الفصل الثاني

مَجْلِسُ الْمَلِكِ مَعَ «جُحا»

(١) الْقاصُّ الذَّكِيُّ

عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ تَزايَدَ اللَّغَطُ حَوْلَ الْجائِزَةِ الْمَلَكِيَّةِ النَّادِرَةِ. عَرَفَ النَّاسُ أَنَّ الْجائِزَةَ لَنْ يَنالَها أَحَدٌ مِنَ الرُّواةِ وَالْقُصَّاصِ. إِنَّهُمْ — بِقِصَصِهِمُ الَّتِي عَرَضُوها — لَمْ يَبْلُغُوا الْغَرَضَ الْمَنْشُودَ. سَمِعَ بِالنَّبَأ — مِنْ بَعْدُ — قاصٌّ لَهُ شُهْرَتُهُ الْواسِعَةُ في الْبِلادِ. إِنَّهُ «أَبُو الْغُصْنِ جُحا» الْمَعْرُوفُ بِبَراعَتِهِ في صَوْغِ الْقِصَصِ. لَمْ يَشْتَرِكْ هذا الْقاصُّ الْبارِعُ الذَّكِيُّ في الْمُسابَقَةِ الْمَلَكِيَّةِ. كانَ في رِحْلَةٍ قاصِيَةٍ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَّا مُنْذُ وَقْتٍ قَرِيبٍ. لَمَّا سَمِعَ بِنَبَأِ الْمُسابَقَةِ الْمَلَكِيَّةِ طَلَبَ لِقاءَ الْمَلِكِ لِيُحَدِّثَهُ. حِينَ قابَلَ الْمَلِكَ عَرَّفَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَرَضَ اشْتِراكَهُ في الْمُسابَقَةِ. سَأَلَهُ الْمَلِكُ: «أَلَدَيْكَ قِصَّةٌ تَتَوالَى حَلقاتُها، وَلا تَنْتَهِي؟» «جُحا» قالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي زَعِيمٌ بِأَنْ أُحَقِّقَ لَكَ ما تُرِيدُ.» قالَ الْمَلِكُ مُتَعَجِّبًا: «لَقَدْ يَئِسْتُ مِنْ تَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِي الْعَوِيصَةِ. ما أَظُنُّ إِلَّا أَنَّكَ مُخَيِّبٌ رَجائِي، كَما خَيَّبَهُ مَنْ سَبَقَكَ!» قالَ «جُحا» لِلْمَلِكِ: «سَوْفَ أُحَقِّقُ لَكَ ما رَغِبْتَ فِيهِ.» قالَ الْمَلِكُ: «أَعَلِمْتَ ما وَعَدْتُ بِهِ مَنْ يُبَلِّغُنِي أُمْنِيَّتِي؟ وَعَدْتُ بِمُكافَأَةٍ غالِيَةٍ: جَواهِرِي وَمُلْكِي مُناصَفَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.»

(٢) خُدْعَةُ الْمَلِكِ

الْمَلِكُ كانَ مَكَّارًا، يَعْرِفُ أَنَّ الْحُصُولَ عَلَى الْجائِزَةِ مُحالٌ. أَتَدْرِي لِماذا اطْمَأَنَّ الْمَلِكُ بِذلِكَ؟ أَنا أُخْبِرُكَ بِالسَّبَبِ. الْقاصُّ الَّذِي يَحْكِي الْقِصَّةَ، لا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْجِزَ الْقاصُّ عَنْ تَحْقِيقِ رَغْبَةِ الْمَلِكِ. وَالْأَمْرُ الْآخَرُ: أَنْ يَنْجَحَ في سَرْدِ حِكايَةٍ مُتَّصِلَةٍ لا تَنْتَهِي. الْقاصُّ إِذا عَجَزَ عَن تَحْقِيقِ رَغْبَةِ الْمَلِكِ حُرِمَ الْجائِزَةَ. بَقِيَ الْقاصُّ الْآخَرُ الَّذِي يُقَدَّرُ لَهُ النَّجاحُ في تَحْقِيقِ الرَّغْبَةِ. سَيَجِبُ عَلَيْهِ — طَوْعًا لِذلِكَ — أَلَّا يَنْتَهِيَ مِنْ قِصَّتِهِ مَدَى الْحَياةِ! هُنا تَظْهَرُ الْحِيلَةُ الْماكِرَةُ الَّتِي أَسَرَّها الْمَلِكُ في نَفْسِهِ. لَنْ يَأْتِيَ إِذَنْ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَظْفَرُ فِيهِ الْقاصُّ بِالْجائِزَةِ. الْفَوْزُ بِالْجائِزَةِ مَرْهُونٌ بِإِقْناعِ الْمَلِكِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ لَنْ تَكْمُلَ أَبَدًا. الْمَلِكُ لَنْ يُعْلِنَ اقْتِناعَهُ بِأَنَّ الْقِصَّةَ الْمَعْرُوضَةَ بَلَغَتْ غايَتَها. لَقَدْ شَرَطَ الْمَلِكُ شَرْطًا واضِحًا، هُوَ اسْتِمْرارُ حَلقاتِ الْقِصَّةِ. كُلَّما قَطَعَتِ الْقِصَّةُ مَرْحَلَتَها تَشَوَّفَ الْمَلِكُ إِلَى مَرْحَلَةٍ أُخْرَى. الْمَلِكُ حَرِيصٌ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى مُلْكِهِ الْكَبِيرِ، وَجَواهِرِهِ الْغالِيَةِ. كَيْفَ يُعْقَلُ نُزُولُهُ عَنْ نِصْفِ مُلْكِهِ، مُقابِلَ سَماعِ قِصَّةٍ؟!

figure
«جُحا» يَعِدُ الْمَلِكَ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ، لِيَفُوزَ بِجائِزَتِهِ.

(٣) حِيلَةُ الْقاصِّ

الْقاصُّ الذَّكِيُّ «جُحا» لَمْ يَفُتْهُ شَيْء مِنْ خُدْعَةِ الْمَلِكِ. «جُحا» كانَ يُدْرِكُ أَنَّ مَطْلَبَهُ يَنْطَوِي عَلَى دَهاءٍ وَمَكْرٍ. يَعْرِفُ أَنَّ الْمَلِكَ لَنْ يُعْطِيَ الْجَائِزَةَ إِلَّا في حالَةٍ واحِدَةٍ. الْحالَةُ أَنْ يُضْطَرَّ فَيَعْتَرِفَ بِنَجاحِ الْقاصِّ في تَلْبِيَةِ رَغْبَتِهِ. «جُحا» قالَ في نَفْسِهِ: «إِنَّ الْمَكْرَ لا يَغْلِبُهُ إِلَّا مَكْرٌ مِثْلُهُ. كُلُّ حِيلَةٍ خادِعَةٍ ماكِرَةٍ لا تَغْلِبُها إِلَّا حِيلَةٌ ذَكِيَّةٌ بارِعَةٌ.» أَتَعْرِفُ أَيُّها الْقارِئُ: ماذا صَنَعَ «جُحا» الْقاصُّ الْبارِعُ الذَّكِيُّ؟ لَقَدْ عَمَدَ بِدَهائِهِ إِلَى ابْتِداعِ قِصَّةٍ لَيْسَتْ لَها خاتِمَةٌ؛ قِصَّةٍ لا يَسْتَطِيعُ الْمَلِكُ أَنْ يَظَلَّ مُصْغِيًا إِلَيْها طُولَ عُمْرِهِ! قِصَّةٍ تَبْعَثُ في النَّفْسِ الْمَلَلَ والضَّجَرَ، يَضِيقُ الْمَلِكُ بِمُتابَعَتِها! قِصَّةٍ إِذا مَضَى الْقاصُّ في أَدائِها زَهِدَ الْمَلِكُ في سَماعِها! سَيَجِدُ الْمَلِكُ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا إِلَى أَنْ يُسَلِّمَ لِلْقاصِّ بِنَجاحِهِ. «أَبُو الْغُصْنِ جُحا» اطْمَأَنَّ بِأَنَّ هذهِ الْحِيلَةَ وَحْدَها تُحَقِّقُ رَجاءَهُ. أَعْمَلَ فِطْنَتَهُ، وَاسْتَغَلَّ خِبْرَتَهُ، وَأَحْكَمَ خُطَّتَهُ، لِيَنْسُجَ قِصَّتَهُ. أَصْبَحَ عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّ الْجائِزَةَ الْمَلَكِيَّةَ الثَّمِينَةَ لَنْ تَفُوتَهُ بِحالٍ. شَرَعَ يَقُصُّ عَلَى مَسامِعِ الْمَلِكِ أَحْداثَ قِصَّتِهِ الْمُبْتَدَعَةِ الْآتِيَةِ:

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤