أرقام وأرقام

ركب «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» بعد أن حصلا على تصريحٍ خاص بركوبه معهما القطار الذاهب إلى «الإسكندرية»، والمقرَّر وقوفه في «بنها» … كان «تختخ» قد جلس بجوار النافذة يتأمَّل الريف الأخضر … ولكن رأسه كان مشغولًا بالتفكير في هذه المغامرة العجيبة، هل يصل في الوقت المناسب، أو تحس به العصابة وتفلت إلى الأبد؟ وكان «عاطف» يجلس قبالته … وأمامهما «زنجر» … يجلس هادئًا … ينظر بين لحظة وأخرى إلى «تختخ» … فيراه مستغرقًا في التفكير فيلعق فمه بلسانه، ثم يهز ذيله ويستمر في صمته.

في هذه الأثناء … كان «محب» في «المعادي» … يتصل بالأرقام الخمسة التي أملاها عليه المفتش «أحمد» من «أسيوط». كان الرقم الأول لأحد الأطباء الذي قال إنه لا يعرف أحدًا باسم «يوسف»، وإن كان بعض مرضاه يحمل هذا الاسم، ولكن لا يذكر حالته بالضبط.

واتصل «محب» بالرقم الثاني، وردَّت سيدة، فقال: هل «يوسف» موجود؟ … أنا صديقه «حسين». وقالت إن زوجها يُدعى «يوسف» … ولكنها صرخت في «محب»: هذا ليس صوت «حسين» صديق زوجي! إنك شخص سخيف مزعج … ووضع «محب» السمَّاعة معتذرًا.

وأدار قرص التليفون بالرقم الثالث، وكان المتحدِّث طفلًا صغيرًا قال ﻟ «محب»: تريد عمي «يوسف»؟

قال «محب»: هل هو موجود؟

الطفل: إنه كان موجودًا، ولكنه خرج منذ ساعتَين لإنهاء بعض الأعمال … وربما يعود إلينا غدًا.

وشكره «محب»، ووضع السمَّاعة قائلًا ﻟ «نوسة» و«لوزة»: يبدو أن الأرقام التي طلبتُها ليست لها علاقة بالعصابة … وأغلب الظن أن أحد الرقمَين الباقيَين هو في مقر العصابة، ويجب أن نكون على حذر.

وأدار قرص التليفون بالرقم الرابع، ورد صوت خشن: ألو … من المتحدِّث؟

ردَّ «محب»: هل «يوسف» موجود؟

مرَّت لحظة صمت وقلب «محب» يدق سريعًا، ثم سمع الصوتَ الخشن يقول: «يوسف» من؟

كان ذهن «محب» يعمل بسرعة حتى لا يكتشفه الرجل.

محب: ألَا تعرفني؟

مرةً أخرى ساد الصمت لحظات، ثم قال الرجل: إنني لا أعرفك ولا أعرف أحدًا اسمه «يوسف»، ثم وضع السماعة.

قال «محب»: هذا الرقم أظن أنه رقم العصابة … إن الرجل كان يتحدَّث بحذر شديد … ولكن لنتصل بالرقم الخامس.

ومرةً خامسة أدار قرص التليفون … وردَّ صوت يلهث: ألو … من؟

ردَّ «محب» وهو يجتهد أن يكون ثابتًا: هل «يوسف» موجود؟

مرَّت لحظة صمت خفق لها قلب «محب»، ولكن الصوت عاد مرةً أخرى متردِّدًا وأنفاسه مُتقطِّعة: تريد «يوسف»؟ … إنني لا أسمعك جيدًا! …

تنبَّهت أعصاب «محب»؛ فقد أدرك من صوت الرجل اللاهث … وأنفاسه المتقطِّعة أنه الرجل المصاب فقال: كيف حالك الآن؟

ردَّ الرجل: إنني متعب … أُحِس أنني سأموت … يجب أن أُنقَل إلى أحد المستشفيات فورًا!

كان من الواضح أنه يبذل مجهودًا ضخمًا للحديث، فقال «محب»: أليس هناك أحد معك؟

مرةً أخرى عاد الصمت من جديد … ثم سمع صوتَ الرجل متقطِّعًا لاهثًا: إنني … إنني … ثم سمع «محب» صوت السمَّاعة وهي تقع على الأرض … وساد الصمت …

ظلَّ «محب» واضعًا سمَّاعة التليفون على أذنه … ظلَّ الصمت سائدًا، ثم سمع صوت أقدام في الغرفة … وسمع صوتًا غاضبًا يصيح … ثم وُضعت السماعة في عنف.

ظلَّ «محب» يُمسك بالسمَّاعة لحظات، ثم وضعها في هدوء وقال: لقد عرفنا رقم العصابة … ولكن ما هو السبيل لكي نعرف عنوانها؟

لوزة: من دفتر التليفونات.

محب: هذا شِبه مستحيل. إن الدليل وُضع على أساس البحث عن اسم المشترك، لا رقم التليفون، والبحث عن الرقم لمعرفة العنوان يشبه البحث عن إبرةٍ في كومٍ من الرمال! …

نوسة: والحل؟

محب: الاتصال بالمفتش «سامي» … إنه يستطيع أن يحصل من هيئة التليفونات على المعلومات اللازمة في دقائق.

وأدار القرص ليتصل بالمفتش.

•••

كان القطار الذي يركبه «تختخ» و«عاطف» و«زنجر» … قد وصل إلى «بنها». ونزل الثلاثة وأسرعوا إلى ناظر المحطة، ومرةً أخرى زعم «تختخ» أن هناك بضاعةً مرسلةً من «أسوان»، ويريد أن يعرف مصيرها بعد حادث القطار، ثم وضع أمام الناظر أرقام العربات التي حصل عليها من محطة «القاهرة». ونظر المفتش في الأرقام، ثم قارنها بما عنده وقال: هناك ٦ عربات تخلَّفت هنا في «بنها» … والباقي استمرَّ إلى «طنطا».

تختخ: وأين نجد هذه العربات؟

الناظر: إنها على الخط الميِّت في انتظار تفريغها.

وانصرف الصديقان مسرعَين، وقال «تختخ»: هل عرفتَ معنى الخط الميِّت؟ إنه الخط الذي لا يُستخدم لسير القطارات، ولكن لتخزينها فقط في المحطات، عادةً يكون بعيدًا عن المحطة، وينتهي بجدار من الأسمنت القوي.

وبعد سؤال أحدِ العاملين بالمحطة اتجه الصديقان إلى الخط الميِّت … وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة مساءً … واقترب الثلاثة من العربات الواقفة، فقال «عاطف»: ماذا تنتظر أن تجد في عربة البضاعة؟ إنك بالتأكيد لن تجد العصابة تجلس فيها تمص القصب أو تقزقز اللب؟

تختخ: لا … إنني أتوقَّع شيئًا آخر …

عاطف: أي شيء؟!

تختخ: ابحث معي عن عربة مفتوحة ومغلقة في الوقت نفسه.

عاطف: هذه نكتة طبعًا؟

تختخ: أبدًا … إن كل عربة بضاعة تُغلَق بأختام الرصاص … أو بالشمع الأحمر حتى لا يفتحها إلا الموظَّف المسئول. وستجد هذه العربة مغلقة الباب، ولكن ليس عليها الرصاص.

ووصلا إلى موقف القطار … وبدأ البحث عن العربة المفقودة، ولكن كانت العربات كلها مغلقةً بأختام الرصاص، ومع ذلك أخذ «تختخ» يدور حول كلٍّ منها، ويضع أذنه على كل عربة ويستمع … وكان «زنجر» يتبعهما ويقف عند كل عربة هو الآخر وكأنه يشاركهما البحث.

ولحسن الحظ كان الخط الميِّت بعيدًا … ولم يكن هناك أحد … وهكذا أتمَّا المُهمَّة بسرعة … وقال «تختخ»: هذه عربات بريئة المظهر، وسنذهب إلى «طنطا» فورًا.

وعندما عادا إلى المحطة قال «عاطف»: إلى أي شيء كنت تستمع في هذه العربات؟

ردَّ «تختخ»: إنك لن تصدِّقني إذا قلتُ لك … ومع ذلك إذا تحقَّق ظني فستكون مفاجأةً كبيرةً لك!

لم تكُن هناك قطارات ذاهبة إلى «طنطا» إلا في السادسة والنصف مساءً …

فقال «عاطف»: تعالَ نركب «الأوتوبيس» أو سيارة «تاكسي».

تختخ: لكن من الأفضل الانتظار … إننا نبحث عن عصابةٍ تعمل على عربات السكك الحديدية … ونحن الآن في محطة سكة حديد … فلماذا لا تبقى وتنتظر لعلنا نصل إلى شيء؟

عاطف: لقد علمنا كما تذكر أن المفتش «سامي» هنا … فلماذا لا نبحث عنه؟

تختخ: فكرة … هيَّا بنا!

ونزلا سلالم المحطة إلى الشارع المزدحم الموازي للمحطة في مدينة «بنها»، ثم سارا إلى مديرية الأمن. وعندما اقتربا من باب المديرية قابلا ضابطًا تذكَّر «تختخ» أنه رآه من قبل مع المفتش «سامي»، فاتجه إليه «تختخ»، وبعد أن سلَّم عليه سأله: هل تذكرني؟ … لقد التقينا من قبل في مكتب المفتش «سامي»؟

قال الضابط مبتسمًا: نعم أذكرك … وقد انتقلتُ إلى «بنها» منذ شهور.

تختخ: ألم يكن المفتش «سامي» هنا اليوم؟

الضابط: نعم كان هنا في الصباح … بعد أن أخطرناه أن بنك مصر فرع «بنها» قد وصلته ورقة نقد مزيَّفة.

تختخ: وهل توصَّلتم إلى شيء؟

الضابط: أبدًا … ولكنه طلب مني مراقبة جميع محلات البقالة التي بشارع المحطة، وقد ظلِلت أراقبها من الصباح، وأفحص كل الورق من فئة الجنيهات العشرة التي يتقدَّم بها الزبائن … كما أخطرنا مختلِف المصالح الحكومية … ولكن حتى الآن لم يظهر شيء!

تختخ: وأنت عائد الآن إلى منزلك؟

الضابط: فعلًا … لقد انتهت نوبتي، وسيحل محلي أحد الضباط.

تختخ: وهل عاد المفتش «سامي» إلى «القاهرة»؟

الضابط: نعم … منذ ساعتَين تقريبًا.

وتبادلا التحية … وعاد الصديقان و«زنجر» إلى المحطة مرةً أخرى … كان «تختخ» يجلس في بوفيه المحطة وهو يرقب القادمين والرائحين بعينَي الصقر، وقد استغرق في تفكير عميق.

ومضت ساعة … ثم مضت دقائق أخرى، وأعلن الميكروفون وصول القطار الذاهب إلى «طنطا»، فأسرع «عاطف» يشتري التذاكر … وعندما وصل القطار قفزا إليه ومعهما «زنجر»، حيث لا يزال التصريح ساري المفعول.

•••

واستأنف القطار السير … وجلس الصديقان يتحدَّثان ويداعبان «زنجر» حتى وصل القطار إلى محطة «طنطا» … وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة والنصف … وبدأ الظلام يهبط.

قال «تختخ» وهما يغادران القطار: إن محطة «طنطا» من أكبر المحطات في مصر؛ لأنها مركز لجميع القطارات الذاهبة إلى مختلِف البلاد في الدلتا … وستكون مُهمَّتنا شاقةً في البحث عن العربات المطلوبة.

عاطف: إننا نبحث عن اثنتَي عشرة عربة.

تختخ: بالضبط!

ومرةً أخرى اتجها إلى ناظر المحطة … وبعد حوار استمرَّ دقيقةً واحدةً قال الرجل: لقد أُفرغ من هذه العربات تِسع، ولم يبقَ سوى ثلاث عربات ستُشَد في قطار البضاعة الذاهب إلى الإسكندرية، وسيتحرَّك بعد نصف ساعة.

وأسرع الصديقان للبحث عن العربات الثلاث … كانت المحطة واسعة، وعشرات القطارات تقف هنا وهناك، وعشرات أخرى تقف مُعطَّلةً عن الحركة؛ لأنها لم تعُد صالحةً للاستعمال. وأخذا ينتقلان من رصيف إلى رصيف … وكان «تختخ» قد حذف كل أرقام العربات التي تخلَّفت في «القاهرة» و«بنها»، أو أُفرغت في «طنطا»، واحتفظ بالأرقام الثلاثة للعربات الذاهبة إلى «الإسكندرية».

مضت نصف ساعة وهبط الظلام تمامًا في المحطة الكبيرة. عندما وصل الصديقان والكلب إلى قطار بضاعة بدأ يتحرَّك. أسرع «تختخ» ينظر إلى العربات … كانت العربات الثلاث مشدودةً إلى بقية القطار الطويل، وكانت جميعها من النوع المغلق، ولم يكن الوقت يتسع لفحصها … وقال «تختخ» ﻟ «عاطف»: هذه عربة مكشوفة مُحمَّلة بالقطن … اقفِز فورًا … كان القطار يمشي ببطء مغادرًا المحطة عندما قفز «تختخ» وخلفه «عاطف» ثم «زنجر» إلى العربة، واختبأ الثلاثة بين بالات القطن الضخمة حتى لا يراهم أحد … وبعد لحظات كان القطار يغادر المحطة، وينطلق بين المزارع في الظلام.

قال «تختخ»: يجب أن نبدأ فورًا.

عاطف: ماذا تفعل؟

تختخ: سأذهب إلى العربات الثلاث!

عاطف: كيف؟

تختخ: على السطح. إن في ذهني فكرةً مُعيَّنة … انتظر أنت هنا مع «زنجر» وتوقَّع صيحة «البومة» مني … وحاوِل أن تسمع؛ لأن صوت القطار أعلى من صوتي.

ثم قفز … بخفة لا تتناسب مع سمنته … وتسلَّق بالات القطن، ثم وقف قرب طرف العربة … وتمالك توازنه لحظات، ثم قفز إلى العربة التالية … ومنها إلى التي تليها … كان «تختخ» يحبو حتى لا يراه أحد …

وعندما وصل إلى أول عربة من العربات الثلاث قفز بهدوء على سطحها … كان يريد ألَّا يُحدِث صوتًا يلفت إليه الانتباه … ونام «تختخ» فوق العربة وأخذ ينصت … ثم غادرها بخفة وهدوء إلى العربة التالية … ونام مرةً أخرى على السطح، ووضع أذنه وأخذ يتصنَّت … ثم جلس وقد علت وجهه سمات الخطورة … فقد عثر على ما كان يبحث عنه … وعاد مسرعًا إلى حيث كان «عاطف» و«زنجر» وقال: العصابة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤