الفصل الثامن

الرِّيَاحُ الشَّمَالِيَّةُ تُظْهِرُ صَدَاقَتَهَا

لَمْ يَرَ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ أَيَّ أَثَرٍ لِلْجَدَّةِ ثعلبة الْعَجُوزِ أَوِ الثَّعْلَبِ ريدي عَلَى مَدَى عِدَّةِ أَيَّامٍ. وَفِي بِدَايَةِ كُلِّ صَبَاحٍ — حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ إِفْطَارَهُ — كَانَ يَتَسَلَّقُ إِحْدَى الْفَتَحَاتِ الدَّائِرِيَّةِ الصَّغِيرَةِ وَيَتَلَصَّصُ عَلَى الْمَدَى فِي الْمُرُوجِ الْبَيْضَاءِ الْجَمِيلَةِ كَيْ يَرَى إِذَا كَانَ هُنَاكَ أَيُّ خَطَرٍ فِي الْجِوَارِ. وَلَكِنَّهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ، يَسْتَخْدِمُ داني فَتْحَةً مُخْتَلِفَةً. وَقَالَ داني لِنَفْسِهِ: «فِي حَالِ إِذَا تَصَادَفَ لِأَيِّ أَحَدٍ — فَقَطْ تَصَادَفَ — وَرَآنِي هَذَا الصَّبَاحَ، فَرُبَّمَا يَنْتَظِرُنِي بِالْخَارِجِ عِنْدَ الْفَتْحَةِ الَّتِي تَطَلَّعْتُ مِنْهَا بِالضَّبْطِ كَيْ يُمْسِكَ بِي فِي صَبَاحِ الْغَدِ.» أَتُرَى، هُنَاكَ قَدْرٌ كَبِيرٌ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَاكَ الرَّأْسِ الصَّغِيرِ؛ رَأْسِ داني فَأْرِ الْمُرُوجِ؟!

غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ لَمْ يَرَ أَيَّ أَثَرٍ لِلْجَدَّةِ ثعلبة الْعَجُوزِ أَوْ لِلثَّعْلَبِ ريدي، وَبَدَأَ يَسْتَمْتِعُ بِالرَّكْضِ عَبْرَ أَنْفَاقِهِ تَحْتَ الْجَلِيدِ وَيَقْفِزُ عَبْرَ الْفَتَحَاتِ مِنْ فَتْحَةٍ إِلَى أُخْرَى فَوْقَ الْجَلِيدِ، تَمَامًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ أَنْ تُحَاوِلَ الْجَدَّةُ ثعلبة وَالثَّعْلَبُ ريدي بِاسْتِمَاتَةٍ الْإِمْسَاكَ بِهِ. وَلَكِنَّ داني لَمْ يَنْسَ، بَيْنَمَا تَمَنَّتِ الْجَدَّةُ ثعلبة أَنْ يَفْعَلَ. كَلَّا، الْحَقِيقَةُ أَنَّ داني فَأْرَ الْمُرُوجِ لَمْ يَنْسَ. فَهُوَ أَحْكَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَنْ يَنْسَى.

وَذَاتَ صَبَاحٍ، حِينَ بَدَأَ يَتَسَلَّقُ إِحْدَى فَتَحَاتِهِ الصَّغِيرَةِ، وَجَدَ أَنَّ الْفَتْحَةَ مُنْسَدَّةٌ. بِالْفِعْلِ، كَانَتْ مُنْسَدَّةً. بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَيَّةُ فَتَحَاتٍ. فَقَدْ أَسْقَطَتِ السُّحُبُ الْمَزِيدَ مِنَ الثُّلُوجِ فِي الْمَسَاءِ وَغَطَّتْ بِالْكَامِلِ جَمِيعَ الْفَتَحَاتِ الدَّائِرِيَّةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي صَنَعَهَا داني فَأْرُ الْمُرُوجِ.

قَالَ داني: «يَاهْ! سَوْفَ يَكُونُ يَوْمِي مُزْدَحِمًا بِالْعَمَلِ، بَلْ شَدِيدَ الِازْدِحَامِ بِالْعَمَلِ، عَلَيَّ أَنْ أُخْلِيَ جَمِيعَ الْفَتَحَاتِ مِنَ الثُّلُوجِ. إِذَنْ سَوْفَ أَتَنَاوَلُ فَطُورِي، ثُمَّ أَبْدَأُ فِي الْعَمَلِ.»

وَهَكَذَا تَنَاوَلَ داني إِفْطَارًا مُشْبِعًا مِنْ بُذُورٍ كَانَ قَدْ خَزَّنَهَا فِي تَجْوِيفِ عَمُودِ السِّيَاجِ الْقَدِيمِ الْمَدْفُونِ تَحْتَ الثُّلُوجِ، ثُمَّ بَدَأَ يَعْمَلُ عِنْدَ أَقْرَبِ فَتْحَةٍ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ عَمَلًا شَاقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَرَى أَنَّ الثَّلْجَ كَانَ رَقِيقًا وَخَفِيفًا، كَمَا كَانَ داني يَهْوَى كَثِيرًا الْحَفْرَ فِي الثَّلْجِ. وَفِي غُضُونِ بِضْعِ دَقَائِقَ صَنَعَ فَتْحَةً صَغِيرَةً يَسْتَطِيعُ مِنْ خِلَالِهَا النَّظَرَ إِلَى قُرْصِ الشَّمْسِ، وَبَعْدَ بِضْعِ دَقَائِقَ أُخْرَى جَعَلَ الْفَتْحَةَ كَبِيرَةً بِمَا يَكْفِي كَيْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ خِلَالِهَا. وَنَظَرَ فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ وَذَاكَ. وَعَلَى مَدًى بَعِيدٍ، بَعِيدٍ جِدًّا عِنْدَ قِمَّةِ شَجَرَةٍ اسْتَطَاعَ رُؤْيَةَ الصَّقْرِ الْعَجُوزِ مريش الساقين، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ بَعِيدًا جِدًّا، حَتَّى إِنَّ داني لَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

أَطَلَّ داني بِرَأْسِهِ أَكْثَرَ، وَقَالَ: «أَنَا لَا أَرَى هُنَا أَيَّ شَيْءٍ أَوْ أَيَّ شَخْصٍ يَسْتَدْعِي خَوْفِي.»

ثُمَّ جَلَسَ وَتَأَمَّلَ الْمَوْقِفَ مِنْ حَوْلِهِ لِوَقْتٍ طَوِيلٍ جِدًّا. وَكَانَتِ الْمُرُوجُ جَمِيلَةً وَهِيَ مَكْسُوَّةٌ بِالْبَيَاضِ، بَلْ غَايَةً فِي الْجَمَالِ. وَكُلُّ شَيْءٍ يَبْدُو غَايَةً فِي الْبَيَاضِ وَالنَّقَاءِ وَالْجَمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ بَدَا أَنَّ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِأَيِّ مَخْلُوقٍ أَوْ وُجُودَ خَطَرٍ عَلَيْهِ أَمْرٌ بَعِيدُ الِاحْتِمَالِ. وَلَكِنَّ داني فَأْرَ الْمُرُوجِ تَعَلَّمَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ أَنَّ الْأُمُورَ لَيْسَتْ دَائِمًا كَمَا تَبْدُو؛ وَلِذَا جَلَسَ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ سِوَى رَأْسِهِ الصَّغِيرِ عَبْرَ الْفَتْحَةِ، وَأَخَذَ يَدْرُسُ وَيَدْرُسُ الْمَوْقِفَ. إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ كَوْمَةً صَغِيرَةً مِنَ الثُّلُوجِ بَدَتْ غَرِيبَةً بَعْضَ الشَّيْءِ.

قَالَ داني: «أَنَا لَا أَذْكُرُ وُجُودَ تِلْكَ الْكَوْمَةِ، وَلَا أَذْكُرُ وُجُودَ أَيِّ شَيْءٍ قَدْ يَتَسَبَّبُ فِي عَمَلِ تِلْكَ الْكَوْمَةِ؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَيَّةُ شُجَيْرَةٍ أَوْ جِذْعٌ قَدِيمٌ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ تَحْتَ الْكَوْمَةِ. وَلَعَلَّهَا الرِّيَاحُ الشَّمَالِيَّةُ الْعَنِيفَةُ كَوَّنَتْ تِلْكَ الْكَوْمَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ وَحَسْبُ.»

لَكِنَّ داني فَأْرَ الْمُرُوجِ ظَلَّ طَوَالَ الْوَقْتِ يَتَأَمَّلُ تِلْكَ الْكَوْمَةَ الصَّغِيرَةَ مِنَ الثَّلْجِ. وَعِنْدَمَا رَأَى الرِّيَاحَ الشَّمَالِيَّةَ الْعَنِيفَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَقْتٍ وَجِيزٍ وَهِيَ تَأْتِي بِاتِّجَاهِهِ وَتَتَقَاذَفُ الثُّلُوجَ فِي طَرِيقِهَا. وَأَخَذَتْ حَفْنَةً مِنْ قِمَّةِ كَوْمَةِ الثَّلْجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي كَانَ داني يَتَأَمَّلُهَا، وَحِينَ مَرَّتِ الرِّيَاحُ، رَأَى داني بِعَيْنَيْهِ الْحَادَّتَيْنِ شَيْئًا مَا أَحْمَرَ اللَّوْنِ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا سِوَى لَوْنِ الْعَبَاءَةِ الَّتِي تَرْتَدِيهَا الْجَدَّةُ ثعلبة الْعَجُوزُ.

أَيَّتُهَا الْجَدَّةُ ثعلبة لَا يُمْكِنُ أَنْ تَخْدَعِينِي!
فَعَيْنِي حَادَّةٌ وَأَرَاكِ بِكُلِّ يَقِينِ!

صَاحَ بِذَلِكَ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ وَغَاصَ فِي الثُّلُوجِ بَعِيدًا عَنِ الْأَنْظَارِ، بَيْنَمَا نَفَضَتِ الْجَدَّةُ ثعلبة الْعَجُوزُ الثَّلْجَ عَنْ عَبَاءَتِهَا الْحَمْرَاءِ، وَاتَّجَهَتْ بِبُطْءٍ — وَهِيَ تُزَمْجِرُ فِي إِحْبَاطٍ وَغَضَبٍ — إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، حَيْثُ يَنْتَظِرُهَا ريدي الثَّعْلَبُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤