الزير سالم أهي ملحمة فلسطينية؟

وواضح إذن أننا بإزاء «أشلاء» ملحمة فلسطينية موغلة في القِدم، قد يَرجع العمر التخميني لها إلى ما قبل الأسطورة المُصاحبة لإبراهيم وابنه إسماعيل وبناء الكعبة؛ ذلك أنَّ بلدة بئر السبع الفلسطينية تَرتبط — للمرة الأولى — بنزول هذه القبائل العبرية إلى فلسطين، وزيارة إبراهيم لأهلها وحفره لبئرها، حين أشهد «أبيمالك الفلسطيني على أنه هو الذي حفرها» سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرتُ هذه البئر، ودعا الموضع بئر سبع، بل — وكما ذكرنا — فإنَّ بئر سبع هذه كانت مَنفى إسماعيل وأمه هاجر وليست مكة حين أعطاها إبراهيم قِربة ماء، فمضتْ وتاهت في برية بئر سبع إلى أن كبر إسماعيل وسكن في برية فاران أي مكة.

بينما يُستشفُّ من هذه الملحمة أن بئر سبع وواديها كانت مُوحشةً مهجورة غير مأهولة بالسكان حين نزلها الخليل إبراهيم وحفَر بئرها، كمكَّة قبل أن ينزلها إسماعيل ويتَّخذها مأوًى ومسكنًا، ويُصبح أمةً، وتَنبع له بئر زمزم بالمقابل.

وإذا ما عرفنا أن هجرة قبائل إبراهيم إلى فلسطين — وارتباطه بزيارة بئر سبع — ترجع إلى مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، يُصبح عمر ملحمتنا هذه — «الزير سالم» — ما قبل أربعة آلاف عام، وعلى أقل افتراض عمر بطلها الزير سالم ذاته الإله المحلي لبئر سبع.

يُرجِّح هذا أن لقب «الزير» الملكي لا يَرد بكثرة إلا في حالتين على طول التاريخ العربي — سواء العلمي الأركيولوجي الحفري أو الأسطوري الفولكلوري — الحالة الأولى باكتشاف ملوك ما قبل التاريخ المصري الفرعوني، الذين تسمَّوا ﺑ «زير» في تاسا والبداري، أي ما قبل الألف الرابعة ق.م، كما يذكر عالم ما قبل التاريخ الماركسي: جوردن تشايلد.

والحالة الثانية في السير والملاحم والفولكلور العربي بعامة، هي حالة بطلنا هذا الفلسطيني سالم، الذي لُقِّب «بالزير» سالم، يضاف إلى هذا أن «ملوك» بني الزيري بالأندلس يرجَّح أنهم فلسطينيون بأكثر منهم أنباطًا أردنيين أو فينيقيين لبنانيين.

بالإضافة إلى سند أو استشهاد أخير يتصل بتسمية «كليب» الملقَّب الأخ — الملك — الأكبر، الذي رُزِقَ إلى جانب بناته السبع — ومنهنَّ يمامة أو اليمامة التي أصبحت مُدُنًا ومأثورات بدورها كما سَيرد — بابن ذكر من زوجته الجليلة أسماه «الجرْو» أو المجرس، أي كلب الصيد. فكليب هذا يُشير اسمه الطوطمي إلى العشائر الفلسطينية المُوغلة في القِدَم التي غزت إنجلترا وأيرلندا مُهاجرةً منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد كشعوب بحرية، واستوطنتْها وخلَّفت فيها تراثها هذا الأسطوري الذي يُسْتَدل به على أيامنا.

وأسوق هذا الاستناد للشاعر الأنثروبولوجي عالم الأساطير المُقارنة الذي يعيش اليوم بجزيرة مايوركا الإسبانية عن كتابه «الآلهة القمرية»١ حيث يقول: «أنا لستُ إسرائيليًّا إنجليزيًّا، بل إنَّ قراءاتي وأبحاثي أوصلتْني إلى أن ما يُعْرَف بشعوب البحر هذه وصلت إنجلترا وأيرلندا في الألف الثانية قبل الميلاد، فأنشئوا قنوات بحرية وتجارية، وبعضُهم وصل عن طريق غرب أفريقيا وإسبانيا، وهم الفينيقيون البحريون من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، والبحارة الفلسطينيون هم الذين أسروا القبائل الإسرائيلية في عبرون٢ وجودا — الضفة الغربية — من العشائر الأدومية، من أردنيين وسوريين، وكان أولئك الفلسطينيون يُعْرَفون بالكلبيين، وظلَّ الإسرائيليون في أَسرها إلى أن تحرَّروا بعد أن اكتسبوا من آسريهم الفلسطينيين الجانب الأعظم من الدين والتراث الفلسطيني.»٣
مع ملاحظة أننا هنا بإزاء محاولة البحث في افتراض عُمر تخميني لهذه السيرة الملحمية العربية الفلسطينية الذي يُصاحب بطلها إنشاء مدينة بير سبع، كما هو الحال مع جلجاميش ومدينة أو مديريته بالعراق، وإسماعيل ومكة، وكذا الملوك الآلهة الشمسيين الأسد Lion مثل هرقل، والبطل الأسطوري الأيرلندي «ليولياو»، الذي من اسمه «الأسد» تسمَّت عديد من المدن الأوروبية Lion-Leyden-Lyons، وهي كلمة سومرية في أصلها Lug.

وليولياو معناها ابن الأسد، وكان يصوَّر على هيئة أسد شاهر الذراع، ممسكًا في حالات أخرى بالسيف، تُطالعنا صوره في الرسوم الحفائرية والوشم، وتُشير يدُه الممدودة — كإله شمسي — إلى أنه ذو يدٍ أو ذراع طولى بإزاء أعدائه.

ويلاحَظ في الفصول القادمة لملحمتنا — هذه — أنه حين يَجيء الرسل للزير سالم بقَصره ومنفاه في بئر سبع — وهو ثَمِل — بخبر اغتيال الأمير جساس بن مرة لأخيه الأكبر كليب، هو أنه لن يصدِّق قائلًا: «يد جساس أقصر من أن تطول كليب»، بما يشير إلى أننا بإزاء آلهة شمسيِّين ذوي يدٍ طولى.

فما من إله شمسي — رغم أن حيوانه المقدَّس هو الأسد — لم يَقتل الأسد، هرقل قتل الأسد، وجلجاميش وإله الشمس الأشوري سامسون أو شمشون الفلسطيني قتَل الأسد، يضاف إليهم الزير سالم.

فكما يُشير جريفن، فإن شمشون كان — في منشئه المبكِّر — إله الشمس الفلسطيني، لكنه دخل وأسطورته الجسد الديني الأسطوري العبري في العصور المتأخِّرة — «القضاة» — وهي أسفار دُوِّنَت متأخِّرًا جدًّا، فتبدَّى فيها كبطل إسرائيلي في مواجهة دليلة الفلسطينية،٤ بل هو ظل منتميًا إلى قبيلة دليلة الفلسطينية بعد الزواج، و«دان» هو اسم قبيلته الفلسطينية، ويلاحَظ أن قبيلة «دان» هذه الفلسطينية هي ما انحدر منها ملوك دانية أو الدانيون بالأندلس منذ ما قبل الفتح العربي للأندلس وحتى القرن الحادي عشر الميلادي.

والمُلفت أنَّ «فابيولات» شمشون المدوَّنة بسِفْر القضاة ترد أيضًا في فترة أسر الفلسطينيين للإسرائيليِّين حين عملوا الشر، فدفعهم «الرب ليَدِ الفلسطينيين أربعين سنة» (قضاة: ١٣)، فوُلد شمشون لامرأة عاقر وأب اسمه منوح، زارها — كالعادة — ملاك الرب فولَدت ابنًا ودعت اسمه شمشون، وابتدأ ملاك الرب يحرِّكه في محلة «دان» الفلسطينية بين صرعة واشتاول، إلى أن نزل تمنة ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فأراد أن يتزوَّجها «وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلِّطين على إسرائيل.»

ومع ملاحظة أنَّ الحزورة والأحجية — التي كان شمشون يُطلقها — خصيصة فولكلورية عربية بأكثر منها عبرية، ولعلَّ أهمَّها حزر أو فزورة قَتْل شمشون للأسد حين شقَّه كشق الجَدْي وليس في يده شيء، بنفْس ما فعل الزير سالم حين قتل الأسد بيديه العاريتَين، وذلك حين طالبته الجليلة بإحضار «لبن السباع»، فكان أن طلب سيفًا يُنازل به الأسد، فطلب الملك كليب — بدوره — من زوجته إعطاءه سيفه، فكان أن سخرت منه الجليلة، فكان أن اندفع الزير سالم مُنازلًا الأسد بيديه العاريتَين إلى أن صرعه.

بل إنَّ في «أحبولة» قتاله مع الأسد وأسرته، وتعرُّفه على اللبؤة وحلْب لبنها في حق رجع به إلى زوجة أخيه الجليلة لكي تحبَل، ما يَقرب بنا من فزورة شمشون.

وكيف وجد شمشون عسل النحل داخل جيفة الأسد، فأكَل منه (من الأكل خرَج آكل، ومن الحافي خرجت حلاوة).

فتوحَّد الزير سالم بشمشون، ويرجَّح أنَّ الزير سالم هو الأصل المبكر جدًّا الذي عدَّل أو حوَّر في سفر قضاة (١٣، ١٤، ١٥، ١٦، ١٧) لفابيولات شمشون ودليلة.

من ذلك أنَّ كلًّا منهما تسلَّطت عليه امرأة فلسطينية، شمشون دليلة الفلسطينية التي الْتقى بها عقب سلسلة من المُغامرات الغرامية مع عدة نساء فلسطينيات في تمنة ووادي سورق وغزة.

بما يُشير إلى أنه كان «زير» نساء بدوره، مثل زيرنا، ومن أحد جوانبه وزواياه.

كما أن كليهما تسلطت عليه وطاردته امرأة بهدف استنزافه وهدمه وقتله؛ دليلة الفلسطينية مع شمشون، وجليلة العربية مع الزير سالم.

يُضاف إلى هذا ارتباط كليهما — شمشون والزير سالم — بهزيمة أعدائه بفك حمار، وهو ما حدث لشمشون حين هزم أعداءه بلحى الحمار الذي حين فرغ رمى به، فسُمِّي المكان «رمت لحى»، والزير سالم مع سبوعه الصريعة في بير سبع الذي حين نزل إلى بئرها تاركًا حماره على بابها، وما إن نهق الحمار حتى استيقظ سبعٌ كان نائمًا، ورفض الزير قتلَه، فقتَل حماره فكان أن صرع الأسد المُعتدي بلحى الحمار، وظل يُحارب الأسود طلبًا لثأر حماره، وكان كلما قتل واحدًا صرخ متهكمًا: «يا لثارات الحمار.»

من هنا يرجَّح أن بطللنا الأسطوري الفلسطيني هذا — الزير سالم — هو الأنموذج الأمثل الذي استعارته الأساطير العبرية زمن الأَسْر الفلسطيني الثاني الإسرائيليِّين، ودوِّن نصُّه متأخرًا جدًّا في عصر القضاة أو شيوخ القبائل، ومنه تواترت فابيولات شمشون ودليلة والعديد من الموتيفات الأسطورية العبرية.

كذلك يلاحظ — بالنسبة للعلاقة بين تسمية الزير سالم أو سلم وبين تسمية القدس أور سالم — أنَّ التسمية تشمل أهم الوديان والمعالم الطبيعية المحيطة بالقدس، وترد في تاريخ المؤرخ اليهودي «يوسيفوس» باسم «سلوام» Siloam، وفي بعض النصوص الشعبية لهذه السيرة يَرِد أنَّ الزير سالم بعد أن خرج من أرض كنعان سار وحده إلى مرج بني عامر أو قبائل بني عامر الهلالية التي يُنْسَب لها هلال بن عامر رأس بني هلال وسيرتهم.

وذلك عقب اعتكافه ببئر سبع، بل إن الزير انتسب إلى هذه القبائل ومرجها القريب نسبيًّا من مدينة حيفا الساحلية التي نزلها عقب أَسره أو حروبه الغامضة مع حكمون اليهودي.

خلاصة القول: إننا بصدد سيرة ملحمية لمُقاتلٍ، شاعرٍ، فلسطيني المنبت والمنفى — بئر سبع — تتَّسم أجواؤها وأحداثها بطابع فينيقي بحري؛ حيث نرى القيسيِّين — بني مرة — والكلبيِّين الحمْيريين — بني ربيعة — يُقيمون ويتريَّضون ويتجسَّسون على شاطئ البحر المتوسط، حيث المدن الفلسطينية حيفا ويافا وبئر سبع.

وحيث أمضى الزير سالم رحلة موته وعبوره التي امتدَّت لثمانية أعوام في عرض البحار، حين كفَّنته أختُه الضباع وألقته في البحر، وهو ما سيُطالعنا في الفصول المستجدة.

١  The white goddess—Robert graves—Yaber, p. 60.
٢  مكانها اليوم نابلس أكبر مدن الضفة الغربية بفلسطين المحتلة.
٣  المصدر السابق، لجريفز.
٤  أو الغزاوية، من بلدة سورق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤