الخطة الجهنمية

تحرَّك الثلاثة معًا بالطريقة نفسها … القفز على سطح العربات والزحف عليها، حتى وصلوا إلى العربة المقصودة، فقال «تختخ»: ضَع أذنك على السطح واستمع.

ونام «عاطف» واستمع … وكم كانت دهشته عندما سمع صوتًا منتظمًا كصوت ماكينة تدور! فقال ﻟ «تختخ»: ما هذا؟!

تختخ: إنه صوت مكنة طباعة النقود … إنها خطة جهنمية لا يمكن أن يتصوَّرها أحد … وبدلًا من أن يَبقَوا في مكان واحد يمكن مراقبته أو الشك فيه، استأجروا هذه العربة ووضعوا فيها مكنة التزييف، وهم يقومون بالطبع في أثناء حركة القطار، فتُغطِّي على صوت المكنة، ثم يتوقَّفون في المحطات، ويذهب أحدهم لتوزيع النقود التي طبعوها على عملائهم في مختلِف الأماكن.

عاطف: شيء غير معقول! وكيف يدخلون العربة المغلقة؟ …

تختخ: مسألة سهلة بالنسبة لعصابة مثل هذه؛ إنهم يتسلَّلون ليلًا إلى العربة!

عاطف: عليك أن تتصل بالشرطة، ولكن كيف؟

تختخ: إن هذا القطار سيقف في «دمنهور»، وهناك نستطيع أن نتصرَّف.

وبدأ الصديقان يعودان … ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فعندما وقف «تختخ» ليقفز من العربة إلى العربة التالية … وكان «عاطف» و«زنجر» قد سبقاه. فقد توازنه … وكاد يسقط في الفراغ بين العربتَين … ولكنه استطاع في آخر لحظة أن يتراجع إلى الخلف ويسقط فوق العربة محدثًا صوتًا مُدَوِّيًا …

سقط «تختخ» على ظهره، وأحسَّ بألم هائل في كل جسده … ولكن الألم لم يكن مُهمًّا بالنسبة له، كان ما يُهمُّه حقًّا هو ما يحدث في اللحظة التالية، وكان توقُّعه صحيحًا … فقد سمع باب العربة يُفتح … ثم سمع أصواتًا خافتة … ثم شاهد يدَين تتعلَّقان بسقف العربية، ووجه يُطل عليه … وكانت مفاجأةً رهيبة … فلم يكن هذا الوجه إلا وجه «يوسف» تاجر القطن الذي التقى به في مديرية الأمن ﺑ «أسيوط»!

كانت اللحظات التالية حاسمة … فحاول «تختخ» النهوض سريعًا، ولكن ساقه التي سقط عليها كانت تؤلمه … حاول مرةً أخرى … على حين كان «يوسف» يعتمد على ذراعَيه صاعدًا إلى سطح العربة وهو يطلب من زملائه أن يصعدوا إليه.

وقف «تختخ» في النهاية … وأسرع يقفز إلى سطح العربة التالية في الاتجاه المضاد الذي به «عاطف» و«زنجر»، وكان «يوسف» قد استطاع الصعود إلى سطح القطار، وبدأت المطاردة … «تختخ» يجرى و«يوسف» خلفه … يقفزان إلى العربات … وكان «تختخ» يعلم أنه في النهاية لا بد أن يواجه «يوسف» … فقد كان في اتجاه ذيل القطار وستنتهي العربات … وهكذا بعد أن قفز ثلاث عربات وقف على طرف العربة قبل أن يقفز إليها «يوسف»، وكان بينهما الفاصل الذي بين العربتين، وأدرك «يوسف» خطة «تختخ»؛ فإنه إذا حاول القفز في إمكان «تختخ» أن يدفعه فيسقط بين العربتَين.

ووقفا … يواجه أحدهما الآخر والقطار يمضي في الليل مُطلِقًا صفيره بين فترة وأخرى.

ووصل شخص آخر من العصابة … وفي هذه المرة كان الموقف خطيرًا … فقد كان معه مسدس أخرجه وشاهده «تختخ» على الأضواء البعيدة، وأدرك أنه في موقف حرج … وصاح الرجل وهو يهز مسدسه: استسلم وإلا أطلقتُ النار!

ووقف «تختخ» صامتًا يفكِّر … وصاح «يوسف»: هل معك أحد؟ هل يعرف رجال الشرطة أنك هنا؟

ولم يردَّ تختخ … وشاهد الرجل يرفع يده بالمسدس ويصوِّب … ولكن قبل أن تنطلق الرصاصة … قفز شيء مجهول على الرجل كالصاعقة … كان «زنجر»، وفقد الرجل توازنه … وسقط من فوق القطار … ولم يُضيِّع «تختخ» وقتًا … فقد قفز إلى حيث كان «يوسف» يقف … وكان «زنجر» يهم بالوثوب عليه … والتحم «تختخ» و«يوسف» في صراع عنيف، والقطار يمضي مهتزًّا فوق القضبان … كان كلٌّ منهما يحاول إسقاط الآخر … واستطاع «يوسف» أن يوقع «تختخ» على حافة السطح، وأخذ يحاول قذفه من فوق العربة، ولكن «زنجر» تدخَّل مرةً أخرى وأمسك بذراعه بين أسنانه القوية، وصرخ «يوسف»، ووصل في الوقت نفسه «عاطف»، ولم يكن أمام «يوسف» إلا الجري، فأخذ يجري كالمجنون في اتجاه العربة، و«تختخ» و«عاطف» و«زنجر» يتبعونه … وكان «زنجر» أسرعهم؛ فقد وصل إلى «يوسف» وقفز عليه؛ فاختل توازنه وسقط هو الآخر من فوق القطار.

قال «تختخ» وهو يلهث: لقد نسينا شيئًا هامًّا … إن في كل قطار بضاعة عربة أخيرة فيها حرس … تعالَ نذهب إليهم فورًا!

وأخذ الصديقان يقفزان العربات و«زنجر» خلفهما … حتى وصلا إلى العربة الأخيرة، ووجدا لحسن الحظ أن نصفها مكشوف … وببراعة نزلا إليها … ووجدا شرطيًّا جالسًا في مكانه … وقد وضع بندقيَّته بين ساقَيه، وعندما شاهدهما الشرطي أصابَته دهشة بالغة … وأخذ ينظر إليهما وكأنهما شبحان نزلا من السماء … ولكن «تختخ» قال: اطمئن، لسنا لصوص قطارات، إننا نساعد العدالة.

الشرطي: ما الذي جاء بكما إلى هنا؟

تختخ: إننا نطارد عصابةً من مُزيِّفي النقود!

الشرطي: أنتما؟!

تختخ: نعم … ونحن أصدقاء للمفتش «سامي» … هل تسمع عنه؟

الشرطي: لقد رأيته اليوم صباحًا في «بنها» … كان يُعِد كمينًا لعصابةٍ من مُزيِّفي النقود …

تختخ: إنها العصابة نفسها التي نطاردها … وقد سقط اثنان منها من القطار، وهما بالقطع لن يستطيعا الحركة، والباقون في إحدى عربات القطار ولا نعرف عددهم.

الشرطي: سآتي معكم … ولكن كيف نهبط إلى العربة؟ إننا سنكون صيدًا سهلًا!

تختخ: سننتظر حتى نصل إلى «دمنهور».

عاطف: قد يفر الباقون بمجرَّد الوصول إلى هناك!

الشرطي: تذكَّرتُ شيئًا … بعد مسافة قصيرة هناك إصلاح في الطريق، وسيُضطر القطار إلى الإبطاء … وقد يتوقَّف تمامًا … وفي هذه الحالة يمكن الهجوم عليهم.

تختخ: عظيم … هذه فكرة ممتازة.

وجلسوا يتحدَّثون … وشرح «تختخ» للشرطي الحوادث التي مرُّوا بها حتى وصولهم إلى القطار، فقال الرجل: لقد بذلتم مجهودًا عظيمًا!

وفي تلك اللحظة بدأ القطار يهدِّئ من سرعته … وعندما أصبحت السرعة مناسبةً قفزوا من العربة، وأخذوا يسيرون بجوار القطار إلى أن عثروا على العربة، وكان القطار قد توقَّف تمامًا، ورفع الشرطي بندقيَّته … وهجموا على العربة … ولم يكونوا في حاجةٍ إلى إطلاق الرصاص … فلم يكن هناك سوى رجلٍ واحد يقف مذهولًا في انتظار عودة زميلَيه اللذَين صعدا إلى سطح القطار … ولم يكن يدري أنهما سقطا على الأرض … ولم يكَد يرى بندقيَّة الشرطي حتى رفع ذراعَيه إلى أعلى.

صعد «تختخ» والشرطي و«عاطف» و«زنجر» إلى العربة … وكما توقَّع «تختخ» تمامًا … كانت المطبعة في وسط العربة وهي تدار باليد، وكان بجوارها حقيبة حُشيت بأوراق النقد المزيَّفة …

قال «تختخ»: أين زعيم العصابة؟

الرجل: لا أعرف …

تختخ: إنني رأيته في «الفيلا» المهجورة في «المعادي» … وسوف يعترف زملاؤك!

الرجل: ولن يعترفوا عليه … لسبب بسيط؛ هو أن أحدًا منا لا يعرفه مطلقًا، ولم نرَه أبدًا. وكنا نتلقَّى التعليمات منه بواسطة التليفون أو بواسطة «حسني» … أمَّا من شاهدتَ في «الفيلا» المهجورة فهو «حسني» وليس الزعيم!

تختخ: وأين «حسني»؟

الرجل: إنه الشخص المصاب … وهو الوحيد الذي كان يعرف الزعيم … ويعرف مكانه، ولا أحد غيره يمكن أن يفيدك.

تختخ: ومتى فكَّرتم في وضع المطبعة في القطار؟

الرجل: بعد أن هاجمَنا رجال الشرطة في «المعادي» … لقد انتقلنا إلى أكثر من مكان، ثم فكَّر الزعيم في هذه الخطة … وكنا نستأجر عربةً ونُدخل المطبعة فيها داخل صندوق … وكان يساعدنا أحد أفراد العصابة وهو يعمل في السكة الحديد.

•••

سارت الأمور ببساطة … فعندما وصل القطار إلى محطة «دمنهور»، أسرع «تختخ» بإبلاغ الشرطة، على حين بقي الشرطي يحرس الرجل. وسرعان ما كانت خطوط التليفونات تحمل إلى المفتش «سامي» كل المعلومات … وسرعان ما كانت قوات الشرطة تقبض على الرجلَين الجريحَين بجوار شريط القطار … ثم تحدَّث المفتش إلى «تختخ» وهنَّأه بفكرته المدهشة … ولكن «تختخ» قال: الواقع أن سبب القبض على العصابة هو نكتة أطلقها «عاطف»!

المفتش: لقد أوصيتُ أن تركبوا سيارةً خاصةً ستحملكم إلى «المعادي» … وغدًا صباحًا نجتمع في حديقة منزل «عاطف» لتبادل الحديث.

في صباح اليوم التالي اجتمع الأصدقاء، وروى كلٌّ منهم ما حدث له … ثم وصل المفتش «سامي» … فسلَّم على المغامرين الخمسة، ومسح رأس «زنجر» بعد أن روى له «تختخ» دور «زنجر» الهام في القبض على العصابة …

قال المفتش: عندما عُدت أبلغني «محب» برقم التليفون الذي له صلة بالعصابة، وهو في مقر الزعيم، وقد استطعتُ معرفة العنوان … ولكن عندما وصلنا إلى هناك لم نجد سوى الرجل المصاب … كانت حالته في غاية السوء … وكان من الصعب استجوابه؛ فقد قال الطبيب إن أي مجهود سيبذله سيقضي عليه … وقد نقلناه إلى المستشفى.

تختخ: إنه الرجل الوحيد الذي يعرف زعيم عصابة التزييف، ويجب أن تحصلوا منه على معلومات تمكِّنكم من القبض عليه … وإلا اختفى الزعيم مرةً أخرى!

ولم يكَد «تختخ» ينتهي من كلامه حتى جاءت الشغَّالة تحمل التليفون قائلة: هناك مكالمة لسيادة المفتش.

قال المفتش وهو يمسك السمَّاعة: لقد تركت رقم تليفون «عاطف» في مكتبي للاتصال بي عند الحاجة!

ووضع المفتش السمَّاعة على أذنه وأخذ يستمع وهو يهز رأسه … ومضت مدة طويلة وهو يستمع، وعندما وضع السمَّاعة كانت تبدو عليه علامات التفكير العميق …

واحترم الأصدقاء صمته فلم يتحدَّث أحد، ثم قال المفتش أخيرًا: لقد مات الرجل وأخذ معه سره … سر الزعيم!

وهزَّ «تختخ» رأسه قائلًا: إن هذا الزعيم المِفلات يُشبه الزئبق ولا يمكن إمساكه!

قال المفتش: ولكن الرجل وهو يَهذي تلفَّظ ببضع كلمات يبدو أنها تتعلَّق بالزعيم …

وانتبه الأصدقاء … وقال المفتش: إن الكلمات التي قالها … لقد خنتني … وأنت الآن تتركني أموت على حين تتمتَّع بكل شيء … وتسافر إلى كل مكان في الدنيا … سيارات … طائرات.

وسكت المفتش لحظات، ثم قال: هناك تسجيل كامل بكل ما قاله، ولعلنا نجد في كلماته ما يدلنا على مكان الزعيم.

عاطف: من الواضح ممَّا سمعنا أنه رجل ثري جدًّا.

المفتش: طبعًا!

تختخ: على كل حال لنا جولة ثالثة مع هذا الزعيم الزئبقي … ونَعِدك يا حضرة المفتش ألَّا يُفلت هذه المرة.

محب: ما أغرب المغامرات والألغاز! … في لغز «كلب البحر» قبضنا على الزعيم وهربت العصابة …

وأكملت «نوسة»: وفي هذه المرة قبضنا على العصابة … وهرب الزعيم …

قال «محب»: ولكن مهما استطاع الاختفاء … فلن يختفي إلى الأبد … إن المجرم لا بد أن يترك أثرًا يدل عليه … وقد نجد في التسجيل ما يكفي لمعرفته أو متابعته.

تختخ: دعونا نأمل هذا.

لوزة: المهم أن أمامنا لغزًا آخر.

وصافحهم المفتش، ثم غادرهم وركب سيارته، ورفعوا أيديهم تحيةً له … ورفع «زنجر» ذيله مشتركًا في التحية …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤