الفصل السادس

قراصنة المحيط الهندي

مرةً أخرى تصبح مياه النصف الشرقي من الكرة الأرضية مسرحًا للنشاط الحيوي للقراصنة، وذلك على تخوم القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان النَّهب البحري الملاحي قد ازدهر منذ زمنٍ بعيد على السواحل الشرقية لأفريقيا، وفي المحيط الهندي، وفي بِحار جنوبي شرق آسيا، والشرق الأقصى. لقد كان القراصنة ذوو الأصول الأوروبية، الذين طُردوا من المياه الأمريكية، ومن حوض الكاريبي على وجه الخصوص، كثيرًا ما ينقلون نشاطهم إلى البِحار المتاخمة لشواطئ أفريقيا وآسيا، التي كان يدفعهم إليها ما يصلهم عنها من معلوماتٍ عن غنائمَ يمكنهم الاستيلاء عليها فيها.

كان القراصنة البوكانيون، والفليبوستيون يمارسون مهنة السرقة في المحيط الهندي، إما اعتمادًا على شجاعتهم الخاصة، ومخاطرتهم، أو بانضمامهم إلى صفوف القراصنة المحليين من العرب، والهنود، والصينيين، وأبناء الملايو، فكانوا يتَّحِدون معهم مشكلين بهذا منظمات جبارة، كان البحارة ذوو الأصول الأوروبية المحنكون يقومون بالدور القيادي فيها.

في تلك الفترة ظهرت في منطقة المحيط الهندي ثلاثة مراكز مهمة للقراصنة، كان لكلٍّ منها تقاليده العريقة فيها، عن شاطئ مالابار، وفي مياه مدغشقر، وفي منطقة الخليج الفارسي.

وقد صادف انبعاث القرصنة في هذه المناطق، النضال الذي خاضته شعوب أفريقيا، وآسيا ضد الاستعمار، وعلى رأسه الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والهولندي، والبرتغالي، وفي الوقت نفسه أصبح النضال ضد القرصنة — حقيقةً وتظاهرًا — حجةً مناسبةً للتوسع الاستعماري.

القرصنة عند ساحل مالابار

«سيوان صن»١ رحالةٌ صيني من القرن السابع، زار الإمبراطورية الهندية في فترة حُكم خارشا،٢ سرقه اللصوص مرتين في الأراضي الخاضعة لحكم الأخير، وذات مرةٍ كاد أن يلقى حتفه في قلب هذه الدولة ذاتها على يد القراصنة الذين أرادوا أن يقدِّموه قربانًا للإلهة دورجا، وإلى «سيوان صن» تنسب الكتابات الأولى عن القرصنة في هذه المنطقة.

اتخذ العديد من قراصنة الهند السرقة مهنةً لهم من جيلٍ إلى جيل، وكانوا ينظرون إلى قتل ضحاياهم كما ينظرون إلى أي طقسٍ من الطقوس. وكان هؤلاء القراصنة يهاجمون القوافل البرية للتجارة، كما كانوا يهاجمون الصنادل والسفن في البحر، على الرغم من أنها تسير عادةً في مجموعاتٍ كبيرة، وتحت حراسةٍ مسلحة. حتى أقوى الأمراء الهنود كانوا يجدون صعوبة في التغلب على السرقة التي اتسع نطاقها. وقد أصبحت أكثر السفن عرضةً لهجمات القراصنة هي تلك السفن التي كانت تسير عبر أنهار مثل الجانج أو الهند، وهما النهران اللذان كان يؤديان أهم دور في التجارة والاتصال.

على أن الهند لم تُعانِ بشدةٍ في تلك الآونة من قراصنة الأنهار المحليين فحسب. لقد أصابت البلاد خسائر فادحة من جرَّاء نشاط القراصنة الذي كان يقوم به حكام جزر الملايو، والذي شكَّل عائقًا كبيرًا في نمو العلاقات التجارية الحيوية بين الهند والصين. وفي النهاية أصبح هذا النشاط أحد أسباب الحملات التي قادها اثنان من الأمراء من أُسرة تشولا:٣ رادجاراجي الأول (٩٨٥–١٠١٤م)، ورادجيندرا (١٠١٤–١٠٤٢م). أخضع الأول سيلان، ونجح الثاني في توسيع نفوذه على البر حتى منابع الجانج نفسه، وجهَّز حملةً بحرية ضخمة استطاعت أن تحتل جزءًا من بورما، والملايو، وسومطرة، بعد أن وضع حدًّا — لحينٍ من الزمن — للقرصنة التي كانت قد انتشرت في كل من الملايو وإندونيسيا.

طبقًا للمعلومات التي أوردها المؤرِّخون العرب في القرون الوسطى، فإن راجوت الساحل الغربي لهضبة ديكان، قاموا في القرنين العاشر والحادي عشر بتجهيز أساطيل للقرصنة. آنذاك لم يكن بإمكان الأمراء الهنود — الذين لم يكن بحوزتهم أسطولٌ بحري — أن يواجهوا التطور السريع لمعاقل القرصنة في هذا الإقليم، حيث احتشد القراصنة عند ساحل مالابار من بومباي، وحتى «جاوا» نفسها.

ولم يسلم مغول الأكبر٤ حاكم الإمبراطورية الكبيرة في الهند من الوقوع هو نفسه ضحيةً للقرصنة البحرية عند ساحل مالابار. لقد جذبت ثروته الخرافية أنظار الدول الاستعمارية، فضلًا عن القراصنة المحليين، بل والأجانب أيضًا. ولم تكن إمبراطورية المغول التي تأسست عام ١٥٢٦م على يد بابور حفيد تيمورلنك الأكبر، واستمرت حتى نهاية القرن السابع عشر، لم تكن تملك أية سفن حربية، ومن ثَم فلم يكن بمقدورها الوقوف في وجه هجمات قراصنة مالابار. أما الإنجليز الذين كانوا يجنون الأرباح الطائلة من جرَّاء تجارتهم مع مغول الأكبر عن طريق شركة الهند الشرقية، التي تأسست عام ١٦٠٠م فقد ظلوا غير عابئين بالمصاعب التي كان يتعرض لها عاهل الهند في البحر، مولين جلَّ عنايتهم لمصالحهم الاستعمارية والتجارية، بيدَ أنهم أخذوا في الاهتمام بنشاط القرصنة في «مالابار» فقط، عندما بدأ أمن الملاحة البريطانية في المنطقة، يتعرَّض تعرُّضًا فعليًّا للتهديد من جانب القراصنة.
مع اقتراب نهاية القرن السابع عشر، ظهر على ساحل مالابار «آل أنجريا»، وهم أُسرة قراصنة من المهراجات٥ الهنود، استمرت على مدى ستِّين عامًا تحتكر هذه المهنة.
كان كونادجي هو أول زعيم للقراصنة من آل أنجريا في ساحل مالابار. في حوالي عام ١٦٩٨م ترأَّس كونادجي الأسطول، وشيئًا فشيئًا أخذ في التحرر من التبعية الإقطاعية الطويلة لحكام إمارة بونا٦ الإقطاعية، وفرض سلطانه دون شريك على شريطٍ طوله خمسمائة كيلو متر بامتداد ساحل مالابار جنوبًا من بومباي، وعلى امتداد هذه المسافة أقام كودناجي عددًا من الحصون الساحلية مثل ألبياج وسافندروج وجيريا (خلافًا لفيدجايدورج) انطلقت منها حملاته. استطاع هذا الملك غير المتوج خلال فترةٍ قصيرة أن يصيب التجارة البحرية بالكامل بالشلل، الأمر الذي ظهر أثره مباشرةً بشكلٍ ملحوظ على شركة الهند الشرقية، وعلى المحتلين البرتغاليين.

وفي نهاية الأمر، نفد صبر سلطات الاحتلال المحلية، وقام ممثلو الحكومة البريطانية، وشركة الهند الشرقية بشكلٍ رسمي بإبلاغ كونادجي أنه ليس في نيَّتهم السكوت أكثر من ذلك على مهاجمة سفنهم. أجاب زعيم القراصنة بأن الإنجليز سيتعيَّن عليهم أن يتذكروا اسمه مرةً أخرى. وقد وضع كونادجي بالفعل تهديده موضع التنفيذ، حتى إن الإنجليز أرسلوا في عام ١٧٠٤م خاصًّا إلى كونادجي ببلاغٍ بمنع سفنه من الاقتراب من المياه المتاخمة لبومباي، وفي الوقت نفسه، أبلغت شركة الهند الشرقية إدارتها في لندن، أن سفنها الضخمة فقط هي التي استطاعت اختراق حصار قراصنة مالابار الممتد بطول الساحل من سورات إلى دابول، وتوسَّلت الشركة لإرسال مساعدة من جانب الحكومة.

وبعد عدة سنوات أصبح كونادجي مالكًا لجزيرةٍ صغيرة تقع عند مدخل ميناء بومباي، وعلى الفور قام بتحصينها، وحيث إن أسطولًا من السفن القوية (يصل تسليح بعضها إلى ستين مدفعًا، وتعمل تحت قيادة بحارة أوروبيين محنَّكين من هولندا في الأغلب)، أخذ يرابط منذ ذلك الحين عند هذه الجزيرة، فقد أصبحت مدينة بومباي معرضةً لتهديدٍ حقيقي. كان نظام الدفاع عن بومباي آنذاك بدائيًّا للغاية، وعندما اقترحت إدارة الشركة بِناء التحصينات المناسبة، رفضت سلطات المدينة البناء، بحجة معاناتها من صعوباتٍ مالية.

بهذه الطريقة أصبح بمقدور القراصنة احتجاز كل سفينة كانت تصل إلى بومباي أو تغادرها، عندئذٍ وجَّهت الشركة حملةً تأديبية ضد القراصنة قوامها عشرين سفينةً، وفي تقريرٍ موجَزٍ أجملت نتائج الحملة على النحو التالي: «عادت سفننا في التاسع من يونيو، ونتيجة للأعمال غير المتقنة التي ارتكبها القائد، فقدت الحملة خمسين شخصًا، ولم تضرب سوى مدينة واحدة من المدن الخاضعة لآل أنجريا».

على أن أسباب فشل الحملة التي قادتها الشركة لم يكن مردُّها إلى عدم الإتقان، الذي شاب العمليات التي أدارها القادة، بقدر ما كان مردها إلى سياسة إنجلترا الاستعمارية الاستغلالية في الهند؛ ولهذا فقد امتنع المواطنون عن تقديم العون للإنجليز في صراعهم مع القراصنة. بالإضافة إلى هذا، فقد كان الجيش الذي قامت الشركة بتجهيزه عبارة عن حشدٍ غير منظَّم من حثالة بلاد أوروبية مختلفة، جاءوا للبحث عن كسبٍ سهل في المستعمرات.

في عام ١٧١٥م وصل إلى بومباي محافظٌ جديد يُدعى تشارلز بون، يتمتع بالحيوية والنزاهة، وكان يرى أن القضاء على القرصنة في مالابار أحد المهام الأساسية. وما إن تقلَّد زمام منصبه حتى قام على الفور بعمل التحصينات حول مقر الرئاسة في بومباي، ثم شرع بعد ذلك في إنشاء أسطول حربي صغير. وقد ظهرت هناك العديد من المصاعب في تشكيل الأطقم؛ إذ إن الشركة كانت تعيِّن البحارة برواتبَ منخفضة جدًّا، إلى حد أن أفضل البحارة كانوا يفضِّلون الخدمة على سفن أنجريا، الذي لم يكن يبخل بالمال على بحَّارته، وبقدرٍ بالغ من الصعوبة نجح بون أخيرًا في تكوين أسطول من تسع عشرة سفينةً مختلفة المقاييس والطرز؛ بدءًا من القوارب ذات المجاديف، وحتى الفرقاطات ذات الأشرعة. وربما كان من الممكن أن ينجح هذا المحافظ في استئصال شأفة القرصنة على الرغم من نقص الكفاءة، وعدم انضباط مرءوسيه، لولا أنه في عام ١٧٢١م وصل إلى بومباي — وعلى حين غِرة — قادمًا من مدغشقر، القائد توماس ماتيوز.

وربما كان من الصعب العثور على قائدٍ عام آخر للحملة العسكرية أسوأ منه؛ فقد كان ماتيوز يمتلك قدرًا كبيرًا من الشجاعة، مع غيابٍ تام للتفكير السليم. كان نزِفًا، ليست لديه على الإطلاق قدرة على التآلف مع غيره من الناس، كما كان يتميز على وجه العموم بالقسوة.

غادر ماتيوز مدغشقر على ظهر السفينة «لابون». ولما لم يلتقِ في طريقه بالقراصنة، اتخذ مساره مباشرةً نحو بومباي دون أن ينتظر السفينتين «سالزبوري» و«اكزيتر»، اللتين كانتا عليهما أن تقدما له المساعدة. كان ماتيوز لدى إبحاره قد سلَّم أحد مواطني الجزيرة خطابًا موجَّهًا للقبطان كوكبني، قبطان «سالزبوري» عرض فيه تفصيلًا خطة العملية كاملة، وما إن غادرت «لايون» الميناء، حتى حصل اثنان من القراصنة هما: تايلور، ولبابوش على هذا الخطاب، ثم أسرعا بتسليمه إلى «جهة معيَّنة».

ما إن وصل ماتيوز إلى بومباي، حتى دبَّ الشجار بينه وبين المحافظ، حول مَن الذي عليه أن يؤدي التحية أولًا للآخر. وبسبب سلوكه المتعجرف، اكتسب ماتيوز عداء كل موظفي الشركة، وأصبح الصدام بينه وبين ضباط الأسطول في بومباي ظاهرة يومية. لو لم يكن سلوك ماتيوز على هذا النحو، لاستقبل مجيئه من أجل الاستعداد للعمليات الإنجليزية-البرتغالية المشتركة، ضد قلعة آل أنجريا الرئيسية — ألبياج — استقبالًا حافلًا. على أن ماتيوز ضرب قائد القوات البرتغالية إبَّان مشاجرةٍ ما بينهما على وجهه بالسوط، فما كان من الأخير؛ إلا أن غادر حلفاء الإنجليز تاركًا إياهم وحدهم في حومة المعركة.

انتهت الحملة على القراصنة، تلك الحملة التي كان ينبغي لها أن تكون نهاية الإعداد الطويل، الذي قام به المحافظ بون بفشلٍ ذريع، غير أنَّه أنزل على أية حال بقراصنة مالابار خسائر أكبر من التي أنزلها بهم أي من الذين سبقوه. في التاسع من يناير عام ١٧٢٢م أبحر ماتيوز عائدًا إلى إنجلترا، وقد تعرضت سفنه الثلاث — عند مرورها بمحاذاة الساحل — لهجوم القراصنة، ولكنه نجح في التصدي لهم، وعلى مدى اتساع جزيرة أندجيدف، قاد ماتيوز معركته الأخيرة ضد القراصنة، بعد أن انتزع من أيديهم سفينةً كانوا يهاجمونها آنذاك.

وفي عام ١٧٢٩م تُوفِّي كونادجي أنجريا تاركًا خمسة أبناء ما لبثوا أن تنازعوا ميراث أبيهم. استغل البرتغاليون هذا الظرف، فعقدوا حلفًا مع أحدهم أولًا، ثم أعقبوه بحلفٍ مع آخٍ آخر. لكن البرتغاليين لم يهتموا بكسب ودِّ أكثر الإخوة موهبةً، وهو تولادجي، الأمر الذي كان سببًا في انهيار خططهم. نجح تولادجي في زمنٍ قصير في توحيد ميراث أبيه وزيادته. وفي السنوات التالية دار الصراع الشرس من أجل السيطرة على المياه الهندية بشكلٍ رئيس بين تولادجي وبين الإنجليز، حيث إن سيطرة البرتغال، وهولندا، وفرنسا، على شبه الجزيرة الهندية كانت قد مالت للانهيار.

أعطت النزاعات الداخلية لأسرة أنجريا لشركة الهند الشرقية عشرين عامًا لالتقاط الأنفاس، نجحت إبانها في بناء أسطول من سفن النقل حسن التسليح، قادر على مقاومة القراصنة، وكانت هذه السفن من طرازٍ جديد تمامًا، واستطاعت أن تحقق انتصارات عدة عندما التقت بلصوص البحار، على أنه بعدما وطَّد تولادجي سلطته، بدأ من جديدٍ عمليات نهب تكللت بالنجاح، فقد هاجم ذات مرةٍ قافلةً من السفن الإنجليزية، كانت تسير تحت حراسةٍ شديدة، واستطاع — على الرغم من النيران التي أطلقتها عليه سفينتان حربيتان — أن يستولي على خمس سفنٍ شراعية، وفي عام ١٧٤٩م، وبعد معركةٍ استمرت من الظهيرة إلى منتصف الليل، وقعت في يده أفضل سفينة كانت في خدمة بريطانيا في بومباي، وهي السفينة «ريستورشن».

ولم يمضِ زمنٌ طويل حتى بسط هذا القرصان سلطانه على ساحل مالابار بأَسره، ولو لم يتم إرسال نجدة من أربع سفنٍ حربية مسلحة أفضل التسليح من مدارسَ تم تخصيصها لحماية بومباي، لأُصيبت الملاحة التجارية في هذا الميناء بالشلَل التام. عندئذٍ فقط أدركت الشركة أن الوسيلة الوحيدة الفعالة للدفاع عن سفن النقل هي حراسته بسفنٍ حربية مسلحة تسليحًا جيدًا تعمل بانتظام.

على أية حال، لم تكن السفن الإنجليزية وحدها هي التي تُعاني من هجوم قراصنة مالابار عليها، فقد كان البرتغاليون، والهولنديون، هم أيضًا يفقدون كل عام عددًا كبيرًا من سفنهم التجارية العاملة في المحيط الهندي. وكانت أكبر خسارة حلَّت بالهولنديين في عام ١٧٥٤م عندما استولى القراصنة على إحدى السفن المحملة بالذخائر، وبعد معركةٍ حامية الوطيس أغرقوا سفينتين أخريين.

نظرًا لتعاظم قوة الاحتلال البريطاني في الهند، فقد بدأ نفرٌ من القراصنة الهنود في السعي نحو عقد اتفاقات مع السلطات في بومباي، وبمرور الوقت أرسل حتى تولادجي الجبار مبعوثيه إلى بومباي عارضًا المصالحة. لا شك أن شروطه كان من الممكن قبولها في ذلك الزمن، عندما كان أبوه ما يزال على قيد الحياة. أما الآن فقد تغيَّرت موازين القوى بشدةٍ لتميل لصالح المحتل الأجنبي؛ ولهذا السبب قوبل العرض الذي تقدَّم به تولادجي بإعطاء السفن الإنجليزية «شهادة حديدية»، تكفل لها الحق في الملاحة الحرة في المياه التي يسيطر عليها القراصنة برفضٍ قاطع.

في عام ١٧٣٩م عقد الإنجليز اتفاقًا مع دولة ماراتهي الواقعة جنوب غربي الهند، بشأن النضال المشترك ضد القراصنة برًّا وبحرًا. وفي الثاني والعشرين من مارس ١٧٥٥م أبحر الأسطول الموحد البالغ قوامه خمسين سفينةً من مختلف الطرز بقيادة وليم جيمس، الذي ظل يقود القوات البحرية لإنجلترا في هذا الإقليم لمدة أربع سنوات باتجاه سافاندورج التي يحتلها القراصنة. وفي التاسع والعشرين من مارس بلغ الأسطول المكان المحدد، لم يعقد القراصنة عزمهم على الدخول في معركة، وإنما لاذوا بالفرار. إبان المطاردة التي استمرت طوال اليوم التالي، وجد الأسطول نفسه مشتتًا في البحر الواسع الممتد، عندئذٍ أصدر جيمس أمره — بعد أن ترك عقب المطاردة — بالعودة إلى سافاندورج.

كانت المدينة تقع على حافةٍ صخرية تطل على البحر من شبه الجزيرة، تحرسها «القلعة الذهبية» المسلحة بخمسة وأربعين مدفعًا، وإلى جنوبها توجد قلعتان أخريان. أدرك جيمس أن الحصار قد يستمر لمدةٍ لا تقل عن شهر؛ ولهذا قرر اقتحام القلعة من جهة البحر، فاقترب بسُفنه منها، حيث أخذت مدفعيتها تمطرها بوابلٍ من النيران طوال يومَين كاملين، اختفت بعدها قلعة القراصنة من فوق سطح الأرض.

غمرت الفرحة سلطات مدينة بومباي بهذا الانتصار، واتُّخذ قرارٌ بتدمير قلعة القراصنة التالية في جريا، وهي قلعة أكثر تحصينًا من الأولى، في الحادي عشر من فبراير عام ١٧٥٦م خرج من بومباي أضخم أسطول قامت بتسليحه المدينة في تاريخها، فإلى جانب ثماني عشرة سفينة حربية ثقيلة تولى قيادتها الكومانور جيمس، أبحرت ستٌّ أخرى من بينها أربع بوارج بقيادة اللواء بحري واطسون. وعلى متن السفينة كانت هناك فرقة من قوات المشاة قوامها ٨٠٠ أوروبي و٦٠٠ من الجنود المحليين تحت قيادة روبرت كلايف. وطبقًا للتعليمات التي صدرت إلى قائد الحملة، فقد حظرت سلطات المدينة الدخول في أية مفاوضاتٍ مع تولادجي، وما إن اقتربت الحملة من جريا، حتى وجدت هناك جيش ماراتهي الذي قام قائده بإبلاغ الإنجليز، أن بإمكانهم الاستيلاء على القلعة دون طلقة واحدة؛ إذ إن تولادجي قد أعرب عن استعداده للتفاوض. طلب واطسون أن يكون الاستسلام دون قيدٍ أو شرط، الأمر الذي ردَّ عليه تولادجي بالرفض، عندئذٍ بدأ الإنجليز في قصف القلعة.

كان تولادجي قد حشد في الميناء أسطولًا قوامه ثمانٍ وخمسون سفينة حربية، على رأسها «ريستورشن» السفينة الحربية التي كان قد تم له الاستيلاء عليها منذ ست سنوات خلت. وبعد قصفٍ دام ساعتين، اشتعلت «ريستوريشن» نتيجة لسقوط شظية فوقها، وانفجرت لتنشر الدمار في السفن التي كانت واقفةً في مساحةٍ ضيقة. وها هي ألسنة النيران تلتهم الأسطول الذي أشاع الرعب بطول ساحل مالابار لمدة نصف قرن كامل.

فيما بعد نزل كلايف إلى الشاطئ على رأس قواته، بعد أن اتخذت قواته مع قوات ماراتهي موقعًا لهم في مواجهة القلعة. امتدت نيران السفن المشتعلة إلى الأسواق والمخازن المليئة بالبضائع والموجودة على الشاطئ، وأصبح الهدف أمام السفن الحربية الإنجليزية واضحًا جليًّا. في صباح اليوم التالي أرسل واطسون إلى القراصنة عضوًا من أعضاء البرلمان، يطلب منهم مرةً أخرى الاستسلام. رفض تولادجي الامتثال لهذا الطلب، فجدد الإنجليز القصف بعد أن كانوا قد أوقفوه، وفي الوقت نفسه أخذ كلايف في مهاجمة القلعة من اليابسة، في الرابعة بعد دوي انفجارٍ هائل رفع بعده المحاصَرون الراية البيضاء.

وفي القلعة جرى اكتشاف كمياتٌ من الذهب والفضة والنفائس تبلغ قيمتها مائة وثلاثين ألف جنيه استرليني. وقد تم تقسيم هذه الغنائم بين القوات البرية والقوات البحرية. وكان من نصيب دولة ماراتهي تولادجي نفسه الذي لم يرغب في أن يستسلم للإنجليز، فسلَّم نفسه للمهاراتهيين وظل أسرًا لديهم حتى وافته المنية.

وضع الاستيلاء على جريا في واقع الأمر نهايةً للقرصنة على ساحل مالابار، وظلت سواحل مالابار — التي لم تقع إطلاقًا في أيدي الغزاة الأوروبيين — زمنًا طويلًا محط أنظار لصوص البحر. كان القراصنة يختبئون في خلجان الجزيرة من العواصف والمطاردات، وهناك كانوا يتربصون لسفن التجار الهولنديين والبرتغاليين والإنجليز، التي كانت تُبحر عبر رأس الرجاء الصالح، فينهبون ما على ظهرها من بضائعَ وبخاصةٍ الفلفل، والقرفة، والعاج، والقرنفل، والكافور، والحرير، والديباج، والأحجار الكريمة، والحلي، ثم يبيعونها في موانئ نيوانجلند، حيث لا يهتم أحدٌ بأصلها.

قرر توماس ماتيموز — الذي سبق ذكره، والذي كان قد تشاجر مع الجميع في بومباي — العودة إلى مدغشقر، وإنهاء مهمة القضاء على القرصنة التي كان قد كلف بها. وما إن وصل ماتيوز إلى خليج كارينتر عند جزيرة موريشيوس، حتى وجد رسالةً له مكتوبة بالفحم على القبر الحجري للكابتن كاربنتر، يفهم منها أن القراصنة قد أبحروا إلى فورت وفين، وهي قلعةٌ تقع في جزيرة سانت ماري. على الفور انطلق ماتيوز على إثرهم ليلحق بهم. على أنه، وبعد أن وصل بأسطوله إلى المكان المحدد، لم يُعثَر للقراصنة على أي أثرٍ في الجزيرة.

وقف الزعيم المحلي على سطح السفينة عارضًا على ماتيوز خدماته مستقبلًا القادمين باعتبارهم فرقة أخرى من القراصنة. عبَّ الزعيم المحلي مع الإنجليز الكئوس المليئة بخليطٍ من ماء البحر مع البارود، كما اعتاد القراصنة الذين كانوا أحيانًا ما يزورون الجزر أن يفعلوا، مقترحًا على الجميع أن يشربوا نخب الصداقة. بعد أن أنهى الزعيم مهمته، ظهر على سفينة ماتيوز ضيفٌ آخر غير عادي، عبَّر بدوره عن عظيم احترامه للكابتن، كان رجلًا أبيض يُدعى جيمس بلانتاين، قرصان، وفي الوقت نفسه واحد من أغنى مُلَّاك الأرض في الجزيرة. اعتاد السكان هنا أن يُسموه «ملك رانتر. باي»، كان الضيف مُسلحًا يرافقه عشرون حارسًا، وبدلًا من أن يقوم ماتيوز باعتقال بلانتاين، عقد معه صفقةً تجارية مربحة، فباع له قبعاتٍ ومشروب العرق. دفع «ملك رانتر. باي» مقابلها — كما يفعل الملوك بحق — ذهبًا وماسًّا.

بعد أن غادر بلانتاين السفينة، ترك البضائع التي اشتراها على الشاطئ تحت حراسة ملاحظي الرقيق. على أنه ما إن ابتعد بلانتاين، حتى أصدر ماتيوز أوامره إلى طاقمه بإعادة شحن البضائع جميعها إلى السفينة غير عابئ باحتجاج الحراس، ثم ما لبث أن أبحر إلى البنغال، بعد أن أخذ معه، علاوةً على ذلك، عددًا من سكان الجزيرة.

يعتبر جيمس بلانتاين، الذي سرقه ماتيوز واحدًا من أكثر شخصيات عالَم القرصنة في مدغشقر ترفًا. بدأ جيمس احتراف القرصنة منذ أن كان يافعًا في نيوانجلند، وقد تعلَّم هذه الحرفة على يد «أستاذ» من أمثال وليمز صاحب السفينة «تريب». على ظهر هذه السفينة أبحر بلانتاين إلى غينيا، حيث انضم إلى القراصنة الذين كانوا يعملون على ساحل غرب أفريقيا. وبعد أن أثرى جيمس بشكلٍ لا يُستهان به، ترك هذه العصابة واستقر به المقام في «مرانتر. باي»، حيث شيَّد قلعةً صغيرة يعيش فيها كما لو كان ملكًا حقيقيًّا.

كوَّن جيمس بلانتاين من بين عددٍ من السكان المحليين لواءً صغيرًا، ولكنه حسن التسليح، جيد الإعداد، كما جنَّد عددًا آخر ليعملوا في حاشيته، بل إنه اتخذ لنفسه كذلك حريمًا من أجمل فتيات الجزيرة، كان يطلق عليهن أسماءً إنجليزية: مولي، كايت، سو، وبجي. على أن كل ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة له، فإذا به يشتهي حفيدة ميساليدج ملك الجزيرة، وكانت تُدعى إليانورا. فأرسل إليه بالخُطَّاب، لكن الملك ديكا — كما كان الشعب يسميه — رفض عرض القرصان بشكل قاطع، الأمر الذي اعتبره بلانتاين إهانة له، فدخل معه في حربٍ انتهت بهزيمة ديكا، وما إن عاد بلانتاين إلى قلعته حتى أطلق مَن فيها من الحريم، وتزوَّج من إليانورا.

كان قرصان «مرانتر. باي» يبني خططًا طموحة للغاية، كان الرجل يعتزم أن يصبح ملكًا على مدغشقر بأَسرها، ومن هنا فقد بدا أنه قد تورط في شبكةٍ معقدة من المؤامرات السياسية. بدأ القرصان عمله باستكشاف رأي المحتلين الأوروبيين بهدف استمالتهم إلى جانبه، ثم أخذ يقيم الولائم الفاخرة للهولنديين، والفرنسيين، والإنجليز، الذين كانوا يقيمون في الجزيرة، بالإضافة إلى ذلك فقد تخيَّر رجلين ليعملا لديه كمستشارين، أحدهما أسكتلندي، والآخر دنماركي، دعاهما ليقيما معه. على أن السكان لم يكونوا يكنُّون مشاعر الحب لهذا الملك غير المتوج. فلما استشعر بلانتاين أن تمرُّدًا يُعد ضده، أعد زورقًا أبحر به وزوجه إلى ساحل مالابار، حيث استُقبل استقبالًا حافلًا من جانب أنجريا.

إلى هنا لم يعرف مصيره بعد ذلك.

جون آيفري المحظوظ

لم يكن جون آيفري المحظوظ — الشهير بابن الطويل — بحارًا ذا خبرةٍ إذا ما قورن بغيره من القراصنة، فهو لم يقُم بغير عدد قليل من الرحلات البحرية قبل أن يبلغ سِن الرشد، على أنه في عام ١٦٨٠م قرر التطوُّع بالعمل صبيًّا على إحدى السفن التجارية في بلايموث، واضعًا نصب عينيه هدفًا وحيدًا، هو أن يصبح قبطانًا لسفينة قرصنة، كان جون يعلل النفس بهذا الحلم، بعد أن استمع إلى العديد من الحكايات الخيالية من البحَّارة الذين كانوا بديفون مسقط رأسه.٧
بمرور الزمن تلقَّى جون عرضًا ليشغل منصب ضابط على إحدى سفن القرصنة اسمها «دوق»، كانت تبحر من بريستول إلى كاديس٨ وعلى الفور وافق جون آيفري دون أدنى تردُّد، وكان قد بلغ من العمر آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا، واكتسب بعض الخبرة في شئون الملاحة البحرية، وها هو يقرر أن الحظ قد ابتسم له في النهاية.

طال الوقوف في ميناء كاديس انتظارًا لأوامر الحكومة الإسبانية التي كانت قد استأجرت هذه السفينة لمحاربة القراصنة الفرنسيين في منطقة جزر الأنتيل. أثار الانتظار المستمر — في هذا الميناء الممل — السخط بين أفراد الطاقم الذين كانوا يأخذون أجورًا منخفضة، عندئذٍ قرر آيفري — الذي ظل سنين طويلة يحلم بامتلاك سفينةٍ خاصةٍ — أن ينتهز الظروف التي سنَحت له الآن.

ظل جون آيفري، على مدى الليالي الطويلة التي كان بحَّارة «دوق» يقضونها في حانات الميناء في احتساء الخمر، يُعمل ذكاءه وفصاحته في إشعال السخط بينهم راسمًا لهم آفاقًا مغرية للغنائم الثمينة. ولم يتطرق الشك في هذا إطلاقًا إلى قلوب البحَّارة، الذين استمالهم جون آيفري ليصبحوا قراصنةً، فصدَّقوه من فَورهم، وهم العارفون تمام المعرفة بالوضع في البحر الكاريبي، وعلى الجانب الآخر من رأس الرجاء الصالح، وهكذا تحولت أحاديث المساء تدريجيًّا لتأخذ شكل المؤامرة، وعندما صدر الأمر بمغادرة كاديس، كانت الأغلبية العظمى من البحَّارة على أُهبة الاستعداد للتمرد. ما إن خرجت «دوق» إلى عرض البحر، حتى اختلق آيفري حجةً ما، فخرج على مقصورة القبطان، الذي كان جالسًا منصرفًا إلى لعب الورق، واقترح عليه تحويل السفينة من سفينة مرتزقة إلى سفينة قرصنة. ظل القرصان جيبسون يتفرس طويلًا في عيني الضابط الشاب محاولًا أن يكتشف نيَّاته الحقيقية، ومن ثم يتخذ قراره. كانت يد البحَّار العجوز قد استراحت فوق جراب المسدس، الذي لم يُنزل آيفري عينيه من عليه. في الوقت نفسه أخذ البحارة يتجمعون فوق سطح السفينة، في انتظار ما سوف تسفر عنه المباحثات، بعد أن تلقوا تعليمات مسبقة من آيفري، بشأن الإجراءات التي يجب عليهم اتباعها في حالة انهيار هذه المباحثات.

شرع جون آيفري في إغراء جيبسون قائلًا: سوف تظل — إن شئت — قبطانًا لسفينتنا، إننا لا نتخذ منك موقفًا عدائيًّا بصفةٍ خاصة. وفي النهاية، جاءت النهاية المفاجئة، فإذا بجيبسون يأخذ خطوةً إلى الخلف، ويسحب مسدسه من جِرابه، لكنه لم يستطع أن يستخدمه، فقد تلقَّى القبطان ضربةً قويةً في فكه أفقدته توازنه. وبحلول الليل، كان جيبسون وثلاثة آخرون من الطاقم رفضوا الانضمام إلى المتمردين قد وُضعوا في قارب، وقد سمح آيفري لهم أن يأخذوا معهم أمتعتهم الشخصية، وزودهم بالماء، والخمر، والخبز الجاف، وأنزلهم إلى المياه.

بهذا بدأ جون آيفري يشق طريقه في عالم القرصنة، وعلى الفور قام بتغيير اسم السفينة، فأصبحت «تشارلز الثاني»، ثم غيَّر مسارها من الغرب إلى الجنوب، بمحاذاة سواحل غرب أفريقيا. وكان من الضروري أن تتزود السفينة إبان إبحارها الطويل باحتياطاتٍ من المواد الغذائية، غير أن آيفري لم يكن يمتلك نقودًا لشرائها؛ ولهذا قرَّر الاستيلاء على إحدى القرى البرتغالية الصغيرة الواقعة في جزر الكناريا، وقد لجأ القراصنة إلى حيلةٍ استهدفوا من ورائها القضاء على الرغبة في المقاومة لدى سكان القرية، بأن قاموا بإطلاق الرصاص في الفضاء محدثين جلبةً شديدة عند هجومهم، ولم يسعوا للجوء إلى العنف، وتجنبوا بمهارةٍ إراقة الدماء، لم يفكر السكان البيض في الجزيرة، الذين أخذوا بغتةً في منتصف الليل في الدفاع عن أنفسهم.

على أن القراصنة لم يجدوا في مخازنِ القرية الصغيرة كميةً كافية من الغذاء. ومن حسن الحظ فقد كان البرتغاليون الذين اجتاحهم الذعر، على قدرٍ كبير من لين العريكة، حتى إنهم اقترحوا بأنفسهم الحصول على الغذاء من النقاط المجاورة، لكن هذا الأمر بدا لآيفري مدعاةً للشك، فطلب منهم تسليم عدد من السكان البارزين باعتبارهم رهائن، شحن آيفري الأغذية التي حصل عليها على المركب، وكذلك الرهائن، ثم خاطب سكان القرية قائلًا: سوف أنتظر المواد الغذائية ثلاثة أيام، وإنَّني أضمن لكم حسن معاملة الرهائن، ولكن ويلٌ لهم إذا لم تحفظوا عهدكم.

نجحت خطة القراصنة، فبعد عدة أيامٍ استطاعوا أن يواصلوا طريقهم بهدوء.

قبل أن يصل آيفري إلى خليج غينيا، نجح في الاستيلاء على ثلاث سفن إنجليزية تحمل شحنةً كبيرة من الحرير، والجذور، والعاج، والمشغولات الذهبية والفضية. وهكذا فقد فاق نشاطه في الأسابيع القليلة الأولى في هذا المجال الجديد، أكثر أحلام شبابه شجاعةً عن مهنة القرصنة.

وصل آيفري بعد رحلةٍ استمرت ثلاثة أسابيع حول رأس الرجاء الصالح إلى مدغشقر على رأس أربع سفن محمَّلة بالغنائم، وقد كان وصوله إلى هناك أمرًا مثيرًا للغاية، فقد كان القراصنة المتقاعدون ينظرون إلى هذا الفتى، الذي استطاع أن يزهو بما حقَّقه من نجاحٍ بأعين تملؤها الغَيرة، وإن كانت هذه النظرات نفسها لا تخلو في ذات الوقت من الاحترام والتقدير. على أن عجوزًا ما، يبدو من سماته أنه كان قرصانًا، لم يستطع أن يقبل بكون الشباب قد انتزعوا منه إكليل الغار، فراح يؤكد في كل مكانٍ أنه سوف يقطع لهذا الجرو أذنيه، ويرغمه على السكوت، وحتى لا يقال عنه: إنه جبان؛ فقد قبِل آيفري الدعوة التي وُجِّهت إليه للقتال بالسيوف.

كان المجد الذي حققه آيفري باعتباره قبطانًا، وكذلك شبابه، والحظ منقطع النظير الذي حالفه من جانب، والشهرة التي كان العجوز يتمتع بها باعتباره قبطانًا لا يُقهر من جانبٍ آخر، من الأمور التي ساعدت على تحوُّل هذه المبارزة إلى عرضٍ مسرحي. كان لفوز جون آيفري في هذه المعركة، أثره في تدعيم مركزه بين قراصنة مدغشقر، لقد أصبح حليفًا له وزنه، وعدوًّا يُخشى بطشه، وراح الجميع الآن يسعون لكسب وده.

عندما عرف آيفري أن أسطول مغول الأكبر٩ يرسو في ميناء موكا العربي الشهير، في انتظار أعيان دلهي العائدين من الحج في مكة، توجَّه إلى البحر الأحمر، واضعًا في حساباته غنيمة من الذهب والنفائس. ظل آيفري بضعة أيام يتربص بالقرب من ميناء موكا، حتى لاح في الأفق أسطول مغول الأكبر المكوَّن من ستِّ سفنٍ كبيرة. هاجم آيفري من وضع الحركة أكبر السفن، وكانت سفينة رائعة ذات شراع، بُنيت في إحدى الترسانات الإنجليزية، ثم أمطرها بوابلٍ من القذائف، وأشعل النيران في شراعها، ثم هاجمها بأسلوب التصادم. وبعد أن قذف بالسفينة العاجزة عن الحركة إلى مصيرٍ مجهول، أسرع القرصان في مطاردة سفن أسطول المسلمين الأخرى.

فجأةً تلبدت السماء بغيومٍ رمادية، وبدأت عاصفةٌ قوية، كانت الأمواج الهائلة تقصف سطح السفينة، أمَّا الظلام الكثيف الذي غطى المكان، فلم يكن ينقشع إلا من حينٍ إلى آخر بواسطة البرق، الذي كان يخطف سناه الأبصار. كان المطر ينهمر شديدًا قويًّا، وساد الذعر سطح السفينة، وغطى دويُّ الريح على صوت القائد.

لم يعد آيفري يفكر في السفينة ذات الشراعين، التي استولى عليها، ولا في كنوز مغول الأكبر، لقد كثَّف جُلَّ جهده للصراع مع الطبيعة. وفي النهاية أخذت العاصفة التي ظلت تعوي طول الليل في الهدوء، وبدا أن الخطر قد زال، ولكن آيفري اكتشف، عندما صحت السماء بعض الشيء، وقد أصابه الرعب، أن سفينته على وشك الاصطدام بصخور الشاطئ. وفي هذه المرة أيضًا، يكون التوفيق والحظ، إلى جانبه، فينجح بطريقةٍ ما في الخروج ﺑ «تشارلز الثاني» من تيه الصخور الكامنة تحت الماء.

كم كانت دهشته بعد أن خرج من منطقة الخطَر، عندما لاحت أمام عينيه السفينة التي استولى عليها بالأمس، تنساب مع المياه! لقد حمل الصباح الجديد لآيفري مفاجأةً أخرى: لم تكن السفينة الشراعية تحمل ذهبًا فقط، فمن بين كوكبة وجهاء البلاط كانت هناك ابنة مغول الأكبر نفسه. كانت الأميرة تبدو منتعشةً، باسمة الوجه، تمامًا كما لو أن أحداث الليلة الماضية لم تكن تعنيها، فاستقبلت آيفري استقبالًا جديرًا بها كسليلة لملوكٍ.

انعقدت بين الفتى والفتاة أواصر صداقة، تحولت على مدى الرحلة الطويلة إلى حبٍّ جارف. وبعد أن وصل آيفري والأميرة الجديدة إلى مدغشقر، أعلنا عن عزمهما الزواج، الأمر الذي أصاب رجال بلاط مغول الأكبر بالاستياء الشديد، لكن آيفري وعد بإطلاق سراحهم، لو وقَّعوا على عقد زواجه على الأميرة بوصفهم شهودًا عليه. ومن عجائب المصادفات أن يكون هناك قس بروتستانتي بين القراصنة، أغراه المال الوفير، فوافق على مباركة هذا الارتباط.

أوفى آيفري بعهده، فأطلق سراح الأَسرى، بل إنه شملهم برعايته حتى تم توصيلهم إلى الهند، إلا أنه بالرغم من حبه الشديد لزوجه، فإن هذا القرصان لم تعترِه أدنى رغبةٍ في أن يعيد إلى حميه سفينته التي استولى عليها، أو النفائس، إذ قرر أن هذه الدوطة١٠ التي حصل عليها ليست كبيرة إلى هذا الحد بالنسبة لابنة إمبراطور. لكن «حماه» قرر أن ينتقم لهذه الإهانة التي تلقَّاها كأبٍ، وكعاهل. وقد أدان ابنته لأنها لم تمتلك الشجاعة الكافية لأن تضع حدًّا لحياتها بالانتحار، بدلًا من استسلامها لغزل القرصان، بالإضافة إلى أنه لم يكن يريد أن يفقد سفينته الشراعية الرائعة، وكنوزه الضائعة. صبَّ الإمبراطور جام غضبه أولًا، وقبل كل شيء، على شركة الهند الشرقية، ثم أعلن أنه سوف يهدم كل مبانيها ومنشآتها الموجودة فوق الأراضي الهندية، إذا لم تسارع الشركة بالقبض على القرصان.

أخذ رؤساء الشركة هذا التهديد مأخذ الجد، فتقرر تخصيص جائزةٍ كبيرة مقابل رأس جون آيفري، إلا أن القرصان العاشق لم يكن يرى في هذا العالم، سوى بيته الذي كانت تزينه الأميرة الحسناء. في الوقت الذي ظلت «تشارلز الثاني» راسيةً في الميناء، وتحوَّل طاقمها إلى رجالٍ فاسدين، لا أمل فيهم، من جرَّاء وجودهم لفترةٍ طويلة على الشاطئ. وفي النهاية قرَّر آيفري الخروج إلى عرض البحر، وإلَّا انهار كل أسطول القرصنة الذي يملكه، إلا أن الحملات التي كان يشنها كانت نادرةً وقصيرة.

استمرت الحياة العاطفية الرغدة بضع سنوات، حتى وصل آيفري في النهاية إلى استنتاجٍ مفادُه أنه أصبح غنيًّا بما فيه الكفاية، وأن بإمكانه أن يبدأ حياةً أُسريَّة هادئة في أي ركنٍ من أركان الأرض، لم تصل إليه أنباء أعماله الإجرامية. رأى آيفري أن زوجه سوف تشعر بالسعادة لو أنه وفَّر لها احترام «المجتمع الراقي»، وابتعد بها عن أجواء القرصنة، فاتجه في عام ١٦٩٦م إلى بوسطن، وقد حمَّل سفينته بكل ثروته، واصطحب معه أقرب الأصدقاء.

وصل آيفري إلى أمريكا تحت اسمٍ مستعار، لكنه لم ينجح في الاختفاء من شكوك المحافظ، الذي لم يكن يُولي المهاجرين ثقته، فلم يكن أمام آيفري إلا أن يلجأ إلى أسلوب الرشوة ليزيل العقَبات من طريقه، ولكنه كان يشعر أن أحواله في أمريكا ليست على ما ينبغي، ربما بسبب حنينه إلى وطنه، سواء كان هذا هو السبب أم أنه كان هناك سبب آخر؛ فقد رحل على الفور إلى شمال أيرلندا، حيث باع سفينته، وودَّع أصدقاءه القدامى، فكان هذا تأكيدًا لقراره الحاسم بهجر حياة القرصنة بلا رجعةٍ.

والآن بعد أن تخلَّى الحظ عن آيفري بعد ما رافقه طويلًا، ومجرد أن حاول استثمار جزء من المجوهرات المسروقة في دبلن، ثارت الشكوك في نفوس التجار تجاهه، فاضطر من جديدٍ إلى تغيير اسمه، ومحل إقامته. وكان انتقاله هذه المرة إلى إنجلترا، حيث ديفون مسقط رأسه. هناك تولى أحد أصدقائه القدامى في منطقة تُدعى بيدفورد، العمل كوسيطٍ له في بيع المجوهرات، إلا أن آيفري هاجم عصابةً من محتالي لندن، كانوا قد دفعوا له عربونًا بعد أن وعدوه بتسديد المبلغ الباقي فيما بعد، وعلى الرغم من تذكيره المتكرر لهم، فإنه لم يتمكن من استرداد ما تبقَّى له لديهم من أموال، لم يكن باستطاعة آيفري اللجوء للقضاء لأسبابٍ غنيَّةٍ عن التفسير. مرت بضعة أعوام تُوفِّي بعدها آيفري في أشد حالات الفقر، لاعنًا تلك الساعة التي قرر فيها أن يعيش حياةً شريفة.

على أن آيفري لم يمت بالنسبة لمَن جاءوا بعده، فها هو دانيال ديفو مؤلف «روبنسون كروزو» يخلِّد اسمه في كتابٍ بعنوان «حياة القبطان الشهير سينجلتون ومغامراته»، الذي على أساسه كتب تشارلز جونسون بعد ذلك كوميديا «القرصان المحظوظ».

قراصنة أصحاب رسالة

وُلد ميسون في منطقة البروفانس المشمسة في جنوب فرنسا، وكان من أسرةٍ كثيرة الأطفال، ولما توسَّم فيه والداه الموهبة، فقد أحسنا تعليمه، حتى أنهى المدرسة الثانوية، وأرسلاه بعدها إلى الأكاديمية العسكرية في مدينة أنجي. قرَّر ميسون — بعد أن أنهى الأكاديمية — أن يصبح بحارًا، فأخذ في تعلم فنون الملاحة البحرية، بنفس الحمية التي تعلم بها باقي العلوم، وعلى الفور حقَّق نجاحًا باهرًا أدهش أساتذته، على أنه في بعض الأحيان، يتحدد مصير الإنسان على نحوٍ غير عادي، فإبان الرسو الطويل للسفينة التي كان يخدم على ظهرها ميسون في خليج نيابوليتان، طلب من القبطان فورين السماح له بالسفر إلى روما؛ ليتسنى له مشاهدة آثار «المدينة الخالدة».

التقى ميسون في روما بشخصٍ كان له تأثيرٌ كبير على نظرته، كان هذا الشخص هو الدومينيكاني كاراتشيولي، الذي أخذ في بسط أفكاره على الفتى، وهو يعرض عليه كنائس وقصور روما، كانت هذه الأفكار في أساسها تتعارض مع مذهب روما الكاثوليكي الأرثوذكسي. تحولت الدهشة التي استمع بها ميسون إلى الأفكار الغريبة لهذا الدومينيكاني، إلى اهتمامٍ عميق بالهواجس الاصطلاحية التي تدور في رأس القس.

كان هذا الفيلسوف الفذ يؤكد أن العقبة الرئيسية أمام تطور العلاقات الأخوية الحقة بين البشر تكمن في وجود النقود … يكفي أن نزيل هذا الاختراع الشيطاني حتى يختفي تقسيم البشرية إلى طبقة تملك، وأخرى لا تملك، كما يختفي أيضًا معها الجشع، أصل كل الشرور. اقترح ميسون — الغر، عديم الخبرة، الذي تحمَّس بكل جدية لهذه الأفكار الطوباوية — على كاراتشيولي أن يترك ملابس الرهبان، ويصبح بحارًا، بعد أن يتطوع للعمل على السفينة «فيكتوار»: «يجب ألا نفترق مطلقًا يا أستاذي العزيز». قالها ميسون باضطراب، وقد اقتنع تمامًا أنهما بالذات قد اختيرا لحمل رسالة حددت لهما دور الحواريين لإيمانٍ جديد، وأنهما جاءا لإنقاذ البشرية.

كان القس سعيدًا؛ لأنه نجح في إدخال أول تلميذ إلى عقيدته، وعبَّر بدوره عن رغبته في ألا يفترقا. لعبت ثروة هذا التلميذ المبتدئ دورًا لا يُستهان بصفتهما دعمًا كبيرًا للدخل المتواضع الذي كان يحصل عليه الدومينيكاني، هكذا بدأت سلسلة المغامرات الخطيرة التي خاضها هذان الرجلان الفريدان، الغريبا الأطوار، اللذان لم يفترقا حتى النَّفَس الأخير.

وسرعان ما أثبت كاراتشيولي أنه يصلح للعمل على ظهر السفينة أكثر مما يصلح لخدمة الله، بعد مرور يومين من مغادرة «فيكتوار» لميناء نابولي، قامت هذه السفينة بالهجوم على سفينة قرصنة مسلحة على نحوٍ جديد. لم يتطرق الخوف إلى قلوب القراصنة من جرَّاء ظهور هذه السفينة الحربية، بل حاولا الاستيلاء عليها. جرى التحامٌ شديد بالأيدي بين الجانبين، سقط على إثره عددٌ كبير من بحارة «فيكتوار»، وقد أظهر ميسون والقس السابق في هذه المعركة شجاعةً فائقة، حتى إن القبطان فورين عُني بأمر نقلهما — كنوعٍ من المكافأة — إلى سفينة المرتزقة الفرنسية «تريومف» المخصصة للهجوم على السفن التجارية الإنجليزية. أثبت ميسون وكاراتشيولي إبان خدمتهما الشاقة في سلك المرتزقة، مقدار ما يتمتعان به من شجاعة، وها هما يعودان مرةً أخرى إلى «فيكتوار» بعد أن نالا مجدًا وشهرةً لا ينالهما إلا المحاربون الصناديد، ليتخذوا طريقهما معها نحو جزر الأنتيل. لم تخمد المآثر الحربية التي اجترحها كل من ميسون وأستاذه من حميتهما لقضية إصلاح العالَم، فراحا ينشران أفكار الحرية، والمساواة، والأخوة، بين أفراد طاقم السفينة، حيث وجدت هذه الأفكار أرضًا خصبةً، وعلى الفور أصبح جميع البحارة — باستثناء الضباط — متورطين في المؤامرة.

أخيرًا قرَّر الفيلسوف البدائي أن يقوم بوضع خططه الطوباوية موضع التنفيذ، فدعا إلى التمرُّد على السفينة بهدف تحويلها إلى جمهوريةٍ صغيرة عائمة، إلى جنين لدولة المستقبل التي تحكمها مبادئ المساواة. كان على مبعوثي هذه العقيدة الجديدة — في رأي القس السابق — أن يطوفوا البحار السبعة؛ لينشروا مذهبهم في أقصى أطراف المعمورة، ولم يكن يعكر صفو الروح المرحة التي سادت الجميع، بعد أن صارت السفينة ملكًا خالصًا لهم، سوى الجدل الذي ثار حول اختيار العلَم. البعض رأى أن يكون لونه أحمر بلون الدم، والبعض الآخر رأى أن يكون أسودَ. أخيرًا احتدم الجدل حتى اتخذ طابعًا عنيفًا، مما حدا بكاراتشيولي أن يتدخل في الأمر قائلًا: إنه ليحزنني ألَّا نتفق فيما بيننا — إننا لسنا بقراصنة، وإنما أناسٌ أحرار، نحارب من أجل حق الإنسان في أن يحيا وفقًا لقوانين الله والطبيعة. إننا نختلف تمام الاختلاف عن القراصنة، غير أننا نبحث مثلهم عن السعادة في البحر؛ ولهذا فإنني أقترح أن نرفع رايةً بيضاء كُتب عليها «في سبيل الله والحرية».

وافق الجميع على اقتراح «الفيلسوف»، أما بقية اليوم فقد قضاه ميسون مع أستاذه في إعداد مشروع دستور الجمهورية الوليدة. في نفس الوقت كانت السفينة — التي سُرقت من الملك — تتأرجح في سَكينةٍ فوق أمواج البحر، ثلاثة وسبعون رجلًا من طاقم السفينة لم يكن يعنيهم كثيرًا هذه الخطط البعيدة لإقامة الجنة على الأرض. كان أهم شيء بالنسبة لها هو أغراضهم الدنيوية. كانوا يلحون في طلب المشروبات الروحية من رؤسائهم. فأقنع كاراتشيولي ميسون أن يجيبهم إلى طلبهم؛ لأنه كان يخشى أن يرفض البحارة تنفيذ خططه، فأجابه ميسون: لا مانع لدي … إن تظهر أية سفينة في مرمى مدافعنا، فسوف نسد حاجاتهم إلى الكحول.

في اليوم التالي مباشرةً، تلتقي «فيكتوار» بسفينةٍ تجارية إنجليزية، فيقفز بحارتها إليها بعد أن أطلقوا نصف دستة من طلقات الإنذار، ويستولون على السفينة الإنجليزية دون مقاومةٍ تُذكر. تعامل المهاجمون مع السفينة بكل وداعةٍ، وبحذرٍ بالغ. اتجه ميسون بعد ذلك إلى الربان، واعتذر إليه لاضطراره أن يأخذ من السفينة ثلاثة براميل من الروم، وعلى الرغم من اكتشافهم لوجود ستة براميل بالمخزن، فإن ميسون تمسك بعهده للربان، فلم يسمح لرجاله أن يأخذوا أكثر من البراميل الثلاثة التي طلبها، والتي تمثل نصف احتياطي السفينة.

في الوقت نفسه، أعلن البروفنسالي الشاب أنه وطاقمه ليسوا بقراصنة، إنما هم رسلٌ لعقيدةٍ جديدة، وما لبِث أن أخذ في عرض المبادئ الأساسية لهذه العقيدة على الإنجليز الذين عقدت الدهشة ألسنتهم، واختتم ميسون حديثه معلنًا أن كل بحارٍ إنجليزي له الحق في الانضمام إلى الطاقم الفرنسي إذا شعر بميلٍ إلى ذلك، انتهز ميسون الفرصة، فقرأ على الإنجليز محاضرةً طويلة شرح فيها العقيدة التي يدين بها أعضاء جمهورية القرصنة العائمة، لم يكن القبطان «بطلر» ليصدق عينيه، لولا أن الشحنة بأكملها، وكذلك خزينة السفينة، وجميع المتعلقات الشخصية لطاقمها، ظلت سليمة لم تُمسَّ، الأمر الذي لم يسمع أحدٌ إطلاقًا أنه يمكن أن يحدث من جانب القراصنة، وسط هذه الملابسات الغريبة، قرر بطلر أن يقابل الإحسان بالإحسان، فجمع طاقمه كله على ظهر السفينة، وصفَّهم في صفين، وأمرهم أن يؤدوا التحية إلى القراصنة، وأعلن القبطان أنه يعتبر ميسون وكاراتشيولي سادةً محترمين بكل معنى الكلمة.

ظل ميسون ورجاله بعد ذلك يسلكون هذا النهج تمامًا كلما احتجزوا سفينة، فكانوا يحتجزون المواد ذات الأهمية القصوى التي يحتاجون إليها بشدة في اللحظة الراهنة وعلى رأسها: المواد الغذائية، المشروبات الكحولية، البارود، والذخائر دون أن تمتدَّ أيديهم إلى الأشياء الأخرى، غير عابئين على الإطلاق بالأموال، والحُلي، والبضائع، ولم يحدث على الإطلاق أن حرموا أطقُم السفن التي هاجموها من المواد الغذائية، بل كانوا «يستعيدون» مالًا لا يزيد عن نصفها. كان هؤلاء القراصنة في غاية الكرم على نحوٍ خاص، فإذا ما دفعتهم الضرورة إلى الرسو على الشاطئ لإصلاح عطبٍ ما ألمَّ بالسفينة، أو لأي سببٍ اضطراري آخر، لم يكونوا يلجئون إلى العنف، أو حتى لمجرد التهديد، وفي كل مكانٍ كان ميسون وكاراتشيولي، يُلقون بعظاتهم، داعين الفقراء للتمرُّد على الظلم وطغيان المال.

أثارت الخُطب الحماسية التي اتسمت بتماسُكٍ شديد، لا يمكن أن يصدر عن قراصنةٍ، جدلًا كبيرًا في صفوف ضحاياهم، نجح ميسون في كبح جماح طاقمه، فقضى على عادة السُّكْر والسباب، وغرس فيهم الشعور بالاحترام المتبادل، والتعامل مع النساء، والشيوخ، والضعفاء، بنبلٍ وفروسية. بالطبع فإن هؤلاء البحارة لم يتحوَّلوا بين عشيةٍ وضُحاها إلى ملائكة، لكنهم بدءُوا في التصرف كما يتصرف ذوو الأخلاق الحميدة، مما جعل كاراتشيولي يعقد آمالًا جادة على إنقاذ أرواحهم. أخيرًا داعب القراصنة الحنين إلى منطقة الأنتيل، فشدوا رحالهم إلى سواحل غرب أفريقيا، وهناك تم لهم الاستيلاء على السفينة الهولندية «نيفستان» التي كانت في طريقها إلى أمستردام. ولما تبين لميسون أن السفينة تحمل بضاعةً حية تتمثل في عبيدٍ سود، جمع رجاله وخَطب فيهم، وقد استبدَّ به الغضب قائلًا: هاكم مثالًا على القوانين والأعراف المخزية التي نحاربها! هل من الممكن أن نجد أمرًا منافيًا للعدالة الإلهية مثلما نجده في المتاجرة بأناسٍ أحياء؟ هل من الممكن أن يُباع هؤلاء التعساء كما لو كانوا قطيعًا من الماشية، لمجرد أن لون بشرتهم يختلف عن لون بشرتنا؟ إن هؤلاء اللصوص الذين يتكسَّبون من وراء تجارة الرقيق لا روحٍ لهم ولا قلب. إنهم يستحقون العذاب الأبدي في نار جهنم، إننا ننادي بالمساواة بين البشر جميعًا بلا استثناء. وعلى هذا، وبِناءً على ما نؤمن به من أفكار، أُعلِن أن هؤلاء الأفارقة أحرار، وأدعوكم جميعًا يا إخوتي أن تعلِّموهم لغتنا، وديننا، وعاداتنا، وفنون الملاحة البحرية، حتى يتمكَّنوا من كسب قوتهم من عملٍ شريف، ويتمكنوا من الدفاع عن حقوقهم الإنسانية.

ما إن انتهى ميسون من خطبته، حتى دوت الأصوات في وئام: عاش القبطان ميسون.

لم يفهم البحارة الهولنديون لفظًا واحدًا من الخطاب الذي ألقاه ميسون، ومن ثَم ظلوا يحملقون،١١ وقد أخذتهم الدهشة في هذه المظاهرة. على أنهم وقد أدركوا الحالة النفسية التي عليها رجال ميسون، طلبوا في دهاءٍ أن يسمح لهم بالانضمام إليهم، فأجيب طلبهم بشرط الخضوع التام لقواعد الجمهورية العائمة.

انتزعت القيود والأصفاد عن الرقيق الأسود، وأُعطيت لهم الملابس التي أحضرها التجار لبيعها، فارتدوها، ثم جثا الأفارقة على ركبهم أمام محرريهم اعترافًا بفضلهم عليهم. وما هي إلا أيامٌ معدودة حتى كان على ميسون أن يعض إصبع الندم؛ لأنه وافق على قبول غرباء وسط جماعته، فإذا كان الأفارقة يتميزون بالوداعة والطاعة محاولين كسب رضا محرريهم، فإن الأمر كان مختلفًا بالنسبة للهولنديين، الذين سرعان ما أخذوا يخلقون المتاعب. لقد بدءوا في إفساد طاقم «فيكتوار» بالسُّكر والسباب وأنواع السلوك المنحط الأخرى.

لم يكن أمام ميسون، والحال على هذا النحو، إلا أن يتوجه إلى معلمه طلبًا للنصيحة التي تضيء له الطريق، بعد أن اقترح إنزال الهولنديين عند أقرب شاطئ. غير أن كاراتشيولي، الذي كان متحمسًا لدعوته، رأى أن على الجماعة أن تبذل قصارى جهدها، وأن تعمل على إصلاح حال الهولنديين … هذا ما اتفقنا عليه.

جمع ميسون الفرنسيين والهولنديين جميعهم، وقد حزم أمره على أن يُعيد تربية هؤلاء الجدد، فقرأ عليهم موعظةً طويلة، حذَّرهم فيها أن وجود الجمهورية العائمة وأمنها سوف يتعرضان للخطر، إذا لم يغير الطاقم من سلوكه. وفي ختام كلمته أعلن ميسون أنه من الآن فصاعدًا، سوف يعاقب كل بحَّار يخرج عن طاعة الله بخمسين جلدةً. لقد شعر ميسون بمرارة الإحباط بعد أن اقتنع أن التهديد وحده هو الذي أفلح في تحقيق النتائج التي لم تفلح في إحرازها الطيبة والتسامح. الآن فقط أصبح الهولنديون يطيعونه ويحترمونه، ويسمونه ﺑ «القبطان الطيب». في الوقت نفسه أخذت آراء معلمه كاراتشيولي تأخذ منحنًى آخر. ها هو يعلن أنه في المرحلة الأولى من عملية إنقاذ البرية، لن يمكن — مؤقتًا — التخلي عن النقود تمامًا، وأنه سوف يتحتم التعامل معها باعتبارها شرًّا لا بد منه، بل إنه أعلن أن النقود يمكن أن تكون وسيلةً مفيدة لتحقيق نياتنا الحسنة. نتيجة لذلك اعترف بأن من المستحب جمع المال، وأقنع ميسون بأن يتخلى عن تحفُّظه القديم، وألا يستخف أكثر من ذلك بالكنوز التي تنقلها السفن. أخذ القبطان نيات معلمه بحسن نية، فالرجل قد أعلن أنه سوف يصبح بإمكانهم إقامة جمهورية ديمقراطية على الأرض، بعد أن يجمعوا المصادر المالية الضرورية.

وهكذا عاد ميسون ليصبح لصًّا بحريًّا، وإن كانت الأمانة تقتضينا أن نقول هنا إنه كان أكثرهم إنسانيةً وعطفًا، فعندما كان رجاله يستولون على أية سفينة غريبة، كانوا يتجنبون استخدام العنف الذي لا مبرر له، كما أنه لم يكونوا يتعاملون بقسوةٍ وغلظة مع طاقمها، ناهيك عن أنهم كانوا يُقدمون العون الضروري للجرحى والمرضى، وعندما كان يتبين لهم أن السفينة التي أخذوها لأناسٍ متوسطي الحال يعيشون من كدِّهم — كالصيادين على سبيل المثال — كان ميسون يتركهم لحال سبيلهم، دون أن يأخذ منهم شيئًا، بل كان يعتذر لهم عما أحدثه من اضطراب، وفي المقابل لم يكن ليرحم الأغنياء، فكان يستولي على كل ما تطوله يداه.

لسنواتٍ عدة ظلت جزيرة أنجوان (إحدى جزر القمر)، هي القاعدة الرئيسية التي ينطلق منها ميسون في حملاته للقرصنة في المحيط الهندي. هنا بالتحديد قرَّر أن يؤسِّس جمهوريته، حاول ميسون أن يكتسب ثقة أهل الجزيرة، فسعى إلى استمالتهم إليه، وقد نصحه كاراتشيولي أن يتزوج من ابنة زعيمهم. الفكرة على أية حال ليست مبتكرة، ولكنها مبشِّرة بالنجاح. على أنه لم تَرُق ابنة الزعيم لميسون، فقد تزوَّج من أخت الزعيم نفسه، وهي شابة تتمتع بالجمال. تم الزفاف في جوٍّ من الأبهة والفخامة، ثم ما لبث عددٌ كبيرٌ من الطاقم أن حذوا حذو رئيسهم، فتزوجوا من فتيات الجزيرة.

لكن خطط إقامة الجمهورية على أرض هذه الجزيرة اصطدمت بالعديد من المصاعب والعقبات؛ إذ كان السكان شديدي الارتباط بدينهم وعاداتهم القديمة، ولم يفهم ملك الجزيرة ولا زعماؤها معنى الاصطلاحات التي جاء بها الأغراب إليهم، بالإضافة إلى أنهم لم تكن لديهم أدنى رغبة في التنازل عن المزايا الإقطاعية التي كانوا يتمتعون بها. أخيرًا فقدَ الزعيم صبره، فاستهان بعلاقات النسب مع ميسون، وبدأ يهدده بالحرب إذا لم يتخلَّ عن أفكاره الإصلاحية. استسلم القراصنة لليأس، فحملوا زجاجاتهم، وأطفالهم، وممتلكاتهم، على ظهر سفينتهم، وأبحروا إلى مدغشقر، حيث أقاموا في أحد خلجان الساحل الشرقي للجزيرة متجنِّبين بذلك الاتصال بالقراصنة الآخرين الذين كانوا يحتلون الجانب الغربي من الساحل. كان رجال ميسون يأملون أن يحققوا هنا حلمهم، وقد عاملهم أهالي مدغشقر بكل ترحاب. بعد نزول ميسون وكاراتشيولي إلى الشاطئ، وقد صاحبتهما مراسمُ احتفالية مهيبة، أعلنا على الفور قيام جمهوريتهما المثالية التي أسماها «ليبرتاليا».١٢

وخلافًا لمخاوف الصديقين من أن يعوق مزاج المغامرات الذي طُبع عليه القراصنة في أن يعتادوا حياة الدعة والاستقرار، فإن هؤلاء ما لبثوا أن باشروا العمل بسرعة، وعن طيب خاطر، وأظهروا انضباطًا تغبطهم عليه كثيرٌ من المنظمات الحكومية في ذلك الزمان. وبفضل ما تمتعوا به من حبٍّ للعمل، استطاع مواطنو ليبرتاليا أن يبنوا في وقتٍ قصير بلدةً صغيرة تضم مباني سكنية مريحة، وأخرى للأغراض الاقتصادية، بل إنهم أنشئوا أيضًا تحصينات قوية تتيح لهم الدفاع عنها من الهجوم والمطاردة؛ إذ إن سكان ليبرتاليا لم ينقطعوا عن مهنة القرصنة المربحة على الرغم من أفكارها السامية، وحتى يؤمِّنوا ظهورهم، فقد عقدوا حلفًا مع القبيلة المحلية، على أن يدافعوا عنها ضد القبائل الأخرى، وضد الأوروبيين، في مقابل الأيدي العاملة، والمساعدة المسلحة.

كانت الجمهورية تُحكم بواسطة مجلس يرأسه ميسون الذي حمل لقب «الحامي»، كان هذا المنصب يتم شغله بالانتخاب لمدة ثلاث سنوات. لم تكن الجمهورية تعترف بالملكية الخاصة. بالطبع كانت هناك خزانةٌ عامة، ولكنها كانت تُستخدم فقط لإشباع حاجات ومواطني الجمهورية. وكانت البضائع التي يتم الحصول عليها، تقسَّم طبقًا لمبادئ محددة، بحيث يتمتع الأوروبيون والسكان المحليون بحقوقٍ متساوية. لم تكن هناك أية مكافآت خاصة تُمنح مقابل العمل؛ لأنه كان يُعتبر واجبًا على كل مواطن. أما كاراتشيولي — الذي قام بكتابة دستور الجمهورية — فقد اختير وزيرًا للدولة، كما شغل القبطان تيو، القرصان الإنجليزي الشهير الذي انضم بطاقمه إلى جماعة المواطنين الأحرار، فقد تولى منصب القائد الأعلى للأسطول.

بمرور الزمن، انضم إلى الجمهورية — فضلًا عن الإنجليز — بحارةٌ كثيرون من أجناسٍ أربعة لتصبح جمهورية القراصنة أشبه ببرج بابل،١٣ وأصبح التفاهم هنا يتم بأربع لغات: الفرنسية، والإنجليزية، والهولندية، والبرتغالية، ناهيك عن عددٍ كامل من اللهجات المحلية. في الوقت نفسه لجأ ميسون إلى توسيع حدود جمهوريته من أجل تحقيق مخططاته، وفي البداية راح يكتشف ساحل مدغشقر، فطاف حول الجزيرة على ظهر السفينتين «أنفاس» و«ليبرتي»، اللتين تم صنعهما في الترسانات الخاصة بالجمهورية، وعكف على وضع خارطةٍ مفصَّلة للمياه المتاخمة للجزيرة، إبان عملية رسمه للخرائط كان يحرر العبيد، ويأتي بهم إلى ليبرتاليا.

ازدهرت ليبرتاليا، وانقسمت الجماعة إلى فريقين: فريقٌ يعمل مباشرةً في القرصنة، والآخر — وهو يرتبط رسميًّا وماديًّا بالأول — يعطي جهده لأعمال الزراعة ورعاية الماشية والعمل بالحِرف، لكن الكارثة حلَّت بغتةً، لقد شنَّت القبائل الموجودة بالمناطق الداخلية للجزيرة، والتي كانت تعيش في فقرٍ مدقع هجومًا على البلدة الغنية الواقعة على البحر، فقتلت أعدادًا كبيرة من السكان، وفرَّ جزءٌ من السكان إلى البحر طالبين النجاة بحياتهم مستقلِّين السفن، لكنهم ما كادوا ينجحون في الفرار من الموت على الأرض، حتى أصبحوا فريسةً لمصائب الطبيعة في البحر، حيث وقعوا في قلب الإعصار ذاته، وهكذا استقرت في القاع أحلام ميسون وكاراتشيولي وطاقمهم في إنقاذ العالَم، وبناء الجنة على الأرض!

ساحل القراصنة

كان الساحل الواقع شرقي شبه الجزيرة العربية والبالغ امتداده ما يزيد عن مائتي كيلو متر يُسمى بساحل القراصنة، وترجع هذه التسمية إلى المستوطنات التي أقامها القراصنة هناك، والتي لم تجرِ إزالتها إلا في مطلع القرن الماضي.

لقد اعتُبر الخليج الفارسي منذ أقدم العصور بأنه مهد للملاحة البحرية، هنا وجدت واحدة من أقدم الطرق التجارية التي ربطت بين الشرق والغرب، حيث تركزت فيه — لسنواتٍ طويلة — تجارة الصين، والهند، من ناحيةٍ، وأوروبا وأفريقيا من ناحيةٍ أخرى في أيدي سكان شبه الجزيرة العربية، وقد ورد ذكر هذه التجارة التي استمرت خمسة آلاف سنة، أول ما وردت، على حوائط نينوى، وبابل. عمل العرب الذين عاشوا على ساحل الخليجين الفارسي والعُماني أولًا بالصيد واستخراج اللؤلؤ، وبمرور الوقت أخذوا في تطوير مراكبهم المسماة بالباركات، فأدخلوا التعديلات على أشرعتها، وزادوا من أحجامها، لينتقلوا بعد ذلك إلى النقل البحري الذي يُدرُّ عليهم أرباحًا أكثر.

وقد مارس عرب مسقط التجارة مع عددٍ من البلاد، مثل: الصين، وسيام، وجاوه، وسومطرة، منذ القرن التاسع الميلادي، فكانوا يحملون التوابل، والعطور الشرقية، والحرير، والأقمشة الأخرى الغالية الثمن، بحرًا إلى موانئ الخليج الفارسي. كان سكان عمان على وجه التحديد هم الذين تولوا مدَّ المصرين القدماء باحتياجاتهم من المر، والزيوت العطرية الضرورية لعمليات تحنيط الموتى. أما البضائع المجلوبة من الشرق والمتجهة إلى موانئ الخليج الفارسي، فكانت تنقل شمالًا عبر نهر الفرات وحتى بابل نفسها، ثم تحملها الجمال عبر الصحارى حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث تُنقل عبره إلى المدن الغنية في أوروبا، وكانت المرحلة الأخيرة من هذه الرحلة الطويلة من اختصاص الفينيقيين، الذين كانوا يجنون من وراء عملهم بالوساطة أرباحًا هائلة، لم يدخل البحر الأحمر كمنافسٍ ناجح للخليج الفارسي إلا بعد خمسمائة سنة تقريبًا.

لقد ارتبطت التجارة والملاحة البحرية في منطقة الخليج الفارسي ارتباطًا وثيقًا في تلك العصور بالقرصنة. آنذاك كانت هناك بضع قبائل من سكان الجزيرة العربية قد استوطنت شاطئ القراصنة، لكن قبيلة واحدة من بينها — وهي قبيلة القواسم الكبيرة العدد — هي التي كانت تعمل أساسًا بالقرصنة، وهذه القبيلة لم يكن الأوروبيون يعرفون عنها شيئًا حتى ذلك الحين، إلى أن عبرت السفن البرتغالية في القرن السادس عشر مضيق هرمز الواقع على الخليج الفارسي.

يتميز شاطئ القراصنة بكونه متعرجًا، الأمر الذي ساعد على أن تتحول الخلجان والخور العديد إلى مخابئ وأوكار مثالية للسفن. كانت مدينة رأس الخيمة عاصمة قبيلة القواسم أحد آخر معاقل تجارة الرقيق في العالم، بل إنها كانت تمثل سوقًا مفتوحًا لتجارة البشر عند نهاية القرن التاسع عشر، وبانتقال طريق التجارة الرئيسي من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر، أخذ نشاط القواسم في القرصنة البحرية يتراجع تدريجيًّا، على أن ظهور المستعمرين الأوروبيين بعث القرصنة من جديد في هذا الإقليم، في عام ١٧٦٣م تأسست شركة الهند الشرقية في ميناء بوشير،١٤ فمكَّنت الأوروبيين من احتكار التجارة في منطقة الخليج الفارسي، الأمر الذي أفقد تجار الجزيرة العربية مصادر دخلهم، عندئذٍ بدأ هؤلاء في ممارسة التجارة الممنوعة والتهريب اللذين تحوَّلا إلى قرصنةٍ صريحة، كان لها تقاليد عريقة في هذا الإقليم، استمرت عدة قرون، كانت المرة الأولى التي مارست فيها قبيلة القواسم نشاطها في القرصنة على نطاقٍ واسع في ديسمبر عام ١٧٧٨م، عندما هاجمت ست باركات تابعة لهم سفينة إنجليزية، كانت تحمل بريدًا حكوميًّا من المستعمرات إلى إنجلترا عبر الخليج الفارسي. بعد معركةٍ شرسة استمرت ثلاثة أيام، استطاع قراصنة الجزيرة العربية الاستيلاء على السفينة واقتادوها إلى رأس الخيمة، فلما أدار رءوسهم هذا النجاح عادوا في العام الذي تلاه، فهاجموا سفينتين إنجليزيتين أخريين. وفي أكتوبر ١٧٩٧م توَّج القراصنة نشاطهم الطويل بهجومٍ سافر، لا على سفينةٍ تجارية مجردة من السلاح هذه المرة، وإنما على السفينة الإنجليزية «فايبر» إحدى سفن الأسطول الحربي، وكانت راسيةً في ميناء بوشير. كان القراصنة على وشك الاستيلاء على هذه السفينة؛ نتيجة للإهمال الجسيم الذي ارتكبه الوكيل المحلي لشركة الهند الشرقية، الذي قام — بِناءً على طلب قائد أسطول قبيلة القواسم بتوصية القبطان كيروزيرس قبطان السفينة فايبر — ببيع البارود وقذائف المدفعية للقراصنة.

وما إن وصلت براميل البارود إلى سفينة القراصنة، حتى سارعوا بعدها بفتح نيران مدفعيتهم على السفينة الإنجليزية، في الوقت الذي كان طاقمها بأكمله يتناول طعام الإفطار في اطمئنانٍ كامل. على أن البحارة الإنجليز سارعوا على الفور بالصعود إلى سطح السفينة، ثم قاموا بفكِّ حبالها، وانطلقوا بها إلى البحر، ثم اشتبكوا في القتال. كان أول من سقط في هذه المعركة البحرية الشرسة هو القبطان كيروزيرس نفسه، فعندما جرحت صدغه شظيةٌ، أخذ يحاول إيقاف النزيف الذي أصابه بمنديل يده، وبقي صامدًا في موقعه حتى باغتته شظيةٌ ثانية هشَّمت رأسه. من بين خمسة وستين من أفراد طاقم «فايبر»، سقط اثنان وثلاثون بحارًا بين قتيلٍ وجريح.

وفي نهاية القرن الثامن عشر، يترك أبناء الشيخ جابر عتبة الأربعة من أهالي البحرين وطنهم، ليجوبوا مياه الخليج الفارسي على سفينتهم عدة سنوات، استقروا بعدها بالقرب من خليج يُسمى خور حسن، حيث كوَّنوا عصابات للقرصنة وترأسوها. وفي تلك الفترة لم تكن الدولتان المتنافستان: تركيا، وفارس، تمتلكان أساطيل قوية في هذه المنطقة تمكنهما من تصفية القرصنة العربية التي كانت قواعدها ترتكز في جزيرة قيس (منذ عام ١٨٠٥م)، وكذلك في رأس الخيمة.

كان سلطان عُمان النشيط الذي ظل فترةً طويلة يقاوم لصوص البحر من أبناء قبيلة القواسم، هو واحدًا من أعدى أعداء القراصنة في شبه الجزيرة العربية. وفي سبتمبر عام ١٨٠٤م جهَّز سلطان عُمان حملةً لمحاربة القراصنة، بعدما بلغ به الغضب أشدَّه نتيجة الهجوم المتكرِّر على شواطئ سلطنته. وتوجه السلطان على ظهر سفينة عربية صغيرة إلى باسيدا، حيث قرر التسلل من هناك إلى وكر القراصنة برًّا، وبحيث يتحرك أسطوله في نفس الوقت ببطء متابعًا إياه بمحاذاة الساحل، لكن هذه الخطة المفتقدة إلى الحصافة كلَّفته ثمنًا غاليًا، فقد خرجت له بغتةً من إحدى الخلجان الصغيرة ثلاثة زوارق مليئة بالقراصنة، وبعد معركةٍ لم تدُم طويلًا سقط السلطان ورجاله قتلى.

كان لموت السلطان أثره في تهدئة القراصنة من قبيلة القواسم الذين قاموا بشن عدد من الهجمات الجريئة على السفن الإنجليزية. وكان الوحيد الذي استطاع إقناع الحكومة الإنجليزية بتنظيم حملةٍ تأديبية ضد القواسم القبطان ديفيد سيتون، الذي كان يعيش في مسقط. قاد سيتون بنفسه أسطول الجزيرة العربية، وشنَّ هجومًا مباغتًا على جزيرة قيس. وفي السادس من فبراير عام ١٨٠٦م، وبعد مباحثاتٍ طويلة مع قوات الاحتلال البريطاني في بومباي، تم عقد اتفاقية مع القواسم في بندر عباس، التزم القراصنة بموجبها بإعادة السفن الإنجليزية التي كانوا قد استولى عليها، ودفع التعويضات، وعدم التعرُّض بعد ذلك للملاحة البحرية الإنجليزية، وفي الوقت نفسه سُمح لهم بدورهم بالتجارة مع القراصنة الإنجليز، في المنطقة الواقعة بين سوارت والبنغال.

على أن الإنجليز ما لبِثوا أن عرفوا على الفور الثمن الحقيقي لعقد اتفاقات مع القراصنة، لقد هاجمت أربع باركات تابعة للقراصنة سفينةً إنجليزية تتبع شركة الهند الشرقية بعد الاتفاق مباشرة. وبمضي الوقت لم يعد العرب يخشون السفن الحربية الإنجليزية، حتى إنهم راحوا يهاجمونها بكل وقاحة بعد أن حالفهم النجاح في عملياتهم. وفي أبريل من عام ١٨٠٨م شنَّ القراصنة هجومًا على السفينة الإنجليزية «فيوري»، وحاولوا الاستيلاء عليها بطريقة الهجوم بالمصادمة. كان كل تسليح «فيوري» يتمثَّل في ستة مدافع مما جعلها تبدو لهم غنيمةً سهلة، إلا أن قائدها الملازم جوين أعطى اللصوص درسًا لا بأس به.

وفي العام نفسه عاد القراصنة ليهاجموا السفينة الإنجليزية «سليف»، التي كانت في طريق عودتها من بوشير تحرسها سفينتان حربيتان، كان على ظهر إحداهما السير بريدجيس، الذي تم تعينه سفيرًا في إنجلترا لدى فارس. وإذا بالسفينة «سليف» التي كانت تسير متأخرةً قليلًا عن السفينتين الأخريين تجد نفسها فجأةً محاصرة بباركات القراصنة. التزم قبطان السفينة الملازم جريم بكل دقةٍ بتعليمات سلطات بومباي، فلم يفتح النار إلا عندما اقتربت الباركات العربية من سطح السفينة، لكن الوقت كان قد تأخر لاتخاذ أي قرار. أباد القراصنة طاقم السفينة المغتصبة بأكمله، والذي بلغ عدد أفراده اثنين وعشرين رجلًا. أما جريم فقد أفلت من الموت، فبعد أن أُصيب بجرحٍ بالغ في القتال المتلاحم، نجح في خضم الفوضى السائدة أن يسقط في إحدى الفتحات دون أن يلحظه أحد. اتجه القراصنة صوب رأس الخيمة، على أنهم التقوا في طريقهم بالفرقاطة الإنجليزية «نيدييد» التي نجحت في استعادة جريم وسفينته.

وفي العام ١٨٠٨م نفسه وقع واحدٌ من أغرب الصدمات بين الإنجليز والقواسم، فقد وقعت البارجة «فلاي» التابعة لشركة الهند الشرقية، والمجهزة بأربعة عشر مدفعًا إبان وجودها في مياه جزيرة قيس في أيدي القرصان الفرنسي الشهير القبطان ليميم، الذي كان مبحرًا على ظهر السفينة «فورتون». على أنه وقبل أن يستولي العدو على البارجة، ألقى قائدها القبطان ماينورانج بالبريد الدبلوماسي، والوثائق، وخزانة السفينة في البحر بعد أن حدد المكان على الخارطة، حتى يعود إليه في أقرب فرصة تلوح له؛ ليستخرج هذه الأشياء الثمينة. اقتيد ماينورانج واثنان من الضباط إلى جزيرة موريشيوس، بينما أُطلق سراح باقي أفراد الطاقم في بوشير. ولما كان الضباط الذين نجوا، والموجودون في بوشير يعلمون أن البريد الدبلوماسي القادم من إنجلترا، والذي كان على ظهر البارجة، له أهمية سياسية فائقة، فقد اشتروا قاربًا كبيرًا، وقاموا على تسليحه، ثم أبحروا به في محاذاة ساحل الخليج باتجاه بومباي.

بعد جهودٍ طويلة نجحوا في انتشال البريد الغارق، على أنهم التقوا عند أحد المضايق المؤدية إلى الخليج الفارسي بسفن القراصنة، مما اضطرهم للدخول معهم في معركةٍ حامية الوطيس، كان للقراصنة التفوُّق العددي، ومن ثَم تم أَسرهم واقتيادهم إلى رأس الخيمة، حيث أُلقي بهم في السجون أملًا في الحصول من ورائهم على فديةٍ كبيرة؛ لكن شهورًا عدة مضت دون أن يتقدم أحدٌ بالفدية. عندئذٍ قرر القراصنة التخلص من هَمِّ هؤلاء المساجين. هنا أخبر الإنجليز المحكوم عليهم بالموت زعيم القراصنة أنهم قد أغرقوا في مياه جزيرة قيس كنزًا، باستطاعتهم أن يستخرجوه بواسطة غواصين مهرة إذا أطلق سراحهم بالطبع. وقد وافق اللصوص، ما إن وصل القراصنة إلى المكان الذي حدَّده الإنجليز، حتى أخذوا في الغوص في المياه واحدًا بعد الآخر طمعًا في الحصول على الغنيمة. وفي لحظةٍ ما، بدا أن السفينة الراسية قد خلت تمامًا، فقرر الإنجليز أن الفرصة قد سنَحت لهم للهرب، غير أن القراصنة الذين يسبحون حول السفينة لاحظوا السلوك الغريب من جانب أَسراهم فعادوا إليها، ومنعوهم من الاستيلاء عليها.

على الرغم من هذا الحادث، فقد أوفى القراصنة بعهدهم، فأطلقوا سراح الأسرى بعد أن تمكنوا من العثور على الأموال من خزانة السفينة الإنجليزية. واتخذ الإنجليز مسارهم بمحاذاة الساحل في طريقهم إلى بوشير سيرًا على الأقدام. كان الطريق في غاية الصعوبة، كما أنهم لم يكونوا على علمٍ بلغة السكان. والآن، وبعد أن قايضوا كل ملابسهم بالماء والطعام، باتوا يواجهون الموت جوعًا وعطشًا. اثنان فقط استطاعوا الوصول إلى بوشير: الضابط جوليو، والبحار ببنيل، لكنهما ما إن وصلا في النهاية إلى بومباي ومعهما البريد الدبلوماسي القيم، الذي بذلا من أجل إنقاذه كل هذا الجهد؛ إذ بهما يُقابَلان بكل برودٍ وغطرسة من جانب المحافظ وانكين، وذلك بدلًا من كلمات الشكر والترحاب.

ومع مطلع القرن التاسع عشر كانت القرصنة قد انتشرت في مياه الخليج الفارسي، إلى حد أنها تسببت في انهيار التجارة والملاحة البحرية في هذه المنطقة تقريبًا. عندئذٍ، قررت شركة الهند الشرقية، التي كانت مصالحها قد أضيرت، أن تأخذ على عاتقها محاربة القراصنة على نحوٍ مستقل. فقامت — مستخدمةً ما لها من نفوذٍ كبير — في تنظيم ثلاث حملات ضدهم. قامت الشركة بحملتها الأولى في عام ١٨٠٦م، تلَتْها حملتان عامي ١٨٠٩ و١٨١٠م.

في عام ١٨٠٩م أعدَّ القواسم أسطولًا قوامه ثلاث وثلاثون سفينة ضخمة (بلغ عدد الطاقم العامل على بعضها ثلاثمائة شخص، بينما تراوح تسليح الوحدة منها ما بين أربعين إلى خمسين مدفعًا)، إلى جانب ثمانمائة وعشرة من المراكب أقل حجمًا، بلغ إجمالي بحارتها تسعة عشر ألف شخص. في مواجهة هذا الأسطول جهزت السلطات في بومباي في سبتمبر من عام ١٨٠٩م أسطولًا مكونًا من ثماني عشرة سفينةً، قرر قائد الحملة العقيد لايوتبل سميث، بعد أن طالت مماطلة حكومة فارس في الرد على ما اقترحه الإنجيلز عليها بخصوص الانضمام لهم في العمليات ضد القراصنة، قرَّر التوجه إلى مسقط، حيث طلب مساعدة اثنين من شيوخ عُمان. وفي الحادي عشر من نوفمبر وصلت السفن إلى المكان المحدد، ألا وهو رأس الخيمة عاصمة قبيلة القواسم. استولت الوحدات العسكرية التي أُنزلت على شاطئ المدينة، وكذلك المواقع الحصينة بها، وقد سمح سميث لجنوده أن ينهبوا ما شاءوا، وأن يحرقوا البلدة. تم تدمير ما يقرب من ستين سفينةً كانت راسيةً في الميناء، وقتل ثلاثة آلاف شخص، وتم أَسر ألف آخرين. انتهت الحملة بتدمير مائة وعشرين سفينة من سفن القراصنة وإغراقها، ثم اتجهت بعد ذلك النصر الذي حققته إلى وكر القراصنة الثاني من ناحية الحجم الواقع في ميناء شفاس لتُعمل فيه التدمير على النحو السابق. في هذا الوقت قام الأسطول الفارسي — الذي انضم إلى الحملة — بمطاردة قراصنة القواسم الذين فروا من باسيدا.

نقل قراصنة القواسم نشاطهم إلى البحر الأحمر، واستطاعوا بالفعل أن يوقفوا الملاحة بين الهند وميناء موكا، واستطاعوا في عام ١٨١٦م أن يستولوا على أربعة سفن تحمل بضائع ثمينة للغاية، مما دفع سلطات بومباي أن تطالب الشيخ حسن، شيخ رأس الخيمة، أن يدفع لها التعويضات المناسبة، لكن الشيخ لم يكتفِ بالرفض، بل طالب أن يُعطى له حق الاستيلاء على السفن الهندية.

في السنوات التالية قام القواسم ببث الذعر على امتداد الساحل الهندي مهاجمين سفن الملاحة الساحلية التي كانت تسير على مسافةٍ لا تبعد عن بومباي بأكثر من سبعين ميلًا. كان عام ١٨١٧م هو العام الذي سجَّل فيه القراصنة رقمًا قياسيًّا في الاستيلاء على الغنائم، آنذاك كان أسطول القراصنة العرب مكونًا من أربع وستين سفينة كبيرة، إلى جانب عددٍ هائل من الباركات، يعمل على ظهورها نحو سبعة آلاف قرصان.

قرر الإنجليز — بعد أن بلغ السيل بهم الزُّبى — أن يضعوا حدًّا للنهب البحري في الخليج الفارسي إلى الأبد، فتولى السير وجرانت كاير قيادة العمليات، فوُضعت تحت تصرفه سفينتان حربيتان كبيرتان؛ «ليفربول» ذات المدافع الخمسين، و«إيدن» ذات الستة والعشرين مدفعًا، أضف إلى ذلك ست سفن مرافقة، بلغت قوة الحملة ألفًا وستمائة جندي أوروبي، وألفًا وأربعمائة من الأهالي، كما استعانت الحملة الإنجليزية بدعمٍ تمثل في ثلاث سفن من مسقط، وأربعة آلاف جندي عربي، دفع بهم السيد سعيد ملك عُمان الذي تحالف مع الإنجليز ضد القراصنة.

في عام ١٨١٩م وضعت الحملة، وإلى الأبد، خاتمةً للقرصنة في هذه المنطقة، وفي الثامن من يناير عام ١٨٢٠م سارعت معظم القبائل العربية — خوفًا من أن تواجه مصير قراصنة القواسم — بتوقيع معاهدة كان قد تم إعداد نصِّها، عُرفت باسم المعاهدة العامة General Treaty، أقر بموجبها «السلام الوطيد بين الحكومة البريطانية والقبائل العربية». كان الهدف الرسمي للاتفاقية هو النضال المشترك ضد القراصنة، وضد تجار الرقيق في منطقة الخليج الفارسي، وفي الواقع كشفت هذه المعاهدة السياسية الاستعمارية لبريطانيا، التي كانت تسعى لإخضاع الدويلات العربية الساحلية لسلطانها. لقد وضعت معاهدة ١٨٢٠م نهاية القرصنة، إلى جانب أنها محت أيضًا استقلال دول الخليج الفارسي، وأصبحت هي الحلقة الأولى في سلسلةٍ كاملة من المعاهدات التي أخضعت هذه الدول لبريطانيا.
في عام ١٨٣٥م عاد الإنجليز من جديدٍ، فأرغموا الشيوخ العرب على توقيع معاهدة تقضي هذه المرة بعقد هدنة بحرية Maritime Truce، وهكذا تغير اسم ساحل القراصنة، ليصبح ساحل المعاهدة Trucial Coast. لقد تجددت المعاهدة الخاصة بالهدنة البحرية عدة مرات، حتى جعلها الإنجليز في عام ١٨٥٣م هدنةً خالدة، بل إنه حتى هذا الشكل من أشكال إخضاع ساحل شبه الجزيرة العربية، بدا لهم إجراء غير كافٍ. وما برحوا يفرضون على الدول العربية الواقعة على الساحلين الشرقي والغربي حمايتهم، على سبيل المثال: كان على شيخ البحرين — بناءً على البنود الواردة في المعاهدة المبرمة عام ١٨٦١م — أن «يستأصل شأفة الحرب والقرصنة والرق» مقابل «الوصاية» التي تفرضها عليها بريطانيا.
في مقابل تمثيل شركة الهند الشرقية في بوشير — وهو التمثيل الذي فقدَ في الواقع طابعه التجاري — أنشئ منصب المندوب السامي البريطاني، الذي كان يمثل المصالح الرسمية لبريطانيا، في علاقتها مع الحكَّام العرب الواقعين تحت حمايتها. على الرغم من احتجاج كلٍّ من تركيا وفارس، فقد استقرت الهيمنة المطلقة للإنجليز على مياه الخليج الفارسي، ولم يعد للقراصنة فيه أي نشاطٍ، أي ساد فيه «السلام البريطاني» وpaks Pritanica.
١  سيوان صن (حوالي ٦٠٠–٦٦٤م): رحالةٌ صيني، راهبٌ بوذين قام في الفترة من ٦٢٩–٦٤٥م برحلةٍ إلى آسيا الوسطى والهند.
٢  خارشا (حوالي ٥٨٧–٦٤٧م): حاكم إحدى الدول التي كانت تقع عند منابع نهر الجانج منذ عام ٦٠٦م، وقد توسعت هذه الدولة فيما بعد على حساب الأقاليم التي غزتها (وعلى الاخص بيخار والبنغال).
٣  تشولا: دولةٌ إقطاعية في العصور الوسطى.
٤  مغول العظمى: الاسم الذي أطلقه الأوروبيون على الدولة التي حكمت الهند منذ عام ١٥٢٦م، مؤسس هذه الدولة هو بابور، وهو من فرغانة بأوزبكستان، والتي كانت تدخل آنذاك ضمن إمبراطورية جنكيز خان.
٥  المهراجا: الملك العظيم، استعملت هذه اللفظة للدلالة على ملوك الهندوس أو حكامهم في الهند.
٦  بونا: أكبر الإمارات في اتحاد دولة ماراتهي التي وُجدت في المنطقة التي تُعرف الآن بولاية ماهاراشترا في الهند، وذلك في منتصف القرن السابع عشر حتى مطلع القرن التاسع عشر.
٧  ديفون Devon: دوقية في بريطانيا أكبر مدنها بلايموث وتوركي. (المترجم)
٨  كاديس Cadiz: ميناءٌ في جنوب إسبانيا. (المترجم)
٩  المقصود هنا: أورانجزيبي المغولي (١٦٥٨–١٧٠٧م)، الذي حققت فيه الإمبراطورية المغولية إبان حكمه أكبر انتصاراتها الخارجية.
١٠  الدوطة (عند الفرنج): المال الذي تدفعه العروس إلى عروسها.
١١  يحملقون: ينظرون.
١٢  ليبرتاليا: من الكلمة الإيطالية Liberta، أي: الحرية.
١٣  برج بابل: وفقًا لما جاء في الإنجيل هو البرج «الذي يطاول السماء والذي حاول القدماء بناءه في مدينة بابل بعد الطوفان، لكن الله غضب عليهم، فخلط ألسنتهم حتى لم يعودوا يفهمون بعض البعض، واضطروا إلى ترك البناء».
١٤  بوشير: ميناء على الخليج الفارسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤