الملك التُّبَّع حسان اليماني

ولن يقدر لنا ويحق تفهُّم أبعاد هذه السيرة الملحمة دون إلمامة لتراث الشق الثاني المهاجر الفاتح للشام وفلسطين، وهم العرب القحطانيون اليمنيون بقيادة ملكهم المتجبِّر «حسان اليماني»، وفي إطار هذا التاريخ الأسطوري أو الذي يُزاوج التاريخ فيه الأساطير والخرافات، والذي يلقي عدم تحقُّقه اليقيني الحفري كثيرًا من غموض الظلال على أحداثه وسيره وتراثه الضارب في القدم والعراقة لملوكه الذين جابوا العالم القديم، وخلَّفوا آثارهم وهجراتهم القارية في الهند وفارس والصين والتبت، والذين كان يحلو للواحد منهم القول: «قد دعتْني نفسي أن أنطح الصين»، وهكذا يمضي مُفتتحًا الصين ومجاهل إفريقيا، ومنهم هذا الملك التبَّع الذي أفنى قبائل وحضارات بأكملها، والذي يظلُّ يتمثَّل فيه أقصى تمثُّل لأنموذج شخصية «المُستبد العادل» أو الطاغية المنصف على المستوى الاجتماعي السياسي لليوتوبيا العربية والإسلامية بخاصة، المُتواترة على طول التاريخ السياسي والاجتماعي ربما إلى أيامنا.

ويلاحظ جيدًا أنه — أي هذا التبَّع حسان اليماني — يجيئنا في نفس هذه الملحمة الزير سالم مُهاجرًا من ملحمة أو سيرة سابقة قائمة بذاتها تَحمل اسمه «التبَّع حسان اليماني»، أشار إليها الكثيرون من الكُتَّاب الكلاسيكيِّين العرب، وصادفتْني موتيفاتها ومأثوراتها خلال سنوات جمعي الشفهي لهذا التراث، بل إنَّ الكثير من موتيفاتها ومأثوراتها ومواقفها أو أشعارها الإنشادية ومواويلها، الذي يُنْسَب الكثير منه لحسان اليماني — أو تُبَّع حسان اليماني — ما يزال يُواصل تواتُره في ثنايا الشعر والفابيولات الفولكلورية، خاصة تلك المأثورات التي تدور حول أبيه «تُبَّع أسعد» أو أخته «البسوس» أو ابنته تدمُر أو ملكة تَدمر التي أصبحت — بدورها — مدنًا وحضارات، ونسب له١ الهمداني الكثير من النصوص والقبوريات.

كما تَنسب له الملحمة أنه كان شديد البأس مهيب القامة، لا يعرف الحلال من الحرام، لا يَحفظ العهد والزمام، وكان يحب النساء المِلاح والمزاح، وفي كل ليلة يتزوَّج بصبية من أبناء الملوك، ويَشرب المُدَام في الليل والنهار.

وذات يوم سأل وزيره «نبهان»: هل يوجد مَنْ هو أعظم مني في الأرض؟ فأجابه الوزير: «يوجد خارج البحار عرب مِن أهل الشجاعة، يقال لهم: بنو قيس، وهم مِن أولاد مضر.»

وكان أن صرخ مُقرِّرًا الحرب وتملُّك ديارهم في الشام وفلسطين منشدًا:

يقول التبَّع اليمَنِي المُسمَّى
بحسان فما للقول زورا
ملكتُ الأرض غصبًا واقتدارا
وصرتُ على ملوك الأرض سورا
وطاعتْني الممالك والقبائل
وفرسانُ المَعامعِ والنمورا
وقد أُخْبِرْت عن بطل عنيد
شديد البأس جبارًا جسورا
وقالوا: إنه يُدْعَى ربيعة
أمير قد حوى مدنًا ودورا
تولى الأرض في طول وعرض
فكم أخرب وكم شيَّد قصورا
فقصدي اليوم أغزوه بجيشي
وأترُك أرضه قفرًا وبورا
أسير بهم إلى تلك الأراضي
وأملك للقلاع والقصورا
ويَغنم عسكري منهم مكاسب
وأعطيهم بناتٍ كالبدورا
ويبقى الحكم لي برًّا وبحرًا
ويصفى خاطري بعد الكدورا

وأمر التبع بدق الطبل النحاس «الرجوح» وهو من أعظم الطبول، وكان يدقُّه عشرة من العبيد الفحول، وهو من صنعة ملوك التباعنة العظام.

واجتمع تحت إمرته — كأجاممنون وهو في طريقه إلى حرب طروادة — عشرة ملوك أو «قياقل» بجيوشهم الجرارة، ونصب الملك حسان — ملك اليمن وما يَتبعها — إلى الملك «الصحصاح بن حسان» مكانه، وقصد هو بجيوشه — البرية والبحرية هذه — إلى «بلاد الحبش والسودان»، وما إنْ وصَلوها حتى أرسل وزيرًا بألف فارس ليُعلم واليه وابن أخته الملك الرعيني بقدومه ويُطالبه بإمداد الجيش؛ حيث إنه في طريقه إلى الشام، آمرًا ملوكه العشرة أن «يَنقسموا إلى قسمين: ميمنة وميسرة، متملِّكين ما يقابلهم من مدن بحدِّ السيف المهنَّد، حتى ملكوا أكثر البلاد وأطاعتهم العباد.»

إلى أن تملَّك بلاد الشام، فأحاط بها من جميع الجوانب بالمَواكب والكتائب.

وواضح أن تملُّك دمشق — الذي كان واليها من قبْل الملك ربيعة سيد عرب الشمال العدنانيين القيسيين ويُدْعَى زيد بن علام — قد تمَّ برًّا، بمعنى أن الغزوة لسوريا عامة — كانت بحرية — ألف سفينة، إلا أنَّ اقتحام عاصمة القيسيين — دمشق — جاء برًّا.٢

وأقول هذا ردًّا على الدكتور لويس عوض الذي خلال تعرُّضه بالدراسة لهذه الملحمة أو السيرة العربية العريقة التي خلَّفتها الحضارات العربية اليمنية في عدن وسبأ وحضرموت.

والذي افترض أنها سيرة أو ملحمة مُترجمة مُستنِدًا إلى مغالطة الحصار البحري لدمشق قائلًا: «وبالتالي فحديث الملحمة عن «ألف مركب» يُجهزها الوزير نبهان — أو نهبان — لغزو الشام ضرب في المُحال، ولا تفسير لها إلا أن يكون النص مُقتبَسًا محرفًا بما يناسب ضرورات التعريب، وهذا ما يضع الملك حسان في وضع أجا ممنون غازي طروادة.»

وهو — كما يتَّضح — رأي متسرع انفعالي، يستدعي التوقف للتعرف على مجاهل كلا التراث الأسطوري التاريخي للحضارة البحرية اليمنية خاصة في عدن وحضرموت، والذين اقتحموا البحار والمُحيطات منذ أقدم العصور مطلع الألف الثانية ق.م، حتى أُطْلِقَ عليهم بحق «فينيقيو البحر الجنوبي».

صحيح أنه تاريخ أسطوري قائم على أشلاء سير وملاحم مُندثرة مثله مثل هذه السيرة «المهلهل أو الزير سالم» والتي وصلتنا كحلقة من رحم سيرةٍ أمٍّ هي — بدورها — مُندثرة لهذا الملك التبع حسان وأبيه التبَّع أسعد، كما سيجيء ذكر تباعنة اليمن في هذه السيرة التاريخية الأسطورية التي تبدأ أحداثها بفتوحات بحرية لمُعظم غرب آسيا أو الشرق الأدنى القديم، عاصمته دمشق.

•••

المهم أنه لم يهدأ للتبَّع الغازي حسان اليماني بال إلا عندما استولت جيوشه البحرية الجرارة على الشام والحجاز وفلسطين، واستقدم الملك عرب الشمال القيسيين العدنانيين «ربيعة المعظم» والد كليب والزير سالم الذي كان قد رفض المُثول بين يديه، وأمر حُراسه بإلقاء القبض عليه «ومَنْ معه من بني قيس الطناجير وقيَّدوهم في الجنازير»، وشنَقه وصلبه على بوابات دمشق.

وابتدأ بتقسيم الإمبراطورية إلى عدة فِرَق، ولى عليها مَن استسلم له من أمراء القيسيين، وأولهم الأمير «مُرَّة» والد جساس مُغتال كليب الذي جعله على الفرقة الأولى «يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع.» وجعل الأمير عبس واليه على فلسطين وبلاد السرْو وعباد وهي مملكة النبطيين أو العرب الأنباط الأردنيين.

ويلاحَظ أن الأردن بالفعل يكثر بها أشجار السرو إلى أيامنا، كما يلاحظ أن الأنباط العرب ما تزال تتواتَر حولهم عديد من المأثورات والأمثلة الفولكلورية حول النبط أو النبطة، والقول بأن فلان نبطي أو مثل النبطة، بمعنى أنه إنسان صلب قوي لا يُقْهَر ولا يلين أو ينكسر، كما أن من خصائصهم المأثورية الفولكلورية: الحنكة والشطارة.

كما أقام التبع الغازي حسان واليه الأمير المُسمى عدنان على الفرقة الثالثة «وأن يقيم في العراق بتلك المنازل والآفاق.»

وهكذا استتبَّ للتبع اليماني المقام بعد أن شتت بني قيس وقادتهم في البراري والتلال، ودام له الحال ثلاثين سنة «تُهاديه الملوك الأكاسرة وتهابه الملوك القياصرة.»

فبنى قصرًا مرتفع البنيان وجعل أبوابه من الفضة والذهب، بناه له بنَّاء فرعون مصر الشهير الذي تَحتفظ الملحمة باسمه «الريان»، الذي تُجْمِع معظم المصادر العربية الكلاسيكية على الاحتفاظ باسمه هذا، وهو فرعون إبراهيم في مصر، بما يشير إلى افتراض أنَّ هذه الأحداث وقعت مُتعاصرةً على وجه التقريب مع مطلع الألف الثانية ق.م؛ أي منذ حوالي ٣٨ قرنًا كما سيتَّضح.

وتَكتمل مأساة هذا التبَّع المتجبر الذي يربط البعض بينه وبين ملك الملوك «أجا ممنون»؛ نتيجةً لمصرعه واغتياله على يد عروسته المُغتصَبة الجليلة بنت مرة — ليلة عرسه الدامي — وعشيقها أو خطيبها أو زوجها الأمير كليب، وما نتج عن هذا الاغتيال الدامي من اندلاع ألسنة لهب حرب البسوس الشهيرة التي ستُطالعنا، والتي امتدَّت تحت تأثير النزعات القبلية والثأرية لمدة أربعين عامًا، كما تَذكُر نصوص هذه السيرة من فولكلورية وتقليدية.

والتي هي — بالتحديد هذه الحروب — الموضوع الجوهري لسيرة الزير سالم، وإحدى حلقات هذه السيرة المهمَّشة التي اندثر جزؤها الأسبق عن حياة وحروب ذلك التبَّع اليمني القحطاني حسان اليماني؛ حروبه ومآثره وشعره عالي الهامة، وتجبُّره كطاغية قبائلي، وزير نساء يتزوَّج كل ليلة بعذراء كشهريار.

فما إن سمع الملك حسان أنَّ للأمير مُرَّة — واليه على بيروت والبقاع — بنتًا فاضلة جميلة تُدعى جليلة، مخطوبة لابن عمها كليب بن ربيعة الذي سبق له — أي الملك حسان — قتل والده الملك ربيعة حتى رغب في الزواج منها.

وهنا أُسْقِطَ في يد الحبيب أو الخطيب القيسي «كليب»، إلى أن نصَحه أحد الكهان «العابد نعمان» أن يلجأ إلى الحيلة والاغتيال فيتظاهَر بالرضا مُتخفيًا في زي مهرج أو بهلول الأميرة جليلة، حتى ينفذ إلى القصر برفقة مائة فارس مختبئين داخل صناديق جهازها وكنوزها، فجعل بكل صندوق طابقين، طابق يحتوي كنوز الجليلة أو الزوجة المخطوفة أو المُغتصَبة، وطابق اختفى فيه فارس شجاع بكامل سلاحه وعدته.٣

ونفَّذ كليب بن مرة كل هذا باتفاق الجليلة وقبيلتها وأبيها بالطبع، بما يَعني استعدادهم المُتآمر لاغتيال وقتال التبَّع — على المستوى القومي — في كلٍّ من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين.

وهكذا أعطى الكاهن نعمان — أو عمران — سيفًا خشبيًّا لكليب، وتقلَّد هو بسيفه الفعلي تحت ملابسه، وأرخى له سوالف طوالًا من أذناب الكُبُش والبغال، وركب قطعة قصب، وحمل دبوسًا من خشب، ولبس فروًا من جلود الثعالب والذئاب، ومضى يقود زمام قافلة الجليلة أمام فرسان القبيلة، وعندما تساءل وزير الملك حسان — المسمَّى نبهان — عنه أجابوه بأنه مُهرِّج الجليلة بنت مرة، واسمه «قشمر بن غرة».

وهكذا تنكَّر الأمير «كليب» الذي يُشير اسمه — وكذا موطنه — إلى أنه كان كلبيًّا، أي منتميًا — طوطميًّا — إلى قبائل كالب.

وكالب كانت خليطًا قبائليًّا ساميًّا تَسكن فلسطين والبوادي الأدومية منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد كما ذكرنا، ومنهم ملوك أدمة أو أدماء ما بين الأردن وبادية الشام، ومن أسمائها: كالب وكليب وبنو كلب وبنو كلاب، وكلاب بن وبرة بن صعصعة … إلخ، وجريًا على عادة الملاحم والسير العربية في احتفاظها بموروثات العقل القدري الغيبي، لجأ التبَّع حسان وحاشيته إلى الرمل وضاربيه لمعرفة أمر صناديق الجليلة المئة قُبيل دخولها باحة قصر الملك، وأشار أول رمَّال إلى الخديعة، أما ثاني ضاربة ودع أو رمل — وكان اسمها «حجلان» — فقد تمكَّن القيسيون من رشوها «بثلاث بدلات حرير»، فقرَّرت مساعدتهم على اغتيال التبع الطاغية، فدخلت على الملك والرمل بين يديها واصفة محاسن الجليلة وفتنتها:

تقول العجوز التي شاهدت
مليحة تُريح العنا والصدود
يا مير تبع يهنيك فيها السعد
واقبل الخير لك والسعود
أتوكَ بنو قيس أهل السماح
وجابوا لك الخيل ثم النقود
وجابوا الجليلة لشخصك حليلة
بخدين حمر وعينين سود
وقامة طويلة كعود القنا
فوق الكتاف تُرخي الجعود
بشعر طويل وشعر كحيل
بلا جرِّ ميل تصيد السود
حواجب كما قوس تَرمي الهموم
وذات خزام الذهب على النهود
وذات شفاف رقاق نظاف
عقايل طرايف تزيل النكود
ولها وجه كبدرٍ بليلة قدر
ووجنات حمرٍ كما الورود
وجسم رقيق وريق رحيق
وسنان لولو سبت الورود
لها عنق كعنق الغزال
وطوق الذهب يوقد وقود
كتاف كالعاج مثل الزجاج
والنقش مواج فوق الزنود
وكفين أطرى من الياسمين
من قد حواها ينال السعود
وصدر كاللوح خلقه الإله
وقد زين الصدر زوج النهود
قد زينوا بنو قيس لك عروسًا
تجلي لأجلك كل هم وقود
للملك حقًّا قد أحضروا
مليحة خلالها يزيل النقود
فأرسل وراءها وخلي المحال
واسمع كلامي وأجلي الصدود
وادخل على بنت مرة وكن
لطيفًا بقطف ثمار النهود»٤
وما إن ألهبت الساحرة العجوز قلب الملك حتى استقبل الجليلة، مُنبهرًا من حسن جمالها وفصاحتها حين حادثته عن كيف أنَّ اتصالها به شرف لقبيلتها، فأمر الملك بدخولهم وأجلسها إلى جواره على عرش التباعنة وألبسها تاجه وقرَّب قومها وامتلأت الكئوس، وهنا ألحَّت الجليلة في إدخالها بَهلولها أو مُهرِّجها قشمر بن غرة قائلة: «لي نديم اسمه قشمر، لا يوجد مثله بين البشر، حلو الصفات سريع الحركات، يُضْحِك الأحجار بفعاله، ويزيل الهموم بغرائب أعماله»، فأذن التبع بدخول كليب في زي المهرِّج تحت جلد الكبش والبغال، أقرب في هيئته — وهو البدوي الوبري الفلسطيني الأدومي — إلى العيص أبو العرب الأدوميِّين والأردنيين حين خدعه شقيقه وتوءمه يعقوب،٥ حين تنكر متَّخذًا هيئة عيسو أو العيص وكان يُعْرَف بالرجل الأحمر أو المشعر، أي كثيف الشعر كالخواتيم، عن أبيهما إسحق — عقب عماه — ليأخذ منه البركة والميراث بدلًا من أخيه الأكبر العربي، وبمساعدة أمهما «رفقة» وبهدف خداع أبيه، وحرمان «العيص» — كما تُسميه العرب — من حقه في الميراث.

فتنكَّر كليب باستخدام جلود الحيوان خاصة الكبش، وبذا يحقُّ له عبر هذه الشعيرة أن يُصبح خليفة شرعيًّا للتبَّع المغتال وهو ما حدث بالفعل كما ستُبصرنا الملحمة.

ويبدو أنها عادةٌ سامية راسخة؛ عادة — أو شعائر — التمثل أو التنكر بجلود الحيوانات، خاصة طبعًا إذا ما كانت طواطم؛ ذلك أنها ستُطالعنا كثيرًا عبر أحداث هذه السيرة الملحمية، وهي منتشرة بكثرة بين قبائل إفريقيا الشرقية، وكما يَذكر فريزر أنها «لعبت دورًا مهمًّا في الحياة الاجتماعية والدينية عند قبيلة «أكيكويو» التي تسكن إفريقيا الشرقية، والتي ترجع — فيما يبدو — إلى أصل عربي، إن لم تكن تَرجع إلى أصل سامي.

فالمُعتقَد هنا بالنسبة لشعيرة التنكُّر تحت جلد الحيوان هو اكتساب صفاته وقواه الخارقة.

فالشخص بارتدائه جلد الحيوان يُطابق بين شخصه والحيوان الضحية، والذي يكون بمثابة الحاجز بينه وبين إيذاء القوى الشرِّيرة بتخليصه من هذه القوى الغريبة التي تتملَّكه عبر شعائر التحول، والتمثُّل بالمولود الجديد من الجدي أو النعجة أو الكبش والذئاب في حالة كليب المتنكِّر باكتساب خصائصها من وداعة وافتراس.

أما عن جزئية اصطناعه للمهرج أو البهلول المَخبول غريب الأطوار، فهي جزئية أو عبارة جوهرية لا تخلو منها ملحمة أو سيرة عربية، خاصة تحوُّلات أبو زيد الهلالي عبر أحداث الريادة والسير وكذا الجازية وبقية الأمراء: مرعي ويحيى ويونس، وأيضًا سيد البطال٦ من السير الفلسطينية ذات الهمَّة.

وعلى هذا النحو واصل كليب تحولاته أمام التبَّع ليلة عرسه، مُظْهِرًا فزعه أول الأمر من تلك السلسلة النحاسية — الطلسم — الذي كان قد حذَّره منها كاهنه العابد نعمان كما في مأثورات سحر الاتصال والمشاركة وتابواته، فكأنَّ هذه السلسلة هي بمثابة حاجز كهربي سيَصعقه فور دخوله مخدع الملك التبَّع، فتظاهر بالفزع الطفولي منها، وأخذ يتكلم بكلام مجهول يقول: ما هذه الحيلة التي أراها وأنا خايف من شرِّها.

وحين أمر الملك برفع السلسلة اندفع كليب مازحًا راقصًا بسيفه الخشبي، فكان تارةً يُبحلق عينيه، ويرفص الأرض بيديه ورجليه، وتارة يقول: أين الفرسان الفحول؟ وأين ابن عطبول؟ وأحيانًا يرقص ويَضحك بلا سبب، وهو راكب الفرس القصب ويسوقها بذلك الدبوس الخشب، فاندهش تبَّع من أعماله، واستغرب أحواله وأقواله.

وحين ابتهج الملك التبع من الخلبوص، عاجله قشمر قائلًا: إن كنتَ تريد الطرب الآن، فمُرْ سيدتي الجليلة تغنِّيك؛ فإنَّ صوتها مليح ولفظها فصيح.

وما إن طالبها التبع أن تغنِّي حتى طلبت — بدورها — إغلاق الأبواب حتى لا يُسْمَعَ صوتها حياءً وتدلُّلًا.

وحين تطوَّع قشمر بهذه المهمة في إغلاق باب المخدع، غنَّت الجليلة أغنيتها المطلسمة الملغزة:

ما قالات الجليلة بنت مرة
شربت الخمر ما بين الإمارة
شربنا الخمر في كاسات جوهر
فزال العقل وصبحنا سكارى
بحضرة تبع الملك المسمى
بحسان إذا ما شن غارة
وقد أمسيتُ في قبضة يديه
ومن حبي شعل قلبي بناره
ألا يا حارس البستان صنه٧
وإن فرطت في الطير طاره.

ويلاحظ في أغنية الجليلة مدى الحسن النسائي، الذي هو سمة من سمات الأصالية الفولكلورية، كما يلاحظ بقايا اللغة السحرية والقدرة العقلية خاصة في شطرته الأخيرة: «وإن فرطت في الطير طاره» وكأنها تستفزُّ كليبًا من جانب أن يَحذر فرارها وطيرها من يده، ثم العلاقة الاشتقاقية بين الطير والثأر أو التارة والتار، على اعتبار أن التبَّع قتل أباه «ربيعة المعظم»، ومن هنا فهي تَختتِم أغنيتها ﺑ «طاره» أو ثأره، بما يعني أنها نقطة أو لفظة اتفاق بينهما عبر هذه الخطة — للعُرس الدامي — بالغة الدقة.

وحين طرب تبَّع زاد به الوجد والغرام قائلًا: «مثلك مَنْ تكون من النساء؟ فقد زاد سرورُنا هذا المساء.»

وواصل كليب لعبه ومزاحه بسيفه الخشبي إلى أن داعبه تبَّع: عيب عليك يا قشمر أن ترقص بهذا السيف أمام الملك الأكبر.

– أعطني إذن حسامك وأنا ألعب به أمامك.

وهنا توسَّلت الجليلة: بحياتي عليك.

وحين وافق الملك، اندفع كليب إلى داخل المدخل، حيث أودعت صناديق جوهر الجليلة المئة ففتحها مسرعًا متقلِّدًا درع التبَّع حسان وسيفه، ويبدو أنَّ التناسق بين الجليلة وكليب كان في أَشُدِّه؛ ذلك أن الجليلة لا بد وأن تكون قد أوصلت التبع إلى أقصى حالات شبقه وتوقُّده الجنسي المتوتِّر إلى حد الرغبة في إبعاد المهرج قشمر بما أتاح له فرصة خروج فرسانه من الطابق الثاني لصناديقهم وتقلُّده هو لخوذته ودروع التبَّع، ومفاجأته حين دخل على الملك، وقد احمرَّت عيناه متذكِّرًا أباه الملك ربيعة فصال وجال، ثم تقدَّم من تبع وهجم عليه، فعرفه التبَّع وأيقن بالهلاك، والوقوع في شرك٨ العقال، وأمهله قليلًا مُنشدًا مرثيته الكبرى هذه:
يقول التبَّع الملك اليماني
لهيب النار تُشعل في فؤادي
أمير كليب يا فارس ربيعة
ويا حامي النسا يوم الطراد
أريد اليوم أن أعلمك شيئًا
لتعرف حال أخبار العباد
فموسى كان في الدنيا نبيًّا
له التوراة أعطت للرشاد
وداود النبي قد جاء بعده
يبشر بالزبور أهل الفساد
وعيسى بن مريم جاء أيضًا
بإنجيل الخلاص لكي ينادي
وعندي قد تبيَّن بالملاحم
بأنك قاتلي دون العبادي
وبعده شاعرة تنزل عليكم
وعبدي يذبحك بين الجماد
وأنت برمح جساس ستُطعن
وتُفتن بين قيس في البلاد
وتكتب في دماك على البلاطة
لمن بعد لتشتيت الأعادي
ويأتي الزير أبو ليلى المهلهل
فيُصْلِي الحرب في كل البلاد
ويقهر كل جبار عنيد
يضرب السيف في يوم الجلاد
وتأخذ الجليلة لك قرينة
وتحظى بالمسرة والمراد
ويظهر لك غلام بعد موتك
يسمى «الجرو» قهار الأعادي
يقتل إلى جساس خاله
وأما الزير تقتله الأعادي
وسيف ذي يزن بعدك يظهر
وتصحبه السعادة في العباد
ويبقى ملكُه سبعين عامًا
وبعد ذلك يُطْوَى في الوهاد
ويظهر له ولد يدعوه دمر
شديد البأس مرفوع العماد
فيملك في بلاد الشام بعده
يجيب الماء من أقصى البلاد
وبعده يظهر المدعو بعنتر
يهين الضد في يوم الطراد
وبعده يظهر الهادي محمد
يقيم الدين ما بين العباد
وأصحابه معه عشرة كوامل
كرام الناس سادات البلاد
أبو بكر وسعد مع سعيد
وطلحة والزبير ابن الجياد
وعثمان مع عمر وعلي
وعامر مع حسين أهل الرشاد
يموت الهاشمي ويصير خلف
على الحكام بعده بالعباد
أبو بكر يموت بلسع حية
وبعده عمر يُقْتَل بالطراد
عليَّ بالسيف يُرديه ابن ملجم
يتيمًا انتشى بين الولاد
وبعده بنو أمية سوف تحكم
سنين كثيرة ما بين العباد

ويتَّضح من مرثية التبَّع الإمبراطور المُغتال انفتاحها التنبؤي، الذي ترك الباب مفتوحًا بدوره لإضافاة الرواة والمُنشِدين المُجهتدين عبر العصور، وبما يُعْرَف بالإضافات الاستطرادية أو التراكم الملحمي.

فالتنبُّؤ هنا خصيصة أو شعيرة مُصاحبة لأبطال هذه السير والملاحم من ملوكٍ وتَباعنة وشيوخ قبائل وقياقل كهنة، أو هم من العادة يجمعون بين كلتا السلطتين؛ الدنيوية السلطوية، الكهنوتية، التي تملك قدرات التنبؤ السياسي، كما يتَّضح من مرثية تبَّع حسان، التي يتضح فيها ظهور حكام على مدى عشرات القرون، فهكذا جاء ذكرُهم في الملاحم كما يذكر التبَّع «وعندي قد تبيَّن بالملاحم»، كما لا تنسى المرثية ذكْر الملك الجرو ابن كليب — قاتل خاله جساس — وسيف بن ذي يزن وعنترة وأبا بكر الذي «يموت بلسعة حية»، واسم قاتل علي ابن أبي طالب «ابن ملجم».

فمثل هذا التنبؤ المتعارف عليه بالتراكم الملحمي — أي ما يُلحق عادة بالسير والملاحم — يُضيفه الرواة والنساخ عبر العصور التي فيها تُواصل السير والملاحم تواترها.

والمُلفت هنا أنها خصيصة عربية من تراثنا السِّيَري والملحمي تُلازم الأبطال ساعة موتهم أو اغتيالهم أو انقضاء أجلهم؛ ذلك أن الأمير كليب — بدوره — سيُنشد مرثيته أمام مغتاله من الخلف؛ جساس بن مرة، وكذا جساس في مواجهة الابن المنتقم لأبيه «الجرو بن كليب».

١  من الأجزاء التي عُثِرَ عليها من كتابه الموسوعي القيِّم — الذي اندثرت معظم أجزائه — «الإكليل» عن حضارة اليمن والجنوب العربي. انظر: موسوعة الفولكلور والأساطير العربية للمؤلِّف، تحت مادة: الهمذاني مؤرِّخ أسطوري عربي.
٢  وهو ما يخالف تصور د. لويس عوض الذي بنى الكثير من النتائج حول الحصار البحري بين كل من دمشق وطروادة، أسطورة أورست والملاحم العربية، القاهرة ٦٨، ص٣٥.
٣  في بعض النصوص وصف الفرسان المائة المختبئين بالطابق الثاني من كل صندوق أنهم كانوا ممتطين صهوات خيولهم؛ وعليه يمكن تصوُّر مدى ضخامة تلك الصناديق، وكذا كنوز العروسة الجليلة ابنة والي التبَّع على بيروت والبقاع بما يُضارعها بالحصان الطروادي. المؤلف
٤  ويتضح من قصيد وصف الجليلة ومحاسنها التي تُطابقها الشاعرة الكاهنة حجلان بهيلانة المُغتصَبة كمثل وطن فاشتعلت حرب طروادة، كذلك يلاحظ تلقائية الحسن الأنثوي لقائلة هذه القصيدة التي تنتهي ﺑ «اسمع كلامي».
٥  قبل أن يتسمى بإسرائيل، عقب زواجه من راحيل ابنة لابان بن ناحور الفلسطيني السوري والتي من رحمها جاء النبي يوسف.
٦  وهو أحد الأبطال التاريخيين الذين فتحوا القسطنطينية ومعظم آسيا الصغرى Ve potamid ووُجِدَت له آلاف الصور البيزنطية التي تُحذِّر من خداعه وتنكُّره، وتُنْسَب سيرة ذات الهمَّة الفلسطينية بكاملها له من الترجمات التركية والفارسية. المؤلف
٧  يلاحظ تسمية الجليلة في أغنيتها هذه لخطيبها الأمير كليب أو قشعر بن غرة «يصاحب البستان» بما يوحِّده بالآلهة الممزقين، مثل بستان أوزيريس وأدونيس وتموز، كما أنها هي ذاتها تتوحَّد بالبستان بإزاء تحريضها الخفي لكليب: «ألا يا حارس البستان صنه.» كما يلاحظ أن بستان كليب — وكان من إبداع بساتين الآلهة الذبيحة — سيلعب دورًا جوهريًّا في اغتياله هو ذاته، حين تجتاحه ناقة البسوس أخت تُبَّع خسًّا، وتَنتشر حرب البسوس موضوع سيرتنا.
٨  ويبدو أن تعبير «شرَك العقال» مأثور شائع لدى عرب الجنوب القحطانيين بإزاء عرب الشمال الذين يَرتدون العقال والحطة الفلسطينية، وبما يُتيح أكثر فرص «الإشراك» والتبدُّلات أو التنكُّرات للإيقاع. المؤلف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤