الأدب

كان العرب قبل الإسلام يُطلِقون لفظ «الأدب» على معانٍ، منها: الدعوة إلى الشيء، يُقال: أَدَبَ الرجلُ يَأدِب أَدْبًا: إذا صنع صنيعًا ودعا الناس إليه، ومنها العجب، وكذلك يطلقونه على الفضائل النفسية، والمكارم الخُلقية، وعليه الحديث: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي.»

ثم تطوَّر معنى هذه الكلمة بعد الإسلام، فأُطْلِقَتْ على مجموعةٍ من علوم العرب، منها: الشعر، والأخبار، والأنساب، والنحو. ويُطلَق على العالِم بهذه العلوم اسم «الأديب»، وإذا اشتغل بتعليمها فهو «المؤَدِّب».

قال أبو منصور الجواليقي المتوفَّى سنة ٥٣٩ﻫ: «وذلك كلام مُوَلَّدٌ؛ لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام. واشتقاقه من شيئين؛ يجوز أن يكون من الأدْب وهو العَجَب، ومن الأدَب مصدر قولك: أَدَبَ فلانٌ القومَ يأدِبهم أدَبًا إذا دعاهم، قال طرفة:

نحن في المَشتاةِ ندعو الجَفَلَى١
لا ترى الآدِبَ فينا ينتقر

فإذا كان من الأدْب الذي هو العَجَب، فكأنه الشيء الذي يُعجَب منه لحُسنه، ولأن صاحبه الرجل الذي يُعْجَبُ منه لفضله. وإذا كان من الأدَب الذي هو الدُّعاء، فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل، وينهاهم عن المقابح والجهل.» ا.ﻫ.

وهذا التطور في معنى كلمة الأدب بدأ في أواسط القرن الأول الهجري، وبذلك التقى في معنى هذه الكلمة أدب النفس وأدب الدرس الذي يستأنس أحدهما بالآخر ويستمد قوَّته منه، فإن أدب الدرس من أهم روافد أدب النفس، كما أن أدب النفس أكبر حافز إلى التوسع في أدب الدرس.

وبهذا التطور في معنى الأدب أصبح ذا كيان خاص، وصار محتاجًا إلى تعريفٍ يجمع بين معناه النفسي ومعناه الدرسي، وعلى هذا قال أبو زيد الأنصاري المتوفَّى سنة ٢١٥ﻫ: «الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرَّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.» وهذا كما تراه شامل لأدبَي النفس والدَّرس؛ لأن الرياضة المحمودة كما تتصل بالنفس تتصل بالدرس. ثم لما تبسَّطَت الأمة في الحضارة وتوسَّعت في المعارف، ولا سيما اللسانية منها، أُضِيفَتْ إلى معنى هذه الكلمة أمور لم تكن من معناها سابقَ العهد، من ذلك إطلاقها على أصول المنادمة وفنونها وعلى فنون النغم وأصول الأغاني وما يتصل بها من الآلات، ولما وضع عبد الله بن طاهر المتوفَّى سنة ٢٨٩ﻫ كتابه في أصول المنادمة وفنونها أسماه «الآداب الرفيعة»، ذاهبًا إلى أن هذا الضرب من الأدب يُعْتَبَر في القمةِ من سائر ضروبه، وكذلك فعل الشاعر المشهور «كشاجم» في تسمية كتابه «أدب النديم»، وقد جمع فيه ضروبًا شتَّى من هذه الفنون.

ثم كلما ابْتُدِع فنٌّ من الفنون اللسانية انضوى إلى لواء هذه الكلمة، وبذلك توسَّع معناها بتعاقب الزمن توسعًا ظاهرًا، وبعد كل هذا التوسع أصبح حد الأدب كما قال ابن خلدون: «هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم، والأخذ من كل علم بطرَف.» ولهذا لا يجوز أن يتحلى بلقب «الأديب» إلا من أتقن الفنون اللسانية، وأَلَمَّ من العلوم الشرعية والكونية بما لا يجمل بالناثر والناظم جهله.

(١) علوم الأدب

تبيَّن مما تقدَّم أن معنى لفظ الأدب تطوَّر من حالٍ إلى حال حتى أصبح جامعًا بين المعنى الخُلُقي والمعنى الفني، بمعنى أنه صار شاملًا المزايا الخُلقية والمكارم النفسية، وزمرة العلوم التي من شأنها تقويم اللسان والقلم، وكل ما يعين على الإجادة في منثور القول ومنظومه، وكل ما يُتوسَّل به إلى فهم كلام العرب في القديم والحديث وهي فنون كثيرة، فلا يسوغ لأحد أن يتَّسم بسمة الأديب بحق إلا إذا ضرب في هذه الفنون بسهم. وقد اختلفوا في تعداد هذه الفنون اختلافًا كثيرًا، لكنهم اتفقوا على أصلٍ واحد وهو أنها فنون اللسان العربي. ومن أشهر الباحثين في ذلك أبو القاسم الزمخشري المتوفَّى سنة ٥٣٨ﻫ؛ فقد ذكر أنها اثنا عشر فنًّا وهي: «اللغة، والصرف، والاشتقاق، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والقوافي»، وهذه تُعتبر أصولًا، «والخط، وقرض الشعر، والإنشاء، والمحاضرات» وهذه الأربعة تُعتبر فروعًا. أما ابن الأنباري المتوفَّى سنة ٥٧٧ﻫ فقد عدَّ منها في كتابه «طبقات الأدباء» «النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصفة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم، والجدل في النحو، وأصول النحو»، وبهذا أسقط بعض العلوم التي ذكرها أبو القاسم الزمخشري، وزاد عِلمين وهما «علم الجدل في النحو، وأصول النحو». وكان الأندلسيون يطلِقون علم الأدب على ما يُحْفَظ من التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات.

والجمهور على أنه لا بد للأديب من الاطلاع على فنونٍ شتَّى غير الفنون اللسانية، ليتحذَّر من التورط في الأغاليط عندما يتطرق في شعر أو نثر إلى ما له مساس في تلك الفنون، ولكي يستعين بذلك على فهم كلام المحدثين الذين أُولعوا بتضمين منثورهم ومنظومهم الكثير من مسائل تلك العلوم، فمن ذلك مثلًا قول الطغرائي:

فإن علاني مَنْ دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل

وقوله أيضًا:

لو كان في شرفِ المأوى بلوغُ مُنًى
لم تبرحِ الشمسُ يومًا دارة الحملِ

وقول أبي الطيب:

وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبر أن المانوية تكذب

فإن البيتين الأول والثاني لا يفهمهما إلا من شدا طرفًا من علم الهيئة، والثالث لا يفهمه إلا من ألمَّ بشيء من علم الكلام. وأمثلة هذا كثيرة، ولا سيما في كلام المتأخرين من الأدباء، وإلى هذا أشار ابن خلدون في تعريفه علم الأدب بقوله: «والأخذ من كل علم بطرَف.»

على أنه إذا أُطْلِقَت علوم الأدب فإنما يُراد بها العلوم اللسانية، التي لا بد من معرفتها لكلِّ مَن يتصف بصفة الأديب. ونحن نلخص ذلك في الفصل التالي مع شيء من الإيضاح.

(٢) إجمال وإيضاح

حدَّثنا التاريخ أنه عندما أحس أولونا بوقوع بوادر الاضطراب على ألسنة أحداثهم، وشعروا بدبيب اللكنة في حواضرهم وتسرب اللحن إلى أحداثهم؛ عزَّ عليهم ذلك، وخافوا أنهم إذا تركوا الحبل على الغارب يستفحل أمر اللحن والاضطراب في لغتهم، ويتدفق عليها تيار العُجْمة فيطمس آثارها، فانصرفوا بكلِّ ما لديهم من تفكير إلى وقايتها وصيانتها، وصد ما يعتورها من طوارئ الخلل والاضطراب، كيف لا وهي لغتهم ولغة دينهم الذي هو سر نهضتهم، وعنوان سيادتهم. ومن ثم بادر علماؤهم إلى تدوينها، وضبط قواعدها، وتقييد مسائلها، وما برحوا ينتقلون في خدمتها من حالٍ إلى حال، حتى استوت لديهم على توالي الأجيال جملةُ علوم أطلقوا على مجموعها «علوم العربية» أو «علوم الأدب»، فمن هذه العلوم ما يخدم العربية المعرَّبة من حيث ضبط مفرداتها وبيان مدلول كل لفظ من ألفاظها، وهذا ما سمَّوه «علم اللغة» أو «متن اللغة».

ومنها ما يخدمها من جهة معرفة ما يعرض لأبنية كلماتها من الهيئات المختلفة، ومعرفة القواعد التي يُستعان بها على معرفة تحويل الأصل الواحد إلى صيغٍ مختلفة في الهيئات متحدة في المادة، للحصول على معانٍ لا يمكن الحصول عليها إلا بتلك الصيغ، وهذا ما يُسمى «علم الصرف» أو «التصريف»، ونريد به ما يشمل علم الاشتقاق.

ومنها ما يُعْرَف به أصول تركيب كلِمها، وانطباق هذه التراكيب على المعاني المرادة منها، وما يعرض لأواخر الكلمات بعد التركيب من التغيُّر وعدمه، وهذا «علم النحو».

ومنها قواعد يُعرَف بها خواص تركيب الكلام، وأسرار بلاغته، وإيراده منطبقًا على مقتضى المقام والحال، وهذا هو «علم المعاني» وبعضهم يسميه «علم البلاغة». ومنها قواعد تُعِين على معرفة إيراد المعنى الواحد بطرقٍ متعددة وتعابير مختلفة في الإيضاح والتبيين، وهذا هو «علم البيان».

ومنها ما يُعرَف به وجوه تحسين الكلام لفظًا أو معنًى، وهو «علم البديع»، وبعضهم يسمي هذه العلوم الثلاثة أو الأخيرين منها فقط «علم البيان»، وبعضهم يطلِق على الثلاثة «علم البديع».

ومنها ما يُبحَث فيه عن طرقِ بيان المقصود بالكلام المنثور كتابةً، وعن اختلاف أساليب الكلام باختلاف الموضوعات، وعن الآداب التي ينبغي للكاتب أن يتأدب بها، والمعارف التي يجب أن يتحلى بها وما إلى ذلك، فأطلقوا على هذا «صناعة الإنشاء». وبحثوا عن كيفية تصوير الألفاظ بحروف هجائها، وسموا ذلك «علم الرسم» أو «الخط» أو «الكتابة».

كل هذه العلوم تخدم المنثور من الكلام. ثم انتقلوا إلى المنظوم فبحثوا فيه من وجوه عديدة: بحثوا عن كيفية نظم الشعر، وعن آداب الشاعر، وعن نقد ألفاظ الشعر ومعانيه، وأطلقوا على هذه المباحث «صناعة قرض الشعر».

ثم بحثوا عن ضبط الأوزان التي نظم عليها العرب المعربون، وأسموا مجموع ذلك «علم العروض».

وبحثوا عن أحوال أواخر الأبيات من حيث حروفها، وحركاتها، وسكناتها، ومحاسنها، وعيوبها، وأسموه «علم القوافي».

ثم انتقلوا إلى البحث عن كيفية إيراد المتكلم كلامَ غيره من منثور ومنظوم حسب المقتضيات والمناسبات في المحادثات والمساجلات، وأطلقوا عليه «علم المحاضرات»، وينطوي تحت ذلك علم أخبار العرب وأيامها وأنسابها والتاريخ على سبيل الإجمال.

هذه أهم العلوم التي حاط بها أسلافنا لغتهم المعربة. وهناك علوم أخرى تتصل بهذه أو تتفرع عنها، وليس هذا محل استقصائها، وإنما أوردنا في هذا التمهيد المهم مما لا بد من إيراده لربط حلقات الموضوع بعضها ببعض. ولسنا بحاجة إلى بيان ما لهذه العلوم من المكانة في خدمة اللغة المعربة وتعزيز جانبها، وتحويطها من أن يطغى عليها سيل العامية فيطمس آثارها ويعفِّي معالمها، ولهذا رأينا أن نلم بتأريخ كل علم منها على سبيل الإجمال وبقدر ما يتسع له المقام، فنبحث عن: نشأة العلم، وأولية تدوينه، وأطوار تدرُّجه في النماء والاتساع، وما تَفرَّع عنه من الفروع، وما أُصِيب به من توقف أو تقلص أو جمود، مع التنويه بذكر البارزين من القائمين على خدمته والتعريف بالمهم من آثارهم فيه، إلى غير هذه من المباحث التي نرى أن في إمكان الطالب أن يجتني منها ثمرة علمية أو عملية.

١  الجفلى: الدعوة العامة. والنقرى: الدعوة الخاصة، يُقال منه: انتقر ينتقر إذا دعا دعوة خاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤