حكاية ابن القارح

فيقول (الشيخ): أنا أقص عليك قصتي: لما نهضت أنتفض من الرَّيْم،١ وحضرت عرصات٢ القيامة، ذكرت الآية: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا. فطال علي الأمد واشتد الظمأ والحر، وأنا رجل مهياف،٣ فافتكرت فرأيت أمرًا لأقوام لمثلي به، ولقيني الملك الحفيظ بما زَبِرَ٤ لي من فعل الخير، فوجدت حسناتي قليلة كالرياض في العام الأرمل،٥ إلا أن التوبة في آخرها كأنها المصباح رُفع لسالك سبيل.

حديثه مع رضوان

فلما أقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين، وخفت من الغَرَق في العَرَق، زينتْ لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتًا في رضوان خازن الجنان، عملتها في وزن: «قِفا نَبْكِ مِن ذِكْرى حبيبٍ وعرفان» ووسمتها برضوان، ثم ضانكت٦ الناس حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى، فما حفل بي، ولا أظنه أبه لما أقول، فغبرت٧ برهة نحو عشرة أيام من أيام الفانية، ثم عملت أبياتًا في وزن:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا٨
ووسمتها برضوان، ثم دنوت منه ففعلت كفعلي الأول، فكأني أحرك ثبيرًا٩ فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أن يوسم بها رضوان حتى أفنيتها، وأنا لا أجد عنده مغوثة، ولا ظننته فهم ما أقول. فلما استقصيت الغرض فما أنجحت، دعوت بأعلى صوتي: «يا رضوان! يا أمين الملك الجبار الأعظم على الفراديس! ألم تسمع ندائي بك واستغاثتي إليك؟» فقال: «لقد سمعتك تذكر رضوان وما علمت مقصدك، فما الذي تطلبه أيها المسكين؟» فأقول: «أنا رجل لا صبر لي على العطش، وقد استطلتُ مدة الحساب، ومعي صك١٠ بالتوبة، وهي الذنوب كلها ماحية، وقد مدحتك بأشعار كثيرة، ووسمتها باسمك.» فقال: «وما الأشعار؟» فقلت: «الأشعار جَمْعُ شِعر، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس، وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات، فجئتُ بشيء منه إليك لعلك تأذن لي بالدخول، فقد استطلتُ ما الناس فيه، وأنا ضعيف منين،١١ ولا ريب أني ممن يرجو المغفرة وتصحُّ له بمشيئة الله تعالى.» فقال: «إنك لغبين الرأي، أتأمل أن آذن لك بغير إذن من رب العزة؟ هيهات هيهات! وأنى لهم التناوش١٢ من مكان بعيد!»

حديثه مع زفر

فتركته وانصرفتُ بأملي إلى خازن آخر يقال له: زفر، فعملت كلمة ووسمتها باسمه، في وزن قول لبيد:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
وقربتُ منه فأنشدتها، فكأني إنما أخاطب ركودًا١٣ صماء لأستنزل أبودا١٤ عصماء، ولم أترك وزنًا مقيدًا ولا مطلقًا يجوز أن يوسم بزفر إلا وسمته به، فما نجع. فقلت: «رحمك الله! كنا في الدار الذاهبة نتقرب إلى الرئيس والملك بالبيتين أو الثلاثة، فنجد عنده ما نحب، وقد نظمتُ فيك ما لو جُمع لكان ديوانًا، وكأنك ما سمعت لي كلمة!» فقال: «لا أشعر بالذي قصدتَ، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد، ولا ينفق١٥ على الملائكة، إنما هو للجانِّ وعلَّموه ولد آدم، فما بغيتُك؟» فذكرت له ما أريد، فقال: «والله ما أقدر لك على نفعٍ، فمن أين أنت؟» فقلت: «من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.» فقال: «صدقت. ذلك نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض؛ لأن إبليس اللعين نفثه في إقليم العرب، فتعلَّمه نساء ورجال، وقد وجب عليَّ نصحُك، فعليك بصاحبك، لعله يتوصل إلى ما ابتغيتَ» فيئستُ مما عنده.

حديثه مع حمزة بن عبد المطلب

فجعلتُ أتخلل العالَم، فإذا أنا برجل عليه نور يتلألأ. فقلت: «من هذا الرجل؟» فقيل: «هذا حمزة بن عبد المطلب صريعُ وَحْشي، وهؤلاء الذين حوله مَن استشهدوا من المسلمين في أُحُد.» فقلت لنفسي الكذوب: «الشِّعر عند هذا أنفق١٦ منه عند خازن الجِنان؛ لأنه شاعر وإخوته شعراء، وكذلك أبوه وجَدُّه، ولعله ليس بينه وبين مَعْبَد بن عدنان إلا من نظم شيئًا من موزون»، فعملتُ أبياتًا على منهج أبيات كعب بن مالك التي رَثَى بها حمزة، وأولها:
صفية قُومي ولا تَعجزي
وبكي النساء على حمزة
وجئت حتى وليتُ١٧ منه، فناديت: «يا سيد الشهداء! يا عم رسول الله يا ابن عبد المطلب!» فلما أقبل علي بوجهه، أنشدته الأبيات، فقال: «ويحك! أفي مثل هذا الموطن تجيئني بالمديح؟ أما سمعت الآية: لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ؟»
فقلت: «بلى، قد سمعتها وسمعت ما بعدها: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ١٨* أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.» فقال: «إني لا أقدر على ما تطلب، ولكن أنفذُ معك رسولًا إلى ابن أخي علي بن أبي طالب، ليخاطب النبي في أمرك.» فبعث معي رجلًا، فلما قص قصتي على أمير المؤمنين، قال: «أين بَيِّنتُك؟»١٩

مقابلة أبي علي الفارسي

وكنتُ قد رأيت في المحشر شيخًا لنا كان يُدرس النحو في الدار العاجلة يُعرَف بأبي علي الفارسي، وقد امترس٢٠ به قومٌ يطالبونه ويقولون: «تأوَّلتَ علينا وظلمتنا.» فلما رآني أشار إليَّ بيده، فجئتُه، فإذا عنده طبقة منها يزيد بن الحكم الكلابي وهو يقول: «ويحك، أنشدتَ عني هذا البيت برفع «الماء»، يعني قوله:
فليت كفانا كان شرك كله
وخيرك عني ما ارتوى الماءُ مرتوي٢١

ولم أقل إلا الماءَ، وكذلك زعمتَ أني فتحتُ الميم في قولي:

تبدل خليلًا بي كشكك شكله
فإني خليلًا صالحًا بك مَقتوي٢٢

وإنما قلت: مُقتوي، بضم الميم!

وإذا جماعة من هذا الجنس كلهم يلومونه على تأويله. فقلت: «يا قوم، إن هذه أمور هينة، فلا تُعنتوا٢٣ هذا الشيخ، فإنه ما سفك لكم دمًا، ولا احتجن٢٤ عنكم مالًا، فتفرقوا عنه.» وشغلت بخطابهم والنظر في حويرهم،٢٥ فسقط مني الكتاب الذي فيه التوبة، فرجعتُ أطلبه فما وجدته.

حديثه مع علي بن أبي طالب

فأظهرت الوله والجزع، فقال أمير المؤمنين: «لا عليك٢٦ ألك شاهد بالتوبة؟» فقلت: «نعم، قاضي حلب وعُدولها»٢٧ فقال: «بمن يعرف ذلك الرجل؟» فأقول: «بعبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب — حرسها الله — في أيام شِبل الدولة.» فأقام هناك هاتفًا يهتف في الموقف: «يا عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب في زمان شبل الدولة! هل معك علم من توبة علي بن منصور بن طالب الحلبي؟» فلم يُجبه أحد، فأخذني الهلع٢٨ والرعدة، ثم هتف الثانية فلم يجبه مجيب! فطرحت إلى الأرض، ثم نادى الثالثة، فأجابه قائل يقول: «نعم قد شهدت توبة علي بن منصور، وذلك بآخرة من الوقت، وحضرتْ متابه عندي جماعة من العدول وأنا يومئذ قاضي حلب وأعمالها».
فعند ذلك نهضت وقد أخذت الرمق٢٩ فذكرت لأمير المؤمنين — عليه السلام — ما ألتمس، فأعرَض عني وقال: «إنك لتروم ممتنعًا، ولك أسوة بولد أبيك آدم».

وُرُودُه الحوض

وهمتُ بالحوض فكدتُ لا أصِلُ إليه، ثم نغبت منه نغبات٣٠ لا ظمأ بعدها، وإذا الكفرة يحملون أنفسهم على الورود، فتذودهم٣١ الزبانية بعصي تضطرم نارًا، فيرجع أحدهم وقد احترق وجهه أو يده، وهو يدعو بويل وثبور.٣٢

حديثه مع فاطمة

فطفتُ على العترة المنتخَبين، فقلت: «إني كنت في الدار الذاهبة إذا كتبتُ كتابًا وفرغت منه قلت في آخره: «وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى عترته الأخيار الطيبين.» وهذه حرمةٌ لي ووسيلة».

فقالوا: «وما نصنع بك؟» فقلت: «إن مولاتنا فاطمة — عليها السلام — قد دخلتِ الجنة منذ دهر. وإنها تخرج في كل حين مقداره أربع وعشرون ساعة من ساعات الدنيا الفانية، فتُسلم على أبيها وهو قائم لشهادة القضاء، ثم تعود إلى مستقرها في الجنان، فإذا هي خرجت كالعادة فاسألوها في أمري بأجمعكم، فلعلها تسأل أباها فيَّ.» فلما حان خروجها ونادى الهاتفُ أنْ غُضوا أبصارَكم يا أهل الموقف حتى تَعبُر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه، اجتمع من آل أبي طالب خلق كثير من ذكور وإناث، ممن لم يشرب خمرًا ولا عَرف قط منكرًا، فلقوها في بعض السبيل، فلما رأتهم قالت: «ما بال هذه الزُّرافة؟٣٣ ألكم حال تُذكر؟» فقالوا: «نحن بخير، إنا نلتذ بتحف أهل الجنة. غير أنا محبوسون للكلمة السابقة، ولا نريد أن نتسرع إلى الجنة قبل الميقات إذ كنا آمنين ناعمين، بدليل قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَاۖ٣٤ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

وكان فيهم علي بن الحسين وابناه محمد وزيد وغيرهم من الأبرار الصالحين. ومع فاطمة عليها السلام امرأة أخرى تجري مجراها في الشرف والجلالة، فقيل: «من هذه؟» فقيل: «خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى.» ومعها شباب على أفراس من نور. فقيل: «من هؤلاء؟» فقيل: «عبد الله والقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم، بنو محمد ».

فقالت تلك الجماعة التي سألت: «هذا وَلِيٌّ من أوليائنا قد صحتْ توبته، ولا ريب أنه من أهل الجنة، وقد توسَّل بنا إليك صلى الله عليك — في أن يراح من أهوال الموقف ويصير إلى الجنة فيتعجل الفوز».

فقالت لأخيها إبراهيم — صلى الله عليه — «دونك الرجل.» فقال لي: «تَعلَّقْ بركابي.» وجعلتْ تلك الخيل تَخلَّلُ الناسَ، وتنكشف لها الأمم والأجيال. فلما عظم الزحام، طارت في الهواء، وأنا متعلق بالركاب.

حديثه مع النبي

فوقفت عند محمد فقال: «من هذا الأتاوي؟»٣٥ فقالت: «هذا رجل سأله فيه فلان وفلان.» وسمت جماعة من الأئمة الطاهرين، فقال: «حتى ينظر في عمله.» فسأل في عملي فوجده في الديوان الأعظم، وقد خُتم بالتوبة، فشفع لي، فأذن لي في الدخول.

عبور الصراط

فلما خلصت من تلك الطموش٣٦ قيل لي: «هذا الصراط فاعبر عليه.» فوجدتُه خاليًا لا عريب٣٧ عنده، فبلوت نفسي في العبور، فوجدتني لا أستمسك، فقالت الزهراء — صلى الله عليها — لجارية من جواريها: «يا فلانة أجِيزِيه»٣٨ فجعلتْ تمارسني٣٩ وأنا أتساقط عن يمين وشمال.

فقلت لها: «يا هذه! إنْ أردتِ سلامتي، فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة:

سِتّ إنْ أعياك أمري
فاحمليني زَقفونَه»

فقالت: «وما زقفونه؟» قلت: «أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك بيديه، ويحمله وبطنه إلى ظهره. أما سمعت قول الجلجول من أهل كفر طاب:

صلحت حالتي إلى الخلف حتى
صرتُ أمشي إلى الورى زقفونه»٤٠

فقالت: «ما سمعت بزقفونه ولا الجلجول ولا كفر طاب إلا الساعة!»

فتحملني وتجوز كالبرق الخاطف، فلما جزتُ، قالت الزهراء — عليها السلام: «قد وَهَبْنا لك هذه الجارية، فخُذها كي تخدمك في الجنان».

حواره مع رضوان

فلما صرتُ إلى باب الجنة، قال لي رضوان: «هل معك من جواز؟» فقلت: «لا.» فقال: «لا سبيل إلى الدخول إلا به».

فبعلت٤١ بالأمر، وعلى باب الجنة من داخل شجرة صفصاف. فقلت: «أعطني ورقة من هذه الصفصافة حتى أرجع إلى الموقف، فآخذ عليها جوازًا»، فقال: «لا أخرج شيئًا من الجنة إلا بإذن من العلي الأعلى — تقدس وتبارك».
فلما دجرت٤٢ بالنازلة قلت: «إنا لله وإنا إليه راجعون! لو أن للأمير أبي المُرَجَّى خازنًا مثلك، لما وصلت أنا ولا غيري إلى درهم من خزائنه!»

دخوله الجنة

والتفت إبراهيم — صلى الله عليه — فرآني وقد تخلفت عنه، فرجع إليَّ، فجذبني جذبة حصلني بها في الجنة، وكان مقامي٤٣ في الموقف مدة ستة أشهر من شهور العاجلة، فلذلك بقي على حفظي ما نزفته٤٤ الأهوال، ولا نهكه تدقيق الحساب.

حديثه مع حميد بن ثور

فأيكم حميد بن ثور؟ فيقولون: «هذا.» فيُسلم عليه الشيخ ويقول: «إيه يا حميد! لقد أحسنت في قولك:

أرى بصري قد رابني بعد صحة
وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولن يلبث العصران٤٥ يوم وليلة
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما٤٦
فكيف بصرك اليوم؟» فيقول: «إني لأكون في مغارب الجنة فألمح الصديق من أصدقائي وهو بمشارقها، وبيني وبينه مسيرة ألوف أعوام للشمس التي عرفت سرعة سيرها في العاجلة، فتعالى الله القادر على كل بديع».٤٧

فيقول الشيخ: لقد أحسنت في الداليَّة التي فيها:

تتابع أعوام عليها هزلنها
وأقبل عام، ينعش الناس، واحد

فيقول حميد: «لقد شغلت عن هذا بما وهب لي ربي الكريم ولا خوف علي ولا حَزَن، ولقد كان الرجل يعمل فكرة السنة والأشهر في الرجل قد آناه الله الشرف والمال، فربما رجع بالخيبة وإن أعطى فعطاء زهيد، ولكن النظم فضيلة العرب».

حديثه مع لبيد

ويعرض لهم لبيد بن ربيعة فيدعوهم إلى منزله، ويُقسم عليهم ليذهبن معهم، فيمشون قليلًا، فإذا هم بأبيات ثلاثة ليس في الجنة نظيرها بهاءً وحُسنًا، فيقول لبيد: «أتعرف أيها الأديب الحلبي هذه الأبيات؟ إنها قولي:

إنَّ تقوى٤٨ ربنا خير نفل٤٩
وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له
بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى
ناعم البال ومن شاء أضل٥٠

صيَّرها ربي أبياتًا في الجنة أسكنها أخرى الأبد.» فيعجب هو وأولئك القوم، ويقولون: «إن الله قدير على ما أراد!»

مأدبة في الجنة

ويبدو له أن يصنع مأدبة في الجنان، يجتمع فيها من أمكن من شعراء الخضرمة والإسلام، والذين أصَّلوا كلام العرب، وجعلوه محفوظًا في الكتب، وغيرهم ممن يستأنس بالأدب، ويخطر له أن تكون كمآدب الدار العاجلة، إذ كان البارئ لا يعجزه — جلت عظمته — أن يأتيهم بجميع الأغراض من غير كلفة ولا إبطاء، فتنشأ أَرْحاء على الكوثر تجعجع لطحن بُر٥١ الجنة، وإنه لأفضل من بُر الهذلي الذي قال فيه:
لا دَر دري٥٢ إن أطعمتُ رائدكم
قرف٥٣ الحني٥٤ وعندي البُر مكنوز٥٥

بمقدار تفضل به السموات الأرضين.

•••

ويجس٥٦ في صدره أرحاء تدور فيها البهائم، فيَمْثُل بين يديه ما شاء الله من البيوت فيها أحجار من جواهر الجنة، تدير بعضها جمال تسوم في عضاة٥٧ الفردوس، وأينق، وصنوف من البغال والبقر.
فإذا اجتمع من الطَّحن ما يُظن أنه كاف للمأدبة، تفرَّق خدمه من الولدان المخلَّدين، فجاءوا بالجِداء وضروب الطير التي جرتِ العادة بأكلها، وسِيقت البقر والغنم والإبل لتعتبط، فارتفع يُعار المعز ونواح الضأن وصياح الديكة لعيان المُدية، وذلك كله بحمد الله لا ألم فيه، وإنما هو جد مثل اللعب، فلا إله إلا الله الذي ابتدع خلقه من غير روية٥٨ وصوره بلا مثال.
فإذا حصلت النحوض٥٩ فوق الأوفاض،٦٠ قال: «أحضروا من الجنة الطُّهاة الساكنين بحلب على ممر الأزمان.» فتحضر جماعة كثيرة، فيأمرهم باتخاذ الأطعمة، وتلك لذة يهبها الله — عز سلطانه — بدليل قوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ.
فإذا أتت الأطعمة افترق غلمانه الذين كأنها اللؤلؤ المكنون لإحضار المدعُوِّين، فلا يتركون في الجنة شاعرًا إسلاميًّا ولا مُخضرمًا، ولا عالِمًا بشيء من أصناف العلوم ولا متأدِّبًا إلا حضروه، فيجتمع خلق كثير، فتُوضَع الخون٦١ من الذهب، والفواثير٦٢ من اللُّجين٦٣ ويجلس عليها الآكلون، وتُنقل إليهم الصحاف.٦٤

مجلس أُنْس وغناء

فإذا قضوا الأرب من الطعام، جاءت السقاة بأصناف الأشربة، والمسمِعات بالأصوات المطرِبة، ويقول: «عليَّ بمن في الجنة من المغنين والمغنيات، ممن كانوا في الدار العاجلة فقضيت له التوبة.» فتحضر جماعة كثيرة من رجال ونساء، فيهم الغريض ومعبد وابن سريج، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق.

حديث الجرادتين٦٥

فيقول قائل من الجماعة وقد رأى أسراب٦٦ قيان قد حضرنَ: «من العجب أن الجرادتين في أقاصي الجنة!»

فإذا سمع ذلك قال: «لا بد من حضورهما.» فيركب بعض الخدم ناقة من نوق الجنة ويذهب إليهما على بُعد مكانهما، فتقبلان على نجيبين أسرع من البرق.

فإذا حصلتا على المجلس، حياهما وبش بهما، وقال: «كيف خلصتما إلى دار الرحمة بعدما خبطتما في الضلال؟!» فتقولان: «قُدرت لنا التوبة، ومتنا على دين الأنبياء والمرسلين».

فيقول: «أحسن الله إليكما، أسمعانا شيئًا من القصيدة الحائية التي تُروى لعبيد مرة، ولأوس أخرى، وما سَمِعتما قط بعبيد ولا أوس فتلهمان أن تغنيا بالمطلوب، فتلحنان:

هبت تلوم وليست ساعة اللاحي٦٧
هلا انتظرت بهذا اللوم إصباحي!
قاتلها الله! تلحاني وقد علمت
أني لنفسي إفسادي وإصلاحي!
أن أشرب الخمر أو أرزأ لها ثمنًا
فلا محالة يومًا أنني صاح
ولا محالة من قبر بمحنية٦٨
أوفى مليع٦٩ كظهر الترس وضاح

فتطربان من سمع، وتستفزان الأفئدة بالسرور، ويكثر حمد الله — سبحانه — كما أنعم على المؤمنين والتائبين، وخلَّصهم من دار الشقوة إلى محل النعيم.»

حديث جران العود النميري

ويلتفت فإذا هو بجران العود٧٠ النميري، فيحييه ويرحب به، ويقول لبعض القيان: أسمعانا قول هذا المحسن.
حملن جران العَوْد٧١ حتى وضعنه
بعلياء٧٢ في أرجائها الجن تعزف٧٣
وقلن «تمتع ليلة النأي هذه
فإنك مرجوم٧٤ غدًا أو مسيّف»٧٥
وأحرزن مني٧٦ كل حجزة٧٧ مئزر
لهن وطاح٧٨ النوفلي٧٩ المزخرف

فتصيب القينة وتُجيد.

•••

فإذا أعجبت الجماعة من إحسانها وإصابتها، قالت: «أتدرون من أنا؟» فيقولون: «لا والله.» فتقول: «أنا أم عمرو التي يقول فيها القائل:

تصب الكأس عنا أم عمرو
وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا»٨٠

فيزدادون بها عجبًا ولها إكرامًا، ويقولون: «لمن هذا الشعر؟ ألعمرو بن عَدِي اللخمي، أم لعمرو بن كلثوم التغلبي؟»

فتقول: «أنا شهدت نَدْماني جذيمة مالكًا وعقيلًا، وصبحتهما الخمر المشعشعة٨١ لما وجدا عمرو بن عدي، فكنت أصرف الكأس عنه، فقال هذين البيتين، فلعل عمرو بن كلثوم حسن بهما كلامه واستزادهما في أبياته».

رقص الحور

ويذكر الأبيات التي تنسب إلى الخليل بن أحمد، والخليل يومئذ في الجماعة، وأنها تصلح لأن يُرقص عليها، فينشئ الله القادر بلطف حكمته، شجرة من الجوز فتونع لوقتها، ثم تنفض عددًا لا يحصيه إلا الله — سبحانه — وتنشقُّ كل واحدة منه عن أربع جوارٍ يَرُقْن الرائين، يرقصن على الأبيات المنسوبة إلى الخليل وأولها:

إن الخليط تصدع٨٢
فطر بدائك أو قع
لولا جوار حسان
مثل الجآزر٨٣ أربع
لقلت للظاعن اظعن٨٤
إذا بدا لك أو دع

فتهتز أرجاء الجنة.

ويقول: «لمن هذه الأبيات يا أبا عبد الرحمن؟» فيقول الخليل: «لا أذكر شيئًا من ذلك، ويجوز أن يكون ما قيل حقًّا.» فيقول: «أنسيتَ يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكى العرب في عصرك؟» فيقول الخليل: «إن عبور الصراط يَنْفض الخلد٨٥ مما استودع!»

•••

ويعبر طاوس من طواويس الجنة يروق من رآه حُسنًا، فيشتهيه أبو عبيدة مصوصًا٨٦ فيتكون كذلك في صحفة من الذهب، فإذا قضى منه الوطر، انضمت عظامه بعضها إلى بعض ثم تصير طاوسًا كما بدا، فتقول الجماعة: «سبحانه من يُحيي العظام وهي رميم، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ٨٧ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

ويفترق أهل ذلك المجلس وهم ناعمون.

حديثه مع الحور

ويخلو بحُوريتين من الحور العين، فإذا بهره ما يراه من الجمال، قال: «أعزز علي بهلاك الكندى إني لأذكر بكما قوله:

كدأبك٨٨ من أم الحويرث قبلها
وجارتها أم الرباب بمأسل٨٩
إذا قامتا تضوَّع٩٠ المسك منهما
نسيمَ الصبا جاءت بريا٩١ القَرَنْفُل٩٢

وأين صاحبتاه منكما لا كرامة لهما ولا نعمة؟ لَجلسة معكما بمقدار دقيقة من دقائق الدنيا خير من مُلك بني آكل المرار وبني النضر بالحيرة، وآل جفنة ملوك الشام!»

ويقبل على كل واحدة منهما يترشف رضابها ويقول: «إن امرأ القيس لمسكين مسكين، تحترق عظامه في السعير وأنا أتمثل بقوله:

كأن المُدام وصَوْب الغمام
ورِيح الخُزامى ونَشْر القُطُر
يُعَل به بَرْد أنيابها
إذا غرَّد الطائر المُسْتَحِر»٩٣

فتستغرب إحداهما ضحكًا، فيقول: «مم تضحكين؟» فتقول: «فرحًا بتفضل الله! أتدري من أنا يا علي بن منصور؟» فيقول: «أنتِ من حور الجنان اللواتي خَلقكن اللهُ جزاءً للمتقين، وقال فيكن: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ.» فتقول: «أنا كذلك بإنعام الله العظيم! على أني كنت في الدار العاجلة أُعرف بحمدونة، وأسكن في باب العراق بحلب، وأبي صاحب رَحى، وتزوجني رجل يبيع السَّقط، فطلقني لرائحة كرهها مِن فيِّ، وكنتُ من أقبح نساء حلب، فلما عرفتُ ذلك زهدتُ في الدنيا، وتوفرتُ على العبادة، وأكلتُ من مغزلي ومزدني، فصيَّرني ذلك إلى ما ترى!»

وتقول الأخرى: «أتدري مَن أنا يا علي بن منصور؟ أنا توفيق السوداء التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد، على زمان أبي منصور محمد بن علي الخازن، وكنت أُخرج الكتب إلى النساخ».

فيقول: «لا إله إلا الله! لقد كنتِ سوداء، فصرتِ أنصع من الكافور!» فتقول: أتعجب من هذا والشاعر يقول لبعض المخلوقين:

لو أن من نوره مثقال خردلة
في السود كلهم، لابيضت السود

حدائق الحور

ويمر مَلَكٌ من الملائكة فيقول: «يا عبد الله! أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ».

فيقول المَلَك: «هُنَّ على ضربين، ضَرْب خلقه الله في الجنة لم يُعرف غيرها، وضَرْب نقله الله من الدار العاجلة لما عمل الأعمال الصالحة».

فيقول وقد عجب مما سمع: «فأين اللواتي لم يكنَّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميزن من غيرهن؟»

فيقول المَلَك: «اقْفُ أثري.» فيتبعه فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كُنْهَها إلا اللهُ، فيقول المَلَك: «خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسِرْها، فإن هذا الشجر يُعرف بشجر الحور».

فيأخذ سفرجلة أو رمانة أو تفاحة، أو ما شاء الله من الثمار فيكسرها، فتخرج منها جارية حوراء عيناء، تبرق لحسنها حوريات الجنان، فتقول: «من أنت يا عبد الله؟» فيقول: «أنا فلان ابن فلان.» فتقول: «إني أمنى بلقائك قبل أن يَخلق الله الدنيا بأربعة آلاف سنة.» فعند ذلك يسجد إعظامًا لله القدير، ويقول: «هذا كما جاء في الحديث: أعددت لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأت. بَلْهَ٩٤ ما اطلعتم عليه».

•••

ويخطر في نفسه، وهو ساجد، أن تلك الجارية — على حسنها — ضاوية٩٥ فيرفع رأسه من السجود، وقد صار من ورائها ردف يضاهي كثبان٩٦ عالج، فيُهال٩٧ من قدرة الله ويقول: «يا رازق المشرقة سناها، ومُبَلِّغ السائلة مُناها، والذي فعل ما أعجز وهال، ودعا إلى الحلم الجهال! أسألك أن تقصُر بَوْص٩٨ هذه الحورية».

فيقال له: «أنت مخيَّر في تكوين هذه الجارية كما تشاء.» فيقتصر من ذلك على الإرادة.

هوامش

(١) القبر.
(٢) ساحات.
(٣) سريع العطش.
(٤) كتب.
(٥) قليل المطر.
(٦) ضايقت – زاحمت.
(٧) مكثت.
(٨) معنى البيت: غادرك الركب ولو كانت الأمور تسير وفق ما تشتهي لما نأى عنك خلصاؤك.
(٩) اسم جبل.
(١٠) إذن.
(١١) واهن القوى.
(١٢) التناول أو الاختلاط.
(١٣) الركود: الناقة يدوم لبنها ولا ينقطع.
(١٤) الأبود الوحش.
(١٥) يروج.
(١٦) أروج – أجدى.
(١٧) دنوت – قربت.
(١٨) غبرة.
(١٩) صحيفة حسناتك.
(٢٠) احتك به – تعرض له – تلاج.
(٢١) ما ارتوى الماء مرتوي، أي: دائمًا أبدًا. ومعنى البيت: ليت خيرك يعادل شرك، فيكفّ هذا عني ذاك وأُصبح آمنًا منك أبدًا.
(٢٢) مقتو أي متبدل به. ومعنى البيت: اختر لنفسك صديقًا آخر يشبهك وتشبهه، فإني متبدل بك خليلًا صالحًا.
(٢٣) لا ترهقوه وترفقوا به.
(٢٤) ضم إلى نفسه.
(٢٥) محاورتهم.
(٢٦) لا ضير عليك.
(٢٧) جمع عدل وهو العادل الذي ترضى شهادته.
(٢٨) شدة الجزع.
(٢٩) بقية الحياة.
(٣٠) جرعا.
(٣١) تطردهم وتدفعهم.
(٣٢) هلاك.
(٣٣) الجماعة.
(٣٤) صوتها الخفي.
(٣٥) الغريب.
(٣٦) جمع طمش وهو الناس.
(٣٧) لا أحد.
(٣٨) اجعليه يجوز أي يعبر.
(٣٩) تعالجني.
(٤٠) كفر طاب قرية من قرى الشام، وفيها يقول أبو العلاء في لزومياته:
أرى كفر طاب أعجز الماء حفره
وبالس أغناها الفرات عن الحفر
كذلك مجرى الرزق، واد بلا ندى
وواد به فيض، وآخر ذو جفر
وبالس: قرية أخرى بالشام.
(٤١) وصلت حيرتي وخوفي وسأمي إلى حد نسيت معه ما أصنع.
(٤٢) حرت.
(٤٣) إقامتي.
(٤٤) ما أذهبته.
(٤٥) الليل والنهار.
(٤٦) ما قصداه أو ما توخياه ما تعمداه. ومعنى البيتين: ضعف بصري بعد أن كان صحيحًا، وكفى بالصحة منذرًا بالمرض، فقد آل الزمن ليسقمن كل صحيح، وليس يعجز الزمن أن يدرك غايته وشيكًا.
(٤٧) ما اخترع على خير مثال سابق.
(٤٨) خشية.
(٤٩) غنيمة.
(٥٠) معنى الأبيات: أربح غنم يصيبه الإنسان هو خشية الله مُصَرِّف الأمور، فله الحمد، لا كفو له، بيده الخير، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو على ما يشاء قدير.
(٥١) قمح.
(٥٢) لا در دري، أي لا كثر خيري أو لا زكا عملي.
(٥٣) قشر.
(٥٤) الرديء من ثمار شجرة الدوم.
(٥٥) معنى البيت: لا بارك الله في مالي إذا أطعمت نازلكم قشر الدوم مع وفرة ما لدي من القمح الزائد عن حاجتي.
(٥٦) يضمر.
(٥٧) شجر ذو شوك.
(٥٨) نظر أو تفكير.
(٥٩) المكتنز من اللحم كلحم الفخذ مثلًا.
(٦٠) خشب الجزارين يقطعون عليه اللحم.
(٦١) جمع خوان (بكسر الخاء أو ضمها)، وهو ما يوضع عليه الطعام ليؤكل.
(٦٢) جمع فاثورة وهو الخوان أو الباطية.
(٦٣) الفضة.
(٦٤) جمع صحفة وهي القطعة الكبيرة.
(٦٥) الجرادتان — فيما زعموه — مغنيتان غَنَّتَا لوفد عاد الجرهمي بمكة فشغلوا عن الطواف بالبيت، وسؤال الله فيما قصدوا له، فهلكت عاد وهم لاهون.
(٦٦) جمع سرب، أي قطيع من النساء.
(٦٧) اللائم.
(٦٨) محنية أو محنوة أو محناة، جمعها محان وهي معاطف الأودية.
(٦٩) المليع: طريق ضيقة ذاهبة في الأرض إلى مسافة قريبة، قاعها أقل من قامة. أو هو أيضًا الأرض المستوية أو الأرض التي لا نبات فيها.
(٧٠) الجران مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره، والعود البعير المسن، وجران العود لقب هذا الشاعر، وإنما لُقِّب بذلك لقوله مخاطبًا امرأتيه وقد أغضبناه:
خذا حذرًا يا جارتي فإنني
رأيت جران العود قد كان يصلح
يعني بذلك أنه كان قد اتخذ سوطًا من جران العود يضرب به نساءه فهو يخيفهما به. وكان قد لقي منهما مكروهًا فقال في ذلك أبياتًا جميلة منها:
ألا لا تغرن امرأ نوفلية
على الرأس بعدي أو ترائب وضح
إلى أن قال:
خذ نصف مالي واتركا لي نصفه
وبينا بذم؛ فالتغرب أروح
وأوجز ما يوصف به هذا الشاعر هو كلمة محسن التي وصفه بها أبو العلاء، فإن أول ميزة لشعره — وهو مجموع في ديوان صغير مخطوط بدار الكتب — هي الإحسان.
(٧١) اسم الشاعر وقد تقدم شرحه.
(٧٢) العلياء رأس الجبل أو المكان العالي، والمعنى أنهن وضعنني موضعًا لا يوصل إليه.
(٧٣) تصوت.
(٧٤) مرمي بالحجارة.
(٧٥) مقتول بالسيف، ومعنى البيت: أنهن قلن لي انتهز فرصة هذه الليلة وتمتع بنا فربما كانت آخر لياليك من الدنيا، لأنك قد تُرجم غدًا بالحجارة أو تقتل بالسيف في الحرب.
(٧٦) منعن عني.
(٧٧) الحجزة معقد الإزار أو موضع التكة من السراويل.
(٧٨) سقط أو ذهب.
(٧٩) شيء من صوف تختمر عليه نساء العرب، وقيل هو شيء يُدِرْنه على رؤوسهن تحت الخمار، وهو ضرب من الحلي. والنوفلي أيضًا ضرب من الامتشاط، وهو ما نذهب إليه هنا، فيكون المعنى أن شعورهن المنسقة المزخرفة تهدلت.
ويروى هذا البيت قبل سابقه في النسختين الخطية والمطبوعة من رسالة الغفران، ولكننا آثرنا رواية الأبيات كما رُويت في ديوان الشاعر المخطوط بدار الكتب؛ لأن المعنى ينتظم على هذه الصورة، فالغواني يبحن له معابثتهن، ويشتد المزح والمغازلة، حتى تتهدل شعورهن، فإذا أراد المزيد مَنَعْنه، فأحرزن منه حجز مآزرهن بالعفة. أما تفسير الأبيات على الرواية الأخرى فيحتاج إلى تكلف.
وهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة مطولة لهذا الشاعر بلغت في الإجادة شأوًا بعيدًا، وإذا استشهد بعض الأدباء ببضع أبيات قلائل لعمر بن أبي ربيعة وجميل وغيرهما، على وجود شيء من محاولة العرب للشعر القصصي، فإن في هذه القصيدة وحدها مثلًا واضحًا على تلك المحاولة قد لا نذكر له شبيهًا آخر في كل ما قرأناه من شعر العرب. وتنيف أبيات هذه القصيدة على السبعين بيتًا. ونحب أن نحيل القارئ إلى ديوان ذلك الشاعر المحسن، ونكتفي هنا بإيراد بضع أبيات متفرقة منها، تعطي فكرة موجزة عن أغراض القصيدة، وهي:
ذكرت الصبا فانهالت العين تذرف
وراجعك الشوق الذي كنت تعرف
وكان فؤادي قد صحا، ثم هاجني
حمائم ورق، بالمدينة هتف
وقالت لنا والعيس صعر من البرى
وأحجافها بالجندل الصم تقذف
فموعدك الشط الذي بين أهلنا
وأهلك، حتى نسمع الديك يهتف
فلما علانا الليلُ أقبلت خفية
لموعدها، أعلو الأكام وأظلف
فأقبلنَ يمشينَ الهوينا تهاديا
قصار الخطا، منهن راب ومزحف
فلما هبطنَ السهل واحتلن حيلة
ومن حيلة الإنسان ما يتخوف
حملن جران العود حتى وَضَعْنه
… … … إلخ
ولما رأينَ الصبح، بادرنَ ضوءَه
دبيب قطا البطحاء، أوهن أقطف
وأدركن أعجازًا من الليل بعدما
أقام الصلاةَ العابِدُ المتحنِّف
وما أبنَّ حتى قلنَ يا ليت أننا
ترابٌ، وليت الأرضَ بالناس تُخسف
فإنْ نَنْجُ من هذي ولم يشعروا بنا
فقد كان بعض الخير يدنو فيُصرف
فأصبحنَ صرعى في الحجال وبيننا
رماح العدا والجانب المُتخوِّف
يبلغهن الحاج كل مكاتب
طويل العصا أو مقعد يتزحف
ومكمونة رمداء لا يحذرونها
مكاتبة ترمي الكلاب وتحذف
ويقول في ختامها:
فأصبحت غريد الضحى قد ومقنني
بشوق، ولمات المحيين تشغف
أي أصبحت فرحًا طروبًا قد شغفن بي واللقاء يهتاج الشغف.
(٨٠) تَصرف الكأس عنا أم عمرو وتُحوِّلها إلى جهة اليسار، وكان من الطبيعي أن تدور الكأس إلى جهة اليمين، ولكنها لم تفعل ذلك، ولست شر هؤلاء الثلاثة يا أم عمرو فتتغاضي عني وتحرميني من صبوحك التي تديرينها على الندامى.
(٨١) الممزوجة بالماء.
(٨٢) تفرق.
(٨٣) جمع جؤذر وهو ولد البقرة الوحشية تشبه به الحسان لجمال عينيه.
(٨٤) ارحل أو سر أو سافر، والمعنى قد تفرق الجمع، فماذا أنا صانع بعد نأي من أحب، ولو خلا الركب من هؤلاء الحسان الأربع لتساوى عندي إقامته ورحيله.
(٨٥) القلب أو البال أو النفس.
(٨٦) المصوص طعام من لحم الطير يطبخ وينقع في الخل.
(٨٧) أحضرهن وقطعهن.
(٨٨) كعادتك.
(٨٩) اسم جبل.
(٩٠) انتشرت رائحته.
(٩١) الرياهي الرائحة الطيبة.
(٩٢) المعنى: «عادتك في حب هذه، كعادتك من قبل في حب أم الحويرث وأم الرباب، وقد كانتا يعبق منهما المسك أنى ذهبتا كما انتشر عطر القرنفل الذكي، حملته ريح الصبا.» ويوضح هذين البيتين قولُه في البيت الذي قبلهما من معلقته:
وإن شفائي عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من معول
(٩٣) استَحَر أي صاح في السحر.
(٩٤) بله بمعنى دع أو كيف.
(٩٥) نحيفة أو قليلة الجسم.
(٩٦) جمع كثيب وهو التل من الرمل.
(٩٧) يفزع ويعظم عليه الأمر.
(٩٨) عجز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤