الفصل الأول

الْغُرابُ الطَّائِرُ

(١) سَمِعْتُ مِنْ فُلانٍ

قالَ «أَبُو الْغُصْنِ: عَبْدُ اللهِ جُحا»: إِنَّها شائِعَةٌ غَرِيبَةٌ، سَمِعْتُها ذاتَ يَوْمٍ.

هَيْهاتَ أَنْ أَنْساها، أَوْ أَنْسَى مَغْزاها!

لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِها، عَلَى كَثْرَةِ ما سَمِعْتُ مِنَ الشَّائِعاتِ.

كَذَّبْتُ أُذُنَيَّ أَوَّلَ الْأَمْرِ، فَطَلَبْتُ مِنْ مُحَدِّثِي أَنْ يُعِيدَها.

أَعادَها عَلَيَّ كَما هِيَ، لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ.

خُلاصَةُ الشَّائِعَةِ، كَما رَواها مُحَدِّثِي: أَنَّ رَجُلًا كانَ يَعِيشُ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ، وَقدْ لَبِثَ مَعَها سِنِينَ يِنْتَظِرُ أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالذُّرِّيَّةِ، حَتَّى كادَ يَيْأَسُ. تَحَقَّقَ لَهُ ما كانَ يُرِيدُ: وَلَدَتْ زَوْجَتُهُ، وَلٰكنَّها وَلَدَتْ غُرابًا! وَجَلَسَ الْغُرابُ يَتَحَدَّثُ إِلَى أُمِّهِ — بَعْدَ وِلادَتِهِ — ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ طارَ، وَغابَ عَنِ الْأَبْصارِ!

شائِعَةٌ لا يَخْتَلِفُ عاقِلانِ فِي أَنَّها أُكْذُوبَةٌ مُخْتَلَقَةٌ.

سَأَلْتُ مُحَدِّثِي عَمَّنْ أَفْضَى إِلَيْهِ بِالشَّائِعَةِ.

قالَ مُحَدِّثِي: «سَمِعْتُها الْبارِحَةَ مِنْ فُلانٍ!»

قُلْتُ لَهُ: «كَيْفَ صَدَّقْتَهُ فِيما قالَ؟»

قالَ لِي: «هُوَ عِنْدِي راوٍ أَمِينٌ، لا شَكَّ فِي صِدْقِهِ.»

(٢) مِنْ فُلانٍ إِلَى فُلانٍ

ذَهَبْتُ إِلَى فُلانٍ هٰذا أَسْأَلُهُ: «كَيْفَ جازَ فِي فَهْمِكَ أَنْ تَلِدَ امْرَأَةٌ غُرابًا، وَأَنَّ الْغُرابَ تَحَدَّثَ — بَعْدَ وِلادَتِهِ — ثُمَّ طارَ، وَغابَ عَنِ الْأَنْظارِ؟!»

قالَ الرَّجُلُ: «مَنْ أَخْبَرَكَ بِهٰذا، يا أَبا الْغُصْنِ؟»

قُلْتُ: «أَخْبَرَنِي بِهِ فُلانٌ، وَأَكَّدَهُ لِي كُلَّ التَّأْكِيدِ، بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّكَ أَفْضَيْتَ بِهِ إِلَيْهِ، كَما رَوَاهُ.»

قالَ، فِي دَهْشَةِ الْمُسْتَنْكِرِ: «كَيْفَ نَقَلَ عَنِّي هٰذا الْكَلامَ؟! أَنا لَمْ أَرْوِ الْخَبَرَ عَلَى هٰذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي تَرْوِيها. ناقِلُ الْخَبَرِ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا فِي نَقْلِ ما سَمِعَهُ مِنِّي. أَبَى ناقِلُ الْخَبَرِ إِلَّا أَنْ يُضِيفَ إِلَى ما سَمِعَ وَيَتَزَيَّدَ. أَنا لَمْ أَقُلْ: إِنَّ الْغُرابَ تَحَدَّثَ — بَعْدَ وِلادَتِهِ — ثُمَّ طارَ. كُلُّ ما قُلْتُهُ: أَنَّ الزَّوْجَةَ وَلَدَتْ غُرَابًا، وَأَنَّ الْغُرابَ مَشَى — بَعْدَ وِلادَتِهِ — خُطُواتٍ قَلِيلَةً، ثُمَّ ماتَ.»

قُلْتُ لِنَفْسِي: كَيْفَ وَلَدَتِ الزَّوْجَةُ غُرَابًا؟

سَأَلْتُ صاحِبِي: «مِمَّنِ اسْتَقَيْتَ هٰذا الْخَبَرَ؟»

قالَ الرَّجُلُ: «الْحَقَّ أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ فُلانٍ.»

ذَهَبْتُ إِلَى فُلانٍ الثَّانِي أَسْأَلُهُ: «كَيْفَ جازَ — فِي فَهْمِكَ — أَنْ تَلِدَ آدَمِيَّةٌ غُرابًا يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ، أَوْ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ؟»

قالَ لِي: «عَلَى مَهْلِكَ، يا «أَبا الْغُصْنِ». لا تَتَعَجَّلْ — يا صاحِبِي — فِي الْحُكْمِ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ما أَكْثَرَ ما يَتَقَوَّلُ النَّاسُ، وَيَتَزَيَّدُونَ فِيما يَسْمَعُونَ. كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ ناقِلَ الْخَبَرِ كانَ غَيْرَ صادِقٍ فِيما نَسَبَهُ إِلَيَّ مِنْ حَدِيثٍ، كَشَأْنِ الْكَثِيرِينَ مِنْ أَمْثالِهِ. أَنا لَمْ أَرْوِ الْخَبَرَ عَلَى هٰذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي قَصَصْتَها لَوْ أَنَّنِي سَمَحْتُ لِنَفْسِي أَنْ أَرْوِيَ الْخَبَرَ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، لَحَسِبَنِي النَّاسُ مَعْتُوهًا أَوْ مَخْبُولًا، لا يَعْرِفُ ماذا يَقُولُ. أَبَى صاحِبِي إِلَّا أَنْ يُضِيفَ إِلَى الْخَبَرِ، وَيَتَزَيَّدَ فِيهِ. لَمْ يَكُنْ أَمِينًا فِي نَقْلِ ما سَمِعَهُ مِنِّي عَلَى أَيِّ حالٍ. لَمْ أَقُلْ: إِنَّ الْغُرابَ مَشَى بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. اَلْغُرابُ — فِيما عَرَفْتُ — وُلِدَ ساكِنًا لا يَتَحَرَّكُ. الْغُرابُ لَمْ يَمْشِ خُطْوَةً واحِدَةً، لَمَّا وُلِدَ. الْغُرابُ لَمْ يَعِشْ. لَقَدْ ماتَ عَلَى أَثَرِ وِلادَتِهِ. هٰذا كُلُّ ما قُلْتُهُ لِصاحِبِي، يا أَبا الْغُصْنِ.»

(٣) تَناقُضُ الْخَبَرِ

سَأَلْتُ صاحِبِي: «مَنْ أَخْبَرَكَ بِهذا الْخَبَرِ الْعَجِيبِ؟»

قالَ لِي: «الْحَقُّ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَنِي بِهِ فُلانٌ.»

حِرْتُ فِي كُلِّ ما سَمِعْتُ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُصَدِّقَ ما يُقالُ.

كَيْفَ تَلِدُ إِنْسانَةٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ غُرَابًا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الطَّيْرِ.

أَصْرَرْتُ عَلَى أَنْ أَتَعَرَّفَ الْحَقِيقَةَ الصَّحِيحَةَ، وَلا أَرْكَنَ إِلَى ما يُشِيعُهُ النَّاسُ مِنْ أَقاوِيلَ، وَإِنْ كانَتْ أَباطِيلَ!

ذَهَبْتُ إِلَى فُلانٍ الثَّالِثِ أَسْأَلُهُ. أَحالَنِي عَلَى رابِعٍ.

ذَهَبْتُ إِلَى الرَّابِع أَسْأَلُهُ. أَحالَنِي عَلَى خامِسٍ.

هٰكَذا: ظَلِلْتُ أَتَقَصَّى الْأُكْذُوبَةَ الشَّائِعَةَ، مِنْ خامِسٍ إِلَى سادِسٍ، ومِنْ سادِسٍ إِلَى سابِعٍ.

حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَتَتَبَّعَ مَصادِرَ الشَّائِعَةِ؛ لَعَلِّي أَتَبَيَّنُ حَقِيقَةَ ما حَدَثَ فِي هٰذِهِ الْقِصَّةِ، عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.

كانَ عَجَبِي يَشْتَدُّ مِنْ تَضارُبِ الْأَخْبارِ، وَتَناقُضِ الرِّواياتِ.

واحِدٌ يَزْعُمُ: أَنَّ الْغُرابَ كَلَّمَ أُمَّهُ حِينَ وَلَدَتْهُ، ثُمَّ طارَ.

وَثانٍ يَزْعُمُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَلِدْ غُرابًا، كَما أشاعَ ذٰلِكَ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ وَلَدَتْ طائِرًا يُشْبِهُ الْغُرابَ!

وَثالِثٌ يَزْعُمُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَلِدْ فِي الْحَقِّ غُرابًا، وَلا طائِرًا يُشْبِهُ الْغُرابَ؛ بَلْ وَلَدَتْ جِسْمًا لَهُ وَجْهُ غُرابٍ!

وَرَابعٌ يَدَّعِي أَنَّ جِسْمَ الْغُرابِ صارَ فِي حَجْمِ إِنْسانٍ.

وَخامِسٌ يَقُولُ: «بَل وَلَدَتْ طائِرًا عَجِيبَ الْخِلْقَةِ، لَمْ يَشْهَدِ النَّاسُ مِثْلَهُ، لَهُ وَجْهُ إِنْسانٍ، وجِسْمُ غُرابٍ!»

وسادِس وسابِعٌ يَقُولانِ شَيْئًا غَيْرَ ما قالَهُ الْآخَرُونَ.

(٤) فِي بَيْت «أَبِي الفَضْلِ»

ظَلَّتِ الْأُكْذُوبَةُ الشَّائِعَةُ تَنْكَمِشُ وَتتَضاءَلُ وَتَتَناقَصُ.

اِنْتَهَى بِيَ الْبَحْثُ إِلَى لِقاء والِدِ الطِّفْلِ الَّذِي دارَتْ حَوْلَهُ الشَّائِعَةُ.

مِنْ عَجائِبِ الاِتِّفاقِ؛ أَنَّهُ كانَ مِنْ صَفْوَةِ أَصْدِقائِيَ الْقُدامَى.

كانَ يُدْعَى: «أَبا الْفَضْلِ». كُنْتُ أَرْتادُ نَدْوَتَهُ بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ.

كانَ مِثالًا لِلْوَفاء والذَّكاءِ. كانَتْ فُرْصَةً سانِحَةً لِشُهُودِ نَدْوَتِهِ.

أَسْرَعْتُ إِلَى بَيْتِهِ. رَأَيْتُهُ جالِسًا بَيْنَ جَماعَةٍ مِنْ أَصْحابِهِ.

كانُوا يَتَسامَرُونَ فِي دارِهِ، عَلَى عادَتِهِمْ فِي لَيالِي الْجُمَعِ.

(٥) مَصْدَرُ الشَّائِعَةِ

حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَعْرِفَ الْحَقِيقَةَ مِنْ «أَبِي الْفَضْلِ» نَفْسِهِ.

أَفْضَيْتُ إِلَيْهِ بِما زَعَمَتْهُ الشَّائِعَةُ مِنَ الْخَبَرِ الْعَجِيبِ.

اِشْتَدَّتِ الدَّهْشَةُ مِمَّا قُلْتُ.

أَغْرَقَ الرَّجُلُ وَضُيُوفُهُ فِي الضَّحِكِ.

لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبالِهِمْ أَنْ يَصِلَ الْبَلَهُ وَالْغَباءُ بِبَعْضِ النَّاسِ إِلَى تَناقُلِ أَمْثالِ هٰذِهِ الْخُرافاتِ.

«بِرَبِّكَ أَخْبِرْهُ أَنْتَ بِجَوابِ سُؤالِهِ!»

(٦) عُمْرُ الْغُرابِ

اِبْتَسَمَ الرَّجُلُ. قالَ فِي دَهْشَةٍ واسْتِنْكارٍ: «ما أَعْجَبَ ما يَتَمَيَّزُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ بَلاهَةٍ وَسَذاجَةٍ. إِلَيْكَ قِصَّةَ الْغُرابِ الطَّائِرِ الَّتِي حَيَّرَكَ أَمْرُها. إِلَيْكَ حَقِيقَةَ ما حَدَثَ عَلَى الْوَجْهِ الصْحِيحِ: مُنْذُ أَيَّامٍ، أَخْبَرَنِي «أَبُو الْفَضْلِ» هٰذا أَنَّ زَوْجَتَهُ وَضَعَتْ مَوْلُودًا ظَرِيفًا، بَعْدَ أَنْ طالَ انْتِظارُهُ لِيَمُنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالْوَلَدِ. سَأَلْتُهُ: «ماذا اخْتارَ لِوَلِيدِهِ مِنَ الْأَسْماءِ؟» قالَ: «سَمَّيْتُهُ «خالِدًا»، آمِلًا أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لِدُعائِي، وَيُحَقِّقَ فِيهِ رَجائِي، فَيُطِيلَ عُمْرَهُ.» حَلا بَيْنَنا السَّمَرُ. طالَ بِنا السَّهَرُ. قالَ أَحَدُ الْحاضِرِينَ: «سَيَعِيشُ وَلَدُكَ «خالِدٌ» — إِنْ شاءَ اللهُ — عُمْرًا طَوِيلًا، أَطْوَلَ مِنْ عُمْرِ الْغُرابِ!» قُلْتُ لِـ«أَبِي الْفَضْلِ» أُداعِبُهُ وَأُمازِحُهُ: «سَيَمُدُّ اللهُ فِي عُمْرِ هٰذا الْغُرابِ، حَتَّى يَكُونَ أَطْوَلَ مِنَ الْغِرْبانِ عُمْرًا!» هٰذا كُلُّ ما حَدَثَ، يا «أَبا الْغُصْنِ». لَمْ أَزِدْ فِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ أَنْقُصْ. كانَ هٰذا الْحِوارُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْماضِيَةِ. لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَنِ أَكْثَرُ مِنْ أُسْبُوعٍ واحِدٍ. ما أَعْجَبَ ما يَكْذِبُ النَّاسُ فِي أَحادِيثِهِمْ وَيَزِيدُونَ! ضَلَّ مَنْ يُصَدِّقُ الظُّنُونَ. وللهِ فِيي خَلْقِهِ شُئونٌ!»

اِلْتَفَتَ الرَّجُلُ بَعْدَ قَلِيلٍ، يُسائِلُنِي مُتَعَجِّبًا: «لَسْتُ أَدْرِي — يا «أَبا الْغُصْنِ» — كَيْفَ شَوَّهَ النَّاسُ هٰذِهِ الدُّعابَةَ؟ كَيْفَ حَوَّلُوا فِيها وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا وَدَوَّرُوا؟ كَيْفَ تَمادَوْا فِي خَيالِهِمْ؛ فَأَشاعُوا عَنِ الْمَوْلُودِ أَنَّهُ غُرابٌ، وَأَنَّهُ تَحَدَّثَ إِلَى أُمِّهِ — بَعْدَ وِلادَتِهِ — ثُمَّ طارَ، وَلَمْ يَزَلْ يَطِيرُ حَتَّى غابَ عَنِ الْأَبْصارِ؟ لَسْت أَدْرِي مِمَّنْ أَتَعَجَّبُ: أَمِنَ الَّذِينَ تُسَوِّلُ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ تَلْفِيقَ الْأَكاذِيبِ، وَصُنْعَ الشَّائِعاتِ وَالْأَعاجِيبِ، أَمْ مِنَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ كُلَّ ما يُقالُ، وَإِنْ كانَ مِنَ الْمُحالِ؟»

اِسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى الْحاضِرِينَ.

اِلْتَفَتَ إِلَيْنا «أَبُو الْفَضْلِ»، مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الْقائِلِ:

هُمُ نَقَلُوا — عَنِّي — الَّذِي لَمْ أَفُهْ بِهِ
وَما آفَةُ الْأَخْبارِ إِلَّا رُواتُها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤