كليب الفلسطيني ملك العرب

وتبدأ سيرتنا — الزير سالم — عقب مصرع الملك التبَّع الطاغية الغازي حسان اليماني للشام وفلسطين، فما إن جزَّ الأمير كليب رأسه، وانضمَّ إليه فرسانه المائة خارجين من الصناديق مندفعين في ساحات قصر التبع المُغتال إلى ساحات دمشق وباحاتها، مشرعًا كليب رأس التبع حتى أعلن نفسه ملكًا مكانه.

فاجتمعت بنو مرَّة وأكابر العشائر وأعيان الشام وقواد العساكر وألبَسوه تاجًا مرصَّعًا بالجواهر، وأجلسوه على كرسي المملكة، وحكم كليب مُعاملًا الناس بالجود والكرم، مُنصفًا المظلوم ممَّن ظلم.

وفي الليلة التالية اجتمع شيوخ القبيلة، وزفُّوا عليه ابنة عمه الجليلة.

ومرة ثانية يجيء اسم فرعون مصر المسمى بالريان، وبنَّائه الشهير «معمر» حين طلبت منه الجليلة أن يُنشئ لها قصرًا من أجمل القصور وبستانًا١ يحوي مِن كل الزهور.
فاستقدم الملك كليب البنَّاء المصري الشهير، وشاد قصر الجليلة الذي استغرق بناؤه عشرة شهور لا غير، وكان بديعًا، خاصة بستانه الذي تطرَح أشجاره في غير أوانها، كمثل جنَّة غاصت بالنوافير والمياه الغزيرة، فأنعم كليبٌ على بانيه، وفرشه بالأثاث الفاخر، وجعل شبابيكه وأبوابه من الذهب والجوهر، ثم نقل ابنة عمه الجليلة بنت مرة إليه، وقد ولدت له سبع بنات أميرات، أشهرهن: «اليمامة» التي تسمَّى بها الملك كليب «أبو اليمامة»،٢ والتي ستلعب دور كاهنة قمرية — أُمٍّ — لها الكلمة العليا في كلا الحرب والسلم والهجرة على طول هذا النص، ككساندرا بالنسبة للقبائل الطروادية، وأثينا في حالة الإغريق الهلينيين، وسارة مع القبائل العبرية، والجازية٣ مع العرب الهلالية المشرقية الغازية، المهاجرة للمغرب، وهو تقليد ظلَّ مصاحبًا — بالتحديد — للهجرات الغازية من المشرق العربي لمغربه، بدءًا من الممالك القرطجانية ١٢٥٠ق.م التي أنشأتها هذه القبائل البحرية الفينيقية الكلبية الفلسطينية بخاصة، وحتى ممالك ودويلات الأندلس التي وصلت إلى ٢٣ دولة عربية في الأندلس، منها بنو عباد في إشبيلية، وبنو زيري في غرناطة، بما يذكرنا أولًا ببطل سيرتنا الزير سالم؛ فالزير — أو الزيري — لقب ملَكي قبائلي، وبنو الأفطس في بطليوس، وبنو صمادح في مديية، وبنو جهور في قرطبة، وبنو ذي النون في طليطلة، وبنو عامر وهي أيضًا قبائل فلسطينية يَنتسب إليها الزير سالم عقب إحدى رحلاته العبورية، فكان أول مَنْ نزل ميناء حيفا بفلسطين إلى حلفائه أو عشائره أو أقاربه «قبائل بني عامر» بالقرب من حيفا.
كذلك ملوك قبائل دان الفلسطينية التي لجأ إليها شمشون كما يذكر سفر قضاة، وممالكهم المتعدِّدة بالأندلس، وعُرِفُوا بملوك دانية أو الدانيين، وكانت آلهتهم القمرية الأم: الآلهة Dannans Danae.

•••

وهكذا لم تُرْزَق الجليلة من كليب بولد سوى بسبع بنات، أشهرهنَّ الإلهة القمرية اليمامة، لكنها لم تُرْزَق بابنٍ يَرث ملك كليب المترامي.

وذات يوم زاره عمه وحموه أبو الجليلة — الأمير مُرَّة — وطلب منه الرحيل بقومه ورجاله وماشيته ونوقه وجماله، ونزل في وادي مخصب لم تذكر الملحمة اسمه، برغم ما أخبرتنا به سلفًا من أن مُرَّة وابنه الأمير جساس كان قد ولاهما التبَّع حسان اليماني «نواحي بيروت وبعلبك والبقاع»؛ أي لبنان وتخومها، أي العراق وما بين النهرين، فالمرجَّح هنا أن مرة عاد فارتحل إلى غور الأردن وفلسطين، وأنه أقام ابنه الأمير جسَّاس بدلًا منه حاكمًا على بني بكر، فامتد سلطانه وكانت تَقصده الشعراء والفرسان.

أما أخوه الأصغر — صاحب هذه السيرة — المهلهل — الذي لُقِّب بالزير — فكان ابن عشرة أعوام، وكان شجاعًا فصيحًا مُنعكفًا على شرب المُدام وسماع الأصوات والأنغام، يُنشد الأشعار البديعة، ويأتي بالمعاني النفسية الرفيعة.

•••

ولا تُغْفِل الملحمة هنا ذكر معركة حربية كبيرة، شنَّها اليمنيون الحِمْيَريُّون التباعنة٤ انتقامًا لمَقتل واغتيال تُبَّعهم الملك حسان، الذي يُعْرَف فعلًا بآخرِ التباعنة، فما إن وصَل مقتلُه إلى اليمن «بصنعاء وعدن» حتى هاجت الرجال وكَثُر القيل والقال.

فصمَّم ابن عمه «عمران القصير» على غزو بني قيس بمائة ألف مقاتل ركب فيهم وجدَّ الطريق إلى بلاد الشام.

واستعدَّ كليب للحرب والقتال، وخرج للقائه والتقى الجيشان واشتعلت لهيب الحرب حتى عَظُمت الأهوال، وظل كليب يفتك بأقيالهم إلى أن صرع قائد اليمنية «عمران القصير»، فعاد راجعًا إلى الشام ودخلها كالبازي حورس أو — كما تشير الملحمة — «كالصقر بالعز والنصر»،٥ واجتمع إلى ابنة عمه الجليلة وسادات القبيلة.

ويلاحظ هنا تحيُّز هذه السيرة العائلية في الالتجاء إلى العرب القيسيين الشماليين في مواجهة عرب الجنوب — الجزيرة — اليمنيين منذ مصرع تُبَّعهم المغتال، التبع حسان اليماني، وفي الحروب التي أعقبت موته بمائة ألف جندي، وألف سفينة مدجَّجة لاستعادة مَمالكه المترامية في سوريا ولبنان والعراق والأردن، وشمال الجزيرة السعودية اليوم وفلسطين، بالإضافة إلى الحبشة والسودان، مُضافًا بقية إمبراطوريته التي شملت آسيا الصغرى إيران وتركيا وكذا أواسط آسيا، كما سبَق أن أخبرتْنا سيرته، التي كما قلنا: إنَّنا لم نلحقْها هنا سوى في المَقتل.

أي إنَّ كل ما تبقى من سيرة التُّبَّع حسان اليماني المندثرة — الذي يقال بأنه آخر التباعنة ملوك اليمن الغابرة — هو ما يتَّصل بسيرتنا هذه — الزير سالم — فهو مجرَّد فتوحاته الأخيرة في غرب آسيا التي مركزها دمشق، والتي اكتملت بمصرعه ليلة عرسه، على يد زوجته الجليلة أو جليلة الفلسطينية وابن عمها الأمير كليب، باستخدام خدعة الجند داخل الصناديق، بما يُذكِّرنا بحصان طروادة، وخديعة ملكها بريام وبيته، سوى مِن فارقٍ أساسي بين كلتا الخدعتين الحربيتين؛ إذ بينما لجأ التحالف القبَلي الهليني الأثيني إلى إحداث غزو خارجي لأعدائهم الطرواديين الأناضوليين.

جاء غزو التحالف الكالبي «السوري الفلسطيني» أقرب إلى الطرد والتحرُّر من اغتصاب الملك التبَّع اليمني لكلتا الزوجة المغتصبة والأرض أو الوطن، فاغتيال الملك التبَّع حسان اليماني كان بمثابة التحرُّر ونقْل السلطة إلى التحالف القيسي الكلبي الفينيقي لشعوب الثغور منذ مطلع الألف الثانية ق.م.٦

بما يشير إلى أننا بإزاء ملحمتين أو سيرتين التقتا وتزواجتا بشكل متعسف أولاهما: «ملحمة حسان اليماني» الحمْيَرية القحطانية، وثانيتهما «الزير سالم» أو المهلهل سيد بني ربيعة، ملوك شمال الجزيرة والشام وفلسطين في ذلك الوقت، اندثرت أولاهما — «حسان اليماني» — ولم يتبقَّ منها سوى آخر حلقاتها: مصرع تُبَّع حسان في دمشق على يد أبطال سيرتنا هذه.

ويُمكن تأكيد هذا الرأي، إذ ما عرفنا أنها خصِّيصة سامية عربية تتَّضح أكثر في السيرة الهلالية، وفي صراعَي قحطان وعدنان داخل التحالُف، على طول أحداث السيرة وهجراتها وحروبها على طول الشام والمغرب العربي ومداخل أوربا الجنوبية.

ومن هنا فنحن بإزاء سِيَر نثرية بأكثر ما نحن بإزاء ملاحم، من حيث الاهتمام الأقصى للسيرة بالأنساب والبناءات والصراعات القبائلية العائلية، وكذا التحالُفات العشائرية السياسية والاجتماعية الطبقية دون إغفال للشعر الملحميِّ المأثوري من أصيل وخسيس أو دخيل بحسب اجتهادات الرواة، والتكامل الجسدي المتوالي — الذي يُعْرَف بالتراكم الملحمي — داخل مختلف مجتمعاتنا وكياناتنا العربية، وإغراقها في الأمية إلى حدِّ التمجيد الشعائري لها؛ لذا فالمجتمع الأمي يَعتمد على عقوله٧ المعدَّة والمدربة على عادات وشعائر الحفظ والتحفيظ لمنتجاته الروحية والطقسية والتاريخية والتقويمية الشعائرية؛ كعاشوراء — أول شهور السنة الإسلامية القمرية — وأربعاء أيوب، وخميس العهد، والجمعة الكبيرة، وسبت النور، وأحد السعفة، وأول رمضان، وأعياد الضحية واللحم، وانتِصاف شعبان.

كل هذا بالإضافة للأحداث التاريخية والهجرات والأنساب وغيرها مجالها الذاكرة والتواتر بالحفظ، وكل هذا أدى إلى توحُّد الملك بالكاهن بالمداح أو الشاعر والساجع على طول تراثنا العربي، كما أدى إلى توحُّد الكاهن ورجل الدين بقدرته على الحفظ للنصوص الدينية ومأثوراتها بمراكز السلطة المتعاقبة حتى أيامنا الماثلة.

بما يفترض في مثل هذه الحالة لغة شعرية أو سجعية أسطورية إيقاعية، ميسرة الحفظ، تَمتلك قدرات البقاء والتواتُر الشفهي داخل مُجتمعات السير والملاحم والبالاد في عمومها التي من خصائصها: تفشِّي الأمية وعبادة الأسلاف، وحيث تكون الأغاني القصصية ملحمية في نبراتها ومقسَّمة إلى حلقات، فنجد أن الأمير/الملك فيها يُشبه أشد الشبه الملك الملحمي في أغاني شارلمان أو آرثر؛ فهو شخصية رياسية يتسيد مجموعة من الأبطال، لكلٍّ منهم شهرته التقليدية وحكاياته الخاصة كما يَذكر كراب.

وكما سيتَّضح هنا عبر توالي هذه السيرة التي تُولِي اهتمامها الأقصى لمطامح الأرستقراطية السياسية والقبَلية العربية الحاكمة وصراعات بلاطها التي ستَنحسِر أحداثه التالية عقب اغتيال الملك التبَّع اليماني في الشام، بما سيركز ساحة أحداثها ما بين دمشق وبيروت والأردن وفلسطين، خاصَّةً مدينة «بئر السبع» أو بيت سبع الحالية في الأرض المحتلَّة، والتي واصل فيها بطل السيرة وشخصيتها المِحوَرية — الفلسطيني سالم الملقَّب بالزير٨ — نموَّه الأسطوري المدهش كطفل قدري موعود، إلى أن اشتدَّ ساعده، فواصل بطولاته وخوارقه ضد الأسود أو السباع، ومن هنا اكتسب خصائص الآلهة الشمسيين.

ومن المعروف أن اللقب «زير» الذي يتسمى به يلازمه منذ طفولته — عشر سنوات — ويصاحبه، وسنتعرض له لاحقًا خاصة أنه يبدو لقبًا ملكيًّا؛ حيث تسمى به ملوك ما قبل التاريخ أو الأسرات المصرية ما قبل الألف الرابع قبل الميلاد في تاسا والبداري كما ذكرنا في مقدمة هذه الدراسة.

١  ويلاحظ أن الجليلة لقَّبت كليب ﺑ «صاحب البستان» عندما غنَّت في عرس التبع الدامي.
٢  سنتعرض لهذه التسمية الأسطورية الطوطمية، ولليمامة التي أصبحت مُدنًا وحضارات في حينه.
٣  الجازية في سيرتها الواقضية، أخت شيخ أو سلطان التحالُف القمري الهلالي: حسن الهلالي، كما أنها الكاهنة القائدة — الأم — لمُجمل التحالف القبلي مِن قسِّيسين وقحطانيين وشُوَّام على طول الهجرة.
٤  كما يذكر الهمداني في الإكليل.
٥  يُمكن تذكر الصقر القريشي — بل الإسلامي بعامة — فيما بعد.
٦  حين هجراتهم بتراثهم البحري هذا إلى معظم العالم البحري القديم حتى إنجلترا وأيرلندا ودول الشمال الأوربي بعامة.
٧  نُشير إلى بحث الذاكرة الفولكلورية في كتاب: «الفولكلور والأساطير العربية»، دار ابن خلدون، بيروت، شوقي عبد الحكيم.
٨  والذي يُشير اسمه أو لقبه إلى قبائل بني الزيري السورية الفلسطينية ملوك الأندلس كما ذكرنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤