بين البراعة والإنسانية

جميع الذين عرفوا الأدب الروسي، وقرأوا قصص العمالقة من تولستوي إلى جوركي، ومن دستوفسكي إلى أهرنبورج، يذكرون الأثر العميق الذي تركته في نفوسهم القراءة الأولى في هذا الأدب؛ ذلك أن القارئ لهذا الأدب يجد هواء جديدًا وحنانًا جديدًا وإنسانية جديدة.

إن هناك من يزعمون أن في القصة الروسية، سواء أكانت قصة أم أقصوصة، براعة أو مهارة، أما أنا فلا أجد ذلك، وإنما أجد إنسانية وحنانًا يشيعان بين أشخاص القصة مهما اختلفت اتجاهاتهم أو تفاوتت درجات ذكائهم.

بل أزيد على ذلك وأقول: إنه حين يعمد المؤلف الروسي إلى البراعة، كما يفعل دستوفسكي أحيانًا، تنقص قيمة القصة، ولكنه حين يتناول أشخاصه كما هم، في سيرة الحياة وسرد الحوادث، على الطبيعة والأصل والنزعة، بلا أي مبالاة بالبراعة، هنا فقط نجد الفن العالي … وبكلمة أخرى أقول: إنما نجد الفن العالي في الإنسانية والحنان.

بل كثيرًا ما أجد الفوضى في القصة الروسية، مع ازدحام الأشخاص واضطراب المواقف واختلاف النزعات، بالمقارنة إلى القصص الأوربية المرتبة المتزنة المدبرة، فأوثر الأولى على الثانية للميزتين المذكورتين: الإنسانية والحنان.

وحسبنا أن نذكر قصة «السبعة المشنوقين» لأندرييف. فليس في هذه القصة غرام، وليس لها هدف واضح، وكل ما نجد فيها سبعة أشخاص قد حكم عليهم بالإعدام؛ لأن خمسة منهم كانوا يدبرون مؤامرة ثورية، ثم ضبطوا، واثنان من السفاحين العاديين ضموا إليهم.

وقصارى ما يفعل المؤلف أنه يكتب لنا، وكأنه صحفي، وصفًا لإنفاذ عقوبة الإعدام في كل منهم واحدًا بعد آخر، ومن هؤلاء الشباب الذي يكاد يكون صبيًّا لا يطيق انتظار الموت الذي سينفذ فيه بعد ربع ساعة بحبل المشنقة، ومنهم المرأة الهادفة التي أرصدت حياتها للثورة، والتي تستقبل الموت في رزانة وتفكير وإحساس بالانتصار؛ لأنها تعرف أنها خدمت ووضعت لبنة في بناء الثورة، وهي تتقدم بإحساس الأم إلى هذا الصبي الشاب فتشجعه وتبتسم له وتشد في يده.

ونحن نقرأ في تنهدات هذا الوصف حتى نصل إلى نهاية المأساة، وتتمثل أمامنا المشنقة والحبل الذي يجدده الجلاد بمسحه بالصابون الجاف لاستقبال شخص آخر، وتموت الحياة أمامنا سبع موتات، يتسلق الشاب أو الفتاة أو السيدة أو الرجل الكهل سلم المشنقة، وهم أحياء يجري الدم الأحمر في شرايينهم، ثم نتخيلهم مخنوقين معلقين يتأرجحون في الهواء، قد خرج الرغاء من أفواههم، ثم يفك الحبل عن واحد بعد آخر، وتنتقل كأنها حجرًا أو غرارة من التراب إلى مكان آخر، وتكدس الجثث الواحدة فوق الأخرى.

إنسانية معذبة تنشد الاشتراكية والسعادة والخير، ولكنها تنتهي بالمشنقة، ويشرف على هذه المشنقة قيصر تؤيده كنيسة وكهنة يقولون للشعب: إن الفقر فضيلة، وإن الله قد حكم عليهم بالطاعة للقيصر، وإن جزاءهم بعد الموت نعيم مقيم، وإن الطمع في الدنيا خطيئة.

والمؤلف لا يقول شيئًا من هذا، ولكننا نجدنا نفكر فيه، فيملؤنا الغضب والحزن معا، ويخرج كل منا من هذه القصة وقد زاد إنسانية وحزنًا، بل زاد شجاعة وإصرارًا على إنقاذ الدنيا من الوحوش الحاكمين والكهنة المضللين.

هذه قصة لأندرييف، وليس أندرييف مع ذلك من الطبقة الأولى بين الكتاب الروس، واعتقادي أن العمالقة في الأدب الروسي من كتاب القصص ثلاثة، هم: دستوفسكي وتولستوي وجوركي.

أما دستوفسكي فيمكن أن نسميه الكاتب الصوفي الذي يجد في تاريخ الإنسانية، ماضيها ومستقبلها، خيرًا من المسيحية، فهي صخرة الأمان عنده إذا ادْلَهَمَّت الكوارث، وأشخاص قصصه نفوس أكثر مما هي أشخاص، يجري النقاش بينهم بشأن كوارثهم التي تختلف ألوانها وتتفاوت مقاديرها على مستوى الإيمان الفلسفي والاستكانة والرضا بما هو قائم، وهو إلى حدٍّ كبير، شرقي يكره الغرب الذي ينزع إلى المادية، ونحن الشرقيين نحبه؛ لأننا نجد في اختبارات أبطاله وعواطفهم أصداء لما نحسه من اضطرابات وقلاقل نفسية، هي ثمرة الحرمان والفقر والجهل وسائر الرذائل التي تولدت من الاستعمار والاستبداد، وقد كانت روسيا حين ألَّف دستوفسكي قصصه، في استعمار واستبداد بحكم القياصرة والنبلاء والشركات الأجنبية.

وأعظم ما يمتاز به دستوفسكي أنه يفكر بإحساساته، وهي إحساسات ذكية تتعمق المشكلات وتستنبط منها الإنسانية، ومشكلاته هي البؤس والحرمان والإجرام، ولكنها تنبع من صميم شعب جائع غاضب حزين، وقلَّ أن نجد في أوروبا الغربية الثرية من يحبه؛ لأنه لا يجد نفسه صدى لأفكاره أو إحساساته، وإنما نحن الشرقيين نجد هذا الصدى ونحبه ونفتتن به.

•••

لقد مرت بحياتي فترة شغفتْ فيها بمؤلفات هذا الكاتب شغفًا عظيمًا جدًّا حتى إني ترجمت جزءًا من قصة «الجريمة والعقاب» في ١٩١٢ وطبعته على نفقتي، ولكن فوضى النشر، ولصوصية الاتجار بالكتب في ذلك الوقت، حملاني على أن أكف عن نشر باقي القصة.

ودستوفسكي قصصي من الطراز الأول، بل لا يعلو عليه في العالم قصصي آخر، وعندما نقرأه لأول مرة نسحر به، ولكن هذا السحر يدل على حالنا النفسية المريضة؛ ذلك أن أبطاله يمثلون الشك المؤلم والحيرة المضنية في الأزمات النفسية، وهذه الحيرة تصيب كلا منا في فترات من حياته: الحيرة بين العلم والدين، والحيرة بين الثورة والاستسلام، والحيرة بين الموضوعية والذاتية إلخ …

ومثل هذه الحيرة تصيب المستنيرين الذين لا يزالون في موقف الشك، وجميع أبطاله من هذا الصنف، فإن بطل «الجريمة والعقاب» طالب يقتل عجوز بدوافع فلسفية، و«الإخوة كارمازوف» كلهم فلاسفة حائرون، وأحدهم حمار عظيم يقتل أباه بحافز من العلم المادي.

وكان دستوفسكي يكره العلم ويؤثر العقيدة على الحقيقة، بل إن له كلمة أخجل من ذكرها هنا قالها عن المسيح، وكان يستحق عليها المارستان مدى حياته، لولا أنه قالها عن إحساس إنساني عميق نكاد نذوب عندما نتأمل معانيها.

ونحن حين نعجز عن معالجة المظالم الاجتماعية، وحين نقف أمام القدر مهزومين، وحين يجابهنا المرض وعليه علامة الحكم بالإعدام، وحين نواجه هوان الفقر والمرض والجوع، في هذه الحالات جميعًا نخضع ونستسلم، بل نمدح هذا الواقع ونجد فيه «نظامًا» ينطوي على عدل لا نفهمه، وعندئذ تبدو كل هذه الحالات حسنة تجد التبرير في منطق تعاستنا، هذا هو موقف دستوفسكي الذي أحبه القيصر، وكان يزوره رئيس الكنيسة الروسية، بل إن دستوفسكي هذا نفسه قد وقف يخطب وينعي على الحضارة الأوروبية ماديتها، ويطالب بمقاطعتها وبقاء روسيا في روحيتها، أجل هذه الروحية التي أثمرت راسبوتين …

ولكن هناك من يرون أن المظالم الاجتماعية يمكن علاجها، وإننا نستطيع أن نلغي الفقر والمرض والجهل من الدنيا بقوة العلم، وهؤلاء يكرهون دستوفسكي؛ ولذلك وصف مكسيم جوركي أفكاره بأنها «سامة».

لقد كنت في أول شبابي وفجاجة ثقافتي أجد في دستوفسكي لذة التحسر، أي: لذة الألم، لذة العجز والاستسلام لكوارث الحياة؛ إذ كانت هذه الكوارث لكثرتها وفداحتها لا تطاق إلا بالاستسلام، أما الآن فإني مع مكسيم جوركي أجد أن أفكار دستوفسكي تسم العقول، وأن الثورة، لا الاستسلام، هي العلاج لكوارث المجتمع بل لكوارث القدر.

•••

وقد كان دستوفسكي من الشعب وكتب للشعب، الشعب الحزين أيام القياصرة، أما تولستوي فكان من الارستقراطية، وكان يتمتع عند أشخاصها بلقب «كونت» ولكنه، مثل الأمير كوربتكين، ترك هذه الارستقراطية ونزل إلى الشعب، فاعتنق بؤسه وفكر في كوارثه، وانتهى كما انتهى دستوفسكي إلى أن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بتعميم المبادئ المسيحية.

وليس شك أن الديانة المسيحية هي ديانة الشعب الثائر على معاني الاستبداد والاستعمار والنهب والاستغلال، التي قاساها اليهود أيام الحكم الروماني، ومع الأسف لا تزال هذه المعاني قائمة في الاستعمار الأجنبي كما هي قائمة أيضًا في الاستبداد الداخلي، بل حتى مع الاستقلال، كما كان الشأن في روسيا أيام القيصر.

والالتجاء إلى المسيحية في كل من دستوفسكي وتولستوي هو صوفية عاطفية تقوم مقام التدبير العقلي للإصلاح، ولكن هذا التدبير كان بعيدًا عن اعتقاد هذين الكاتبين وهما يعيشان في وسط استبدادي مؤيد راسخ لا يمكن أن يزعزع.

وعلى الدوام لا تغشو الصوفية الدينية إلا عند العجز عن التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أما حيث يمكن هذا التغيير، بثورة أو بتطور، فإن التفكير الصوفي يتقهقر؛ لأنه يسخف.

وهذا هو ما نجد في جوركي، فإنه يعزف عن الصوفية الدينية وينشد التغيير بالثورة، وكانت الظروف الجديدة تواتيه على هذا الاتجاه، فإن ثورة ١٩٠٥ التي كان يراد بها قلب نظام الحكم في روسيا كانت قد فشلت، وعندئذ في ١٩٠٨، ألَّف جوركي قصته «الأم»؛ كي يبعث في النفوس الآمال الميتة، ويثير من جديد عواطف الثورة المهزومة، وهذه القصة هي برنامج علمي للثورة على المستبدين، تحس الأمل الحي وهو هنا الأم، فإننا نحس أن آلافًا من الأمهات الأخريات سينهجن نهجًا في تغذية الثورة، بل إن حياة هذه «الأم» تعد طرازًا ساميًا للارتقاء الإنساني، وكيف تتغير حياة المرأة من الغيبوبة والاستكانة إلى يقظة الوعي والثورة.

وحين أفاضل بين هؤلاء الكتاب الثلاثة أراني أحب تولستوي ودستوفسكي الحب الغامر العميق، ولكن إعجابي الأعظم يذهب إلى جوركي؛ لأني أجد هنا أملا وثورة وكفاحًا، أجد دعوة إلى التغيير.

مكسيم جوركي هو أديب الثورة، قبل الثورة، لا يعزى النفوس المظلومة، ولا يثيرها وينخسها ويهيب بها إلى النهوض ومحاربة الظلام بحمل السلاح، وهو يؤمن بالإنسان، أي: يؤمن بقوة عقله على التدبير والتغيير، وهذا هو الفرق بين القصة الروسية قبل الثورة، والقصة الروسية بعد الثورة، ولكن هناك ما هو أوضح من هذا الاستنتاج.

فإن كثيرًا من أشخاص القصة قبل الثورة كانوا كما قلت يستسلمون للقدر، أو ما نسميه القدر من مظالم قاسية. أما بعد الثورة فإن أبطال القصة يتميزون بإحساس جديد، هو تربية جديدة وهدف جديد.

اعتبر مثلا إليكزاي تولستوي (وهو غير ليو تولستوي العظيم الذي مات في ١٩١٠)، فقد عاش هذا الأديب قبل الثورة وبعدها، وهو يصف لنا في أشخاص قصصه الحياة قبل الثورة وبعدها، وهو يصف لنا في أشخاص قصصه الحياة قبل الثورة، وهي حياة بلا قصد، يحيا أفرادها من الطبقة العالية في استهتار وفسق وفساد، حتى إذا جاءت الثورة شرعوا يتنبهون إلى شرف الحياة العاملة التي يحيونها عن قصد للتعمير والبناء.

وهو، أى: إليكزاي تولستوي، يمثل لنا حياة روسيا قبل الثورة وبعدها، كما عالجها عامة الأدباء من الروس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤