هل الأدباء والفنانون مجرمون؟

كتب كامل التلمساني مقالًا فريدًا في الجمهورية تحت عنوان «نحن مجرمون»، شرح فيه اتجاه الفنون والآداب أيام الشقيين فؤاد وفاروق ثم انتهى بقوله، باعتباره أحد الفنانين:

لقد كنا مجرمين فعلًا في مصر الملوكية، ومن العار ألا نكفِّر عن خطئنا أيام الجمهورية.

وأحتاج قبل أن أعلق وأشرح، إلى أن أقتبس بعض السطور مما كتبه كامل؛ لأنها جديرة بأن نحققها، ثم إذا كانت حقيقية، فيجب أن نردد معانيها؛ حتى يفهم جمهور القراء موقفهم من الأدباء والفنانين الذين عاشوا أيام هذين الملكين، يقول كامل:

الإجرام مرض … والمسئول عنه … هو المُثل والتقاليد والأهداف الاجتماعية … وما يسري على الإجرام في الحياة يسري أيضًا على الإجرام في الفن، فالفن المصري فنٌّ شاذٌّ مجرمٌ خلقه المجتمع الفاسد الذي أوجدته الملوكية؛ لتعيش فيه لمصلحة أفراد قلائل يتعاونون مع المستعمر الإنجليزي، ومع المستعمر الداخلي الإقطاعي، وهذا التعاون المنظم ينصب على استغلال موارد البلاد، كما ينصب على استغلال مؤهلات الأفراد … كان من المستحيل على الملوكية المصرية أن تثبت أقدامها طوال السنوات السود … دون الاستيلاء الفكري على قلوب الشعب نفسه لتوجيهه لما تريد من الزاوية التي تحافظ بها على بقائها … لذلك كان لا بد للفن والإذاعة، والمسرح، والسينما، والشعر، والغناء، كل الفنون، كان لا بد منها؛ لتسخَّر لخدمة الملوكية ضد مصالح البلاد، وضد مصالح الشعب نفسه … كان الفن المصري، في غالبيته العظمى فنًّا مجرمًا من خلق سادة فاسدين، وكان الفنانون المصريون في غالبيتهم العظمى مجرمين فعلًا، مجرمين في حق بلادهم، ومجرمين في حق قدسية الفن ومثاليته … واليوم، هل تغيرت الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما والموسيقى والشعر والفنون؟

ويجيب كامل على هذا السؤال بكلماته المعتدلة:

قد تكون في سبيل تغيير شكلها، وقد تكون بصدد تغيير مضمونها، ولكنها لم تصبح ثورية … لا بد لها من ثورة كاملة شاملة، ثورة في الشكل، وثورة في المضمون …

قلت ما يكفينى للتعليق والشرح، وقد حذفت الكثير مما لا أعتقد أن حذفه يخل بموقف الكاتب وآرائه.

•••

ولا أنكر اغتباطي بقراءة هذا المقال، فقبل أكثر من عشرين سنة ألفتُّ كتابًا عن «الأدب الإنجليزي الحديث» أوضحت فيه أنه أدب الشعب وأدب المجتمع، وكان قصدي أن أعكس بمرآته صورة لأدب جديد يعرفها شبابنا، ويطالبون بمثلها للأدب المصري، وفي ١٩٥٢ كتبت في «أخبار اليوم» مقالًا بعنوان «الأدب للشعب» أثار عليَّ عاصفة، يمكِّن القارئ لكامل التلمسانى أن يفهمها الآن، والآن فقط لأني خالفت ودافعت، عن أدب جديد للشعب، أجل للشعب.

بل إنى في حماستى، صرحت بأني أوثر أزجال بيرم التونسي على أشعار شوقي؛ لأن الأول شعبي والثاني ملوكي، والأول كان يأكل التراب جوعًا في باريس؛ لسخطه على فؤاد بينما كان شوقي يؤلف القصائد بالكلمات الرائعة في مدح فؤاد ويحيا في ترف موسد، ويأكل ويشرب في هناء.

وتحليل «كامل» للفنون والآداب ومرجع الانبعاث الفني والإلهام الأدبي صحيح، وإن كان يستحق المزيد من الشرح، فالفنون والآداب جميعًا تعبر عن المجتمع وأهدافه ووسائله، فإذا كان الفنان أو الأديب ينتمي إلى الطبقة الحاكمة، ويحيا على ما يكسبه منها، فإنه يعبر عن آرائها، فلا يذكر الشعب، ولا يدرس الاشتراكية، ولا يعترف بأن للشعب أية حقوق، بل ما زلتُ أذكر أنه عندما ألغى الوغدان زيور وفؤاد البرلمان الشعبى في ١٩٢٥ كانت صحفه تسمي الشعب «الرعاع».

أجل، وكان طه حسين وعبد القادر المازني يكتبان في الدفاع عنه في الجريدة التي أنشأها الحزب الذي يؤيد زيور، بل وجدنا أدباء بعد ذلك يدافعون سنة ١٩٢٩ عن وقف الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد، ثم أعقب ذلك التعطيل التام للدستور، هذا التعطيل الذي وجد أيضًا من يدافع عنه من الأدباء.

وقد بدأ العقاد حياته الأدبية بالسير مع الشعب، وكافح مع الزعيم العظيم سعد، وسُجن من أجل هذا الدفاع، ولكنه بعد ذلك آثر الملوكية على الشعبية، وكذلك فعل طه حسين، ويستطيع الباحث أن يجمع ما كتباه وهما مع الشعب، أيام ثورة ١٩١٩، وما كتباه بعد ذلك حين أصبحا ملوكيين، ويقارن ويعلل هذا الانقلاب.

فإن طه حسين الذي ألفَّ كتابًا في أيام شبابه، عن المعري الشاعر الشعبي الذي استنهض الشعوب العربية إلى مكافحة المظالم، طه حسين هذا الذي نشأ من الدرجات الأولى في السلم الاجتماعي، وكافح وتعلم في جهد ومشقة، انقلب ملوكيًّا يفرح برتبة باشا، ويصف الشقي فاروق بأنه «صاحب مصر».

ويصيح أمام الطلبة في الجامعة، يخاطب هذا الوغد بقوله: «يا صاحب مصر»، ثم لا يكتفي بهذا الكفر الاجتماعي السياسي، بل يزيد عليه بقوله: «إن سلوكك الشخصي يا مولاي يصلح أن يكون قدوة لشعبك والناس».

تأمل هذا أيها القارئ، فاروق قدوة في أخلاقه الشخصية لي ولك ولسائر الناس … يقول هذا طه حسين … الذي يصف الأدب ويعرِّفه بأنه ترف ذهني.

ومثل هذا فعل العقاد الذي وصف فاروق بأنه فيلسوف، أعظم فيلسوف عرفه، كما لو كان هذا البغي يشبه أرسطاطاليس أو أفلاطون، ويؤلف القصائد في مدح فاروق فيقول:

وما اتخذت غير فاروقها
عمادًا يحاط وركنًا يُؤَمّ
ولا عرفت مثله في العلا
صديقًا يشاركها في القسم
فدته البلاد وفدى البلا
د بعالي التراث وغالي القيم

إلخ إلخ.

لقد أصاب كامل التلمساني، إن فؤاد ثم فاروق، قد أفسدا الأدباء والفنانين، وبدلا من أن ينهضوا بالثورة عليهما انحنوا وركعوا ومسحوا الأحذية، ولم ينج توفيق الحكيم من هذا الانهيار، فإن درامة «أهل الكهف» هو دعوة المجتمع اليائس إلى الموت؛ لأنه لا يجد أملا في حياته، أي أمل كنا نجده في نهضة مصر أيام فؤاد وفاروق، يؤيدهما الإنجليز المستعمرون والإقطاعيون المصريون؟

لم يكن اليائسون يجدون أي أمل، ولكن كان في مصر ثائرون غاضبون يبصرون بالصباح من خلال الليل القاتم البهيم، كان منا مثلًا بيرم التونسي وعبد الحليم، اللذان لم يستسلما للموت، ولم يفكر واحد منهما في إيجاد كهف يموت فيه الصالحون، ويرفضون الحياة كما فعل توفيق الحكيم بأبطاله في «أهل الكهف».

وكان منا أدباء تمذهبوا بمذاهب الحياة الجديدة، ورفضوا الملوكية والموت واليأس.

إن آدابنا وفنوننا تحتاج إلى نهضة للتمذهب بمذاهب الحياة الجديدة، وليس بمذاهب الموت، آدابنا مثل فنوننا تحتاج كما يقول كامل التلمساني إلى ثورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤