ذكريات … ومعلومات

أخرج المفتش «سامي» من جيبه محفظته … ثم مدَّ يده وأخرج منها ورقة نقد من فئة الجنيهات العشرة، ومدَّ يده بها إلى «لوزة» قائلًا: خذي هذه.

ابتسمَت «لوزة» وهي تمد يدها مُتردِّدة، ثم سألَت المفتش: لماذا؟ إنه مبلغ كبير لا أستحقه. قال المفتش: إنكِ تستحقين أكثر منه مئات المرَّات … فقد ساعدتِ العدالة كثيرًا … وإننا فعلًا نَعجز عن أن ندفع لكِ كل ما تستحقين.

قال «عاطف» مبتسمًا: وأنا … أظن أني أستحق بعض المكافأة أيضًا … وبخاصةٍ إذا كانَت الأرقام بالآلاف.

قام المفتش وهو يُبادله الابتسام: إنكم جميعًا تستحقون الكثير … ولكن الذين يعملون من أجل الحق والخير، لا ينتظرون فائدةً من ورائهما.

كانوا يجلسون في حديقة منزل «عاطف» في «الكشك» الخشبي … وكان المفتش «سامي» قد اتصل بهم وطلب مقابلتهم في أقرب فرصة … وكان «تختخ» يشرب كوب الليمون المثلَّج مُتمهِّلًا، و«محب» يُداعب «زنجر»، و«نوسة» تنظر من خلال الباب إلى الحديقة الجميلة في انتظار حديث المفتش «سامي».

قالَت «لوزة» وهي تُمسك بورقة النقد: إنني أشك في أنك تأتي هنا وتطلب مقابلتَنا لمجرَّد أن تُعطيني هذه الورقة الجديدة الظريفة!

المفتش: هكذا أنتِ يا «لوزة» … لا بد أن تجدي شيئًا خفيًّا خلف كل حديث … وعلى كل حالٍ فإن ما تقولينه صحيح … تأمَّلي الورقة التي في يدك، ثم قولي لي رأيكِ فيها …

لوزة: أي رأي؟ … إنها كما أرى ورقة جديدة لامعة من ذات الجنيهات العشرة!

المفتش: أعطيها ﻟ «عاطف».

وتناول «عاطف» الورقة وأخذ يتأمَّلها لحظات، ثم قال: منظر جميل … يستحق أن يراه الإنسان كل يوم عشر مرات …

وضحك الأصدقاء، وأخذَت «نوسة» ورقة النقد تتأمَّلها، ثم قالَت: هذه الورقة وراءها سر!

المفتش: تمامًا …

نوسة: إن رقمها هو ١٥٥٩٥، فهل السر في الرقم؟

المفتش: ربما.

وتناول «محب» الورقة وأخذ يقلبها ويرفعها في الضوء المتسلِّل إلى الكشك من الخارج، ثم قال: إنها …

وقبل أن يُتم جملته قال «تختخ» وهو يُبعد كوب الليمون عن فمه: إنها ورقة ليسَت لها قيمة على الإطلاق … فهي ورقة مُزيَّفة!

التفت الأصدقاء إلى «تختخ»، أمَّا المفتش فابتسم قائلًا: تمامًا … كيف عرفتَ بدون أن تنظر إليها؟

تختخ: لأننا منذ شهور قليلة أوقعنا عصابةً لتزييف النقود … ألَا تذكرون لغز الفهود السبعة؟ … ألم تكن العصابة تُزيِّف النقود من فئة الجنيهات العشرة؟

صاحت «لوزة»: كيف نسيتُ أنا هذا؟!

نوسة: أنا لم أنسَ … ولكنني تصوَّرتُ أن حكايتها انتهَت، وليس ثمَّة جديد يمكن أن يُضاف!

تنهَّد المفتش وهو يقول: للأسف، إن العصابة قد استأنفَت نشاطها من جديد؛ فأنتم تذكرون أن زعيم العصابة وأحد أعوانه استطاعا الفرار ليلة أن حاصرنا العصابة في «الفيلا» القديمة …

أضاف «تختخ»: وكان مع زعيم العصابة حقيبة صغيرة بها «الكليشيهات» التي يَتِم طبع النقود عليها …

المفتش: بالضبط … لقد حصلنا على كل النقود التي زيَّفوها في المرة الأولى … ولكن النقود المزيَّفة بدأَت تظهر من جديد!

لوزة: ولكن هذه الورقة صحيحة تمامًا!

محب: فعلًا!

عاطف: إنها متقنة للغاية!

المفتش: فعلًا … إنها مُزيَّفة بطريقةٍ لا يمكن كشفها إلا للخبراء … وبالصدفة وصلَت هذه الورقة إلى البنك الأهلي، وشكَّ فيها أحد الصرَّافين … وعرف الخبراء أنها مُزيَّفة … وقد استجوبنا الرجل الذي كانَت معه … ولكنه كان بريئًا … فهو تاجر من «بني سويف»، وقد قبضها من شخصٍ آخر في السوق ضمن ثمن لماشية باعها … ونحن الآن نبحث عن الشخص الذي أعطاها إياه … ولكن ذلك في النهاية قد لا يُؤدِّي إلى شيء!

لوزة: آسفة لمقاطعتك يا حضرة المفتش … ولكن ما معنى «كليشيه»؟

المفتش: إنه القالب الذي يَتم عليه الطبع … فأي مادة مطبوعة تُحضَّر أولًا على نوعٍ من الزنك أو النحاس، ثم يوضع عليها الحبر، ثم تُطبع على الورق … وهذا القالب الزنك أو النحاس اسمه «كليشيه».

تختخ: ولكن كيف اكتشف الخبراء التزييف؟ أو ما هو الشيء المزيَّف في هذه الورقة؟

المفتش: شيئان؛ الأول الأرقام، والثاني الورق … فرقم هذه الورقة مثلًا موجود مثله على ورقة غير مُزيَّفة … والورق فيه اختلاف طفيف جدًّا لا يَلتفت إليه الشخص العادي، ولكن يُميِّزه الخبراء …

وسكت المفتش لحظات، ثم قال: إنكَ يا «توفيق» الشخص الوحيد فينا الذي شاهد زعيم العصابة ومساعده، وقد جئتُ إليك لأستمع مرةً أُخرى إلى وصفك لهما.

سرح «تختخ» لحظات، ثم قال: كما تذكرون … لقد شاهدتُهما على مسافة تبلغ نحو عشرة أمتار، وأنا مختفٍ خلف جدار الدهليز الطويل … وكانا يعملان مع بقية العصابة. والزعيم كما قلتُ قبلًا قصير القامة، أسمر اللون … سمين مثلي … شعره أسود مُجعَّد، وشاربه رفيع … أمَّا الثاني فطويل نحيف، ترتفع كتفه اليسرى عن كتفه اليمنى قليلًا … وكان في ذلك الوقت يضع قطعةً من المشمع على جرحٍ في وجهه …

المفتش: وأين كانَت قطعة المشمع؟

تختخ: كانَت تحت عينه اليسرى.

المفتش: وعمرهما؟

تختخ: الزعيم في الخمسين تقريبًا … أمَّا الثاني فربما كان في الخامسة والأربعين أو نحو ذلك.

كان المفتش يكتب المعلومات بسرعة في «نوتة» صغيرةٍ أخرجها من جيبه، ثم شرب آخر رشفة في كوب الليمون، وقال: أترككم الآن، وشكرًا لكم لمعاونتي.

لوزة: ولكن كيف نشترك في هذا اللغز؟

ابتسم المفتش قائلًا: أين هو اللغز؟ ليس هناك لغز على الإطلاق … إنهما رجلان يعملان بالتزييف … ونحن نعرف أوصافهما … وسنُطاردهما حتى نقبض عليهما، وعلى من يكون قد انضمَّ إليهما!

تختخ: هناك رجاء يا سيادة المفتش … أن تُوافينا بكل ما يصلك من معلومات عن هذه العصابة … لعلنا نجد طريقةً لمُشاركتكم في مطاردتها.

المفتش: طبعًا … وإن كنتُ أتوقَّع ألَّا تُتاح لكم هذه الفرصة … فهم طبعًا لن يعودوا إلى المعادي مطلقًا.

لوزة: لقد اشتركنا في ألغاز وقعَت بعيدًا جدًّا عن المعادي … في «إيطاليا» … مثلًا … وفي «أسوان» … وفي الإسكندرية … أرجوك ألَّا تنسانا …

المفتش: أعِد بذلك …

مشى الأصدقاء مع صديقهم المفتش حتى باب الحديقة، حيث ركب سيارةً وانطلق بها مبتعدًا، ثم عادوا إلى «الكشك» مرةً أخرى … وأخذوا يتسلَّون بلعب الشطرنج … هذه الهواية التي أحبوها منذ اشتركوا في حل لغز «ملك الشطرنج»، وهو من أعقد الألغاز التي مرَّت بهم …

قالَت «نوسة» وهي تُشاهد مباراة الشطرنج بين «محب» و«تختخ»: هل ظهور ورقة النقد في «بني سويف» يدل على شيء؟

لم يردَّ «تختخ»؛ فقد كان مشغولًا باللعب، فعادَت «نوسة» تُكرِّر سؤالها، فالتفتَ إليها «تختخ» قائلًا: ممكن أن يدل على أن العصابة تُمارس نشاطها هناك … وممكن أن تكون الورقة قد انتقلَت من «القاهرة»، أو من أي بلدٍ آخر إلى «بني سويف».

استكمل «عاطف» الحديث قائلًا: إن متابعة ورقة نقد مسألة غير ممكنة … إنها تُشبه متابعة ذرَّةٍ في الهواء … تَصوَّري مثلًا أن هذه الورقة قبضها مُوظَّف ضمن مرتبه في «القاهرة» … وكان عليه أن يدفع إيجار بيته … أخذها صاحب البيت فأعطاها زوجته التي نزلَت فاشترَت مثلًا منها ملابس من محلٍّ في شارع «قصر النيل»، أخذها صاحب المحل وأودعها البنك ضمن بقية نقوده، وصرفها البنك لرجل من «أسوان» … صرف شيكًا … وأخذها هذا وسافر إلى «أسوان»، ثم دفعها وحدها أو مع غيرها ثمنًا لشراء بضاعة … وأخذها صاحب البضاعة وسافر إلى «أسيوط» لزيارة أسرته … وأعطاها والدته مثلًا التي أعطَتها أختها المسافرة إلى «القاهرة» … وهذه دفعَت منها ثمن تذاكر السفر … وأخذها مُوظَّف السكة الحديد وأرسلها ضمن الإيراد إلى خزينة المحافظة … وصرفَتها المحافظة … هنا صاح «محب»: أرجوك! … لقد صدَّعتني بهذه الحكاية المزعجة … إنكَ تستطيع أن تظل شهرًا ترغي دون أن تنهي القصة …

عاطف: إني لم أقل بعدُ إن نشَّالًا سرقها من جيب شخص في «الأوتوبيس»، ثم قبض عليه رجال الشرطة …

محب: أرجوك مرةً أخرى … إننا معترفون بأنك تستطيع أن تروي ألف قصة عن هذه الورقة، ولكن ذلك لن يحل شيئًا … فصمتًا حتى ننتهي من هذا الدور!

وفجأةً ترك «تختخ» رقعة الشطرنج ووقف، ثم قال: فلْتصمتوا جميعًا … أُريد أن أسألكم سؤالًا!

وصمت الجميع والتفتوا إلى «تختخ» … الذي قال: ما الذي يجعل كتف شخص ترتفع عن الكتف الأخرى؟

بدأَت العيون تلمع، والرءوس تهتز، حتى «زنجر» هزَّ ذيله كأنما يستعد هو الآخر للاشتراك في الحديث … ومضَت دقائق، ثم قال «محب»: من الممكن أن يكون قد أُصيب في حادث مثلًا … ولم تعَد كتفه المصابة ترتفع إلى مستوى الكتف الأخرى.

تختخ: هذا ممكن.

نوسة: من الممكن أن يكون ذلك بسبب نوع العمل الذي يُؤدِّيه؛ فكلنا نعرف أن نوع العمل يمكن أن يُؤثِّر في جسم الشخص … كأن نجد يد صانع الأحذية خشنةً للغاية … أو سيقان لاعب الكرة ضخمة … أو ظهر بائع العرقسوس مرتدًّا إلى الخلف!

تختخ: معقول جدًّا!

عاطف: ومن الممكن أن تكون كتفه مرتفعةً لأنه مُتعالٍ … أعني أنه متظاهر بالعظمة والنفخة الكذابة … فبعض الناس يَسيرون بطريقة مُعيَّنة حتى يَتصوَّر الآخرون أنهم عظماء أو مُهِمُّون … ومن ذلك أن يرفع الإنسان إحدى كتفَيه ويخفض الأخرى؟

لوزة: إذن فهذا مُزيِّف كان يرفع كتفه على سبيل النفخة الكذابة!

تختخ: دعونا من الهزار الآن … إنني مُتفق مع «محب» و«نوسة» … ولكن إذا لم يكن في إمكاننا التحقُّق من أن الرجل أُصيب في حادث، فما هي المهنة التي تجعل كتف الشخص ترتفع … كتفه اليسرى بالذات؟!

نوسة: تعالَوا نستعرض مختلِف المهن.

في تلك اللحظة حضرَت «الشغَّالة» وقالَت: إن هناك مكالمةً تليفونيةً من المفتش «سامي» للأستاذ «توفيق» … ثم وضعَت جهاز التليفون في «الفيشة» التي ﺑ «الكشك».

أسرع «تختخ» … للرد على المفتش، قال المفتش: عندما عُدتُ إلى مكتبي منذ دقائق قليلةٍ وجدتُ تقريرًا خطيرًا في انتظاري … كنتُ قد أرسلتُ بعض رجالي إلى «بني سويف» للتحرِّي عن الرجل الذي أعطى التاجر الورقة ذات الجنيهات العشرة … لقد عثروا على الرجل … وبسؤاله قال إنه قبض مبلغًا من المال كله من فئة الجنيهات العشرة من محل بقالة قريب من المحطة. وعندما ذهب رجالي إلى تاجر البقالة وجدوه قد أغلق محلَّه في ذلك اليوم دون سببٍ واضح، ولم يظهر حتى الآن!

تختخ: إنه مفتاح للوصول إلى العصابة!

المفتش: نعم … لو استطعنا العثور عليه … ولكني أتوقَّع ألَّا يظهر مطلقًا … والمهم الآن أن كميات كبيرةً من النقود المزيَّفة قد وُزِّعَت عن طريق هذا البقال، وهذه مشكلة.

تختخ: شكرًا على إبلاغنا بهذه المعلومات.

المفتش: حاوِلوا أن تُفكِّروا جيِّدًا … لماذا ظهرَت النقود في «بني سويف»؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤