جرجي زيدان

figure

كنت حوالي سنة ١٩٠٥ أعمل في دواوين الأقاليم: «قنا» ثم «الزقازيق».

وكنت أزور القاهرة مرة كل أسبوعين، أو كل شهر، عندما كنت أعمل في «الزقازيق».

أزورها لغرضين في وقت واحد: أن أشهد التمثيل بفرقة «سلامة حجازي»، وأن أبحث عن الكتب التي لا تصل مع الباعة المتجولين إلى الأقاليم.

وفي مرة من هذه المرات، قصدت إلى حي الفجالة لأسأل عن كتاب ما — أي كتاب — في فلسفة الجمال.

ولم أكن أعرف باسم الكتاب الذي أبحث عنه لأنه — كما ظهر لي بعد ذلك — لم يوجد من قبل باللغة العربية، ولم يوجد إلى اليوم. وإنما كنت أتصفح فصول الأديب الخطيب الإنجليزي «إدمون بيرك» عن الجليل والجميل، فخطر لي أن مثل هذا المبحث لا بد أن يكون مطروقًا باللغة العربية، وكان اعتقادي في كتَّابنا المحدثين منذ أواسط القرن التاسع عشر كاعتقاد أجدادنا في الأوائل إذ يقولون: ما ترك الأول شيئًا للآخر. فإذا كانت اللغة الإنجليزية قد اشتملت على بحث في فلسفة الجليل والجميل، فأكبر الظن أن كتَّابنا المترجمين لم تفتهم ترجمة بحث من هذه البحوث.

ودخلت المكتبة فوجدت على شمال المنضدة المعدة لعرض الكتب رجلين يجلسان على كرسيين متجاورين: أحدهما مطربش والآخر معمم، وطرق مسمعي اسم السيد «توفيق» و«صهاريج اللؤلؤ»، فسمعت الرجل المطربش يقول لمحادثه المعمم: إن السيد «توفيق» قد عاد بالنثر العربي خمسمائة سنة إلى الوراء.

وسألت البائع: هل يوجد عندكم كتاب في فلسفة الجمال؟

قال مستغربًا: فلسفة ماذا؟!

فأعدت قولي بلهجة التوكيد: فلسفة الجمال!

والتفت الرجل المطربش إلى هذا الحوار، فنظر نظرة استفهام إلى البائع، فأجابه هذا: إن الأفندي يسأل عن كتاب في فلسفة الجمال!

فتمهل الرجل المطربش، ثم قال: ما أظن كتابًا في هذا الموضوع قد أُلِّفَ باللغة العربية. ثم سألني: هل رأيت الكتاب المطلوب وعرفت اسمه، أو اسم مؤلفه؟!

قلت: كلا، ولكني رأيت شيئًا في بحث الجليل والجميل بالإنجليزية فخطر لي أن البحث مطروق بلغتنا.

قال في تؤدة وهو يبتسم: ينبغي حقًّا، ولكنه لم يطرق في كتب مستقلة، ولا يزيد ما كتب عنه على بعض الإشارات المتفرقة في المجلات.

علمت من البائع أن الرجلين المتحادثين هما: جرجي زيدان صاحب «الهلال»، و«أبو بكر لطفي المنفلوطي» أخو «مصطفى لطفي المنفلوطي» الكاتب المعروف. و«أبو بكر» نفسه كاتب لم يشتهر شهرة أخيه، وهو الذي كان يكتب بعد ذلك بسنوات في جمعية «مصر الفتاة» مقالات يحكي بها مقالات أخيه في «المؤيد» بأسلوب كأسلوب «صهاريج اللؤلؤ» في التفخيم والإغراب.

ولا أزال أذكر صورة «جرجي زيدان» كما رأيته في ذلك اليوم؛ رجلًا بسيط المظهر بعيدًا عن كل تكلف في زيه وجلسته وحديثه: يتكلم في الأدب والبلاغة والأحاديث العامة بأناة العالم المحقق، ولكن بسهولة المتحدث المفيد، كأنه يقول ما يقوله للتعليم دون أن يبدو عليه مظهر المدرس في حصة التدريس، ولا أذكر أنني رأيت من أبناء عصره كاتبًا بمثل شهرته ومكانته وبمثل هذه البساطة في المظهر والحركة والحديث، وقد رأيته بعد سنوات في داره وفي ساعات فراغه فلم أجد بين مظهره وهو بعيد من الناس ومظهره وهو في المكتبة العامة أقل خلاف.

•••

وقد طبعت أول ما طبعت من كتبي بمطبعة «الهلال»، وهما كتاب «خلاصة اليومية»، ثم «رسالة الإنسان الثاني عن المرأة»، وتاريخ طبعهما كما هو مكتوب عليهما (سنة ١٩١٢).

ولهذه المناسبة كنت أرى «جرجي زيدان» أحيانًا في مكتبة «الهلال» وأحيانًا أخرى في مطبعة الهلال، فإن لم يكن في المطبعة ووجب سؤاله عن شأن من شئون الطبع، فالدار التي يسكنها غير بعيدة من دار المطبعة، والاستئذان بالتليفون قبل الزيارة لم يكن من مألوفات ذلك الزمن، ولم يكن شيوع التليفون بين المكاتب والمنازل كشيوعه في هذه الأيام، وإنما كان طالب الزيارة يطرق الباب ويسأل عن صاحب الدار: أهو حاضر؟ وهل يمكن لقاؤه؟ وغالبًا ما يجاب بغير حاجة إلى موعد آخر محدود.

وكان العمل مقسمًا بين الإخوة الثلاثة: «جرجي» للمجلة و«متري» للمطبعة، و«إبراهيم» للمكتبة، وليس بين المطبعة ومسكن صاحب الهلال غير خطوات قلائل، أما المكتبة فقد كانت بينها وبين المطبعة مسيرة دقائق معدودات.

وأحسب أن الأمر لم يدع إلى مقابلتي إياه بداره أكثر من مرة واحدة سألته فيها عن رأيه في فلسفة التفاؤل والتشاؤم، وعلمت فيما عدا هذه المقابلة — عرضًا — مبلغ عناية الرجل بالاطلاع على موضوعات العلوم من شتى المباحث والمطالب، وإن لم تكن لزامًا من موضوعات النشر بمجلة «الهلال».

سألته: أيهما أصح وأصوب؛ نظرة المتفائل أو نظرة المتشائم؟

وربما كان السؤال: أي الفلسفتين أصدق؛ فلسفة التشاؤم أو فلسفة التفاؤل؟

لست أذكر نص السؤال بكلماته، ولكنني أذكر موضوعه العام لأنني كنت مشغولًا في كل مطالعة وكل نظرة إلى مسائل الأدب والحياة، وفي كلا الكتابين اللذين طبعتهما بمطبعة «الهلال» إشارة إلى الإمامين المتشائمين: «أبي العلاء»، و«شوبنهور»، وهما متلازمان في ذهن كل قارئ عربي يسمع بالتشاؤم في الثقافة الأوروبية.

ففي خلاصة اليومية أقول بعنوان «القول والقائل»: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال — قاعدة لا يصح إطلاقها في كل حالة — فالكملة تختلف معانيها باختلاف قائليها، فإن كلمة مثل قول المعري:

تعب كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا من راغب في ازدياد

يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشئون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكدًا أو رغدًا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.»

وفي «رسالة الإنسان الثاني» بعنوان «عصر المرأة» أقول:

وقفت على آراء في المرأة للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهور، فأعجبني حذق الرجل وجرأته على المجاهرة بأقوال، يعد قائلها في أوروبا خلوًا من التهذيب وسلامة الذوق، وإن كنت أراه قد غلا في مذهبه إلى حد ربما كان الدافع به إليه غلو المدنية العصرية في نظرها إلى المرأة ورعايتها إياها.

وقد سألت صاحب الهلالي في هذا الموضوع لأنني انتظرت أن أعرف الرأي الراجح من تجاربه كما أعرفه من اطلاعه ودرسه، فسمعت منه الجواب المفيد عن الأمرين.

قال لي في بساطة الرجل الذي يتحدث عن الجو أو أحاديث السمر العارض: «إننا نعرف من التشاؤم مزاج صاحبه كما نعرف ذلك من التفاؤل، وقد يكون رأيهما واحدًا في حقيقة من الحقائق العلمية، أو الفكرية، ولكن هذا يجعله سببًا للرضا والآخر يجعله سببًا للسخط على حسب مزاجه، فليست المسألة معهما مسألة صحة أو بطلان، ولكنها مسألة التأثر على حسب المزاج.»

وأحسب أنه قال أيضًا: «إننا نترك البحث عن الأصح ونبحث عن الأصلح، فنرى أن التفاؤل أصلح للعمل في الحياة والنجاح فيها؛ لأنه أصلح لاحتمال الشدة وأصلح للأمل في النتيجة.»

وأحسن ما حسن عندي من سمت الرجل، ومن بساطته في حديثه وبساطته في كتابته؛ أنه لم يتخذ من قواعد العلم كتافًا لعقله يحجر عليه ويحرجه إحراج الموسوس، الذي يكرر الواقعة مرة بعد مرة ليستوثق من صحتها وضبطها من جميع نواحيها وأطرافها، ثم يرى أنها هي العلم وكل ما عداها فليس من العلم في شيء.

وكذلك لم يتخذ من قواعد العلم كساء مزركشًا يخشى عليه اللابس أن تنكسر قصبة فيه إذا طاوع عقله في الحركة بعض المطاوعة، ولم يتخشب مع الكساء المزركش، على سنة الوقار أو على سنة الجمود.

فقد كان على اطلاع واسع في العلوم التجريبية كاطلاعه على بحوث التاريخ والاجتماع، ولكنه كان في سماحة الفكر وسهولة النظر بحيث يحس كما يفهم أن العقل قد يكون «علميًّا» وهو يخوض في كلام لم يقرره العلم ولم يقرر نقيضه كذلك.

ولهذا كان «جرجي زيدان» يبيح لفكره أن ينظر في «علم الفراسة الحديث» وليس هو من العلوم التي فرغت التجربة من قوانينها كما فرغت — مثلًا — من قوانين الحركة.

وكان يبيح لفكره أن ينظر في أصول اللغات وأصول الكلمات وأصول القواعد اللغوية دون أن يكون للعلم حكم قاطع في كل أصل من تلك الأصول.

فإن لم يكن ما يقوله علمًا مصبوبًا في قالبه الأخير، فهو — بلا شك — مادة علمية يجب أن تتهيأ لقالبها على شكل من الأشكال، ويمتنع علمًا أن تترك بغير التفات إليها؛ فإن عمل العلم في تشكيل المادة قبل ثباتها على شكل من الأشكال أوجب من صب القوالب على الشكل الأخير، وأوجب من ذلك ألا يكون «الشكل الأخير» هذا هو كلمة الختام، وهو الحكم الذي لا يقبل النقض والتنقيح.

وقد كتب «جرجي زيدان» في كل مسألة من مسائل عصره الاجتماعية والفلسفية والأدبية، فكان في كل منها بسيطًا تلك البساطة التي عهدناها منه وهو يتكلم عن أسلوب «البكري» أو عن كتاب فلسفة الجمال، أو عن فلسفة التفاؤل والتشاؤم، ولكنه قال فيها جميعًا رأيه الذي لم يناقضه العلم ولم يأت بما هو أثبت منه على اختلاف النظر في الأمور.

ولسنا نحسب أن تناول الدراسات المختلفة بمثل هذه البساطة مسموح به لكل صاحب قلم مشتغل بالبحث والتفكير.

إنما يسمح به — في غير حاجة إلى الرخصة من أحد — للعقل الذي يستمد بساطته من مصدر واحد: وهو مصدر القوة التي هي أكبر من قيود البحث ومراسم الدراسة، وهي في طمأنينتها إلى قدرتها على سبك القوالب وصهر المادة التي تملؤها تعالج المادة في دور التشكيل كما تعالجها في قالبها الأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤