضى الله القضاء بما شاء، فليس لك منه مفرٌّ ولا معتصم. دونك الأرض فاتخذ فيها نفقًا، ودونك السماء فاتخذ إليها سُلَّمًا؛ فإن أعجزك ذلك — وهو معجزك من غير شك — فأذعن لما قضى الله عليك؛ فإنك لن تستطيع من ملكه خروجًا، ولن تملك من قدرته إباقًا.

سِرْ في آثار من مضى قبلك؛ فإنك لهم تابع، ولخطاهم مترسِّم. عاشوا عبيدًا أذلاء، فعش مثلهم عبدًا ذليلًا.

لقد ملكني العجب من هذا العالم، فما أَنْفَكُّ مغرقًا فيه، مطيلًا له، أرى فيه السعيد والشقي، والفقير والغني، وأجد فيه الرَّيَّان يكاد يقتله الرِّي، والصديان يكاد يخترمه الصدَى. والدهر على الناس مسيطر، قد عظُم سلطانه واشتدت سطوته، ينالونه بما شاءوا من عيب له وطعن عليه، فلا يصيبه منهم شيء، ويرميهم بسهامه المتصلة ونصاله المتتابعة، فلا يخطئهم منها سهم. جِدُّوا ما شئتم في عناد الدهر وخصامه، وفي ذَمِّه والزراية عليه؛ فليس ذلكم برادٍّ عنكم حكمه، ولا بقابض عنكم يده. إنه عليكم لمسيطر: يميتكم، ويحيل أجسامكم إلى ما شاء من مادة، ويمنحها ما أحب من صورة. انظروا إلى هذه الغصون النضرة، والأشجار الخضرة، هل هي إلا عظامكم بعد البلى، وهل ماؤها إلا دماؤكم بعد الفناء!

ألا إن الشر في هذه الحياة واقع، ليس له دافع؛ وهو نقاد لا يغفل، وباحثٌ لا يخطئ. ألا وإن أكثر الناس منه حظًّا وأعظمهم منه نصيبًا، أشدهم له فهمًا وأكثرهم منه احتياطًا.

أبيحوا بينكم الثروة، وأشيعوا فيكم المعروف؛ فلن ينفعكم حرص، ولن يفيدكم اقتصاد، ولن يكون منفقكم جوادًا ولا باذلكم كريمًا حتى يكثر الإنفاق ويوسع البذل.

أَقْدِمُوا ولا تحجموا، دعوا التردد جانبًا وانبِذوه ناحية، فإنكم صائرون إلى ما تكرهون طائعين أو راغمين، أقدموا أعزَّاء قبل أن تكرهوا أذلَّاء صاغرين.

لقد آن لكم أن تستبصروا، وحان لكم أن تنتبهوا، وحق عليكم أن تفيقوا. ألا إن ما أنتم فيه من سُنَّة وسيرة، ومن شريعة ودين، ليس إلا مكر الأقدمين، اتخذوه سبيلًا إلى جمع الحُطام، وإحراز الثروة، فأدركوا ما أملوا، وبلغوا ما أرادوا، ثم مضت أيامهم وانقضت مدَّتهم، فَلْتَبِدْ معهم سُنَّتهم السيئة وأصولهم الضَّارَّة.

لقد خدعكم الخادعون، وعبِث بألبابكم العابثون، فمنَّوكم الحياة الثانية، وزعموا لكم انقضاء الدهر وانتهاء أجله، وأنه عنكم مرتحل ولكم تارك، وأن الأيام لم يبق فيها إلا بقية الروح في جسم المذبوح. لقد كذبوا! ما يعرفون للدهر أجلًا، وما يعلمون له انقضاءً، وإنما هي ظنون مُرَجَّمة، وأنباء متوهَّمة. ألا فأعرضوا عن مقالة الزعماء الكاذبين، والأغوياء المضلِّين. لا تيأسوا من الدهر ولا تطمعوا فيه، ولكن القصد بين الخَلَّتَيْن، والاعتدال بين الخَصْلتين؛ فإن اليأس من الدهر هُلك، والاطمئنان إليه غرورٌ، وكيف يُسَرُّ ساعةً في الدهر من يعلم أن له من الموت غريمًا لا يُرَدُّ، وطالبًا لا يُدْفَع؟!

إنكم لتُخْدَعُون عن أنفسكم بأواصر القُرْبَى وروابط المحبة، وإنما هي الشر كل الشر والخطر كل الخطر؛ فالحذرَ الحذرَ من أضرارها، والتقيةَ التقيةَ من آثامها! فما آذاك مثل قريب، ولا ضرك مثل حبيب.

إذا كان علمُ الناس ليس بنافعٍ
ولا دافعٍ فالخُسْرُ للعلماء
قضى الله فينا بالذي هو كائنٌ
فَتَمَّ وضاعت حكمةُ الحكماء
وهل يأبِقُ الإنسانُ من مُلكِ ربِّه
فيخرجَ من أرضٍ له وسماء
سنتبع آثار الذين تحمَّلوا
على ساقةٍ من أعبُدٍ وإماء
لقد طال في هذا الأنامِ تعجُّبي
فيا لِرَواءٍ قُوبلوا بظِماء
أُرامي فتُشْوِي من أُعاديه أسْهُمي
وما صاف عني سهمُه برماء
وهل أعظُمٌ إلا غصونٌ وريقةٌ
وهل ماؤها إِلا جَنِيُّ دِماء
وقد بان أن النحس ليس بغافلٍ
له عملٌ في أنْجُم الفُهَماء
ومن كان ذا جودٍ وليس بمُكْثِرٍ
فليس بمحسوبٍ من الكُرَماء
نَهَابُ أُمورًا ثم نركب هَوْلَهَا
على عَنَتٍ من صاغرين قِماء
أفِيقُوا أفيقوا يا غُوَاةُ فإنما
دياناتُكم مكرٌ من القُدَماء
أرادوا بها جمع الحُطام فأدركوا
وبادوا وماتت سُنَّةُ اللؤماء
يقولون إن الدهر قد حان موتُه
ولم يبق في الأيام غيرُ ذَمَاء
وقد كذبوا ما يعرفون انقضاءه
فلا تسموا من كاذبِ الزُّعماء
وكيف أقَضِّي ساعةً بمسرةٍ
وأعلمُ أن الموت من غُرَمائي
خُذُوا حَذَرًا من أقربين وجانبٍ
ولا تذهلوا عن سيرة الحُزَماء

٢٣

لِتعرفْ في يُسرك صديقك في عُسرك؛ فإن من سوء النيَّة وقبح الخَلَّة أن تتخذ الأصدقاء تدفع بهم عن نفسك الأذى وتقيها بهم المكروه أيام بؤسك، حتى إذا أيسرت وأعسروا ضربت عنهم صفحًا وطويت عنهم كشحًا. هذه خَلَّة من الأثَرة سيئة، وخصلة من حب النفس مذمومة، وإنما الحق عليك أن تُخْلِص للأصدقاء في النعماء والبأساء.

وإن امرأً قد أمدَّته الحياة بالنَّعْمة والثروة فهو من العيش في دعةٍ وخفض، يقضي حاجته من اللذَّات على اختلافها، ثم يترك إخوانه فريسة للعُدْم ودريئةً للبؤس؛ لجاهلٌ حق الأخوة، وجاحد واجب المودَّة.

وليس من الحزم ولا من صدق الرأي للسخيِّ الجواد أن يُشيع السخاء ويذيع الجود في أهله وأقاربه قابضًا يده عن غيرهم من الناس؛ فإن لأهله ولأقاربه عليه حقًّا هو قاضيه، ودَينًا هو مؤديه، فأمَّا الأبعدون فالتكرم عليهم فضيلة، والإحسان إليهم نافلة، والتعهد لهم معرفة بمواضع الأمور.

إذا صاحبتَ في أيام بؤسٍ
فلا تنسَ المودةَ في الرَّخاءِ
ومن يُعْدِمْ أخُوه على غِنَاهُ
فما أدَّى الحقيقةَ في الإخاءِ
ومَنْ جعل السخاء لأقربِيهِ
فليس بعارفٍ طُرُقَ السَّخَاء

٢٤

أيها الملوك الأغرَّاء، والأقيال المُتْرَفُون! لقد فزتم بما تحبون من طول الحياة وتأخر الأجل؛ فما لكم لا تبتدرون الخير ولا تستبقون إلى الحسنة! ما لكم تُرجئون تشييد المكرمات وبناء الصالحات إلى مستقبل من الأيام قد لا تدركونه، ومستأنفٍ من الدهر قد لا تبلغونه، مُغْتَرِّين بإملاء الأيام لكم وإبقائها عليكم!

ما لكم لا تَدَعون ما أنتم فيه من خمول، ولا تتركون ما أنتم عليه من ضعف، مُحجمين لا تُقدِمون، ومبطئين لا تُسرعون، مستنيمين إلى اللذة، لا تطمح نفوسكم إلى المجد، ولا تسمو إلى المآثر الباقية! أقدموا! فرُبَّ مُتْرَفٍ شهد الهيجاء، ورُبَّ عاشقٍ للنساء كلفٍ بهن صريع بجمالهن، قد ترك اللهو والباطل، ورغب في الجدِّ فأبلى فيه البلاء الحسن.

أيها الناس! أنتم مصدر ما تلقَوْن من ظلم، وأصل ما تقاسون من عسف، فَنِيتُمْ في الملوك وأذللتم لهم أنفسكم؛ تشقَوْن ليسعدوا، وتخافون ليأمنوا، وتأرقون ليناموا. غلوتم في ذلك وأسرفتم فيه، فقدَّسَتْهمْ طائفةٌ منكم عن الخطأ، ووصفتهم بالعصمة، وزعمت أنهم الناطقون والعالم صامت، والمهتدون والحياة خائرة، انتظروا الإمام المعصوم، ورجَوُوا الناطق المرشد والهادي الذي لا يُخطئ. لقد كذَبتْ ظنونهم، وساءت آراؤهم، وأخطئوا قصد السبيل؛ إن هذا الإمام الذي ينتظرونه، والهادي الذي يرجونه لبين ظهرانيهم، يأمرهم بالعُرفِ فلا يأتمرون، وينهاهم عن الجهل فلا ينتهون، يرغِّبهم في الخير فيصدُّون عنه، ويرهِّبهم الشر فيرغبون فيه؛ ذلك هو العقل، يخلص لهم فيستغشونه، ويجد في نصحهم فيختانونه. أطيعوه أيها الناس تهتدوا، واتَّبِعُوه تَرْشُدوا؛ إنما هو مصدر الرحمة، ومنشأ النعمة، في السفر والحضر، وفي الظعن والإقامة.

أيها الناس! إنكم لا تنتظرون إمامًا معصومًا، ولا ترجون هاديًا موفقًا، وإنما هي بِدَعٌ منتحلة ومذاهب مخترعة، اتخذتموها أسبابًا تصلون بها بين رؤسائكم وبين الدنيا، وجعلتموها طرقًا تُرضون بها تلك النفوس التي لا ترضى، والأهواء التي لا تقنع، لا يصدكم عن ذلك رحمة، ولا تعوقكم عنه رأفة، لا تبالون أظلمتم قويًّا أم ضعيفًا؛ ولا تحفِلون أعسفتم رجلًا أم امرأة، كل ذلكم عندكم سواء في مرضاة الرؤساء. ذلك شأن زعيمكم الذي جمع الزنج بالبصرة، فأفسدوا فيها ولم يصلحوا، وأساءوا ولم يُحسنوا؛ روَّعُوا العذراء في خِدْرها، وأزعجوا الآمن في سِرْبه. وذلك شأن زعيمكم القرمطي بالأَحساء، جمع أوشاب الناس وقُمامتهم؛ فأزعج الحاجَّ، وانتهك حرمة البيت، وأهدر دماءً معصومة، وأزهق نفوسًا محرمة، كل ذلك ليرضي نفسًا زاهدةً إلا في الشر، راغبةً إلا عن المنكر.

ولكن! هل يجدي النصح، وهل تنفع الموعظة، وهل يحتمل قول الحق! ألا إني أعظك أيها المصلح الحكيم أن تعتزل الناس وتخَلِّي بينهم وبين ما يشتهون؛ فما أعرف أثقل عليهم من كلمة حق، ولا أبغض إليهم من دعوةٍ إلى خير.

يا ملوكَ البلادِ فزتم بِنَسْء الـْ
ـعُمْرِ والجَوْرُ شأنكم في النساء
ما لكم لا ترون طُرْقَ المعالي
قد يزور الهيجاء زِيرُ نساء
يرتجي الناسُ أن يقوم إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبةِ الخرساء
كذَب الظنُّ لا إمامَ سوى العقـ
ـلِ مُشِيرًا في صُبحه والمساء
فإذا ما أطعتَه جلبَ الرحـ
ـمةَ عند المسير والإرساء
إنما هذه المذاهبُ أسبا
بٌ لجذب الدنيا إلى الرُّؤساء
غرضُ القوم مُتعةٌ لا يَرِقُّو
نَ لدمع الشمَّاء والخنساء
كالذي قام يجمع الزِّنْجَ بالبَصـْ
ـرةِ والقَرْمَطِيِّ بالأحساء
فانْفَردْ ما استطعتَ فالقائل الصا
دِقُ يُضْحِي ثِقْلًا على الجُلساء

٢٥

ما أشد بغض النفس للنصيحة وامتناعها على الإرشاد! لقد نصحت لها مخلصًا، وأوصيتها صادقًا، فما سمعتْ لي، وما أصغتْ إلي، وهي بعد ذلك كثيرة الخطأ جمة الزلل، لا يبلغ الإحصاء أغلاطها، ولا ينال العد زلَّاتها، غافلة عن الحق، بصيرة بالباطل، زاهدة في القصد، حريصة على الإسراف، تكدُّ وتشقى وتتكلف السعي والمشقة في سبيل الرزق، ولو أنها ودُعَتْ واطمأنَّت لجاءها رزقها المقدور ونصيبها المقسوم، سواء نأى عنها مكانُهُ أم دنا، وسواء قرب أم بعد، ولكن العناد مطية الألم، وسبيل العناء.

أوصيتُ نفسي وعن وُدٍّ نصحتُ لها
فما أجابتْ إلى نُصْحِي وإيصائي
والرملُ يشبه في أعداده خَطَئِي
فما أَهُمُّ له يومًا بإحصاء
والرزقُ يأتي ولم تُبْسَطْ إليه يدي
سِيَّان في ذاك إِدنائي وإِقصائي
لو أنه في الثُرَيَّا والسِّماك أو الشـِّ
ـعْرَى العَبُورِ أو الشِّعرى الغُمَيْصاء

٢٦

مَثَلُ النفس الإنسانية ثبتتْ طبيعتها لا تتغير، واستقرَّتْ أصولها لا تتبدل، ثم عرضت لها من الحياة مظاهرُ أثَّرتْ فيها فغيَّرت أهواءها وبدَّلت شهواتها، تغييرًا لا يلبث أن يزول؛ مثلُ البحيرة الهادئة والغدير الساكن عصفت بهما الريح فهاجت أمواجهما وأنشأت على سطحيهما من الحَبَاب كُرَاتٍ لا تلبث أن تزول بسكون الريح. ذلك مثلٌ صادقٌ لنفس الإنسان الثابتة وأهوائه المتغيرة، عنها صدرت تلك الأهواء، فخيِّل إليك أنها باقية بقاءها، ثابتة ثباتها، ولكنك لا تلبث أن ترى حالًا طارئة، وهوًى جديدًا. لقد كنت تحب أسماءَ وتكلفُ بها، وتعتقد أن غرامك بها باقٍ بقاء الدهر، خالدٌ خلود الزمان، فإذا طول الأمد واختلاف ألوان الحياة قد عبث بهذا الغرام فغيره وأخذ يمحوه من قلبك قليلًا قليلا، ويُحِلُّ مكانه غرامًا طريفًا، ثم أصبحت وقد نسيت أسماءَ، وأصبحت بهند كلِفًا مشغوفًا. وما أراك إلا سالكًا بهذا الحب الجديد سبيلك في ذلك الحب التليد.

أجلْ! ليس في العالم طريف ولا في الحياة جديد، وإنما العالم والحياة مظاهر يماثل بعضها بعضًا. فالأقوال مِرآة الناس منها السيئ والحسن، والناس مرآة الأيام، ثابتة في نفسها متغيرة في شكلها، منها الظلمة والنور، ومنها الليل والنهار، ظاهر متغيِّر، وطبيعة ثابتة دائمة، ضياء يملأ النفوس انشراحًا، وظلمة تملؤها انقباضًا، والحقيقة واحدة، فلكٌ يدور بالخير والشر، ويجري بالسعد والنحس.

لم أر أشد حمقًا ولا أكثر بَلَهًا من قومٍ ظنوا تغيُّر الزمان وتبدُّل الأيام، وانتظروا أن تطيعهم حركة الفلك فتستحيل من شرٍ إلى خير ومن بؤسٍ إلى نعيم؛ إذ ذاك تصلح النفوس الفاسدة، وتصح الطبائع المريضة، وتُملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، وتسكن الأرنب إلى السبع، ويأنس العصفور إلى الصقر. خيالٌ ما أبعده من الحق، وأدناه من المحال!

ألا لا يخدعنَّك هذا الوهم، ولا يغرنك هذا الأمل! إنما العالم على حاله خيرٌ يمازجه شرٌّ، ونعيم يشوبه بؤس؛ فلا تحاول له تغييرًا، ولا تطلب له تبديلًا، ولكن إن استطعت أن تَرِدَ بنفسك الصادية مناهل الخير عذبةً، وشرائع الفضيلة صافية، فافعل، فأنت الموفَّق السعيد.

القلبُ كالماء والأهواء طافيةٌ
عليه مثلَ حَبابِ الماء في الماء
منه تَنَمَّتْ ويأتي ما يُغيِّرُها
فيُخْلِقُ العهدُ من هِنْدٍ وأَسماء
والقول كالخلقِ من سَيْءٍ ومن حسنٍ
والناس كالدهْر من نُورٍ وظلماء
يقال إن زمانًا يستقيدُ لهم
حتى يُبَدَّلَ من بُؤْسَى بِنَعماء
ويوجد الصقرُ في الدَّرْماء معتقدًا
رأيَ امرئ القيس في عمرو بن درماء
ولستُ أحسب هذا كائنًا أبَدًا
فابْغِ الورود لنفسٍ ذاتِ أظماء

٢٧

إنما الزمان إناءٌ مفعمٌ بالحوادث، مملوء بالعبر والمواعظ، مُحَجَّبٌ لا ترى ما فيه العيون، ولا تبلغه الظنون، حتى يزيح ستره، ويبيح سرَّه، وهو متصل الحركة متشابه الأجزاء، ليس بين ساعاته تباين، ولا بين آنائه اختلاف، فما أُشَبِّهُهُ في ذلك إلا بالقصيدة الجيدة من الشعر قد استقامت للشاعر قوافيها وانقاد له رويها، فلم يجنح إلى إيطاء، ولم يُضطرَّ إلى إكفاء. وهو معتدل السير، ليس له استقرار، وليس يوصف بسرعة ولا بطء، وليس يملك إنسان رياضته، ولا يستطيع أحد أن يحمله على أن يمضي حثيثًا أو متريثًا. ذلك شأن الزمان، وهذه صفاته، كلها لازمة لطبعه، ملائمةٌ لمزاجه، ليس لأحد أن يغيِّر فيها أو يبدل منها. فأما المكان فأحقُّه أن يأنس إليه العاقل ويرغب فيه الحكيم، تلك الصحراء المقفرة والبيداء الموحشة، يأنس فيها الدليل في ظلمة الليل إلى القطاة، وفي ضوء النهار إلى لمعان الآل، هذه الفلاة الموحشة الغامرة آنس من المدينة الآهلة العامرة؛ تلك يخلو فيها الحكيم إلى نفسه مغتبطًا بخيرها مصلحًا لشرها، لا يسمع فيها أذاة ولا لغوًا، ولا يرى فيها منكرًا ولا عيبًا، وهذه يقيم فيها العاقل على أشد النارين حرًّا وأعظمها شرًّا: فإما أن يشهد مصرع الحق ومقتل الفضيلة بين يدي الباطل والرذيلة، ويظل معقود اللسان، مضطرب الجنان؛ رغبةً في رضا الجمهور ورهبةً من غضبه، وإما أن ينصر الحق المغلوب، ويؤيد الفضيلة المقهورة، فيلقى ما شاء الجهل من أذاة، ويقاسي ما أحب الغي من ألم، دون أن يظفر بحاجة أو يصل إلى غاية.

في هذا الزمان تعيش، وفي هذه المدينة تحيا، ليس لك من هذا بدٌّ. مكان قَلِقٌ، وزمان نَزِقٌ، ولكنه صائب الرمية، لا يطيش سهمه، ولا يخطئ نصله.

فإن كان في هذه الحياة ما يسرُّ من مواهب تُعْلِي القدر وتُبعد الصيت، فما أحسب هذا إلا غرورًا بالباطل وافتتانًا بالزور؛ فإن تلك المواهب عارية مردودة ودينٌ لا بد أن يُقضى. ولن يسترد منك هذه العارية، ولا يتقاضى منك هذا الدين إلا الموت. وحسبك بالموت موقظًا للنائم، ومنبهًا للغافل.

الساعُ آنيةُ الحوادث ما حوتْ
لم يبدُ إلا بعد كشف غِطائها
وكأنما هذا الزمانُ قصيدةٌ
ما اضطُرَّ شاعرها إلى إيطائها
ليست لياليه مُحِسَّةَ كائنٍ
وُصفت بسرعتها ولا إبطائها
والمِصرُ آنَسُ منه خَرْقُ مفازةٍ
أنِس الدليلُ بقافها مع طائها
وسهامُ دهرك لا تزالُ مصيبةً
صُرِفَتْ بإذن الله عن إخطائها
إن المواهب كلَّها عاريَّةٌ
ومن السفاهة غِبطةٌ بعطائها

٢٨

لقد طالما تحدَّث الناس وامتلأت كتب التاريخ بما اختصت به مصر من وباء يغير على أهلها حينًا بعد حين، ويفتك بهم آنًا بعد آن، حتى أصبحت هذه السمعة لمصر كأنها طبيعة لا تبرح وصفة لا تزول، ولا يشاركها فيها بلد آخر من البلاد. خطأ قبيح ووهم فاحش؛ فإنه لم تخل مدينة من المدن من وباء مغير أو داء فاتك، وأي محلة خلت من الموت! وأي منزل برئ من الردى! وهل تعرف أشد من الموت داء، وأخوف من الردى وباء!

لقد حدثنا العقل وصدَّقه التاريخ بأن الموت لنا غاية، والحِمام لنا نهاية، لم تسلم منه أمة، ولم يأمن منه جيل، يرمي فلا يخطئ، ويقتل فلا يباء بقتيل، ليس لأحد أن يطلب إليه ثأرًا، ولا أن يقضي منه وِترًا. قد اتخذ له مرابئ يرقب منها صيده، ويربأ منها فريسته؛ فليس يُنجي الفتى من سهمه إقامة ولا ظعن، وليس يحميه من نصله حَلٌّ ولا رحيل.

ما خصَّ مصرًا وَبَأٌ وحدها
بل كائنٌ في كل أرض وَبَأ
أنبأنا اللبُّ بلقيا الردى
فالغوثَ من صحةِ ذاك النبأ
هل فارسٌ والروم والترك أو
ربيعةٌ أو مُضَرٌ أو سبأ
ناجيةٌ في عِزِّ أملاكها
أن يُظهِرَ الدهرُ لها ما خبأ
ومن سجايا نَبْله أنها
كلُّ قتيلٍ قتلت لم يُبأ
إن سار أو حلَّ الفتى لم يزل
يلحظه المِقدارُ بالمرتبأ

٢٩

الجدَّ الجدَّ في التقوى وإيثار الخير، والحرصَ الحرصَ على طهارة النية وصفاء القلب؛ فإن التقوى خير ما أحرزته لنفسك من زاد، وأفضل ما ادَّخرته لها من بقية.

أوه! كم يملأ قلبي الفزع، وكم يملكه الهلع حين أذكر الغد، ذلك اليوم الذي نبَّئونا به وخوَّفونا إياه، يوم يتصبب العرق تَصبُّب الماء، ويوم تذوب الأكباد وتبلغ القلوب الحناجر! لقد أذهل حينما أذكر ذلك اليوم، وأرى ما علق بنفسي من الشر، وما ران على قلبي من السوء.

لقد يحتاج الثوب تلبسه إلى غاسل يزيل دَنَسَه ويرده نقيًّا نظيفًا، ولو أن لقلبي من النقاء والصفاء ما لهذا الثوب الذي يكدر ويصفو، ويدنس وينظف، لحمِدت العاقبة، ولرجوت حسن المآب.

ما ألذَّ الموت اليسير تتبعه الراحة الباقية! وما أعذب مذاقه! لقد أوثره على العيش الرضيِّ والبال الهني؛ ذلك لا يشوبه كدر ولا يناله تنغيص، وهذا عرضةٌ لما ينبغي أن يحذَر العاقل من خطب الزمان.

لقد بلونا العيش أطواره، وحلبنا الدهر أشطُره، فلم نبلُ إلا مرًّا، ولم نلق إلا شرًّا، ولم نشهد غير الشقاء.

لقد تقدَّم آباؤنا وأصدقاؤنا فسبقونا إلى الموت رائقًا أو رنقًا. فكم يذيبنا الشوق للقائهم، ويملكنا الحرص على جيرتهم. ولكن هل تصدُق الأنباء وتوفَى المواعيد، ويكفل لنا الموت لقاء الأحبَّاء، وجيرة الأخلاء؟! كم أستلذ الموت وأستعذبه، وكم أطلبه وأتمناه لو أن لتلك المواعيد من الصحة حظًّا، ومن الصدق نصيبًا.

تقواك زادٌ فاعتقدْ أنه
أفضلُ ما أودعته في السِّقاء
آهٍ غدًا من عَرَقٍ نازلٍ
ومهجةٍ مُولَعةٍ بارتقاء
ثوبِيَ محتاجٌ إلى غاسلٍ
وليت قلبي مثلَه في النقاء
موتٌ يسيرٌ معهُ راحةٌ
خيرٌ من اليسر وطولِ البقاء
وقد بلونا العيش أطوارَه
فما وجدنا فيه غير الشقاء
تقدَّم الناسُ فيا شوقنا
إلى اتِّباع الأهل والأصدقاء
ما أطيبَ الموتَ لشُرَّابه
إن صح للأموات وَشكُ التقاء

٣٠

تبارك الله منفردًا في سلطانه، مستبدًّا بعظمته وجبروته، ليس له من عباده كفء ولا من خلقه شريك، لا تخفى قدرتُه ولا تغمُض قوته، وكيف تخفى القدرة القاهرة على ذي حظ من عقل، أو تعزب القوة المسيطرة عن ذي نصيب من رشاد!

أيْ قُساةَ القلوب وجُفَاةَ الطِّباع! أي عُمْي العيون وصُمَّ الأسماع! لقد ظهرت لكم الآية بينة، وقامت عليكم الحجة ظاهرة، وأنتم مع ذلكم تجادلون في الحق، وتسابقون إلى الباطل، وتنتظرون بإيمانكم ما منَّتكم الأساطير من خوارق العادة وكواذب المنى، نارًا تظهر من كل أرض، وتحشر الناس من كل صوب، هنالك تؤمنون ويومئذ تصدِّقون! لقد ضلت الأحلام وجارت العقول، وكذَبت الآمال من اغتر بها وتعلَّق بأسبابها.

أيها الناس ما تنتظرون بإيمانكم وما تتربصون بإصلاح أنفسكم! لقد أصبح اليأْس منكم حقًّا، والرجاء فيكم حمقًا، ولقد أصبح لين الأحجار وسقوط الكواكب وبطلان حركة الفلك أيسر من أن يوجد فيكم الأصفياء، أو يكون منكم أهل الخير الصالحون.

لقد فُقد فيكم الصدق، وطُمِسَت بينكم أعلام الهدى! ولقد حُبِّبَ إليكم الغدر، وقلَّ بينكم الوفاء! ولقد اغتذت نفوسكم بالشر وارتوت بالرذيلة؛ حتى أصبح العاقل الحكيم يعتقد أن ليس له من علَّته بكم شفاء، ولا من مصيبته فيكم بُرْء إلا الموت المريح.

أجل! لم أر أَلْأَمَ منكم طبًعا، ولا أدنأ منكم أصلًا، ولا أدنى منكم إلى المَيْن، ولا أحرص منكم على كفر النعمة وجحود الصنيعة! أولئكم الآباء ينفقون عليكم صفو حياتهم ونضرة شبابهم، ويُبْلُون فيكم جِدَّة أيامهم، حتى إذا أدركهم الهرم وآن لهم أن يتقاضوا منكم دينهم، ويثابوا بما أحسنوا إليكم من صنيع؛ جزيتموهم عقوقًا، ولقيتموهم جحودًا وكفرًا. يجدون اعترافهم بكم لذة، وترون براءتكم منهم نعمة! لساء ما كافأتم الحسنة وشكرتم المعروف! ولساء ما جزى الدهر أولئك الآباء برحمتهم قسوة، وبرأفتهم غلظة، وبَدَّلَهم من برِّهم عقوقًا. ولو أنه إذ أنزلهم منكم هذا المنزل القلق ترك لهم الأخلَّاء، وأبقى لهم على الأصفياء، لكان لهم عنكم سلوةٌ، ولكنه يخترم أصدقاءهم، ويشتفُّ أحبَّاءهم، كأنما هو يشتفي بذلك من علَّة معضلة وداءٍ عَيَاء.

انفردَ اللهُ بسلطانِه
فما له في كلِّ حالٍ كِفاءْ
ما خَفِيتْ قدرتُه عنكمُ
وهل لها عن ذي رشادٍ خفاء
إن ظهرت نارٌ كما خبَّروا
في كل أرضٍ فعلينا العفاء
تهوِي الثُّرَيَّا ويلين الصفا
من قبل أن يوجد أهلُ الصفاء
قد فُقد الصدقُ ومات الهدى
واستُحسن الغدرُ وقلَّ الوفاء
واستشعر العاقلُ في سُقمه
أن الردى مما عناه الشِّفاء
واعترف الشيخُ بأبنائه
وكلهم ينذُر منه انتفاء
ربَّهُمْ بالرِّفق حتى إِذا
شبُّوا عنا الوالدَ منهم جفاء
والدهرُ يشتف أخِلَّاءَهُ
كأنما ذلك منه اشتفاء

٣١

لقد قضى الله على الإنسان أن يقضي حياته تعبًا مكدودًا، ويمضي أيامه معذَّبًا شقيًّا، فما يزال به العذاب والألم حتى يستنقذه منهما الموت ويريحه من شرِّهما الفناء؛ إذ ذاك يطمئن بعد القلق، ويسعد بعد التعس، وإذ ذاك يستحق أن تهنئه بما أفاد من راحة وما انتهى إليه من سكون، هَنِّئه بالراحة والسكون، وهَنِّئ أولياءه بالغنى والثروة من تراثٍ كسبوه ومال استولوا عليه. ما أجلَّ الموت! فقد ضمن الخير للأموات والأحياء على السواء.

قضى الله أن الآدميَّ مُعَذَّبٌ
إلى أن يقول العالمون به قضى
فهنِّئ وُلاةَ المَيْتِ يوم رحيله
أصابوا تُراثًا واستراح الذي مضى

٣٢

أيتها المتهيئة للحج العازمة عليه أَلْقِي عن مطيتك رحلها، وخفِّضي عنها ثِقْلها، وأقيمي هادئةً مطمئنة؛ فما أحسب الحج عليك فرضًا، وما أعدُّه منك مطلوبًا. أقيمي! ما أرى لك أن ترحلي إلى بلدٍ جمع الله فيه أشرار الناس وأسكنه أوشابهم وأقلهم عن الأعراض ذِيادًا وللأحساب حمايةً. فسَقة لا يعرفون العفة، وأنذالٌ لا يستشعرون الغيرة. أقيمي! إلى من تَحُجِّين! لقد قام بين يدي هذا البيت الحرام سَدَنَته وحُجَّابه فجرةً مستهترين، سكارى ما يفيقون من السكر، ولا يفرغون من المجون، لا يرعون لهذا البيت حقًّا ولا يحتفظون له بذمة، وإنما الطواف به والحج إليه تجارة لهم يربحون منها المال ويفيدون بها القوت؛ فما يبالون إذا ملأت أيديهم صحاحُ الدراهم وزوائفها، أطوَّفوا بهذا البيت أهله أم أعداءه. دَعِي الحج وأمثاله من تلك الأعمال التي يدل ظاهرها على التنسك، ويشهد باطنها بالتهتك. دعيها وافعلي الخير خالصًا من كل رياء، بريئًا من كل نفاق. دعيها وأجيبي دعوة البِرِّ إذا دعاك سرًّا أو جهرًا، لا تنتظري على ذلك أجرًا ولا تبتغي به ثوابًا. أطعمي القانع والمعترَّ، وتعهدي البائس بالمعروف، وخذي نفسك بمكارم الأخلاق ومحاسن الخلال؛ فذلك أنفع لك وأجدى عليك مما لج الناس فيه من باطل وزور.

أجلْ! إنهم ليلجُّون في باطل، ويحرصون على زور. ولو قد كان منهم إصغاءٌ إلى نصح، أو إجابةٌ إلى رشدٍ، أو انتفاعٌ بموعظةٍ؛ إذن لرأيت كيف أزيل باطلهم عن الحق، وأجلي غيهم عن الرشد، وامَّحى ضلالهم عن الهدى، ولكنها قلوب عمياء، وعقول ضعيفة، لا يقوِّمها رشد، ولا ينفعها إصلاح.

ألا لا تثقي بما يدعون إليه! فإنما هي خيل تجري إلى الباطل، وحلْبةٌ تستبق إلى الضلال! لقد جرت في باطلها حينًا، واستبقت إلى ضلالها آنًا، ولا بُدَّ لجرائها من انقطاع ولاستباقها من غاية، ولقوتها من نفاد. إنهم لَيُجَارُون قضاء الله، ولكن هذا القضاء لا يجارى، وإنهم ليبارون قدره، ولكن هذا القدر لا يبارى.

ألَا أيها النجم الشارق والكوكب المتلألئ! ألم يأنِ لك أن تهدي إلى سواء السبيل أممًا جائرة قد أخطأت القصد ولم توفق للهدى؛ فهي في تيه من البيداء عريض، لا تعرف له وجهًا ولا تنتهي منه إلى مدى، قد بلغ منها الجهد وشفَّ أينقها الإعياء. لقد حرتُ في أمرها وفي أمر أينقها، فما أدري أيهما أهدى سبيلًا وأقوم طريقًا: النوق أم ركابها! والإبل أم أصحابها!

وقد غلبهم المضلون على أمرهم في الدين والدنيا، وصرفوهم عن رشدهم في كل شيء؛ فهم مستذلون لدولة عزَّت عليهم واستبدت بهم، يصفونها بالعِصمة وينعتونها بالطهر. وأقسم، ما هي بالمعصومة ولا الطاهرة، وما هم عن ذلك بغافلين.

إنهم ليعلمون من هذه الدولة دخيلتها، ومن أولئك القادة خبيئتهم، وإن نفوسهم لتتحدث بذلك وتطيل فيه، ولكن ألسنتهم عن النطق معقودة، وأفواههم عن البوح به مكمومة. وما عقد ألسنتهم ولا كمَّ أفواههم إلا خَوَرُ العزم وضعف النفس وكذب الأخلاق.

أقيمي لا أَعُدُّ الحجَّ فرضًا
على عُجُزِ النساء ولا العَذارَى
ففي بطحاء مكة شرُّ قومٍ
وليسوا بالحُماةِ ولا الغَيارى
وإن رجالَ شَيْبةَ سادنيها
إذا راحت لكعبتها الجَمَارَا
قيامٌ يدفعون الوفد شفعًا
إلى البيت الحرام وهم سُكارى
إذا أخذوا الزوائف أولجوهم
ولو كانوا اليهودَ أوِ النصارى
متى آداكِ خيرٌ فافعليه
وقولي إن دعاكِ البِرُّ آرى
فلو قبِل الغُواة عرفتِ كشفي
من الكذب المموَّه ما توارى
ولا تثقي بما صنعوا وصاغوا
فقد جاءت خيولُهم تبارَى
جرتء زمنًا وتسكُنُ بعد حينٍ
وأقضيةُ المهيمن لا تُجارَى
لعل قِرانَ هذا النجمِ يَثني
إلى طُرق الهدى أُمَمًا حيارَى
فقد أودى بهم سَغَبٌ وظِمْءٌ
وأينُقُهم بمتْلَفةٍ حَسَارَى
وما أدري أمَنْ فوق المَهارَى
ألبُّ إذا نظرتُ أمِ المَهارَى
أتتهم دولةٌ قهرتْ وعزَّتْ
فباتوا في ضلالتها أُسارَى
وظنوا الطهر متصلًا بقومٍ
وأُقسم إنهم غيرُ الطهارَى
وما كَرِيت عيونُ الناس جمعًا
ولكن في دُجُنَّتها تَكَارَى
لهم كَلِمٌ تخالف ما أجنُّوا
صُدورُهم بصحته تمارى

٣٣

أجب إلى تقوى الله والإذعان له، لا تعدل به شيئًا ولا تجعل له ندًّا؛ فكل ما سواه باطل لا نصيب له من الحق، وهالكٌ لا حظَّ له من الخلود. إنما أنجم العالَمِ العلويِّ وإنْ عظمها الناس وهاموا بها لُعبة لا تلبث أن تتكشف عن خطل الذين فُتِنوا بها ورغبوا فيها. وإنما هذا العالم السفلي وما فيه من ألوان النبات على اختلافها، وأنواع الحيوان على تباينها، وأصناف الجماد على افتراقها؛ صورٌ ليس لها بقاء، وظلالٌ ليس لها ثباتٌ، وإنما هذا الإنسان المُدِلُّ بعقله التيَّاه بشكله مثالٌ لتلك الأجزاء الفانية التي ضمنها التراب وواراها الثرى.

ألا فلتزهد في الدنيا، ولتصرف عنها أملك، ولتدارِها كما يُداري الإنسان عدوًّا لا بُدَّ له من جيرته، وخصمًا لا مندوحة له عن عشرته. لقد داريتها كل المداراة، وزهدت فيها كل الزهد، فما آبه لصروفها، وما أحفل بخطوبها، وما أُعْنَى بلذاتها. لقد لاينت أهلها كل الملاينة، ورفقت بهم كل الرفق، فما تزدهيني منهم صولةُ الصائل، ولا جور الجائر. لقد نزلت لهم عما يتنافسون فيه ويستبقون إليه من لذات الحياة؛ فما أحتبس في بيتي حوراء ناعمة ولا حسناء فاتنة، ولا أتخذ على مائدتي شهيَّ الطعام ولذيذ المآكل، إنما هي لقيمات تقيم الأوَدَ وتمسك الرَّمَقَ إلى حين.

إذا قيل لك اخشَ الله
مولاك فقل آرى
كأن الأنجمَ السبعـ
ـةَ في لُعبة بُقَّارَى
خُزامَى وأقاحيُّ
وصفراءُ وشُقَّارى
ومَنْ فوق الثرى يصغـُ
ـرُ في أجزاء مَنْ وارى
وأصبحتُ مع الدنيا
أُداريها كَمَنْ دارى
إذا بارَأها قومٌ
فقلبي حُبَّها بارى
وما يرهبني جَارِ
يَ إن ناضَل أو جارى
وما عِرْسِيَ حوراءٌ
ولا خُبْزِي حُوَّارى

٣٤

جِدِّي أيتها الآمال في تضليل العقول وتسفيه الأحلام واجتهدي في التغرير بالناس منتهزة غفلة الحق عنهم وإبقاء الموت عليهم، اجتهدي في هذا وجدي في ذاك؛ فقد بلغتِ الأمر الذي أردته، وأدركت الغاية التي ابتغيتها، واستقاد لك الناس فسَرَوْا في ظلمة الباطل يترسمون خطوك ويتنورون نارك؛ حتى إذا ما انمحتْ هذه الظلم وأدبر ذلك الليل وبدا صباح الحق أبلج وضاحًا، حَمِدوا السُّرَى واطمأنوا إلى غاية ليس بينها وبين ما كانوا يؤمِّلون إلا ما بين الموت والحياة من الاختلاف.

إيه يا بني آدم! ما أطول آمالكم وأقصر آجالكم! ما أشد طمعكم وأقل نُجْحَكم! إنكم لتطلبون الثروة من نجوم السماء وغضون الأرض، وإنكم لتسلكون إليها مختلف الطرق وتذهبون فيها شتى المذاهب، ثم لا تؤوبون إلا باليأس والقنوط. قَدْكُمْ من هذا الجهل فإنه ضائع. قَطْكُمْ من هذا الجِدِّ فإنه لغوٌ. ذلكم زارع يقلِّب الأرض ليستخرج أثمارها، وهذا دارع يغير بقوته على الحصون والقلاع، والسعي من الرجلين ضائع، والحظ الأعمى فيهما متحكم؛ فربما عاد الدارع ذليلًا بعد العزة، وآب الزارع فقيرًا بعد الثروة، وحَكَم الحطُّ فأمضى؛ حَكَم لهذا حبات من الشعير يُقمن أَوَدَه، ولذلك شذرات من تبر الأرض ووَرِقها يقضين حاجه ويفضلن عليه.

اشدُدْ أيها الجاهد في طلب الثروة رحلك على ما شئت من عَنْس طويلة المطا شديدة القُوَى أو ضَعْ سرجك على ما أحببت من طِرْفٍ أيِّدٍ شديد القَرَا، ثم أجهد ناقتك في الأسفار وفرسك في الإغارات وعد بهما كليلتين قد أنضاهما الجِدُّ وأَكَلَّهما الحد، وقد سال عليهما من عرقهما مثل الظلمة السحماء، ورسم على جسميهما بصاق الدَّبَى أمثال البُرا في الأنوف، لا تستطيعان حركة ولا تعطيان نائلًا، قد ذهب الأيْن بحَدِّهما وجِدِّهما، وقد ذهب بما فيك من قوة، ومحا ما فيك من نشاط. افعَلْ ما شئت من ذلك فلن تعود إلا بالخيبة، ولن ترجع إلا بالإخفاق.

لمن أنصح وبمن أهيب وعلى من ألوم! لن ينفع النصح ولن يجدي الزجر ولن يفيد اللوم؛ غريزة في الناس ثابتة، وطبيعة عليهم حاكمة، فُطِرُوا على حب الدنيا، وورثوا عن آبائهم الغُلوَّ فيه. لا تعذُل أخاك في هذا العشق، ولا تلمه على هذا الحب؛ فَكِلَاكُما فيه سواء، ورثتماه عن آبائكما وورَّثتماه أبناءكما، إنما أنتما فيه أشبه بالذئاب خبثًا وسوء نية منكما بالأسود شجاعة وصدق إقدام، والدنيا خادعة ماكرة، ومحتالة ماهرة، تدبُّ دبيب الشيخ وتدرُج دروج الطفل حذرة مستأنية، حتى إذا لمحت مطمعًا أو توسمتْ فريسة، فدع مهارة السُّلَيْك وتفوُّق الشَّنْفَرَى في الكرِّ والفر، وفي الاختلاس والنَّدْل، وفي سوء الخلق وفساد الضمير.

لقد علَّمتْكم فأحسنتْ تعليمكم وغذَّتكم فأحسنت غذاءكم؛ فليس فيكم من هو من الشر بريء، ومن دنس الرذيلة نقي، سواء في الشر والرذيلة أهل السهل والجبل، وسكان الوهاد والذُّرا، لا يردهم عنه رادٌّ، ولا يردعهم عنه رادع.

ألا لو أنصف الحكيم نفسه لطلب الصمت وسكن إليه، ولافتن فيه افتنان الجاهل المغرور في النطق بما في الحياة من زخرف وما في العالم من أسماء.

إيه أيتها العقول الضالة! ضعي ما شئت من الأسماء، فلن تجْدِي عليك شيئًا، سموا الخمر أم ليلى، وسموا مكة أم القرى، فما أنتم في ذلك إلا كاذبون؛ ما أرى الخمر ولدت ليلى، وما أعرف مكة ولدت القرى! سموا هذا النجم الطالع في السماء بالمشترى، فما أنتم في ذلك إلا مختلقون! فهل تنبئونني ماذا اشترى هذا النجم وماذا باع! كلَّا! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم، لا تعلمون لها مصدرًا ولا تريدون بها غاية.

انتظِروا الربح فلن تربحوا إلا الخسران، وأَمِّلوا الظفر فلن تظفروا إلا بالخيبة. انخدعوا بالأسماء، فإن ضعف عقولكم لم يُعدِدْكم إلا لذلك ولم يهيئكم إلا له.

عَذِيرِي من هذا المارد الغالي في مروده، والفاجر المغرق في فجوره، يتقرأ ويدعي النسك، ويتزهد وينتحل الدين، وما أراه إلا متتبعًا للمخزيات، متطلبًا للآثام، مستنبطًا للكفر والنفاق.

ألا أيها الحكيم الحازم اربأ بنفسك أن تحب هذه الحياة؛ فما فيها خير، أو تحرص على عشرة أهلها؛ فما يرجى لهم صلاح، هوِّن على نفسك لقاء الموت؛ فإن خشونته وغلظته ألين مسًّا من نعومة الحياة ورقتها، وطِّنها عليه وهيئها له؛ فإنما أنت سالك سبيل أمثالك الذين مضوا، وتابعٌ نهج أقرانك الذين درجوا. كم خبَّرك التاريخ عن قَيْلٍ دانت له العروش وانقادت له المنابر، ثم أسلمته عزته وقوته إلى التراب فخالطه وفني فيه! مضى لم ينفعه ملكه، ولم يتبعه سلطانه بل أقام في ظلمة قبره عاريًا من كل شيء، أعزل من كل سلاح، وخلَّف دولته الضخمة وعزته القعساء بالعراء.

ارغَبْ في الموت وابتدره بفعل الخير، وليكن حظك من هذه الحياة الإحسان إلى أهلها والتطول عليهم. اقرِ ضيفهم إن نزل بك. اقره بأول ما تلقاه، لا تتربص به ما ليس عندك، ولا تُكبره على ما في يدك. لا تزدر شيئًا من القوت؛ فرب مزدرًى نفع، ورب محتقر أفاد. إن في هذا القوت الذي تمقته وتُصغره أن تقدِّمه إلى ضيفك لبلاغًا لهذا الضيف من جوع ربما مزَّق أحشاءه، وَتَعِلَّةً له عن ألم ربما لم يُطق له حَمْلًا. وأين تقع العُرا والأزرار مما أُوتيت البُزْلُ من قوة وما مُنِحتْ من أيْدٍ! ولكنها مع ذلك محتاجة إليها لا تستطيع أن تُقِلَّ حملًا ولا أن ترفع ثِقلًا إلا بها، وليس يُحْتَقَرُ الشيء لضعة مكانه ولا يعظَّم لارتفاع قدره، ينبغي أن يقدَّر ذلك بمَكَانِه من حاجة الناس إليه، وتوقف مصالحهم عليه.

أجلْ! لقد بالغنا في حب الدنيا وإكبارها حتى أطمعناها في أنفسنا، فشزرتنا محتقرة لنا، ونظرتنا زارية علينا، وهي أحق أن تُحقر وأجدر أن تُزدرى؛ فليس فيها شيء يحسن بالعاقل حرصٌ عليه أو رغبة فيه؛ لذاتها نائية، وآلامها دانية، خيرها قليل، وشرُّها كثير، والسعادة فيها غير باقية، والشقاء بها لا يزول. أَوَلَيس أجمل الأشياء فيها عصر الشباب الذي يحمل إلينا من اللذات ألوانًا ومن النعمة فنونًا! فكيف ترى ثباته لنضالها وبقاءه أمام نبالها! أَوَلَيْست تتخذه غرضًا فلا تزال بجدته حتى تبلَى وبنضرته حتى تذوى، وبجماله حتى يزول!

نحب الحياة ونكره الموت، وما أعرف لشيء من ذلك سببًا. لقد عرفنا شر الحياة وضرها، وأرى أنا لا نكره الموت إلا لجهلنا إياه وغفلتنا عنه، وأننا لم نذق طعمه ولم نبلُ ثمره! بلى! لقد ذقناه فما ألذه! وبلوناه، فلما أحلى جناه! وأي فرق بين الموت والنوم إلا قصر هذا وطول ذاك! وأي خلاف بين رقدة القبر ورقدة السرير، إلا أن هذه راحة مؤقتة تنسخها آلام اليقظة، وتلك راحة خالدة لا ينسخها شقاء الحياة.

ألا إلى الله الملجأ وعليه المعتمد؛ فإنا لم نُجْمَع في هذه الدار، ولم نُحْشَر إلى هذه الأرض إلا لنشرب كأس الموت كدرة أو صافية لا بد منها ولا منصرف عنها، نشربها راغمين فنجد لها مذاقًا واحدًا لا يغيره اختلاف المادة ولا يُبَدِّله تبدل الأجزاء: فلان قتله المرض، وفلان قتله السيف، وفلان أصابه الرمح، وآخر أصماه الهم؛ كلٌّ قد انتهت به الحياة إلى مورد واحد لا اختلاف له ولا تفاضل فيه.

نشربها راغمين وإن لم نحمد أثرها. فناء تام، وسكون خالد، وذهول عن العالم مقيم. رِدْ حوض الموت مطمئنًّا، واحتس كأسه مستريحًا؛ فلن يؤلمك بعد ذلك ذم الناس لك، ولن يرضيك ثناؤهم عليك. وأنَّى لهم أن يؤلموك أو يرضوك وقد فصمت بينك وبينهم العُرا، وتقطعت بينك وبينهم الأسباب!

أقدم، لا يهولنَّك ما تسمع من أخبار الغيب وأنبائه؛ فإنما هي ظنون مرجمة، وأحاديث منحولة، لم تنتقل إليك عن ثقة، ولم تبلغك عن يقين. هل أنبأك ميتٌ بما بعد الموت؟ وهل قص عليك ما لقي في قبره من سعادة أو شقاء ومن نعيم أو جحيم؟! كلَّا! لو أنه قام من جَدَثِه وهبَّ من مرقده فأنبأنا بما رأى وحدثنا بما سمع، لاختلف ظن الناس به ورأيهم فيه، ولكان منهم المصدِّق له والناعي عليه. طبيعة تلك في الناس لا تزول؛ يؤثرون الباطل فيُجمعون عليه، ويحقرون الحق فيختلفون فيه.

أجل! إنا لم نُجمَعْ إلا لِنَرِدَ هذا المورد، كما أن راعي الإبل لم يوردها الحوض ولم يعرضها عليه إلا لتشرب منه وترتوي من مائه.

أَقْدِمْ على الموت، فليس لك عنه مفرٌّ ولا منه معتصم. وأنَّى لهذا الفَرَأ الفتيِّ قد اشتد به المرح وعظم فيه الحرص على الحياة، أن ينجو من سهم أرسله إليه القدر وأتاحه له القضاء!

لا تخدعنَّك الآمال، ولا تغرنَّك المنى، ولا يملكنك حب الحياة؛ فإنما هي آمال منقطعة بك، وأماني مُسْلِمةٌ لك إلى الحمام. وأنَّى يُتاح للثور الهرم قد أفنته السن وتصرَّمت عنه الأيام، أن يعيش عيشة الفَرَأ النشيط ذي الشباب والقوة وذي الحدة والفتوَّة!

ما أكثر تعرُّض عقل الإنسان للزلل، واستهدافَ رأيه للخطل! فقد يخدعه السراب، فيخيل إليه الشراب، وقد يسحره قطر السحاب، فيخيل إليه الدر ذا البريق والصفاء وذا الرونق واللألاء. كذلك يفعل الضعف بنفس الإنسان؛ يسبقها المنى عذبة، ويريها الآمال محققة، حتى إذا جاء وقت اليقظة والانتباه والحرص على اجتناء الأثمار لكد الليل وكدح النهار لم يظفر إلا بألم اليأس، ولم ينل إلا مرارة القنوط.

كم تمتلئ نفسك ابتهاجًا! وكم يفعم قلبك سرورًا حين تصوغ لك الآمال طيف الخيال، وفيه من حبيبتك ما أحببت من دلٍّ فاتن، وجمال ساحر، ومن لطف خلَّاب، وحسن جذَّاب! وكم يؤلمك وخز اليأس حين تباعد اليقظة بينك وبين هذا الخيال؛ فما تفيق من نومك إلا وقد استيقنت بأنك قد كنت في باطل ليس له من الحق نصيب! ذلك هو نصيبك من الدنيا؛ فإن شئت فازهد فيه، وإن شئت فاحرص عليه. ولكني أنصح لك ألا تتخذ سبيل الجاهل الذي لا يفرق بين نفعه وضره، ولا يميز خيره من شره، ذلك الذي يصرف سيفه عن عدوه ليُغمده في رأس أحب الناس إليه وأولاهم بالمنزلة عنده، وهي ابنته التي هي جزء من نفسه وقطعة من قلبه. هذا الجاهل الغافل يغتر بالحياة فيرغب فيها، ويعتقد أن حرصه عليها سيعصمه من فراقها، وإنما هو في رأيه مضلل مغرور.

ما أشدَّ ما أشهد بين الناس من الاختلاف في طرق الحياة، والافتراق في سبل العيش! هذا يبيع، وهذا يشتري، وتلك تغنِّي وهذه تنوح، وذاك يهوي إلى أعماق الأرض ليمتح الماء من جوف القليب، وصاحبه يصعد في أجواز الجو ليشتار العسل من رءوس الجبال أشد ما يكون على نفسه حذرًا من السقوط، وأحرص ما يكون لها رغبةً في النجاح. والكل ينتهون من مساعيهم المختلفة ومسالكهم المتشعبة إلى غاية واحدة، هي الموت الذي لا منصرف عنه ولا شك فيه.

ألا إننا زائلون كما زالَ مَنْ قبلنا، فمُقَفُّون على آثارهم، ومورثون الأرض لمن بعدنا.

والزمان على حاله: نهار يمر بضوئه، وليل يكرُّ بظلمته، ونجم يطلع، وآخر يهوي مغوِّرًا. بذلك سبق القدر، وعلى هذا استقر القضاء.

سَرَيْنا وطالبُنا هَاجعٌ
وعند الصباح حَمِدْنا السُّرى
بنو آدمٍ يطلبون الثرا
ءَ عند الثُّريا وعند الثرى
فتًى زارعٌ وفتى دارعٌ
كلا الرجلين غدَا فامترى
فهذا بعينٍ وزايٍ يروح
وذلك يؤوب بضادٍ ورا
وعامل قوت ذرا حبَّه
وخِدنُ رِكازٍ ضحا فاذَّرى
وكُورُك فوق طويلِ المَطَا
وَسرْجُك فوق شديد القَرَا
ويُجْرِي ذَفَارِيَّها جِدُّها
بمثل الظلام إِذا ما جرى
كأنَّ بُصاقَ الدَّبَى فوقها
إذا وقدت في الأنوف البُرَا
وذلك من حرِّ أنفاسها
يُضاعفه حرُّ يومٍ جرى
تلوم على أُمِّ دفْرٍ أخاك
وراءك إنَّ هوًى قد ورى
عهدتُك تُشبه سِيدَ الضراء
ولستَ مُشابهَ ليثِ الشَّرَى
تَدِبُّ فإن وُجِدتْ خُلْسةٌ
فيا لِلسُّليكِ أوِ الشَّنْفَرَى
هو الشر قد عمَّ في العالمين
أهل الوُهود وأهل الذرَا
ليفتنَّ في صمته ناسكٌ
إذا افتنَّ فيما يقول الورى
فكَنُّوا صبوحيَّة الشرب أُمَّ
ليلى ومكَّةَ أُمَّ القُرى
وقالوا بدا المشترِي في الظلامِ
فيا ليت شعرِيَ ماذا اشترى
وترجو الرَّباحَ وأين الرباحُ
ونعتُك في نفسك الخَيْسَرَى
عَذِيرِيَ من ماردٍ فاجر
تَقَرَّأ والمخزياتِ اقترى
فهوِّنْ عليك لقاءَ المنون
وقُلْ حين تُطرقُ أَطْرِقْ كَرَا
ونادِ إذا أوعدتك اعْتِرِي
فصبرًا على الحكم لمَّا اعترى
ونفسي ترجِّي كإحدى النفوس
وتُذْرِي النوائبُ سَكْنَ الذُّرَى
وكم نزل القَيْل عن منبرٍ
فعاد إلى عُنْصُرٍ في الثرى
وأُخْرِجَ عن مُلكه عاريًا
وخلَّف مملكةً بالعَرا
إذا الضيفُ جاءك فابْسِمْ له
وقَرِّب إليه وَشِيكَ القِرَى
ولا تَحْقِر المُزدرَى في العيون
فكم نفع الهيِّن المزدرى
ولا تحمل البزلُ تلك الوسو
قَ إلا بأزرارها والعُرا
أجَلْ خَزَرَتْنِيَ وَثَّابةٌ
سواها التي مشتِ الخَيْزَرَى
فإن سَراء الليالي رمى
أوَانَ شبيبتنا فانسرا
ونوميَ موتٌ قريب النشورِ
وموتيَ نومٌ طويل الكَرَى
نؤمِّل خالقَنا إننا
صُرِينا لنشرب ذاك الصَّرَى
سواء عليَّ إِذا ما هلكتُ
مَنْ شاد مكرمتي أو زرى
فأودى فلانٌ بسُقمٍ أَضَرَّ
وأَودى فلانٌ بعرقٍ ضَرَا
أَبِالنَّبْلِ أُدرِكَ أم بالرِّما
ح بين أسنَّتها والسُّرا
فهل قام من جَدَثٍ ميِّتٌ
فيُخبِر عن مِسْمَع أو مَرَا
ولو هب صدَّقه معشرٌ
وقال أُناسٌ طغى وافترى
ولم يَقْرِ في الحوض راعي السوا
م إلا ليورده ما قرى
أفرُّ وما فَرَأ ٌنافرٌ
بمعتصم من قضاءٍ فرى
أحِنُّ إلى أملٍ فاتني
وما للشَّبوبِ وعيش الفَرَا
متى قرقر الهاتفُ العِكرِمي
هيج شوقًا إلى قَرْقَرَى
وقد يَفْسُد الفكرُ في حالةٍ
فيوهمك الدُّرَّ قَطْرَ السَّرا
سقاك المنى فتمنَّيتها
وصاغ لك الطيفَ حتى انبرى
فلا تدنُ من جاهلٍ آهلٍ
لو انْتُزِعتْ خَمْسُه ما درى
أبى سيفُه قتل أعدائه
وساف وليدتَه أو هرى
وتختلف الإنسُ في شأنها
وأبْعِدْ بمن باع ممن شرى
مُغنِّيةٌ أُعطيت مُرغِبًا
فغنَّتْ ونائحةٌ تُكتَرى
وهاوٍ ليُخرِج ماء القليبِ
وراقٍ ليجنيَ ثَوْلًا أرَى
فإن نال شهدًا فأيْسِرْ به
على أنه بسقوطٍ حَرى
نَزولُ كما زال أجدادُنا
ويبقى الزمانُ على ما ترى
نهارٌ يُضيءُ وليلٌ يَجِيءُ
ونجمٌ يغورُ ونجم يُرى

٣٥

حياة تعنِّينا آلامها، وموت يعذبنا خوفه. فليت ما يؤذينا مضى، وليت ما يخيفنا وقع!

ماذا أحمد من الحياة! وإنما هي أمل يثمر اليأس، ورجاء يغلُّ القنوط. نفس متمنية للسعادة، وعين رانية إلى النعيم، ويد قد أصفرها الفقر وأخلاها الشقاء، ولهاة قد أجفَّها الظمأ وأذواها الصدى.

لشد ما أشهد في هذه الحياة من تلون! ولشد ما أرى فيها من خداع أناس يحبون الخير ويرغبون فيه، فإذا حققت أمورهم وتبينت أسرارهم رأيت أن حبهم للخير وحرصهم عليه ليس إلا تجارة كاسدة يبتغون بها الذكر الطائر والشهرة الكاذبة والصيت البعيد. أَوْقِدْ أيها الموقد نيرانك في جوف الليل، وارفع سناها على رءوس الجبال وشغافها؛ فقد علمت أنك لم تُرِدْ بذلك وجه الله ولا فعل الخيْر، وإنما أحببت أن يشيع حمد الناس لك وثناؤهم عليك.

حقق أيها الباحث نظرك في الأمور، وأجِدْ بحثك عنها واستقصاءك لها، تجد أن غاية ما ينال المرء من حياته إنما هو ثوب يستر جسمه، وقوت يقيم أوده، وراحة تدفع عنه الأسقام والأمراض. لقد كثر الثمن وخسرت الصفقة، وبذلنا هذا الجهد العظيم ثمنًا لهذا الحظ القليل من الحياة.

ما أجمل الموت وما ألذه! وما أكفله للراحة وأنفاه للتعب! يسكن أحدنا القبر فلا يحفل بما أفاد من ثروة وما اقتنى من طرائف. يعود ترابًا لا يلذُّ له مس الحرير ولا يؤذيه طعن القنا، ولا يؤلمه ما نال من موت زُعاف قد حمله إليه صارم صافي الفرند ماضي الحد مرُّ المذاق لا يزدهيه الغضب ولا تأخذه العزة إن ذمه الناس أو مدحوه، سواء عليه سيئ ذلك وحسنه وقبيحه وجيِّده.

ألَا من كانت قد أعجبته الحياة فإني قد أعجبني الموت! ألَا إن من نال الخير خليق أن يهنأ به ويغبط عليه، ولكني لا أرى الحياة خيرًا ولا أعتدها نعمة.

لقد كثرت مذاهب الناس في مصدر ما اشتملت عليه الحياة من شر: فمنهم من حمد المادة وأنكر الروح، ومنهم من ذم المادة وجعلها مصدر الشرور وعلة الآثام، وزعم الروح بريئًا من كل عيب خالصًا من كل سوء، والجسم مصدر آلامه وعلة شقائه، وما أرى هذه الطائفة من الناس إلا غالية مغرقة. ماذا فعل الجسم المسكين؟ وماذا جنى؟! لقد كلَّفه الروح مشاق الأعمال وأنواع الآلام فاحتملها طائعًا وقام بها مذعنًا حتى أدركه البلى وأصابه الفناء. أجلْ! لقد كلفه الروح من أعاجيبه ما يفوق الطاقة ويتجاوز الحد، فما عصى أمرًا ولا استهان بنداء. أفإن أبلتْه الخدمة وأفنته الطاعة يكون نصيبه الذم والعيب؟!

لقد أخطئوا في ذمهم للجسم وكذبوا في عيبهم عليه؛ فما رأينا الجسم في نفسه إلا مصدرًا للخير وسببًا للنعمة. وما رأينا الشر والشقاء والغيَّ والفساد إلا تابعة للحياة يصحبها الروح. دونك الغصنَ الذي هو جسم صرف ليس له من العقل والروح نصيب، ودونك الإنسانَ العاقل المفكر، فانظر أيهما إلى الخير أدنى وإلى الفائدة أقرب، تجد الغصن قد أعطى النعيم واللذة وأجنى الفواكه والأثمار، والإنسان قد أوجد الجحيم والشقاء وجنى الآثام والشرور.

لقد برئ الجسم الخالص من المين والتكلف ومن الكذب والزور، فما تبرَّأ مما هو فيه، ولا حرص على الرجوع إلى ما فاته، ولا ذاق كذب الآمال ولا جرَّب ضلال المنى. انظر إلى الإنسان ذي العقل والفكر كيف ضلَّ عقلُه وصغر فكره! فكَّر في الشيب وقد أصابه، وأحب الشباب وقد فاته، فظن أن الخِضاب يدفع عنه ما أتى، ويرد عليه ما فات، ونسي أن تغير اللون واستحالته لا يدفعان عنه ما دهمه الشيب به من انحناء الظهر وانثناء المتن.

انظر إليه كيف خدعته الأوضاع المختلفة والأصول المنتحلة، فحكَّمها في نفسه وسلَّطها على عمله، مع أنه هو الذي اخترعها ولم تكن موجودة، وانتحلها ولم تكن معروفة، واتخذ منها لنفسه قيودًا وأغلالًا تعوقه عن الخير، وتثنيه عن الكمال. جعل في الناس أحرارًا وعبيدًا، وفرَّق بين ابن الحرة وابن الأمة في الحكم، وباعد بينهما في نظر العقل. وما أرى بينهما فرقًا؛ كلاهما إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فرَّق بين المحصنة والزانية، وأخذ ابنيهما بحكمهما، فأخذ ابن الزانية بجناية أمه، وربما كان خيِّرًا فاضلًا، ومدح ابن المحصنة بطهارة أمه، وربما كان شريرًا آثمًا. ما أضلَّ عقلّه وأسفَهَ رأيه وأجدرَه أن يتخلص من هذه الأغلال!

انظر إليه بَطِرًا أَشِرًا يحب الحياة ويرغب فيها، حتى إذا طالت له أنفقها في الزور والخنا، وأمضاها في الإثم والفجور. انظر إليه كيف نسي نصيبه من الموت حين حُجب عنه وخفي عليه، فظن أنه خالد لن يموت وأنه لا يفنى، حتى إذا ظهر خطؤه وبانَ خطله تقطَّع قلبه حزنًا لفراق الحياة، وتفرَّقت نفسه فزعًا من لقاء الموت، ولو قد كان متبصرًا في الأمور مستقصيًا لعواقبها لكان بنجوة من هذا الفزع وذلك الحزن. انظر إليه كيف أصم أذنيه عن هذا الصوت المُرِنِّ، وكيف أعمى عينيه عما يقدِّم الدهر إليه من آيات بينة وحجج ناصعة، تظهر له غروره واضحًا، وفتونه جليًّا.

انظر إليه كيف خدعته أوهام الأقدمين وأضلَّته أساطير الأولين، واتخذ لنفسه شرائع مكتوبة وطقوسًا من العبادة ظاهرة، يزعم أنها تدخله الجنة وتعصمه من النار. لقد فزتَ أيها الشقي التعس إن صدَقتك هذه الأوهام وصحَّت لك هذه الوعود، فزتَ بالجنة ونعيمها، وبرئت من النار وجحيمها بزيارتك لتلك الأحجار القائمة والأبنية الماثلة بمَكة ومِنًى.

حياةٌ عناءٌ وموتٌ عَنَا
فليت بَعِيدَ حِمَامٍ دَنَا
يدٌ صَفِرتْ ولهاةٌ ذوتْ
ونفس تمنَّت طَرْفٌ رَنَا
ومُوقِدُ نِيرانه في الدجَى
يروم سناءً برَفع السَّنى
يحاول من عاش سَتْرَ القميصِ
ومَلْء الخميص وبُرْءَ الضَّنَى
ومَن ضمه جَدَثٌ لم يُبَلْ
على ما أفاد ولا ما اقتنى
يصير ترابًا سواءٌ عليـْ
ـه مسُّ الحرير وطعنُ القنا
وشُرْب الفناء بخُضرِ الفِرِندِ
كأنَّ على آسِهنَّ الفنَا
ولا يزدهي غَضَبٌ حِلمَه
ألَقَّبَه ذاكرٌ أم كنا
يُهَنَّأُ بالخير مَنْ ناله
وليس الهناءُ على ما هُنَا
وأقرِبْ لمن كان في غبطةٍ
بلُقْيَا المُنَى من لِقاء المَنَا
أعائبةٌ جسدي روحُه
وما زال يخدُم حتى ونى
وقد كلفته أعاجيبَها
فطوْرًا فُرادَى وطورًا ثُنَا
يُنَافي ابن آدم حالَ الغصونِ
فهاتيك أجنتْ وهذا جنى
تُغيِّر حِنَّاؤه شيبَه
فهل غيَّر الظهرَ لمَّا انحنى
إذا هو لم يُخنِ دهرٌ عليـ
ـه جاء الفَرِيَّ وقال الخنا
وسيَّان مَنْ أُمُّه حُرَّةٌ
حَصَانٌ ومن أمُّه فَرْتَنَى
ولي مَورِدٌ بإناءِ المنونِ
ولكن ميقاتَه ما أَنى
زمانٌ يخاطب أبناءه
جِهارًا وقد جهلوا ما عَنى
يبدِّل باليسر إعدامَه
وتهدِم أحداثُه ما بنى
لقد فزتَ إن كنتَ تُعْطَى الجنا
نَ بمكة إذ زرتها أو مِنَى

٣٦

بعلم الله وقضائه خُلقتُ والضعف لي طبيعة والعجز فيَّ غريزة، لا أستطيع غدوًّا ولا رواحًا، ولا أقدر على سُرًى ولا إدلاج.

لقد أصبحت في يده أسيرًا يائسًا ذليلًا ضارعًا، أحوج ما أكون إلى فضل من عفوه، ونافلة من كرمه.

وليس يصح في قضية العقل أن أقضي أيامي في هذه الحياة موثقًا مكتوفًا، لا أملك لنفسي نفعًا ولا أدفع عنها ضرًّا، ثم أكَلِّف العمل في الطاعة والجد في العبادة، حتى إذا لم آت ما أنا عاجز عنه قيل لتَدخلِ النار كما دخل غيرك من العصاة المفسدين والطغاة المجرمين، وإن بيني وبينهم لفَرْقَ ما بين العاجز والقادر أو القويِّ والضعيف.

لئن زعم الناس أن لهم قوة وقدرة، وأن لهم بأسًا وبطشًا، وأنهم قادرون على ما كُلِّفُوا مالكون لما نُدِبُوا إليه، ما أعرف إلا أني عاجز ضيف، قد برئت من الحول والطول، وعجزت عن الدقيق والجليل. ولئن وقف الناس أنفسهم موقف اليأس والقنوط، فاستيقنوا بسوء العاقبة حين اعتقدوا في أنفسهم القوة، إني لكبير الأمل عظيم الرجاء، أنتظر أن ينالني عفو الله عن ضعيف عاجز فيأمر بي إلى جنته حيث ينعم الأبرار من أصفيائه. ذلك رجاء أرجوه وأمنيَّة أبتغيها، وما أراني إن ظفِرت بها إلا الموفَّق السعيد.

بعلمِ إلهِي يُوجَدُ الضَّعفُ شيمتي
فلستُ مطيقًا للغدوِّ ولا المَسْرَى
غَبَرتُ أسيرًا في يديه ومن يكن
له كرمٌ تُكْرَمْ بساحته الأسْرَى
أَأُصبح في الدنيا كما هو عالمٌ
وأدخل نارًا مثل قيصر أو كسرى
وإني لأرجو منه يوم تجاوز
فيأمر بي ذات اليمين إلى اليُسرى
إذا راكبٌ نالت به الشأوَ ناقةٌ
فما أينُقي إلى الظوالعُ والحَسْرَى
وإن أُعْفَ بعد الموت مما يَرِيبني
فما حَظِّيَ الأدنى ولا يديَ الخُسْرَى

٣٧

لا تحقر الموت ولا تزهد فيه، ولكن أكبره واسْعَ إليه؛ فإنه خليق أن يكون مطمعًا للنفس الكبيرة والقلب المطمئن. وأي دليل على شرفه وفضله أوضح من صعوبة الطريق إليه! فإننا إنما نسلك إليه هذه الحياة محتملين أهوالها متجشمين خطوبها متجرعين غصصها، ابتغاء راحته الدائمة ودعته الخالدة؛ فهو كالمجد المؤثَّل لا يُنال إلا بالجهد والمشقة.

أجلْ! إن الموت لراحة، وإن الحياة لتعب، وإن في افتراق الأجزاء بَعْدَ الموت لتخففًا من ثقل شديد، كما أن في التئامها بالحياة تحملًا لعبء عظيم.

انظر إلى هذا الراعي المكدود، ما ينفك عاملًا مجتهدًا في حياته، حتى إذا مات سكنت حركته واطمأن جسمه وارتاح بعد العناء، وما أحسبه لو خُيِّر بين الموت والحياة وقد ذاق أولهما إلا مؤثرًا للحمام ومختارًا للفناء.

يدل على فضل المماتِ وكونهِ
إراحةَ جسمٍ أنَّ مسلكه صعبُ
ألم تر أن المجد تلقاك دونه
شدائدُ من أمثالها وجب الرعبُ
إذا افترقت أجزاؤنا حُطَّ ثِقْلُنا
ونحمل عِبئًا حين يلتئم الشعب
وأمسِ ثوى راعيك وهو مُوَدَّعٌ
ولو كان حيًّا قام في يده قعبُ

٣٨

فيم تعيب الناس وتَتَبَّع زلاتهم! وعلام تؤنِّب الصديق وتكثر الإساءة إليه! وماذا جنى عليك الدهر فأنكرته، أو قدَّمت لك الأيام من الشر فأنت لها كاره وعليها عاتب! لقد كنت خليقًا أن تُشْغَل بما أصبحت منتظرًا له من موت واقع، ليس له من دافع، عن تتبع العيوب وتأنيب الأصدقاء. ولقد كنت حجيًّا أن تعرف نفسك وتعترف بسيئاتها، لا أن تجهلها وتحمل جناياتها على الزمان وآثامها على الأيام! ما أذنب الدهر ولا جنت الأيام، وإنما نحن المذنبون الجانون.

انظر إلى هذا الظالم قد غرَّه سلطانه وأطغاه بطشه، فظن بنفسه الخلود واستبعد عليها الموت، وإن الموت لمدركه أين كان ولو اتخذ نفقًا في الأرض أو سُلَّمًا في السماء. أحبَّ الظلم ورغب فيه، وطلب العسب وتهالك عليه، فما ينفك فيه جادًّا وعليه حريصًا. لقد بُدِّل برقَّة العواطف قسوة القلب وغلظةَ الكبد وجفاء الطبع، حتى استبدل بما يعشقه الناس من الغواني الحسان أدوات الموتِ وآلات الفناء، إنه ليرى في القناة اللَّدْنة السمراء وفي سنانها المخضوب بالدماء، حسناء فاتنة يضم إليه قدَّها المياس ويلثم ثغرها الشَّنِب. وإنه ليرى في السيف قد صفا رونقه وخلص جوهره وتلألأ الفرند فيه جدولًا من الماء نقيَّ الصفحة، ولكنه ينم عن صورة الموت، فلا يكاد يصبُّ منه على رأس القرن قطرات حتى ينبسط منه جدول من الدم المزبد العبيط. إنه ليهوَى الحرب، ويكلف بها ويراها هِنْدَه وزَيْنَبَه. وإنه ليقطع إليها المهامه ويتجشَّم البيد ويمتطي الأيد من الخيل والنوق، والناس من حوله وادعون مطمئنون. إنه ليفعل ذلك كله فيزعج الآمن ويروع المطمئن ويملأ الأرض شرًّا وإثمًا، ثم أنتم بعد ذلك تَصِمُون الأيام وصْمته، وتحملون عليها وِزْرَه وتسبُّونها بما كان خليقًا أن يُسَبَّ هو به. أصلحوا أنفسكَم فقد فسدت، وبصِّروا ظالمكم فقد أعماه الغرور. أرشدوه إلى أنه يمد إلى الحياة أسبابًا سيقطعها الموت، وأن ما يدخر من الورق والنضار، وما يحتمل في سبيله من الأهوال والأخطار، وما يقتنى من دُهم الخيل وغُرِّها، ومن قوارح الإبل وبُزلها، لن تدفع عنه غارة الأيام، ولن تردَّ عنه صولة الزمان. لقد عجزتْ أن تقيم قده المنحني وعودَه المُنْآد، وإنها عن دفع الموت لأضيق باعًا، وأقصر ذراعًا.

لِيَشْغَلْك ما أصبحت مرتقبًا له
عن العيب يبدُو والخليلِ يُؤَنَّبُ
فما أذنب الدهرُ الذي أنت لائمٌ
ولكن بنو حوَّاء جاروا وأذنبوا
سيدخل بيتَ الظالم الحتفُ هاجمًا
ولو أنه عند السِّماكِ مُطنَّبُ
وقد كان يهوَى الطعنَ أمَّا قناتُه
فذاتُ لَمًى والخِرصُ كالناب أشنبُ
ودرعُ حديدٍ عنده درعُ كاعبٍ
من الودِّ واسمُ الحرب هندٌ وزينب
ويطوي الملا بعد الملا فوق كُورِه
إذا العِيسُ تُزْجَى والسوابقُ تُجْنَبُ
له من فِرِنْدٍ جدولٌ إن أساله
على رأس قِرْن جاش بالدم مِذْنَبُ
وليس يقيم الظَّهْرَ حنَّبه الرَّدَى
قَوامُ رُدَينِيٍّ وطِرفٌ مُحَنَّبُ

٣٩

لقد أكثرت لوم الدنيا وأطلتَ النعي عليها، وزعمت أنها لك ظالمة، وعليك جائرة، وإليك مسيئة. وما أرى أنها قد اقترفت ذنبًا أو اجترحت إثمًا، وما أعرف أنها ظلمتك أو أساءت إليك، إنما أنت الظالم لنفسك المسيء إليها؛ توردها موارد الشر، وتحملها محامل السوء، ثم تكلِّف الأيام ما كنت خليقًا أن تكلِّفه نفسك، وتعيبها بما أنت فيه واقع. يلذُّ لك أن تتكذَّب عليها وتصفها بما هي بريئة منه. ماذا جنت عليك الدنيا، وبماذا أساءت إليك؟! كل ذنبها عندك أنها حسناء فتانة وهيفاء خلابة، يستبيك حسنها ويستصبيك جمالها، فأيُّ ذنب لها في هذا الحسن! وأي جناية لها في كلفك بها وميلك إليها؟!

عَذِيرِي من أولئك الخدَّاعين للناس المضلين للعقول المتكذبين على الأغرار! لقد زعموا لهم أن نفوسهم خالدة، وأنها لم تهبط هذا العالم إلا لتبتلى وتجرَّب، متنقلة فيه من جسم إلى جسم، مستفيدة من هذا التنقل صلاحًا لها وتهذيبًا لأخلاقها، وأن السعيد من هذه الأنفس سيلقى من النعمة واللذة ما لا سبيل إلى وصفه، وأن الشقي منها سيلقى من الألم والنقمة ما يطهِّره من أدناس المادة وأدرانها. كلَّا! ما أحسب أن هذا حق، وما أرى أنه صواب، وما أعرف أننا نقضي أيامنا مختارين أحرارًا نستطيع أن نصلح نفوسنا ونهذِّبها ونسلك بها إلى السعادة طريقًا مأمونًا، إنما نحن عبيد مقهورون، قد أُوثقت أيدينا وأرجلنا بأغلال متينة وأمراس محكمة، فنحن نرسف فيها مجذوبين إلى ما لا نحب، مكرهين على ما لا نرضى.

ليس في هذه الحياة لنا خير ولا سعادة، إنما هي الشر الدائم والشقاء المقيم، وأقسم لو أن للحس في ميت بقاء وللشعور فيه وجودًا، لقد كنا أحرياء أن نجد لطعم الموت من العذوبة وملاءمة الطبع ما لا نجده في الحياة.

نَقِمتَ على الدنيا ولا ذنبَ أسلفتْ
إليك فأنت الظالمُ المتكذِّبُ
وهَبْها فتاةً هل عليها جِنايةٌ
بمن هو صَبٌّ في هواها مُعذَّبُ
وقد زعموا هذي النفوسَ بواقيًا
تَشَكَّل في أجسامها وتَهَذَّبُ
وتُنقلُ منها فالسعيدُ مُكرَّمٌ
بما هو لاقٍ والشقي مُشذَّبُ
وما كنتَ في أيام عيشك منصفًا
ولكن مُعنًّى في حِبالك تُجذَبُ
ولو كان يبقى الحسُّ في شخص مَيتٍ
لآليتُ أنَّ الموت في الفم أعذبُ

٤٠

لَعَمْرُك ما لي في هذه الحياة أمل أسمو إليه ولا رجاء أطمع فيه. وما لي فيها راحة أبتغيها ولا لذة أكلِّف نفسي لها العناء. وإني على طول الأيام واختلافها وعلى بقاء الدهر وخلوده لَمُجْدِبٌ من كل خير، بريء من كل صالحة، وما أرى أن لشيء في هذه الحياة حظًّا من سرور، ولا أن في هذه الدنيا مصدرًا لابتهاج. إنما هي حزن قد ضرب أطنابه ومدَّ رواقه على كل شيء. ألم تر إلى المغرورين المفتونين كيف يسمُّون صياح الحمام غناءً وتغريدًا، وقد كان خليقًا أن يسمى بكاءً وإعوالًا!

فإنَّ حوادث هذه الحياة كثيرة، ومعظمها على الناس فظ غليظ، وأقلها الحَدِبُ الشفيق. فما أجدر أصواتَ هذه الحمائم أن تكون بكاءً على المكروبين ورثاء للمنكوبين!

وكيف ينعم الإنسان بحياة أو يسعد بلذة وهو لا يرى حوله إلا أديبًا إلى مأدبة الموت، مدعوًّا إلى مائدته، مكرهًا على أن يغشاها ويتزوَّد منها!

لعمرُك ما بي نُجعةٌ فأرومَها
وإني على طول الزمان لَمُجْدِبُ
حملتُ على الأَوْلَى الحمامَ فلم أقُلْ
يُغَنِّي ولكن قلتُ يبكي ويندُبُ
وذلك أن الحادثاتِ كثيرةٌ
وغالبُهن الفَظُّ لا المتحدِّب
وكلٌّ أديبٌ أي سيُدْعَى إلى الردى
من الأدْبِ لا أنَّ الفتى متأدِّب

٤١

ويح الإنسان! ما أشدَّ غروره وأكثر الرياء فيه! ما أعظم انخداعه بالأسماء والأشكال، وأقل اطلاعه على الحقائق واعتباره بالمواعظ! لقد قام منه في المحاريب أناس يعظون ويخوِّفون وينذرون ويبشرون، ففتنه مقامهم وخدعه منطقهم. ولو أنه حقق فيهم النظر وأجاد عنهم البحث، لما وجد بينهم وبين أولئك الشَّرْب يُطرِبون أنفسهم بالألحان ويغذُّونها بابنة الحان، فرقًا ولا خلافًا.

فإن صلاة لا يراد بها إلا الكيد والرياء لا تنفع صاحبها شيئًا ولا تغني عنه قليلًا ولا كثيرًا. وربما كان متعمد المعصية أقرب إلى الله من متكلف الطاعة.

كلٌّ في نفسه ضال جائر، يسلك إلى الفناء المطلق سبيلًا قد سلكها الناس من قبله. هنالك في تلك الغاية الخالدة يستوي التقي والشقي، ويأتلف الخيِّر والشرِّير. ألا فلتعرفوا أنفسكم أيها الناس، ولتكفُّوا من غروركم؛ فإنما أنتم مادة تتشكل أشكالًا مختلفة، وتتصور صورًا متباينة. لا تفخروا! فما أعرف لكم في الفخر حقًّا، إنما أنتم من الفخَّار خلقتم وإلى الفخار تعودون. ألا رُبَّ فاخر منكم قد ملأ فمه الفخر، وقد أولع بما يقدِّمه إليه الناس من المدح والثناء، قد عاد إلى أصله ورجع إلى مادته بعد حين، واتخذ الناس منه الآنية يبتذلونها في الطعام والشراب متنقلين بها من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر.

ويحي له! لو درى ما سيُصنع به أو عرف أنه سيتغرَّب بعد موته، فتنقل الآنية المتخذة من جسمه في الأقطار والأقاليم؛ لما عُني بالفخر ولا هام به، ولما كدَّ نفسه وأشقاها فيما تكلِّفه الحياة من آمال وأخطار.

لعل أُناسًا في المحاريب خوَّفوا
بآيٍ كناسٍ في المشارب أطربوا
إذا رام كيدًا بالصلاةِ مقيمُها
فتاركها عمدًا إلى الله أقرب
فلا يُمْسِ فخَّارًا من الفخر عائدٌ
إلى عنصر الفخار للنفع يُضربُ
لعل إناءً منه يُصنعُ مرةً
فيأكل فيه مَنْ أراد ويشرب
وَيُحمل من أرضٍ لأخرى وما درى
فواهًا له بعد البِلَي يتغرَّب

٤٢

ما بال أُناس يؤثرون على أنفسهم، فيَشْقَون ليسعد الناس، ويكدُّون ليرتاح غيرهم، معتمدين على قضايا كاذبة، متمسكين بقواعد شائعة، لا يؤيدها عقل ولا يدعمها دليل، قد خلطوا بين الحقوق ولم يحسنوا تقدير الأمور، فزعموا أن إكرام الصديق واجب، وأن إيثاره بالفضل حق محتوم. وذلك شيء لا شك فيه، ولكن إكرام نفسي ينبغي أن يكون أوجب عليَّ وألزم لي من إكرام غيري.

لقد ضلت العقول وسفِهت الأحلام، وأُقسم ما أرى في الإنسان إلا خليقًا بالذم حريًّا بالعيب، سواء في ذلك الفقير الممتهن والملك ذو الجلال.

ليت هذا النجم المتألق، وهذا البدر المنير، يعقلان فيعجبا لما وقع فيه الإنسان من خطل الآراء، وسفه الأحلام.

إذا كان إِكرامي صديقيَ واجبًا
فإكرامُ نفسي لا محالة أوجبُ
وأحلف ما الإنسان إلا مُذمَّمٌ
أخو الفقر منا والمليكُ المحجَّبُ
أيعقِل نجمُ الليل أو بدرُ تِمِّهِ
فيصبحَ من أفعالنا يتعجَّب

٤٣

لقد قدِّر عليَّ البقاء، وحُجِب عني الغيب؛ فأنا بالبقاء كَلِفٌ، وبما مضى جاهل. وربما كان الموت خيرًا لي وأبقى عليَّ من الحياة. وربما كان موت الإنسان إدناءً له من ربه. لقد نحب البقاء خوفًا من الموت، ولعمري ما البقاء إلا سمٌّ ناقع قد ملئ بأنواع الأمراض والأسقام وألوان الآفات والعلل.

ولو أن البقاء على كراهته ميسور، والخلود على آلامه متاح، لقد كان لنا أن نرغب فيه. ولكن الموت واقع والحمام محتوم، سواء في حكمه المقيم والظاعن، والحاضر والبادي. أجل! إن الموت لواقع لا بد منه، وإنما نحن لهذه الأرض غذاء، تطلبنا على أن نكون لها طعامًا وريًّا، كما نبتدل نحن غيرنا لهذين الغرضين.

إن الإنسان لمغرور مخدوع، وإنه على ذلك لكذوب مفتر، لم يدع شيئًا إلا تناوله بكذبه، حتى إن الشمس لم تسلم من خطل أُميَّة بن أبي الصَّلْت، فزعم أنها لا تشرق حتى ينالها الضرب والإيذاء. لقد صغُرت العقول وقصرت الأنظار. ولقد كان حقًّا على هؤلاء الناس أن ينظروا إلى هذه الشمس وأمثالها من الكواكب والنجوم من حيث هي عاملة على إهلاكهم مجدة في إفنائهم. فما أرى أن هذا الهلال قد حدب وعطف إلا ليكون رمحًا يُطْعَنُون به. وما أرى أن هذا الصباح قد استطال وأضاء إلا ليكون سيفًا مسلولًا على رءوسهم، يُورد كلًّا منهم حوض المنون إذا انقضى أجله وحانت مدَّته.

بَقِيتُ وما أدري بما هو غائبٌ
لعل الذي يمضي إلى الله أقربُ
تودُّ البقاءَ النفسُ من خيفة الرَّدَى
وطولُ بقاء المرء سَمٌّ مُجَرَّبُ
على الموت يجتاز المعاشرُ كُلُّهم
مقيمٌ بأهليه ومن يتغربُ
وما الأرضُ إلا مثلنا الرزقَ تبتغي
فتأكل من هذا الأنامِ وتشربُ
وقد كذَبوا حتى على الشمس أنها
تُهان إذا حان الشروق وتُضربُ
كأن هلالًا لاح للطعن فيهمُ
حُناه الرَّدى وهو السَّنان المُجَرَّبُ
كأنَّ ضياءَ الفجر سيفٌ يَسُلُّه
عليهم صباحٌ بالمنايا مُذرَّبُ

٤٤

أذْهِبوا أيها الأغنياء دوركم بالنضار الوهاج، وزينوها بما شئتم من بديع الرياش؛ فإنما أنتم عنها ذاهبون ولها تاركون.

ما أرى إلا أن في أجسامكم قبسًا مهما أضاء فلا بد أن يطفئه الموت ويخمده الردى؛ فما التهابه إلا إلى حين، وما اشتغاله إلا إلى مدى.

أتُذْهَبُ دارٌ بالنُّضار ورَبُّها
يخلِّفها عما قليلٍ ويذهبُ
أرى قبسًا في الجسم يُطْفِئه الردى
وما دمت حيًّا فهو ذا يتلهَّب

٤٥

ما أخلق النفس باللوم! وما أحراها بالتثريب! وما أجدر اللبيب العاقل والحكيم الحازم أن يمنحها منهما حظًّا غير مقطوع وعطاءً غير مجذوذ. فقد كلِفتْ بما في هذه الحياة من باطل، وحرصت على مالها من زينة فانية ونعمة غير خالدة. ولست أدري ما الذي يكلف به الإنسان من الثروة والغنى، وهو يعلم أنه من التراب خُلق وإلى التراب يعود. ما أجد حرص ابن التراب على الغنى والإتراب إلا حمقًا. وما أرى شغف ابن الفناء بالخلود والبقاء إلا سفهًا.

لقد آن للعقول الضالة أن تهتدي، وللنفوس الغافلة أن تُفيق، وللآذان الصمِّ أن تسمع؛ فما زالت هذه الحياة منذ كانت تنطق بكل لغة وتعرب بكل لسان، مبرهنةً على ما اشتملت عليه من شر، ومشيرةً إلى ما شغفت به من سوء.

لقد اختبرتها فأحسنت اختبارها، وبلوتها فأتقنت بلاءها، لقد أحطت بأسرارها وظهرت على خبيئتها؛ فما أرى فيها شيئًا أنكره أو أعجب له أو تدهشني غرابته، على حين أرى الحمقى المضللين والبُله المغفلين تفجؤهم منها فاجئة الخير أو الشر لم يكن لهم بها عهد، فيقضون العجب ويلجُّون في الدهش والاستغراب.

على رِسْلِكم أيها الناس! إنما خيركم من هذه الحياة لباطلٌ وزور، وإنكم حين تُعْجَبون به لتعجبون بشيء لم يقم على قاعدة ولم يعتمد على أصل ولا حكمة. إنما هي حركات حمق ونزوات خطل، ما ينبغي للعاقل أن يرجو منها خيرًا أو ينتظر منها نفعًا. ما أرى دنياكم هذه إلا أشد حمقًا وأكثر خطلًا من دجاجة ليس لها حلم راجح ولا عقل صحيح، قد حُرِمَتْ رزانةَ الحركة ووقار المشية، فهي نزَّاءة وثابة، ونزقة طائشة، تحكمها المصادفة أكثر مما يحكمها التدبير. فما أجدرَ العالمَ بها باليأس منها والقنوط من مستقبل أمرها!

أيها الكَلِفُ بالحياة المشغوف بالبقاء! لقد تَيَّمَتْك هذه الدنيا واستأثرت بلبك، فهِمْتَ بها من حيث ينبغي أن تصد عنها وأن تستبدل ببكاء الرغبة فيها بكاء الرهبة منها. إنك لتهوَى العلة المهلكة والداء المميت. إن حركة الشمس من المشرق إلى المغرب ليست إلا مقربة لأجلك ومقصرة لحياتك. فكِّر في أمرك وأحسن تدبير نفسك، تجد أن أنفاسك التي تتنفسها وحركاتك التي تتحركها مستلذًّا بها ذوق الحياة مستعذبًا بها طعم العيش، ليست إلَّا مُفنية لك، تباعد ما بينك وبين المهد، وتقارب ما بينك وبين اللحد. ذلك قضاء واقع وحكم نافذ، ليس لك منه عاصم ولا نصير. أترى أن سُهَيْلًا هذا النجم المتلألئ في السماء الذي هو أحرى منك بالبقاء وأدنى منك إلى طول المدة واجدٌ له من الحوادث نصيرًا ومن الكوارث ملجأ؟ كلَّا ولكنها عقول ضالة، وأنظار قصيرة، ونفوس سبقتها إلى الهدى تلك الإبل الجادَّة في سقي الأرض، والبقرُ العاملةُ في حرثها.

عجبًا لكم أيها الناس! لقد اطمأننتم إلى الحياة واستنمتم إلى لذَّاتها، فما منكم إلا مغرور يملؤه الأمل ويحدوه الرجاء. لقد أمِنتم سطوة لا تُؤْمَن، ورَكنتم إلا ما لا ينبغي أن تركنوا إليه. لقد كان حقًّا عليكم أن تَفْرَقوا من مَطْلَع النهار ومَقْدَم الليل، وأن تسيئوا الظن بحياة ما أراها إلا مُرغبة في الموت مُغرية بحبه محرِّضة عليه. قَصِّروا من آمالكم، وآثروا أنفسكم بالدِّعَة والراحة حتى تتقضَّى أيامكم القليلة.

أغمدوا سيوفكم واركزوا رماحَكم، ولا يبلغ منكم حب الحياة والشغف بها أن يتعجل بعضكم منايا بعض. أريحوا أنفسكم! لا يقتل بعضكم بعضًا؛ فإن للموت الفطري يدًا أمهر من أيديكم في القتل، وحسامًا أمضى من سيوفكم في الهدم، وسِنانًا أثقب من أسِنَّتِكم للصدور. أريحوا أنفسكم من هذا العناء؛ فإن الموت سيريح بعضكم من بعض. كلكم ميت، وكلكم تارك أصدقاءه وأخلَّاءه، لا يحفلون به ولا يأسَفون عليه. وما هي إلا ساعة وداعه ثم يعودون من اللهو واللعب ومن الغيِّ والمجون إلى ما كانوا فيه.

غدوتُ على نفسي أُثَرِّبُ جاهدًا
وأمثالَها لام اللبيب المثرِّبُ
إذا كان جسمي من ترابٍ مآلُه
إليه فما حظِّي بأَنِّيَ مُترِبُ
وما زالت الدنيا بأصناف ألسن
تُبَيِّنُ عن غير الجميل وتُعرِبُ
إذا أغربتْ يومًا برزءٍ على الفتى
فليستْ على نفسي بما حُمَّ تُغرِب
وجربتها أُمَّ الوليد لطامع
ويَيأسُ من أم الوليد المجرِّبُ
يَحِق لمن يهوَى الحيَاة بكاؤه
إذا لاح قَرن الشمس أو حين تغربُ
وما نَفَسٌ إلا يُباعد مولدًا
ويُدني المنايا للنفوس فتَقْرُبُ
فهل لسُهيْلٍ في مَعَدِّكَ ناصرٌ
إذا أسلمته للحوادث يَعْرُبُ
وأهدى إلى نهج الهدى من معاشرٍ
نَوَاضِحُ تَسْنو أو عواملُ تكرُبُ
ألا تَفْرَقُ الأحياء مما بَدَا لها
وقد عمَّها بالفجر أزرقُ مُغرَبُ
وشفَّ بقاءٌ صِرْتُ من سوء فعلِه
أهَشَّ إلى الموت الزؤام وأطرَبُ
فشِمْ صارمًا واركزْ قناةً فللردى
يَدُ هي أولى بالْحِمام وأدربُ
أفَضَّ لهاماتٍ وأرمَى بأسهمٍ
وأطْعَنُ في قلب الخميس وأُضْرَبُ
أرى مُطْعِمَ الرَّمْسِ الِّلهَمِّ خليلَه
سيأكل من بعد الخليلِ ويشربُ

٤٦

ما أحرصَ الناسَ على تصديق الغنيِّ والثقة بصاحب الثراء، قد أقبلت عليه الأيام فأسبغت عليه من النَّعمة ثوبًا ضافيًا خلَّابًا، لم يكد يظهر فيه صاحبه حتى خلب العقول والألباب، فخيَّل إليها أن باطله حق، وكذبه صدق، وضلاله هدى.

حدِّثني بما شئت من تضليل وتغرير، وأوهمني بما استطعت من سطوة وسلطة، وخيل إليَّ أنك تملك نفعي وضري وتقدِر على خيري وشري؛ فإنك عندي كاذب غير صادق ومائن غير أمين. لقد فقدتَ القدرة فما تستطيع عملًا وما تقدر على شيء. إن أنت في الحياة إلا عبد مقهور مستذل، قد خيل إليه أنه قادر مختار فعال. لقد خدعك الخيال وكذَبتك المنى. أَظْهِرْ النسك والعبادة، وأعْلِنْ الهدى والطاعة، وتجافَ بين أيدي الناس عن نعيم الحياة ولذاتها، وحدثنا أنك وفيٌّ بالعهود حافظ لغيب الصديق، فما أنت في ذلك إلا مختلق منتحل. إنك لتتزهد بين أيدينا عن لحم الحيوان، ولكنا نكاد نلمس بأيدينا قَرَمَك إلى لحم الإنسان، ولا سيما إن كان صديقًا أو خليلًا.

إذا أقبل الإنسان في الدهر صُدِّقتْ
أحاديثُه عن نفسه وهو كاذبُ
أتوهمني بالمكر أنك نافعي
وما أنت إلا في حِبالك جاذبُ
وتأكل لحكم الخِلِّ مستعذبًا له
وتزعم للأقوام أنك عاذب

٤٧

ألا لا تغبِط منعَّمًا بنعمته، ولا تحسد سعيدًا على سعادته؛ فليس في الحياة ما يُغْبَط به ولا في العيش ما يُحْسَد عليه. بئست الحياة تملؤها اللذة وتفعمها النعمة ثم يعقبها الموت والهلاك!

أجلْ! ليس في الحياة شيء يُحْمَد. فما أجد الحسَّ الذي هو أخص مميزاتها وأوضح الدلائل عليها إلا موقعًا لصاحبه في السوء ومنتهيًا به إلى المكروه. وكيف تُحْمَدُ الحياة أو يُرْغَب فيها وما أرى صاحبها إلا غرضًا مستهدفًا لجيش من الزمان يعمل ويجدُّ في عمله للفناء من غير أن يسمع له لجبٌ ولا صخب.

أفٍّ لِقَصر العقول وسَفَهِ الأحلام! لقد أغرقنا في الغرور، وتعلَّقنا بصغار الأمور، حتى لو عقَلت الأرض أو فهِمت فرأت ما نحن فيه من ترك للنافع وتشبث بالضار، ومن عدول عن كبار الأمور إلى صغارها، لقضتِ العجبَ مما نحن فيه من حمق وسخف.

نرجو السعادة ونَكْلَفُ بها، وإنما نرجو متعذرًا ونكلف بمحال. وإنما السعادة ألا نوجد وقد وجدنا، وألا نخلق وقد خُلقنا. فما حرصنا على ما لا سبيل إليه! وما رغبتنا فيما لا قدرة عليه! وهل رأيت شهرًا من الشهور قد ضاق بنفسه وأحب أن يستبدل به غيره، فودَّت جمادَى لو أنها رجب.

ألا إن الشقاء محتوم لا مفرَّ منه، والشر موجود لا مندوحة عنه. وكل ما أظهر الناس من حب للخير أو حرص على المعروف، وكل ما أعلنوا من نسك وطاعة أو زهد وعبادة؛ فليس إلا ضروبًا من الرياء وألوانًا من الخديعة، ساقتهم إليها غرائزهم، وأكرهتهم عليها طبائعهم؛ فهم كالعود لا يلحي نفسَه وإنما يلحاه الناس. لم يرغبوا في الخير وإنما اضطُروا إلى إظهاره، ولم يَكْلَفوا بالبر وإنما ألجئوا إلى انتحاله. لقد يبهرك نسك الناسك فتحسبه إنما تنسَّك للطاعة، ويعجبك احتجاب المحتجب فتظنه إنما احتجب للعبادة. كلَّا! ما تنسَّك مَنْ تنسك إلا للخداع، وما احتجب من احتجب إلا ليخلو بالنكراء.

أيتها النفس الضيقة بما في هذه الحياة من شرور، المتبرمة بما في هذه الناس من آثام، خفِّضي عنك ورفِّهي عليك؛ فتلك طبيعة الحياة، وهذه غريزة الناس، لا سبيل إلى تغييرهما ولا قدرة على إصلاحهما، ولا حزم إلا الصبر على احتمالهما والتجلد على ما يأتيان به من جرائم وسيئات.

لا يُغبَطَنَّ أخو نُعْمَى بنعمته
بئس الحياة حياةٌ بعدها الشَّجَبُ
والحِسُّ أوقَعَ حيًّا في مساءته
وللزمان جيوشٌ ما لها لَجَبُ
لو تعلم الأرضُ ما أفعالُ ساكنها
لطال منها لما يؤتَى به العجبُ
بدء السعادة أن لم تُخْلَقِ امرأةٌ
فهل تود جُمَادَى أنها رجبُ
ولم تَتُبْ لخيارٍ كأن مُنتجَبًا
لكنك العُودُ إذ يُلْحَى وَيُنتجبُ
وما احتجبتَ عن الأقوامِ من نسكٍ
وإنما أنت للنَّكراء مُحتجب
قالت ليَ النفسُ إني في أذًى وقذًى
فقلت صبرًا وتسليمًا كذا يجب

٤٨

عجبت للناس يعيبوني حيًّا، ويُثنون عليَّ ميتًا. لا يحْمَدون صاحب الرأي إلا حين يغيب عنهم شخصه، فلا يسرُّه منهم حمد ولا يُرضيه منهم ثناء. ولو أنهم أدَّوا إليه حقه وعرفوا له صنيعته لكان له من رضاهم عنه وثنائهم عليه واستجابتهم لدعائه في حياته مشجِّع على النصح لهم ومرغِّب له في هدايته. ولكنا جميعًا في هذه الحياة مرضى معتلُّون، داؤنا حب النفس، وعلَّتنا الحرص على الحياة. وهذه العلة وذلك الداء هما اللذان يوقعاننا فيما نكره من كفر النعمة وجحود الجميل.

أعيَّبونِيَ حيًّا ثم قام لهم
مُثْنٍ وقد غيَّبوني إن ذا عجبُ
نحنُ البَرِيَّةَ أمسى كلنا دَنِفًا
يحب دنياه حبًّا فوق ما يجب

٤٩

لا يَخْدَعَنَّك من الناس عذوبةُ الحديث وحلاوة المنطق؛ فإنك تعاني من أخلاقهم دون ذلك عِشرةً مُرَّةً وعذابًا أليمًا. إنما أخلاقهم شرٌّ لا خير فيه، وإنما ألفاظهم زينة كاذبة تنم على ما دونها من كذب ورياء.

إنهم لعشاق أسماء وأخِلَّاء ألفَاظ، ليس لهم في المعاني والحقائق نظر صحيح؛ فهم كذبة منافقون، يسمون النجم والهلال والفرقَدَ والسِّماك، وما لهم في هذه التسمية علة مفهومة ولا باعث معقول. قد عَظُمتْ آمالهم، وصغرت أعمالهم، فتعلَّقوا بأهداب الشمس يبتغون الخير، وإنما يتعلقون في الحقيقة بأسباب الشر والإفك ووسائل الغيِّ والفجور.

أخلاقُ سكان دنيانا مُعَذِّبةٌ
وإن أتتك بما تستعذب العَذَبُ
سَمَّوْا هلالًا وبدرًا والندَى وضُحًى
وفرقدًا وسِمَاكًا شدَّ ما كذبوا
ولم يُنَط بحبال الشمس من نظرٍ
إلَّا له في حبال الشرِّ مُجْتَذَبُ

٥٠

لقد اشتمل الضعف على الناس، حتى إن أحدهم لتعرِض له الحاجة هو إليها مضطر وعليها حريص، وقد سنحت لنيلها الفرصة ولكن الحياء وهو لون من ألوان الضعف يمنعه ويحول بينه وبين ما يريد. ذلك الضيف يُلِمُّ بك فتَقريه ظهرًا، حتى إذا أمسى الليل فسألته عن ميله إلى الطعام ورغبَته فيه أنكر ذلك وزعم أنه شبعان ممتلئ، وإنه في الحق لساغبٌ حَرِبٌ، وجائع لَغِبٌ. فإن كنت من أهل الإحسان إلى الناس والبَرِّ بهم، فأزلف إليهم إحسانك وبرَّك من غير أن تشاورهم فيه؛ فإن مشاورتك إياهم في ذلك ضارة لك ولهم: تضرك لأنها تمنعك شيئًا تشتهيه، وتضرهم لأنها تحملهم من الحياء والضعف على الحرمان وسوء الحال.

أَحْسِن إليهم ما استطعت، وقدِّم إليهم ما وجدت. لا تُصغر على الإحسان حقيرًا، ولا تزدر هيِّنًا. فحسبك من الإحسان إلى الجائع أنك أخمدت جوعه وأطفأت سَغَبَه؛ فأما إلذاذه بألوان الطعام المختلفة الطيبة فشيء فوق الحاجة تُتَحَيَّن له الفرصة وتتربص به الطاقة والمقدرة.

لا تسألِ الضيفَ إن أطعمتَه ظُهُرًا
بالليل هل لك في بعض القِرَى أربُ
فإنَّ ذلك من قولٍ يُلَقِّنهُ
لا أشتهي الزادَ وهو الساغبُ الحربُ
قَدِّمْ له ما تأتَّى لا تُؤامره
فيه ولو أنه الطُّرْثوثُ والصَّرَبُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤