الضباع تلقي بتابوت جثمان المهلهل في اليم

ومرة ثانية يَكتنف الغموض الثقيل هذا النص أو النصوص، فلا يُخبرنا إذا ما كان المهلهل قد مات أو أنه ما يَزال غارقًا في جراحه حيًّا.

ذلك أن ضباع جاءت بصندوق أو كفن «زفَّتته وطلتْه بالقار»، ووضعت فيه جثمان المهلهل المُثخَن الجراح، بنفس ما فعلته الربة إيزيس وأم موسى، وحملته بمساعدة عبيدها ليلًا، فطرحته في البحر «وتوقَّفت على شاطئه تبكيه وتندبه أحرَّ بكاء.»

وفي ذات الوقت الذي عادت فيه إلى قومها، فأشاعت مُبتهجة في بني قيس أنها أحرقته بالنار.

وعلى هذا النحو أيضًا وصَل الخبر وشاع في قبائل المهلهل ذاتها، فشقَّ قومُه ملابسهم حزنًا وهلعًا مما لحق بمَلِكهم وفارسهم.

إلا أن الصندوق أو الكفن الذي حوى جثمان الزير سالم المسجَّى اندفع بهذا الإله الذبيح — كالأوزوريس — إلى أن قذفت به الأمواج على شاطئ بالقرب من مدينةٍ نَعتقد أنها مدينة حيفا الفلسطينية، حيث ستجري فيها وعبرها معظم أحداث غربة الزير في «بلاد اليهود»، أو بلاد الملك اليهودي حكمون.

ولا نعرف من أين جاءت وخالطت نصَّنا مؤثِّرات عبرية؛ ذلك أن الصندوق وصل بالزير إلى مقربة من قصر الملك أو الحكيم حكمون اليهودي وابنته «استير»، كما وصَل صندوق أوزيريس إلى قصر ملك بيبلوص أو جبيل بلبنان، ووصل صندوق موسى إلى قصر فرعون وابنته البرصاء.

وتتوالى سلسلة من الأحداث الدخيلة١ الملفَّقة بين الزير وملك اليهود، ذاك الذي أوكل إلى حكيم عنده يُدْعَى «شمعون» بعلاج الزير حتى شُفِيَ، واستقدمه وسأله عن حاله وهو يُلقِّبه «بالموحد»٢ قائلًا:
قال اليوم حكمون الملك
يا موحد استمع مني المقال
هات لي أحكي ما صار فيك
ما عملت وما فعلت من الفعال
حتى طُعِنْت يا موحد بالرماح
وجرحوك كثير بسيوف ثقال

وهنا أجابه الزير سالم منشدًا:

قال أبو ليلى المهلهل في قصيد
يا ملك حكمون يا حلو الخصال
في بلادي إن سألت عن الجلوس
مجلس بأوسط فوق أعالي الجبال
وإن سألت عن الشور كل الشور لي
ما أحد يقدر يخالف لي مقال
وإن وقع الحرب وضرب السيوف
فالعذارى هلَّلت فوق الجمال
والسيوف الحدب عاد لها مرير
والقتلى عادت تلولًا كالرمال
فذاك اليوم أنا أعز الملاح
ما مثالي في اليمين وفي الشمال
وإن أتاني ضيف أنا عز الضيوف
أُشبع الضيوف من لحم الجمال
والفتى المعروف منجد يا أمير
ابن وائل ذاك لي يا أمير خال
إن كنت تسأل يا ملك عن صنعتي
صنعتي حاصود في روس الرجال
أما أبي فكان ذو قدر عظيم
مال فيه الدهر يا حكمون مال
صار سايس بعد عزه للخيول
بالكرامة بعد عزه والدلال
وأنا قد صرت سايس بعده
أسوس الخيل ما مثلي مثال
وجروحاتي هي من عض الحصان
قد ضربني برجله أربع نعال
قمت من كدري ضربته في حشاه
راحت السكين تلعب للعزال
لأجل ذاك المهر سواها الـ
ـفعال ورموني بالذل مع كثر الخيال
ويبدو تدهور جسد هذه السيرة — الملحمة — مع توالي أحداثها التالية بما يَسمح لمؤثِّرات عبرية دخيلة على اقتحامها والمزاوجة بينها؛ من ذلك: إلحاق الزير بعمل سائس لخيول الملك حكمون، وتبنِّيه لفرس أسماه «أبو عجلان»،٣ وظلَّ في عمله هذا أربعة أعوام، إلى أن وقعت الحرب بين حكمون الملك اليهوي حين غزاه الملقَّب ببرجيس الصليبي أحد ملوك الروم، فقاتل حكمون وأخاه الملقب ﺑ «صهيون»، وكانت كلما اشتدت المعارك بين جيوش الروم الغازية والملك حكمون — الذي كثيرًا ما يرد اسمه على أنه ملك النصارى — اعتلا الزير سالم ظهور سور لجدار؛ ليَشهد المعارك الدائرة. رجَّح د. لويس عوض أنه ربما كان سور حائط المبكى في القدس أو أورشاليم مدينة سالم.

ومعنى هذا أن المعارك كانت تجري حول القدس، بالإضافة إلى إشارات وأسماء مثل: صهيون، وسمعان الذي يرجَّح فعلًا أنه سمعان المكابي رأس الأسرة العبرية المكابية التي تصدَّت للغزو اليوناني البطلمي في القرن الثالث ق.م.

كما يسجِّل النص مقتل قائد هذه الأسرة: صهيون الذي شاهده الزير من أعلى جداره ذاك «يقع على الأرض قتيلًا فضجَّت اليهود» الملاعين لما رأوا أميرهم مفقودًا، واستعانوا بالتوراة والتلمود «كما لا يُغفِل النص ندْبَهم فقْدَ صهيون.»

المهم أن «استير» الجميلة ابنة حكمون، والتي تَرد موتيفاتها في الحكايات العبرية الفولكلورية وخوارق الجان والشطار، نائمةً ملط على بطنها على حافة بستان أبيها حكمون، الذي كان من أزهى البساتين التي تفرط في وصفه هذه الحكايات والفابيولات التي تعرَّضنا لها في «الحكايات»٤ الشعبية العربية.
ومثلما وصل جثمان أوزيريس من النيل إلى شواطئ بيبلوص Byblos أو جبيل شمال بيروت، وشاهدته الإلهة الفينيقية مليكارت Melqarte التي عادةً ما تطالعنا صورها وأساطيرها بصحبة الكلب المصري أنوبيس.
فيذكر النص أنه ما إن وصل جثمان الزير إلى مملكة حكمون اليهودي حتى عرفته استير أو عشتار Ishtar ابنته، وهي ربة الأخصاب السامية التي قد يشير اسمها إلى اﻟ «ملل: إرث».

المهمُّ أن الزير سالم أقام سنوات غربته عندهم إلى أن جدَّت وقائع الحرب، واعتاد هو اعتلاء «حائط» ومُشاهَدة المعارك، وكانت استير تَرقُب حماس الزير سالم وصرخاته في المُقاتلين، فكان أن أخبرت أباها بأفعال هذا «الموحد» الملفتة الغريبة قائلة:

تقول ابنتك اسمع من كلامي
نظرت اليوم في عيني العجايب
رأيت اليوم من هذا الموحد
فعالًا قد تُعيد الرأس شايب
فلما دقت الطبل النصارى
وقد هجت عساكرها تحارب
والتقت العساكر بالعساكر
وراح السيف يعمل في المناكب
قد أبصرت أحوال الموحد
غرائب قد فعلها من عجائب
لقد ركب الجدار سواه حصانه
كأنه يا أبي قاصد يحارب
ويزعق ثم يلكز في كصابه
إلى أن جرى دمه سكايب
ويهدر مثل ليث غاب أروع
ترجُّ الأرض منه والكتائب
يريد الحيط يطلع فيه يغزي
وقلبه للقا والحرب طالب
إذا ولت رجالك قال باطل
وإن ولَّت عداك قال طائب
ينحني الناس واحد بعد واحد
قتل روحه وهو للحيط٥ راكب
فهذا قد نظرته اليوم حقًّا
من الأول إلى وقت المغارب
فلا أدري أهو عاقل صميدع
ولا أدري أهو مجنون خائب

وحين سمع حكمون ما ذكرته ابنته استير استقدم الزير سالم ودفَع إليه بعدة حربه، وأعطاه حصانًا — أبو حجلان — وأبلى الزير بلاءً حسنًا في قتاله ضد جيوش الروم المغيرة، وكان كلما قتل منهم بطلًا صرخ: «يا لثارات كليب من جساس.»

وتمكَّن المهلهل من صدِّ الروم المُغيرين، ودفعهم إلى الانسحاب وقبول الهدنة صاغرين مع الملك حكمون الذي عَظُمت منزلة الزير لديه، وطالبه بأن يتمنَّى عليه فيُعْطَى، وهنا لم يطلب الزير سوى أن يجهز له سفينة تقلُّه «إلى مدينة حيفا، ومن هناك يسير وحده إلى مرج بني عامر في فلسطين محل إقامته.»

وما إن وصل الزير سالم إلى حيفا، وعاد إلى قبيلته بني عامر في فلسطين، حتى تنكَّر عائدًا إلى قومه، حيث استقبلته النساء باكيات ثاكلات إلى أن طالبته اليمامة بمعرفة قصته، فأنشد:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل
عيوني دمعها جاري بكاها
بكت دمًا على ما صار فينا
ليالي السعد ما عدنا نراها
عدمنا فارس الهيجا كليب
عقاب الحرب أن دارت رحاها
دهتني آل مرة جنح ليل
لتقتلني وتشفي ما دهاها
فكنت بخيمتي ملقى طريحًا
ثلاث آلاف دزتني قناها
وجاءوا بي لعند ضباع أختي
وألقوني طريحًا في خباها
وقالوا: يا ضباع خذي شقيقك
أخذنا روحه قومي عزاها
فألقتني بصندوق مزفت
وأرمتني بوسط البحر ماها
وساقتني مياه البحر حالًا
إلى بلد اليهود على رباها
وجابوني لحكمون الحكيم
أجل ملوك هذي الأرض جاها٦
فداواني وعالجني سريعًا
فزالت كربتي مما دهاها
بقيت أنا ثمان سنين غائب
وزال الشر عني مع عناها
أسأل الله أن يحفظكم جميعًا
على ما طالت الدنيا مداها

وهنا تعرَّفته فتيات قبيلته وأولهنَّ اليمامة وبقية قومه.

وتستجدُّ عدة أحداث استطرادية تتمُّ كلها بالقرب من شاطئ البحر أو ميناء حيفا، منها استرداد لحصانه الجديد — أبو حجلان — الذي عاد به من عند حكمون، ومنها تلصُّص مُرَّة — أو بني مرة — عليه بالقرب من ساحل البحر، ثم وصول خبر عودته إلى أميرهم جساس، وكيف أن الزير سافر ثانية سرًّا بحثًا عن حصانه والتقى بالملك حكمون، وردَّ إليه حكمون الحصان، فأركبه معه من ميناء حيفا ونزل به ثانية عائدًا إلى قبيلته بني عامر في فلسطين.

وعبر هذه الأحداث يَستفحل دور اليمامة في التحريض على الحرب التي استعرت من جديد ضد جساس وقومه، ويبدو أنها هذه المرة أتت على معظم أبطال مُرَّة، لدرجة أن أميرهم جساسًا دفَع بأخته الجليلة للذهاب إلى الزير سالم واستِعطافه والتماس الكف عن الحرب وطلب الصُّلح.

وما إن التقت الجليلة على رأس قومها بالزير سالم زاحِفين على عتباته، مُلتمِسين رفع سيفه البتار عنهم، واستعدادهم لدفع الجزية، وتنصيب الزير ملكًا عليهم، حتى أحال الزير الأمر إلى اليمامة مجيبًا في أشعاره بأنه ليس له ذنب، وكل ما جرى مِن اليمامة ابنة الجليلة.

وطالبهم بالتوجُّه إلى اليمامة وطلب الصفح منها؛ حيث إن لها الكلمة العليا في وقف القتال، وهكذا توجَّهت الجليلة إلى ابنتها اليمامة، تطلب منها الصفح وإيقاف الحرب «وبعد أن صرنا لمن اعتبر، ومثلًا بين البشر.»

وكان أن رفضت اليمامة الصُّلح، وختمت كلامها لاستعدادها هي للحرب والقتال:

قالت يمامة من ضمير صادق
يا جليلة أقصري عنا عناكم
أنتِ وأخوالي وكل عشائري
لا تزيدوا لفظكم ولا لغاكم
قتلتم الماجد كليب والدي
غدرًا وما له ذنب معاكم
جساس طعنه من قفاه بحربة
ودعاه على الغبرا حقير حداكم
أنا وإخوتي بقينا بذلَّة
نمسي ونصبح ولا ننسى بلاكم
أنا لا أصالح حتى يعيش أبونا
ونراه راكب يريد لقاكم

وكما يتضح من شعر اليمامة، فإنها «أصبحت في مواجهة أمها أقرب إلى أليكترا في اتهامها لأمها كليمنسترا؛ حيث إنها تشركها علنًا في قتل أبيها الماجد كليب غدرًا.»

وهكذا تواصل القتال كما أشارت اليمامة التي خذلت أمها وقبيلتها؛ حيث أفنى الزير زهرات وأبطال التغلبيِّين، ولم تنفع فيه حِيَل جساس بحفر حُفَر الإيقاع بالمهلهل، وهي الحيَل التي لجأ إليها سلطان المكار حين حفَر ثلاث حفر وغطاها بالقش ليُوقع فيها المهلهل في مواجهة جساس فيقتله، إلا أنَّ حصان المهلهل أبو حجلان أنقذه فقتل الزير في هذه الحرب عمه الأمير مرة، وفر أمامه جساس هاربًا.

ويُذكرنا مشهد القتال داخل الحفر بالأوريستا، وكذا وبقتال هاملت — داخل قبر أوفيليا — لأخيها لايرتس.

وهنا يستطرد نص الزير سالم في حكاية جانبية عن عودة الأمير «شيبون» ابن أخته الضباع من حروب الروم، ويفجعه من فوره قتل الزير لأخيه وفتكه بقومه.

فيستعدُّ لحربه ويمضي يسخر منه «ككلبي» حمْيَري، والسخرية المُرَّة منه، بما يشير إلى أن الزير حميري، أو أن طوطمه الحمار، كأن يرسل له مَنْ يبيعه مهرًا، ما إن يَستحسنه الزير سالم حتى يستبدله ﺑ «كر» حمار أو أتان يستعصي عليه ركوبه، فيَمضي سابًّا الأتان والحمير: «الحمار يقتني الحمار.»

١  والتي عادة ما لا تبرأ منها سيرة أو ملحمة بعامَّة، تبعًا لتوالي العصور وما يُعْرَف بالتراكم الملحمي.
٢  والزير هنا يتوحَّد بالإله «بعل» أو هبل الكنعاني، الذي يتبدَّى — في أحلام الملاحم الشعرية المُندثرة — كإلهٍ للسماء والعوالم العليا «عند قِمَم أشجار السنط المرتفعة»، واعتبره فلسطينيو عكرون إلهًا للتنبؤ، وهو الأصل المبكِّر للإله العبراني «يهوه».
٣  تيمُّنًا بفرس الملك كليب والذي تواتَر إلى أن جاء بالإلياذة؛ حيث كانت ترعاه «أندروماك» زوجة هيكتور، بما يشير إلى أن أعداء الزير قد استولوا على ذلك الفرس عقب مؤامَرة اغتيال المهلهل وتغرُّبه، واحتجازه في البحر لمدة ٨ سنوات، ثم سائس خيل عند الملك حكمون اليهودي.
٤  ورد ذكره، شوقي عبد الحكيم، دار ابن خلدون، بيروت، ٨٠.
٥  على هذا النحو يرد ذكر حرب الزير على «الحائط» الذي يشير من جانب إلى حائط المبكى، ومن جانب آخر إلى أصل المثل المتواتر حول «القتال على الحائط»، أو لا جدوى «المشي على الحائط».
٦  وهنا يتأكد توحُّد الزير سالم بالإله البعل الكنعاني الفلسطيني الذي تُرْوَى ملحمته المندثرة — ربما تحت جلد ملحمتنا هذه — منذ منتصف الألف الثانية ق.م كيف أنه احتُجِزَ ذات مرة من حيتان البراري إلى أن تمكَّن من الإفلات منهم بنبُّوته المُطلسَم، والعودة إلى بناته الثلاث: «اللات، والعزى، ومناة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤