اللغة العربية

(١) أصلها

يردُّ العلماء اليوم اللغات البشرية إلى ثلاثة أصول: السامي، والآري، والطوراني، ويَعُدُّون العربية من الأصل السامي. وإذا اعتبرنا اللغة البابلية الأولى، التي عُثِرَ على بقيتها في آثار الدولة الحمورابية، هي الأصل السامي الذي انشقت منه اللغات المنسوبة إليه؛ يترجَّح عندئذٍ أن العربية أقرب أخواتها إلى ذلك الأصل أو أنها هي الأصل نفسه، تقلبت في أطوار وتنقَّلت في أحوال، وحدَّتْها القرون الخالية بالصقال حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن؛ ذلك لأن العلماء رأوا مشابهة واضحة بين العربية الحاضرة والبابلية الأولى، ووجدوا في هذه كلمات وعلامات وأصولًا وقواعد هي نفسها موجودة في العربية مع خلو سائر أخواتها السامية منها، أو هي موجودة فيها مع تحريف وتحوير ليسا بالبعيدين.

فمن وجوه المشابهة بين العربية المضرية والبابلية حركات الإعراب، فإنها في البابلية كما هي في العربية، ولا أثرَ لها في سائر اللغات السامية، ومن هنا يظهر أن الإعراب عريق في العربية، عرفها وعرفته قبل أن يعرفها التاريخ. ومن وجوه المشابهة جمع المذكر السالم، فإنها في اللغتين «و ن»، وصيغ الأفعال في اللغتين متقاربة جدًّا، والتنوين في البابلية ميم ساكنة، والميم أخت النون في العربية وكثيرًا ما تتبادلان، مثل عنبر تنطق عمبر. ومن أمثلة الكلمات التي جاءت في اللغتين معًا من غيرِ ما تحريف: أنف، عنب، بلال، صعصعة، نسر، شمس، إلى غيرها من الكلمات التي لا تختلف شيئًا في اللغتين.

إذا أضفنا هذا إلى ما يراه المحقِّقون من أن مهد العنصر السامي جزيرة العرب، تبيَّن لنا جليًّا صدق ما ذهبنا إليه من أن هذه اللغة هي العمود الذي انشعبت منه سائر اللغات السامية، أو لا أقل من أن العربية أقربُ أخواتها كلها إلى الأصل الأول المندثر على تقدير وجوده. والعلماء يعلِّلون ذلك بكون العربية عاشت في معظم عصورها مبتدية، والبداوة حرز حريز لما تحوطه بعنايتها وتربيه في حجرها من اللغات؛ إذ اللغة تتلون بتلون العمران، وتصطبغ بصبغة الحضارة التي تعيش في أكنافها، وأين العمران والحضارة من المهامه الفيح والصحارى التي تحار فيها الريح؟

(٢) تطورها

ليس معنى كون العربية أصلًا أو قريبة من الأصل أن هذه اللغة المضرية اليعربية التي تحوكها أقلامنا وتلوكها أفواهنا هي لغة تلك الأم القديمة على ما كانت عليه في مجد حياتها، حفظتها لنا القرون الخالية فأدَّتها إلينا مصونةً من التحوير والتغيير؛ لا وإنما المقصود أن الشعب العربي الذي ما زال ولم يزل يحتفظ بجزيرته، مهد العنصر السامي، احتفظ بأم لغات هذا العنصر، وأن الأم تطورت من حال إلى حال، وتعهدتها الأجيال بالصقال، ولم تزل تتنازعها عوامل البسط والقبض والرفع والخفض إلى أن تناولتها يد النهضة الإسلامية فجمعت شملها، ولمَّت شعثها، وزادت في ثرائها، وبالغت في نمائها، ثم وطدت قواعدها، وضبطت أصولها وفروعها، وأحاطتها بعظيم رعايتها، وشملتها بجليل حمايتها، إلى أن بلغت ما بلغت من البسطة في السلطان والكثرة في الأعوان، واتسع صدرها للعلوم المختلفة من بين شرعية، ولسانية، وفلسفية وغيرها، وبلغت يومذاك شأوًا قصيًّا لم تصل إليه لغة من لغات العالم التي كانت تعاصرها.

فإذا أنت ألقيت نظرةً إليها وهي زاخرة بالعلوم والفنون في العصر العباسي، تجدها أوسع رقعة منها في العصر الأموي. وهي في العصر الأموي وصدر الإسلام أفسح مجالًا منها في الجاهلية يوم كانت منعزلة في زوايا الجزيرة. وقِسْ على ذلك حالها في الجاهلية الآخرة بالنسبة إلى حالها في الجاهلية الأولى.

وبالجملة فإن اللغة تنبسط بانبساط أهلها في الحضارة والعمران، وتنقبض بانقباضهم، وترتقي بارتقائهم، وتنخفض بانخفاضهم، وهي بعدُ كائن حي معروض لعوامل التركيب والتحليل والتجدد والاندثار وسائر العوامل التي تخضع لها الأحياء من هذا القبيل.

وأهم علائم الحياة في اللغة تحكُّم عاملَي التجدد والدثور في بنيتها كالإنسان في عنفوان شبابه، فتستغني عن ألفاظٍ وتراكيب، وتضم إلى نفسها ألفاظًا وتراكيب حسبما تقضي به عوامل النشوء والارتقاء، أو كما يقولون حسبما يتطلبه قانون الانتخاب الطبيعي، ومن هذا نعلم أن العربية اليوم غيرها بالأمس.

(٣) عوامل تهذيبها

وليس في مقدور الباحث اليومَ أن يحيط بكنه ما تقلبت عليه هذه اللغة من أطوار التهذيب وما مرَّت به من عوامل النماء والتوسيع، ولكن يمكن أن يُقال على سبيل الإجمال، فإن أطوار تهذيبها وعوامل نمائها وتوسيعها تابعةٌ لتطور أحوال المتكلمين بها، فإذا علمنا مثلًا أن دولة حمورابي التي وصلت إلى ما وصلت إليه من رفعة الشأن والتبسط في العمران عربية النِّجَار؛ نعلم عند ذاك أن هذه اللغة نالت على عهد هذه الدولة قسطها من التهذيب والنماء يُقدَّران بمقدار ما أحرزته تلك الدولة من سعة العمران، وقوة السلطان.

ويُقال مثل ذلك في الدول العربية الأخرى التي ظهرت لُمَع من أخبارها من خلال غبار العصور الخالية، مثل دولة العماليق في مصر المعروفة عند اليونان باسم «الهيكسوس» وعند قدماء المصريين باسم «الشاسو» أي الرعاة أو البدو، ومثل دولة معين في اليمن وسائر الدول اليمانية التي تبسطت في الفتوح، وتوسَّعت في الحضارة.

ومن هذا يتبين أن معرفة أطوار التهذيب لهذه اللغة تُستمَد من تاريخ الأمة العربية، فلنترك هذا الجانب للباحث في تاريخ العرب. على أنه لا يفوتنا أن أطوار التهذيب ليست قاصرة على ما تتقلب عليه الأمة العربية من الأحوال السياسية، بل هناك تطورات لها شأنها خارجة عن هذه التقلبات، منها: اتصال العرب بغيرهم بالمجاورة والمتاجرة وما إلى ذلك، ومنها انتشار القبائل في أنحاء الجزيرة وانفراد كل قبيلة بمحاسنَ من القول يغبطه عليها القبيل الآخر، ومنها الأسواق المشهورة والمجامع المذكورة مثل: عكاظ ومجنة وذي المجاز، ومنها الحج وغير ذلك.

هذا أمرُ تطوُّرها في الجاهلية، وأما في الإسلام فلأطوار التهذيب تاريخ واضح المنهج، سنُلِمُّ به في غير هذا الموطن إن شاء الله تعالى.

(٤) عوامل نمائها وتوسُّعها

أما عوامل النماء في اللغة فكثيرة، أهمها: الاشتقاق، والنحت، والقلب، والإبدال، والاشتراك، والتضاد، والترادف، والمجاز، والكناية، والإصلاح، والتوليد، والتعريب.

وإذا أنعمت النظر في هذه العوامل تجدها على قسمين؛ قسم منها يرجع إلى بنية اللغة مثل الاشتقاق، وقسم تستمده اللغة من الخارج مثل التعريب. وهذا أشبه شيء بكيفية نماء الأجسام الحية، فإن وسائل نمائها على درجتين؛ الأولى: تمثيل الأغذية التي تستمدها من الخارج، والثانية تحصل بتكاثر الخليات بانقسام الواحدة منها إلى اثنتين، ثم انقسام كلٍّ من الاثنتين وهكذا.

(٤-١) الاشتقاق

يقول الصرفيون: إن الاشتقاق أخذ صيغة من أخرى مع اتفاقهما في أصل المادة والمعنى، ليُدَلَّ بالثانية على المعنى الأصلي مع زيادة مفيدة لأجلها اختلفت حروفهما أو حركاتهما أو هما معًا، مثل: «كَتَبَ» من الكتابة، و«قَرَأَ» من القراءة، وبعبارةٍ أخرى هو ردُّ لفظ إلى آخر لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية.

وقد ذكروا له نوعين؛ الأول: الاشتقاق الأصغر، وهو المشهور بين علماء العربية، وإذا أُطْلِقَ الاشتقاق ينصرف إليه. والثاني: الاشتقاق الأكبر، وأهم مميزاته عن سابقه أنه لا يُشْتَرَطُ فيه الترتيب في الحروف بين المشتق والمشتق منه.

والمذهب المعوَّل عليه بين علماء العربية أن الكلم بعضه مشتق وبعضه غير مشتق. وذهبت طائفة من المتأخرين إلى أن الكلم كلَّه مشتق، وهذا مذهب غير مفهوم؛ لأنه لو كانت كل لفظة نوعًا من غيرها للزم ألَّا يكون هناك أصل وهذا محال، اللهم إلا إذا قالوا: إن المراد بذلك أن الكلمة لا تخلو من أحد أمرين؛ إما أن تكون مشتقة أو مشتقًّا منها، فحينئذٍ يمكن أن يُذْكَر قولهم هذا مع الأقوال، ويحتمل المناقشة والجدال. وتذهب طائفة ثالثة إلى أنه ليس هناك اشتقاقٌ ما وأن الألفاظ كلها أصل، وهو قول بعيد عن التحقيق.

ثم إن التغييرات بين المشتق والمشتق منه في الاشتقاق الأصغر في وجوه:
  • الأول: زيادة حركة في المشتق، مثل عَلِمَ من العِلْم.
  • الثاني: زيادة حرف فيه، مثل طالِب من الطَّلَب.
  • الثالث: زيادة حرف وحركة معًا، مثل ضارِب من الضَّرْب.
  • الرابع: نقص حركة منه، كالفَرْس من الفَرَس.
  • الخامس: نقص حرف منه، مثل ثَبَت من الثَّبَات.
  • السادس: نقص حرف وحركة معًا، مثلًا نَزَا من النَّزَوَان.
  • السابع: نقص حركة وزيادة حرف، مثل غَضْبَى من الغَضَب.
  • الثامن: زيادة حركة ونقص حرف، مثل حَرَم من الحِرْمَان.
  • التاسع: زيادة حركة وحرف ونقصهما، مثل اسْتَنْوَق من النَّاقَة.
  • العاشرة: تغاير الحركتين، مثل بَطِر من البَطَر.
  • الحادي عشر: نقص حركة وزيادة أخرى وحرف، مثل أَضْرَب من الضَّرْب.
  • الثاني عشر: نقص حرف وزيادة آخر، مثل رَاضِع من الرَّضَاعة.
  • الثالث عشر: نقص حرف وزيادة آخر وحركة، مثل خاف من الخوف.
  • الرابع عشر: نقص حركة وحرف وزيادة حركة فقط، مثل عِدَة من الوَعْد، فإن فيه نقص الواو وحركتها وكسر العين بعد أن كانت ساكنة.
  • الخامس عشر: نقص حركة وحرف وزيادة حرف، مثل فَاخَر من الفَخَار.

وإنما أشرنا إلى هذه التغيرات المتنوعة لندل على ما في هذا الباب من السعة، وأنه من أكبر الأبواب التي تنهض باللغة وتمدها بمعينٍ لا ينضب.

أما الاشتقاق الأكبر فيُشترَط فيه حفظ أصل المادة دون تقلبات الهيئة، مثل تقليب مادة «ق و ل» على وجوهها الستة المختلفة: ولق، لقو … إلخ، وهي في كل هذه التصاريف تدل على الخفة والسرعة. قال أبو حيان النحوي: وهذا مما ابتدعه الإمام أبو الفتح بن جني وكان شيخه أبو علي الفارسي يأنس به في بعض المواضع.

والذي يتقرَّى كلم اللغة بإنعام نظر يجد أن لمعظم موادها أصلًا ترجع إليه أكثر كلمات ذلك الأصل إن لم نقل كلها، خذ على ذلك مادة «ف ل» وما يثلثهما تجد الجميع تدور حول معنى الشق والفتح، مثل: فَلَح، فَلَج، فَلَع، فَلَق، فَلَذ، فَلِي. ومثل ذلك مادة «ق ط» وما يثلثهما، تقول: قطَّ، قدَّ، قَطَع، قَطَف، قَطَر، قَطَن … إلخ، وكلها بمعنى الانفصال.

وأول مَن فتح باب هذا النوع من الاشتقاق أبو الفتح أيضًا، وللعلَّامة الزمخشري ولوع فيه، تجد ذلك كثيرًا في كشَّافه. ويذهب بعض اللغويين إلى أن هذا الأصل جارٍ في كل تراكيب المواد اللغوية ولو بضرب من التأويل ولو قليلًا، وهذا مذهب لا يخلو من المبالغة؛ إذ إن كثيرًا من مفردات اللغة دخل عليها من لغات أخرى ثم صار مع الزمان كأنه منها في الصميم ولا يمكن في حال من الأحوال أن يُرَدَّ إلى أصل من أصولها، وللغفلة عن هذه الناحية نجد الكثير من اللغويين يتمحلون لبعض الكلمات اشتقاقات أقل ما يُقال فيها إنها من المضحكات: حُكِي عن بعضهم أنه سُئِل عن اشتقاق الجرجير — نوع من النبات — فقال: سُمِّي بذلك لأن الريح تجرجره أي تجرُّه، وسُئِل عن اشتقاق الجَرَّة فقال: لأنها تُجَرُّ على الأرض، ويقول: إنَّما سُمِّي الثور ثورًا لأنه يثير الأرض للحرث! إلى أمثال هذا الهذيان. والأعجب أن بعضهم يتكلف للأعلام العجيبة ضروبًا من الاشتقاق تتقاطر السخافة من أطرافها، ولا تعدم في هذا العصر أناسًا من هذا القبيل؛ فقد بلغَنا أن بعضهم سُئِل عن البنجرة — وهي يستعملها الأتراك للنافذة — فقال إنها من بنجر الرجل إذا فتح عينيه، لأن النافذة تكون مفتوحة! فاقرأ واعجب.

ولمكانة هذا الباب في علم العربية أفردوه بالتأليف وحاطوه بالعناية الواسعة، وممن ألَّف فيه الأصمعي، ومحمد بن المستنير المعروف بقُطْرُب، وأبو الحسن الأخفش، وأبو نصر الباهلي، والمفضَّل بن سلمة، وابن دريد، والزَّجَّاج، وابن السراج، والرُّمَّاني، وابن النَّحَّاس، وابن خالَوَيْه وغيرهم. هذا زيادةً على ما جاء به الصرفيون في كتبهم من التحقيق والتمحيص، وأكبرهم عنايةً في ذلك إمام الصرفيين وسندهم أبو الفتح بن جني الموصلي، وقد ألَّفَ فيه بعض المعاصرين من علماء الشام كتابًا نفيسًا. والعصر الذي نحن فيه يتطلب من هذا الباب فضلَ توسُّع وبذل عناية؛ لأن المعاني الجديدة المتدفقة والمبدعات العصرية المتكاثرة تتطلب من الألفاظ ما تعيا به مفردات اللغة إذا لم تفزع إلى هذا الباب فتوسِّع منه ما ضيقه بعض المتشددين، ثم تستمد منه العون فتجد منه خير مُعين وأقوى نصير.

ثم إن هذا الباب أوسع من أن يُحَاط به في مثل هذه العجالة، ولكنا نظرنا إليه من بعض نواحيه التي تتعلق بموضوعنا وتركنا التفاصيل للكتب الموضوعة فيه.

(٤-٢) النحت

قد يعمد العربي إلى كلمتين فأكثر فيقتطع منهما حرفًا ويؤلِّف منها كلمة جديدة يدل بها على مجموع المركَّب الذي اقتُطِعَت منه، أو على معنًى آخرَ قريبٍ من معنَى ما اقتُطِعَت منه، فيقول في النسبة إلى عبد شمس «عبشمي» مثلًا، كما يقول «بَسْمَلَ» فلان يريد أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ويسمون العجوز الصَّخَّابة الكثيرة الهذر «صَهْصَلِق» أخذًا من «صَهَل» و«صَلَق» بمعنى صَاتَ صوتًا شديدًا.

وقد أطلق علماء العربية على هذا النوع من العمل اللغوي «النَّحْت»؛ لأن العربي ينحت من الكلمتين فأكثر كلمة، وفي هذا العمل ما فيه من الفوائد مما يرمي إلى إمداد اللغة بالثراء، زيادةً على ما فيه من الاختصار بكون الكلمة الجديدة تدل على جملة من القول؛ فقولنا «بسمل» مثلًا أخصر من قولنا: قال بسم الله الرحمن الرحيم.

ولم يضع له الأوائل قواعدَ واضحة؛ ولذلك اعتبره بعض النحاة سماعيًّا، وقلَّ الاعتماد عليه عند المتأخرين من العلماء على ما يظهر من كلام ابن مالك في تسهيله أنه يعتبر هذا الباب قياسيًّا في باب النسبة، ولكنَّ أبا حيان أنكر عليه ذلك وقال إن هذا الحكم لا يطَّرد وإنما يُقال منه ما قالته العرب فقط. والمحفوظ منه عند أبي حيان: عبشمي في النسبة إلى عبد شمس، وعبدري في عبد الدار، ومرقس في امرئ القيس، وعبقسي في عبد القيس، وتيملي في تيم اللات، هذا ما أورده أبو حيان من المسموع في باب النسبة من المنحوت. ومعلوم أن النحت في غير باب النسبة أكثر منه في بابها؛ فقد قالوا: هَلَّلَ وأكثر من الهيللة إذا قال لا إله إلا الله. وحوقل وأكثر من الحوقلة، وحوقل بعضهم أن يُقال حوقل، وعدَّه من الغلط وليس بشيء؛ لأنه جرى على ألسنة كبار اللغويين، ومَن حفظ حجةٌ على مَن لا يحفظ. وأكثر من الحوقلة إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله. ومنه: حمدل حمدلة، وحسبل حسبلة قال: حسبي الله. وحيعل حيعلة قال: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح. وحيعل بمعنى قال حيَّ على كذا.

قال الشاعر:

أقول لها ودمع العين جارٍ
ألم يحزنك حيعلة المنادي؟

وجعفد جعفدة قال: جُعِلْتُ فداك. ودمعز دمعزة قال: دام عزك. وطلبق طلبقة قال: أطال الله بقاك. ومشكن مشكنة قال: ما شاء الله كان. وسمعل سمعلة قال: سمع الله لمن حمده. وكبتع كبتعة قال: كبت الله عدوك. وسملع سملعة قال: السلام عليكم. وقالوا: حَبْرَمَ القِدْر إذا وَضَع فيها حب الرمان، وأمثلة ذلك كثيرة حتى ذهب ابن فارس وجماعة من المحققين إلى أن الأسماء الزائدة على ثلاثة أحرف أكثرها منحوت مثل قول العرب: رجل ضِبَطْر أي شديد أو ضخم مكتنز اللحم، منحوت من: ضَبَط وضَبَر بمعنى اشتد خلقه وتوثَّق، قال: ومنه أسد صِلْدِم ورجل صِلْدِم أي صُلْب منحوت من صَلَد وصَدَم، وبعثر منحوت من بَعَث وثَبَر، وبحثر من بَحَث وأَثَار.

ويرى الخليل أن النحت يجيء في الحروف، قال: أصل «لن» لا أن فخُفِّفت فصارت لن، وقد حدث لها بالتركيب معنًى جديد في الجملة.

وللنحت يد سموح في إمداد اللغة العربية بالثروة ولا سيما لغة العلم، ولكن بعض المتأخرين من النحويين حالوا بين أهل العلم وبينه بقولهم إنه باب سماعي، وبذلك أوصدوه في وجوه القوم، على حين الحاجة ماسة إلى فتحه وتوسيعه بقدْر المستطاع لمعالجة الفاقة اللغوية تجاه المعاني العلمية التي فاض فيضها وعَبَّ تيارها في هذا العصر.

ثم ما لنا وللمتشددين من متأخري النحاة الذين كلما انفتح أمام اللغة باب تتنفس منه هُرِعوا إليه وسدوه، على زعم أنهم يخدمونها بالمحافظة عليها وسدِّ مسالك العجمة عنها؟! وما أشبه عملهم هذا بعمل تلك الصينية التي تضع قدميها في زوجَي خفٍّ من الحديد للمحافظة على غضارتها وجمالها، ولم تدرِ أنه سوف يأتي عليها زمنٌ تفقد فيه هاتان القدمان قوَّتهما وتعجزان عن القيام بوظائفهما! وكذلك شأن اللغة عند هذا الفريق من القوم يوصدون عليها أبواب القياس ويأخذون عليها مجامع الطرق على زعم أنهم يحرسونها ويحافظون على نضارتها ويبقون على غضارتها، وفاتهم أنهم بهذا الصنيع يعملون على إماتتها بإماتة عناصر الحياة فيها وإبعاد عوامل النماء عنها، وأنهم لا يزالون يضيِّقون عليها السبل حتى يقول المرجفون والذين في قلوبهم مرض: إنها أصبحت لغة مصابة بفقر الدم وذبول الخليات، ومُنِيتْ بسائر أعراض الهَرَم فصارت عاجزة عن أن يتسع صدرها للمعاني الجديدة المتكاثرة والعلوم العصرية المتدفقة بالمصطلحات، وبذلك يسجلون عليها عجزها وهي غير عاجزة، وفقرها وهي غير فقيرة، وإنما العجز في نفوس الذين يزعمون أنهم قائمون على خدمتها وهم في وأدها مشتغلون، والفقر في تفكيرهم وهم لا يعلمون.

(٤-٣) القلب

هو تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، وبذلك تتولَّد كلمة جديدة تتفق مع أصلها في مادة الحروف وتختلف عنها في الترتيب، مثل: صاعقة وصاقعة، وخطيب مُصْعِق ومُصْقِع، ويئس وأيس، وعاث في الأرض وعثا فيها، وأثول وألوث، ونزغ الشيطان بينهم ونغز، وهو يتسكع ويتكسع إذا تحير، ومرزاب السطح ومزرابه، وكلام وحشي وحوشي، وهم الأوباش والأوشاب؛ أي الأخلاط من الناس.

وأمثلة هذا كثيرة ذكر منها الجلال السيوطي في «المزهر» جملة صالحة، وقد ألَّف فيه ابن السكيت كتابًا خاصًّا، وعقد له ابن دريد في جمهرته بابًا على حدته، وكذلك فعل أبو عبيدة في كتاب الغريب المصنف. وليس في هذا الباب كبير فائدة من حيث الثروة اللغوية إلا من ناحية الألفاظ، أما المعاني فإنها لا تتكثر به إذ المقلوب والمقلوب عنه يدلان على معنًى واحد، فإن جذب وجبذ يدلان على معنًى واحد وإن تعدَّدا لفظًا.

ويذهب البصريون من النحويين إلى أن معظم ما يسميه اللغويون قلبًا ليس به، وإنما هو من باب تعدُّد اللغات، فجبذ عندهم مثلًا لغةُ قبيلة وجذب لغةُ قبيلة أخرى، وعلى هذا يكون الكثير مما يظنون أن القلب قد دخله ليس بذاك. ولا يتحقق القلب عند هؤلاء إلا إذا تم لإحدى اللفظتين من التصاريف ما لم يتم للأخرى، فعندئذٍ يعتبرون اللفظة ذات التصريف أصلًا وذات التصريف الناقص فرعًا مثل يئس وأيس، فإنهم لما وجدوا للأولى منها مصدرًا وهو اليأس ولم يجدوه للثانية، قالوا إن الأولى أصل والثانية فرع. وليس هناك فائدة مهمة من وراء هذا الخلاف إلا من وجهة واحدة، وهي أنه: هل كانت القبيلة الواحدة من العرب تستعمل اللفظتين معًا أو كانت تستعمل لفظًا واحدًا منهما واللفظ الثاني تستعمله قبيلة أخرى؟ سيأتي في باب المترادف ما يلقي شيئًا من النور على هذه المسألة؛ لأن اللفظين في هذا الباب لا يخرجان عن كونهما مترادفين سواء قلنا بالقلب أو بتعدُّد اللغات.

(٤-٤) الإبدال

عرفنا أن القلب نقلُ حرفٍ من موضعه إلى موضع آخر من الكلمة نفسها فتُولَد من ذلك كلمة أخرى جديدة، وبعبارة أخرى تصير الكلمة الواحدة كلمتين.

أما الإبدال فهو أن ترفع حرفًا وتضع غيره موضعه، فتتولد من ذلك كلمة أخرى تدل على عين ما تدل عليه الأولى من المعنى، فهو أخو القلب من ناحية أثره في الثروة اللفظية للغة دون المعنوية منها.

وقد اختلفوا فيه كما اختلفوا في القلب، فقال فريق: المبدل والمبدل منه يقعان في لغة القبيلة الواحدة، فالقبيلة التي تقول «صراط» هي نفسها تقول «سراط». ويذهب المحقِّقون إلى أن العرب لا تتعمد تعويض حرف من حرف، وإنما هي لغات مختلفة لفظًا لقبائل مختلفة تدل على معانٍ متفقة، بأن تتقارب اللفظتان في لغتين لمعنًى واحد حتى إنهما لا يختلفان إلا في حرف واحد. وعلى هذا لا تتكلم القبيلة الواحدة بكلمة طورًا بالصاد وطورًا بالسين، إنما يقول هذا قوم وذاك قوم آخرون.

ومن أمثلة هذا الباب قولهم: ضربة لازب ولازم، وتلعثم وتلعذم، والقطر والقتر للناحية وجمعهما أقطار وأقتار. والحثالة والحفالة للرديء من كل شيء، والثوم والفوم وهو الحنطة. واللثام واللفام، وبعثر وبحثر، ومدَّ الحرف ومطه، والثَّرَى والبَرَى … إلخ، والأمثلة كثيرة تكاد تفوت الحصر حتى قال بعض المحققين: قلَّما تجد حرفًا إلا وقد جاء فيه البدل ولو نادرًا، يريد به البدل السماعي، أما ما يذكره الصرفيون من أن حروف الإبدال تسعة «أ، ت، د، ط، م، ﻫ، و، ي» فإنهم يريدون به الإبدال القياسي، وهو مفصَّل في كتبهم وليس من موضوعنا الإفاضة فيه. وللإبدال السماعي دواعٍ كثيرة، منها: سهولة اللفظ بأحد الحرفين المبدل أو المبدل منه، ومنها — وهو أهمها — البيئة فإن لها الأثر البيِّن في تنشئة الألسن؛ ولهذا تجد القبائل اليمانية مثلًا تختلف في كثير من الألفاظ عن القبائل الحجازية، فإن هؤلاء ينطقون السين سينًا فيقولون الناس مثلًا، وأولئك يقلبونها تاء فيقولون النات، وهؤلاء يقولون لبيك وسعديك مثلًا، وأولئك لبَّيْش وسعدَيْش بقلب الكاف شينًا وهي شنشنتهم.

وسنعرض لهذا البحث في باب اختلاف لغات القبائل ونمنحه فضل إيضاح إن شاء الله تعالى.

(٤-٥) الترادف

من الألفاظ ما يؤدي معنًى واحدًا كرجل وفرس وبغداد ومكة مثلًا، ومنها ما يؤدي أكثر من معنًى واحد على وجه الحقيقة مثل «خال»، فإنه موضوع لأخي الأم وللشامة المعروفة وللسحاب وللمتكبر … إلخ. ومنها ما هو بالعكس معنًى واحد يُوضَع للدلالة عليه أكثر من لفظ واحد، فإنهم مثلًا وضعوا الحنطة والقمح والبُرَّ والفُوم والثُّوم للحبِّ المعروف، ووضعوا للسيف خمسين اسمًا، وللأسد مئات، وأكثر منها للجمل، وأمثلة هذا الباب كثيرة، وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم: مجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس، وضع فيه كتابًا أسماه «الروض المسلوف في ما له اسمان من المألوف»، وبعضهم أفرد بالتأليف أسماء بعض المعاني فألَّف ابن خالويه كتابًا في أسماء الحية، وألَّف الفيروزبادي كتابًا في أسماء العسل، وأفرد السيوطي كتابًا في أسماء الأسد. ومن الناس مَن ينكر المترادف في اللغة العربية ويزعم أن كلَّ ما يُظَن أنه من المترادف إنما هو من قبيل المتغايرات التي تختلف باختلاف الصفات، ومن ذهب إلى هذا أبو الحسين أحمد بن فارس، قال في كتابه فقه اللغة المعروف ﺑ «الصاحبي»: «يُسَمَّى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو: السيف والمهند والحسام، والذي نقوله في هذا: إن الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة معناها غير معنى الأخرى.»

وهو مذهب ثعلب وجماعة من محققي اللغويين، وقد حكى بعضهم أن جماعة من أهل الفضل فيهم ابن خالويه وأبو علي الفارسي حضروا في مجلس سيف الدولة في حلب، فقال ابن خالويه: إني أحفظ للسيف خمسين اسمًا. فتبسم أبو علي الفارسي وقال: ما أحفظ له إلا اسمًا واحدًا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا وكذا …؟ فقال أبو علي: هذه صفات. وكأن الشيخ لا يفرِّق بين الاسم والصفة.

ومن الواضح أن الترادف خلاف الأصل لأنه طريق إلى الإسراف في الألفاظ وهو خلاف المعقول؛ لأن الألفاظ محصورة والمعاني غير محصورة؛ إذ الألفاظ مركَّبة من الحروف الهجائية على أوضاعٍ معينة فلا بد أن تقف عند رقم معين، أما المعاني فهي بنات المحسوس ونتاج العقول فلا يُعْقَل أن تقف عند حد.

ومن ثم ينبغي أن يكون الأصل الاقتصاد في الألفاظ بقدر الطاقة، وعلى هذا ينبغي ألا نقول بالترادف إلا عندما يتعذر الحمل على غيره. والحق أن معظم الألفاظ التي يُقال في بادئ الرأي إنها متوطئة على معنًى واحد هي في الواقع ليست كذلك، فإذا أنت أنعمت النظر فيها تبيَّن لك أن كل لفظ منها يدل على معنًى يختلف ولو قليلًا عما يدل عليه اللفظ الآخر، فإذا أخذنا لفظي الشك والريب مثلًا نجد الجمهور يفسرون أحدهما بالآخر فيقولون في تفسير لَا رَيْبَ فِيهِ: لا شك، مع أن بين معنييهما اختلافًا بينًا، فالشك يدل على مجرد التردد بين أمرين لا يترجح أحدهما على الآخر، مع أن الريب يدل على القلق والاضطراب في النفس متولِّدين من التردد الذي يدل عليه الشك فالريب شك مصحوب بقلق واضطراب، ومن ثم يُقال: هو في شك مريب؛ أي مُقلِق مُزعِج، ولا يقال: هو في ريب مشكك، وعلى هذا لا بد أن يُسبَق الريب بالشك ولا عكس. ومثل ذلك الظن والوهم، فإن الفكر إذا تردد بين أمرين وكان أحدهما أرجح من الآخر فالجانب الراجح ظن والمرجوح وهْم بسكون الهاء، أما المفتوح الهاء فهو الخطأ. وكذلك إذا أخذنا الشَّرَق والغَصَص والشَّجَا مثلًا، نجد الأول يدل على انسداد مجرى التنفس بالماء وكل مائع، والثاني يدل على انسداده بالطعام، والثالث بالعظم وكل صلب، وبعض اللغويين يفسر بعض هذه الألفاظ ببعض.

ومثل هذا جلس وقعد، يُظَن أنهما مترادفان مع أن اللفظة الأولى لا تُطلَق على الهيئة المخصوصة إلا إذا كانت عقب الاضطجاع أو الاستلقاء ونحوهما، والثانية إنما تُطلَق على تلك الهيئة إذا كانت عقب الوقوف ونحوه، فيقال: كان مضطجعًا فجلس وكان واقفًا فقعد، فالجلوس يكون بعد حالة هي دونه والقعود بعد حالة هي فوقه، وأصل مادة «ج ل س» تدل على الارتفاع ومنه قيل للذي ينزل نجدًا «جالس»، ومادة «ق ع د» تدل على الانخفاض ومنه قاعدة البناء لأساسه.

(٤-٦) الاشتراك

من الألفاظ ما هو موضوع بإزاء معنًى واحد مثل «بغداد» لهذه المدينة ومنها ما يدل على أكثر من معنًى، وهذا إما أن يكون في الأصل موضوعًا لمعنًى واحد ثم استُعْمِل في غيره لعلاقة بين المعنيين مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي، كلفظ الوطيس فإنه موضوع في الأصل للتنور ويُطلَق على شدة بأس الحرب لما بينهما من المناسبة الظاهرة فيُقَال حَمِي الوطيس أو حَمِي وطيس الحرب، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز. وقد يُشْتَهَر اللفظ في معناه المجازي بحيث يتبادر إلى الذهن بمجرد إطلاقه مجردًا عن القرائن، فإن كان الاشتهار عند أهل الشرع سُمِّي حقيقة شرعية أو منقولًا شرعيًّا، مثل: الصلاة والزكاة والوضوء والتيمم. وإن كان الاشتهار عند أهل العلوم سُمِّي حقيقة اصطلاحية أو منقولًا اصطلاحيًّا كالضرب والطرح والقائمة والحادة عند الرياضيين، والتمييز والمبتدأ والخبر والضمة والفتحة والكسرة والسكون عند علماء العربية، وإن كان الاشتهار في عُرْف العامة سُمِّي حقيقة عرفية أو منقولًا عرفيًّا، كالحيوان للبهيمة خاصةً مع أنه في الأصل أعم من البهائم وغيرها. وإما أن يكون اللفظ في الأصل موضوعًا لكل واحد من تلك المعاني بوضع مستقل فهو المشترك؛ فالمشترك إذن هو اللفظ الموضوع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة، كلفظ الخال فإنه موضوع لأخ الأم وللشامة وللسحاب. وأمثلة المشترك كثيرة جدًّا، فقد ذكروا لبعض الألفاظ معنيين مثل «العم» لأخ الأب وللجمع الكثير، وذكروا لبعضها ثلاثة معانٍ مثل «النَّوَى» لمعناه المعروف وللنية وللبعد. ولبعضها أربعة معانٍ مثل «الرُّوبَة» — الروبة من غير همز — لخميرة اللبن وجِمام ماء الفحل وما يُلْزَم به المرء من الأعمال وقطعة من الليل. وذكروا لبعض الألفاظ خمسة معانٍ إلى العشرة بل إلى العشرات مثل «الخال» و«العين»، حتى إن كثيرًا من الشعراء نظموا القصائد الخاليَّات والعينيات بأن جعلوا قوافيها لفظ الخال أو العين من أول القصيدة إلى آخرها.

وأنكر بعضهم ورود المشترك في اللغة قائلًا: إن اللغة إنما وُضِعَتْ للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على معنيين مختلفين فأكثر لَمَا كان ذلك إبانة، بل تعمية وتغطية.

ولا شك في ورود المشترك، وأما ما ذكره المعترض فلا يخرج عن كونه عيبًا من عيوب الاشتراك وهَنَة من هنواته، ولكن لا يلزم من كون الشيء معيبًا أن يكون مفقودًا، فلو هبَّ إعصار فأهلك الزرع والضرع فهل يجمل بنا أن ننكر وجود الإعصار لأنه مضر في ذاته؟! هذا ما لا يقوله عاقل. على أن وقوع المشترك يكاد يكون طبيعيًّا في اللغة، وذلك لأن الألفاظ مركَّبة من الحروف وهي محدودة والمعاني كثيرة ولا تزال تتجدد ولا تتناهى، فالاقتصاد في استعمال الألفاظ يقضي بجعل اللفظ موضوعًا بإزاء أكثر من معنًى والتمييز يكون بالقرائن الحاليَّة أو المقالية، فمن قال مثلًا: «في خد فلان خالٌ» لا يُشْتَبَه بأنه الشامة، وإذا أشار إلى رجل قائلًا: «هذا خالي» فلا شك بأنه أخو أمه.

وأسباب الاشتراك كثيرة، منها: اختلاف الوضع باختلاف الواضعين، كأن يضع بعض الناس لفظًا بإزاء معنًى ثم يضعه الآخرون بإزاء معنًى آخر ويُشْتَهَر ذلك اللفظ بذَيْنِك المعنيين عند كلا القبيلين، ثم بتطاول الأزمان يُنْسَى اختلاف الواضعين. ومنها كثرة استعمال المجاز حتى يُشْتهَر ويصبح كأنه حقيقة في أحدهما ومجازًا في الآخر مثل «العين» لربيئة القوم، فإنه في الأصل مجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل ولكنه اشتُهِر في الاستعمال حتى أصبح اللغويون يعدونه في جملة معاني العين المشتركة. وعلى ذلك كثير من الألفاظ التي تُعَدُّ اليوم في زمرة المشترك وهي في الأصل حقيقة ومجاز، وهذا هو السر في توهم بعض الناس لهذا العهد بأن عرب الجاهلية تقلل من استعمال المجاز في شعرها ونثرها، والواقع أن أولئك العرب كغيرهم كانوا يكثرون من استعمال المجاز ولكنه لما اشتُهِرَت تلك المعاني المجازية وتطاول عليها العمر أصبحت تتراءى لنا اليوم كأنها حقائق، فإن أعوزتك الأمثلة الكثيرة في هذا الشأن فارجع إلى معاجم اللغة ودواوين الأدب تجد الشيء الكثير من طِلْبتك، وعليك بأساس البلاغة للزمخشري فإنه أعذب مورد في هذا الباب.

(٤-٧) الأضداد

قد يدل اللفظ المشترك على معنيين فأكثر يمكن اجتماعهما أو اجتماعهما في شيء واحد، وقد لا يمكن هذا الاجتماع فيدل اللفظ الواحد على الشيء وعلى ضده ﮐ «الجَوْن» للأسود والأبيض، ويُطلِق عليه أهل اللغة اسم الضد. ويُقال فيه ما يُقال في المشترك من الورود وعدمه، وأسباب ذلك لأنه فرع من فروعه لا يختلف عنه إلا من جهة أنه يدل على الشيء وضده فقط، وأمثلته كثيرة وقد أفرده جماعة بالتأليف منهم: المبرد في كتاب «ما اتفق لفظه واختلف معناه»، ومنهم التوزي، ومنهم أبو البركات ابن الأنباري، وابن الدهان، والصغاني، ومنهم أبو بكر بن الأنباري وكتابه مطبوع متداول، وقد ذكر في صدره السر في ورود أسماء الأضداد في اللغة فارجع إليه إن شئت.

(٤-٨) المجاز

لا يختلف اثنان بأن المجاز من أهم عوامل التوسع في مناحي الاستعمال اللغوي، فإذا اشتريت فرسًا وقلت اشتريت بحرًا مثلًا أي أنه ينصبُّ في الجري انصباب ماء البحر كأنك تكون قد زدت في أسمائه لفظًا، كما أنك زدت في مدلول لفظة «بحر» معنًى جديدًا وهو الفرس القوي السريع الجري، ومثل هذا إطلاق الرحمة على الجنة في قوله تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، فإنك قد زدت في أسماء المكان لفظًا كما أنك زدت في مدلول الرحمة معنًى جديدًا.

وقد علمنا في باب الترادف أن كثيرًا من المجازات تصبح بسبب كثرة الاستعمال حقائق، وإذا أنت تأملت المستعمَل من الكلام تجد للمجاز فيه حظًّا ليس بالقليل حتى ذهب أبو الفتح بن جني ومَن تبعه إلى أن أكثر اللغة من هذا القبيل، وقد عقد لذلك بابًا في كتاب الخصائص أورد فيه الكثير من الأمثلة ودعَّم مدعاه بالمعقول من الأدلة.

ويعتقد أبو الفتح أن المجاز إنما يقع ويُعْدَل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة وهي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فاستعمال البحر في الفرس مثلًا فيه اتساع كما ذكرنا، وفيه تشبيه لأن جريه يجري في الكثرة مجرى ماء البحر، وفيه توكيد لأنه شبه العرض وهو الجري بالجوهر وهو البحر والجوهر أثبت في النفوس من العرض. والمجاز زيادة على كونه عاملًا من عوامل اتساع اللغة هو حلية من أفخر حلاها، تزينت به بعد أن ضرب العرب في النهضة الاجتماعية بسهم.

والحق أن المجاز ثالث ثلاثة في توسيع رقعة اللغة، فكان عمدة القوم في بادئ الأمر على الارتجال، ثم لما توفِّر لديهم طائفة من الألفاظ المرتجلة ركنوا إلى الأخذ بالاشتقاق والتوسل بأساليبه المختلفة، وعندما يعوزهم الاشتقاق يعمدون إلى المجاز. ويقارب هذه العوامل الثلاثة في خدمة التوسع التعريب.

والكناية أختُ المجاز يُقال فيها ما يُقال فيه، فلا حاجة إلى التكرار.

(٥) الألفاظ الإسلامية

جاء الإسلام والأمية فاشية في العرب والجهل ضارب بجِرَانه فيما بينهم، فأمدهم بما لا عهد لهم به من العلم الكثير والانقلاب العظيم فتكاثرت المصطلحات الجديدة وعَبَّ عبابها، فتمطت اللغة عند ذاك وفتحت صدرها الرحب لضم تلك المصطلحات بمعانيها الجديدة ولم تَضِقْ ذرعًا بتحمُّل ما حملته في هذا السبيل، بل نهضت بكل ذاك نهوض القادر الأمين، بعد أن كان العربي لا يفقه من شئون دينه ودنياه إلا النزر البسيط جاءه القرآن والسنة بالفيض الفائض منهما، ثم جاءت الفتوح واتسع سلطان القوم فازدحمت اللغة بالمصطلحات الكثيرة التي اقتضتها الأوضاع السياسية والإدارية والتطورات الاقتصادية والاجتماعية، ثم لم تزل الأحداث تتوالى والأحكام تتجدد وتتكاثر بتجدُّد الأحداث وتكاثرها إلى أن استوى لدى القوم من المصطلحات الشيء الكثير، حتى إنهم أفردوها بالتأليف وكثرت فيها التصانيف.

وليس معنى هذا أن تلك المصطلحات كلها ارتُجِلت ارتجالًا وابتُدِعت ابتداعًا، وإنما جُلُّها معانٍ جديدة نُقِلَت إليها ألفاظ من اللغة كانت مستعملة في معانٍ أخرى تتناسب مع المعاني الشرعية، وربما عَرَّبَت الشريعة بعض الألفاظ بمعانيها. ومن أمثلة المصطلحات الإسلامية الصلاة، وأصلها في لغتهم الدعاء والترحم، ثم نقلها الشرع إلى المعنى المعروف للمناسبة الظاهرة، ومن ذلك الركوع وأصله الخضوع، فنقله الشرع إلى الهيئة المخصوصة، ومثله السجود فإن أصله التطامن والذلة وهو في الشرع عبارة عن الهيئة المخصوصة، ومن ذلك الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النَّماء، ومن ذلك المحرَّم للشهر المعروف فإنه لم يكن معروفًا في الجاهلية وإنما كان يُقال له ولصفر الصَّفَران، وكان أول الصَّفَرين من الأشهر الحُرُم، وكانت العرب تارة تحرِّمه وتارة تقاتل فيه، فلما جاء الإسلام وأُبْطِل النسيء سمَّاه النبي شهر الله الحرام. ومن ذلك الجاهلية، فإنه اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة. ومن ذلك الفاسق وأصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وكذلك كل شيء خرج عن قشره فقد فسق، ثم نقله الإسلام إلى الخروج عن الطاعة. والأمثلة في هذا أكثر من أن يُحاط بها، ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع الكتب الشرعية من التفسير وغريب الحديث وأصول الدين والفقه وأصوله، فإنه يقف على فيضٍ من تلك المصطلحات المنبثة هنا وهناك، وتجدهم هناك يقولون لهذه اللفظة معنيان، معنًى في اللغة ومعنًى في الشريعة. وإنما انفردت الألفاظ الإسلامية عن سائر مصطلحات العلوم كالعربية وغيرها لما للشرع من معنى الشمول، فإن الألفاظ الشرعية تتمتع من الانتشار والشمول بما لا تتمتع به مصطلحات العلوم الأخرى، فإن الذين يعرفون الصلاة — مثلًا — بمعناها الشرعي أكثر بكثير من الذين يعرفونها بمعناها اللغوي. أما مصطلحات العلوم المختلفة فإن معرفتها بمعانيها الاصطلاحية مقصورة على أهل تلك العلوم، فمصطلحات النحو مثلًا لا يفهمها سوى النحوي ومصطلحات العروض لا يعرفها غير العروضي، خلاف المصطلحات الشرعية فإنها مُشاعة بين جميع أفراد الأمة عامتهم وخاصتهم.

واستعمال الألفاظ الشرعية بمعانيها الشرعية من قبيل الحقائق عند أهل الشرع واستعمالها بمعانيها اللغوية من قبيل المجازات عندهم، والأمر عند اللغويين بالعكس، فالصلاة بمعناها الشرعي حقيقة عند الشرعيين مجاز عند اللغويين، وهي بمعناها اللغوي مجاز عند الشرعيين حقيقة عند اللغويين، ولهذا يقول علماء البلاغة: إن الحقيقة أقسام، منها اللغوية ومنها الشرعية، وكذلك المجاز منه الشرعي ومنه اللغوي.

(٥-١) الاصطلاح

قلنا إن الألفاظ الشرعية لا تخرج عن كونها مصطلحات، ولكنها أوسع شمولًا من مصطلحات سائر العلوم لأن أتباع الشرع أكثر عديدًا من أتباع كل علم من العلوم الأخرى على حدته. ولما اتسع نطاق المعارف وبسقت دوحتها وتبارت العقول في خدمتها وتنميتها، وانماز كل علم منها بمسائله وقواعده من علوم شرعية إلى لسانية إلى كونية وتكاثفت أغصانها وفروعها؛ احتاجوا في كل فرع منها إلى وضع مصطلحات كثيرة للمعاني الكثيرة التي زخرت بها تلك العلوم، فمصطلحات العلوم اللسانية تختلف عن مصطلحات العلوم الشرعية، وهذه تختلف عن مصطلحات علوم الفلسفة مثلًا، فالعامل عند النحوي مثلًا غيره عند الفقيه والفيلسوف، وكذلك الكلام والتمييز والحال والإعراب والبناء إلى غير ذلك من الكلم التي اصطلح عليها أهل كل علم في علمهم. وكان أرباب العلوم إذا جدَّ لهم معنًى وضعوا له لفظًا يناسبه، فإن أعوزهم فزعوا إلى الاشتقاق أو النحت أو غيرهما، وقد يتصرفون في اللغة تصرُّفًا يُغضِب اللغويين أو المصرِّفين ولكنهم لا يبالون بذلك إذا أرضوا المعنى الذي يريدونه، فقالوا: اللاأدرية أو العندية والمتى والأين … إلخ، وإذا ضنَّت عليهم العربية أو بالأصح لم يتوفقوا للوصول إلى بغيتهم منها فزعوا إلى التعريب فقالوا: سفسطائية وأسطقس وإيساغوجي وأقرباذين … إلخ.

وقد تمايزت مصطلحات كل علم عن غيرها، وإذا ضممت مصطلحات العلوم المختلفة إلى بعضها يتوفر لديك معجم ضخم له شأنه، وقد فعل ذلك بعض المتأخرين فتم لديهم الشيء الكثير، ومجموع ذلك يؤلف لغة قائمة بنفسها هي لغة العلم وعليها المعوَّل في كل لسان.

وأنا أرى أن معجم المصطلحات يجب أن يسبق المعجم اللغوي؛ لأنه ألزم والانتفاع به أكثر.

(٥-٢) الألفاظ المولَّدة

قلنا إن المنابع الكبرى التي استُقِيَت منها اللغة العربية إنما هي القرآن الكريم والحديث النبوي وكلام العرب الموثوق بعربيتهم، ومن المعلوم أن القرآن تم قبل انتقال الرسول إلى الملأ الأعلى بزمن يسير وأن الحديث النبوي خُتِم بانتقاله، فبقي كلام العرب الموثوق بعربيتهم واستمرت الثقة به إلى أن اختلت سلائق القوم واضطربت ألسنتهم على أثر اختلاطهم بحمراء الأمم وصفرائها، فما كاد ينطوي بساط القرن الأول الهجري حتى انقضى عمر الاعتماد على كلام المتحضرة من العرب، أما العرب فامتد أجل الثقة بكلامهم إلى ما بعد القرن الأول ولكنه لم يطل إلى ما بعد القرن الثالث، إلا في قبائل قليلة كانت معتصمة في شعاف بعض الجبال المنقطعة عن العمران، أو الضاربة في بعض البوادي النائية التي لا تتصل بالحضر إلا في القليل وهم شراذم لا يُعتدُّ بهم، فالأخذ عن حاضرة العرب ومن يتصل بها أو يكثر الترداد إليها من أهل البادية ينتهي بجرير والفرزدق ومن في طبقتهما، ومن هناك تبدأ طبقة المولَّدين من مخضرمي الدولتين وعلى رأسها: بشار وحماد عجرد ووالبة بن الحباب ومن في طبقتهم، فما حدث في عهد هذه الطبقة وما بعدها من الألفاظ يُسمَّى مولدًا، وبعبارة أخرى ما أحدثه المولدون من الألفاظ يُسَمَّى المُوَلَّد ويقابله العربي فيقال هذه لفظة مولدة وهذه عربية، كما يقابل المعرب والدخيل بالعربي الصميم فيقال هذا لفظ معرب وهذا من الصميم.

وأمثلة الألفاظ المولدة كثيرة تكاد تفوت الحصر، من ذلك النِّحْرير كان الأصمعي يقول إنه ليس من كلام العرب وإنما هو مولَّد، وأخ كلمة تقال عند التألم والتأوه والعربي أح بالحاء المهملة، ومن المولَّد الكابوس وهو ما يشعر به النائم من الثقل، ومنه الفطرة والعربي صدقة الفطر أو زكاة الفطر وهي من الألفاظ الإسلامية، ومنه التفرج قال النووي: ولعله مأخوذ من انفراج الغم، ومنه الجبرية والقدرية من مذاهب المتكلمين، الأول يُطْلَق على من يقول الإنسان مضطر في أفعاله غير مختار والثاني يُطْلَق على من يقول بأن الإنسان فاعل باختياره وخالق لأفعاله، ويقال للأولين أهل الجبر وللآخرين أهل القدر. ومنه الطفيلي وهو من يأتي الولائم من غير أن يُدْعَى إليها، وطفيل رجل كوفي كان يغشى الولائم من غير دعوة ويبالغ في ذلك فنُسِب إليه كل من يفعل مثل فعله، وعربيُّه الضيفن لمن يجيء مع الضيف من غير دعوة، والوارش لمن يدخل على القوم في طعامهم فيأكل من غير دعوة، والواغل لمن يدخل على القوم في شرابهم فيشرب معهم من غير أن يُدْعَى إلى الشرب. ومن المولَّد المخرقة وهي الافتعال والاحتيال، ومنه البحران وهو أعلى ما يصل إليه المرضى من الشدة وليس بعده إلا الموت أو البدء بكسر سَوْرَة المرض شيئًا فشيئًا وهي اصطلاح طبي، ومنه تبغدد إذا تشبه بالبغداديين وليس منهم، ومنه بس بمعنى حسب وقيل هو عربي مأخوذ من البس وهو القطع وأنشدوا:

يحدثنا عبيد ما لقينا
فبسك يا عبيد من الكلام

وأنت ترى أن البس بمعنى القطع ثلاثي ولفظ بس المستعمل بمعنى حسب ثنائي وشتان بينهما، نعم لو قال قائل لآخر بسًّا أي بس كلامك بسًّا بمعنى اقطعه قطعًا لكان صوابًا. ومنه التخمين وهو القول بالحدس، ومنه الفشار للهذيان والإقذاع في القول.

(٥-٣) تنبيه

يُعَدُّ من المولد كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة تغييرًا ما، بأن كان ساكنًا فحرَّكته أو متحركًا فسكَّنته أو مهموزًا فتركت همزه أو بالعكس أو قدمت بعض حروفه على بعض أو حذفت … وما إلى ذلك، مثال ذلك أن العرب تقول في رجل: سَمِح، وفي أسنانه حفر، وفي بطنه مغس أو مغص، وحدث في الناس شغب، وجبل وعر، وبلد وحش، وحلبس في حلقة القوم، كل ذلك بسكون العين والعامة تحركها.

وتقول العرب: أُصِيب فلان بالتخمة وهو من التخمة أي الخيار، وهذه لقطة وهي تحفة، وتناول الصبر للدواء المر المعروف، وطلعت الزهرة للنجم المعروف، وسعف النخل، والسحنة للهيئة، كل ذلك بالتحريك والعامة تسكنه. والعرب تقول: هنأني الطعام ومرأني، وطرأت على القوم، وترأست عليهم، كل ذلك بالهمز والعامة تتركه.

والعرب تقول: رجل عزب، وهذه كرة، وتعسه الله، وكبَّه لوجهه، والعامة تزيد فيه الهمزة فتقول: رجل أعزب، وهذه أكرة، وأتعسه الله، وأكبه لوجهه. وأمثلة ذلك كثيرة تجدها مبثوثة في ثنايا معاجم اللغة ودواوين الأدب، وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم: الموفق البغدادي في ذيل الفصيح، والحريري في درة الغواص في أوهام الخواص، وقد عقد له ابن قتيبة في أدب الكاتب أكثر من باب، وعقد له الجلال السيوطي بابًا خاصًّا في الجزء الأول من كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها.

(٦) المعرب والتعريب

المعرب ما استعملته العرب في كلامها من الألفاظ لمعانٍ في غير لغتها، وقد اشترط بعضهم أن يكون اللفظ الذي تتلقاه العرب من العجم نكرةً مثل إبريم وجوقه وسرداب، فإذا كان علمًا مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فلا يُسَمَّى معربًا وإنما يسمى أعجميًّا.

ومن هذا تعلم أن التعريب هو نقل الكلمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية بتغيير أو بدونه ويُسمَّى الإعراب أيضًا؛ مثال ما تغير عند التعريب: «سكر» فإنه معرب «شكر»، وإقليد وهو المفتاح فإنه معرب «كليد»، وبنفسج فإنه معرب «بنفشه»، وهنزمن فإنه معرب «انجمن» لمجمع الناس. ومثال ما عُرِّب من غير تغيير: النوروز والكاغد والبخت بمعنى الحظ. هذا ولا جرم أن استمداد لغة من أخرى يُعَدُّ من أساليب نمائها، فالتعريب بالنسبة للغة العربية أحد عوامل توسعها، فقد تناولت هذه اللغة طائفة من الكلم حتى أصبحت من لحمها ودمها وما من ذلك عليها من عاب، لأن اللغة الحية تشبه المخلوقات تفتقر في بقائها ونمائها إلى مختلِف الأغذية وفي عداد هذه الأغذية ما تنتزعه لغة من أخرى من مختلِف الكلم، هذا إذا كانت اللغة قوية البنية وإلا فقد تكون بعض اللغات مرعًى خصيبًا لبعض آخر تأكل ما تشاء وتذر ما تشاء، كما وقع في اللغة التركية فإنها عاثت بجارتيها العربية والفارسية وأكلت منهما أكل النهم الشره ولكنها بشمت وعسر عليها هضم ما ازْدَرَدَتْه فحارت في أمرها ولم تزل حائرة …

وأما لغتنا العزيزة فهي — ولله الحمد — من أقوى اللغات على الهضم والتمثيل تنتزع اللفظة من أية لغة شاءت ثم تزدردها فلا تبرح أن تهضمها وتمثلها أيما تمثيل وتجري عليها تصاريفها وتصبح كأنها في الصميم منها، حتى إن علماء اللغة وأئمتها ليحارون في هذا الباب كل الحيرة ويتعسر بل يتعذر عليهم في كثير من الأحيان تمييز الأصيل من الدخيل حتى أدى الأمر ببعضهم إلى إنكار أن يكون فيها شيء من غيرها البتة، وانقلب الأمر على آخرين فأخذوا يفككون عراها وينكثونها نكثًا ويخرجون ما هو منها في الذؤابة فينسبونه إلى غير أصله ويردونه إلى غير أهله، وما ظنك بقوم بلغ بهم الهوس في هذه الناحية حتى أخرجوا لفظ «الأدب» من صميم لغة العرب؟! وهذا لعمرك شذوذ في الشذوذ وتطرف في التطرف. ولسنا في مقام المناقشة لهؤلاء الناس في هذا الشأن لأن لنا معهم مقالًا في غير هذا المقام، ولكنا نريد أن نقول إن أهم ما يجتنيه الباحث من الثمر في باب التعريف هو الإلمام بطرقه التي سار عليها أسلافنا، لأن معرفة تلك الطرق وسير منعرجاتها من أهم ما نستعين به في تذليل ما نحن بسبيله من العقبات في وضع المصطلحات العلمية التي فاض فيضها وتدفقت أنهارها.

نحن لا نشك في أن أوَّلينا كانوا يسيرون في هذه السبيل على سجية لغتهم ويكلفونها فوق طاقتها ولا يقصرون في إمدادها بكل ما يسد حاجتها ويشبع نهمتها، حتى أوصلوها إلى ما أوصلوها إليه من البسطة في المادة والنَّصَاعة في البيان، فوعت عنهم ما شاءوا أن يوعوها من علم وأدب ولم تضق ذرعًا بحمل ما حملوها من معقول ومنقول ومحسوس وغير محسوس، كما لم يبخلوا عليها بكل ما تطلبته منهم من خدمة صادقة وتغذية صالحة.

فهل يشك متأدب اليوم بأن اللغة بعد مجيء القرآن الكريم والنهضة الإسلامية غيرها قبلهما، بل هي في العصر العباسي غيرها في صدر الإسلام؟ فإذا قارنت بين لغة العلوم اللسانية والشرعية والكونية ولغة عرب الجاهلية تجد البون بعيدًا والمسافة قصية، وهل يرتاب مرتاب في أن لغة الغزالي والرازي وابن رشد في تآليفهم تختلف عن لغة امرئ القيس والنابغة وزهير، وأن لغة هؤلاء لو لم يتعهدها أهل المعرفة بالخدمة والتوسع والصقل والتهذيب لضاقت ذرعًا بتلك العلوم الكثيرة والمعارف الغزيرة؟

أما نحن فيجب علينا ونحن في عصر يتدفق بالمعارف ألا نقف موقف الجبان المتهيب، وما علينا إلا أن نشق لنا طريقًا لاحبًا من بين هذه العقاب المنيعة، ونتخذ من أعمال أولينا منارًا نأتم به في عملنا ونستنير به في هذه السبيل، ولهذا كان من واجب أبناء العربية لهذا العهد أن يقتلوا هذه الناحية بحثًا ليعرفوا ما يأتون وما يذرون في تمهيد طريق الحياة للغتهم هذه في هذا العصر الذي تطورت فيه الأفكار تطورًا هائلًا، وصار من البعيد أن تقوم قائمة للغة إلا إذا مشت مع أفكار بنيها كتفًا لكتف. وسننشر في آخر هذه المحاضرة نماذج من طرق التعريب التي سلكها الأولون، وعلى الباحث أن يرجع إلى ما أفرده العلماء من التآليف المهمة في هذا الباب الواسع …

وذهب أناس إلى أن ضبط الكلمات ومعرفة معانيها وضروب اشتقاقها وكيفية استعمالها يغني عن معرفة أن هذه الكلمة أصل في اللغة أو مستعارة، ولا سيما بعد أن نحكم بأن اللفظ المستعار لا يلبث أن يأخذ مكانه من اللغة المستعيرة ويكون له ما للأصيل وعليه ما عليه، فأي فائدة تعود علينا من البحث عن أصله والرجع إلى سنخه؟ وهل هذا إلا ضرب من ضروب العبث ولون من ألوان اللهو بالباطل؟ وذهب آخرون إلى أن هذه المباحث جمة الفوائد كثيرة الثمر، وهي أكبر معين في دراسة تاريخ اللغة وفلسفتها وأقوى نصير في معرفة أسرار نمائها وعوامل بقائها إلى غير ذلك من الفوائد التاريخية واللغوية.

(٦-١) بماذا يُعْرَف المعرب؟

الأصل في كل كلمة تستعملها العرب أن تكون عربية النِّجَار إلى أن يقوم الدليل القاطع على أنها مُعرَّبة، ولا ينبغي الحكم عليها بالتعريب بمجرد موافقتها أو مقارنتها كلمة تُستعمَل بمعناها في اللغة العجمية، إذ قد تكون الكلمة في العربية أصلًا وقد نقلها العجم إلى لغتهم مثل لفظة «الجمل» فإنها أصل في العربية وقد نقلها كثير من الشعوب إلى لغاتهم، كما قد تكون الكلمة أصلًا في أكثر من لغة لأنها موروثة من لغة قديمة اندثرت بعد أن ولدت عدة لغات، مثال ذلك كلمة «أرض» المستعملة في العربية والإنجليزية وغيرهما، فإن الأرض معمورة بالأمم منذ وُجِدت الأمم فلا يُعقَل أن أمة من الأمم بقيت لا تعرف للأرض اسمًا إلى أن سمعته من أمة أخرى فاستعارته منها هذا أمر تحيله العادة.

وهذا الباب من أضيق الأبواب وأغمضها، ولا يمكن التوصل إليه إلا بعد اجتياز أوعر المسالك وأصعبها، ومن ثم نجد أقوامًا خاضوا في هذه المباحث على غير هدى فضلُّوا سواء السبيل فتراهم حيرى كأنهم يدورون في حلقة مفرغة، فبينما تراهم ينسبون كلمات هي من العربية في الصميم إلى نجار عجمي إذ تراهم يلصقون بالعربية كلمات هي من صميم العجمية، وإذا طالبتهم بالدليل سلكوا بك بُنَيَّات الطريق وبعد الشدة والعناء رجعتَ صفر اليدين ورضيت من الغنيمة بالإياب. وقد وضع الأقدمون في هذه السبيل بعض الصُّوَى ليهتدي بها السالك، وهي على ضآلتها لا تخلو من فائدة، قالوا تُعْرَف عجمية الاسم بوجوه:
  • أحدها: النقل، بأن ينقل ذلك أحد الأعلام.
  • الثاني: خروج الكلمة عن أوزان الأسماء العربية مثل «الإِبْرَيْسَم» فإن هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء العربية، فلذلك اختلفوا في ضبطه لأنهم قد يخلطون في ما ليس من كلامهم، ولو كان من الأوزان العربية لما أخطأهم ضبطه ولما اختلفوا فيه كل ذلك الاختلاف.
  • الثالث: أن يكون أول الاسم نونًا بعدها راء مثل «نرجس» فإنه معرب «نركس».
  • الرابع: أن يكون آخر الكلمة زايًا قبلها دال مثل «مهندز»، ولذلك قالوا فيه «مهندس» ليبعدوا عما لا إلف لهم به.
  • الخامس: أن يجتمع في الكلمة الجيم والصاد مثل «الصولجان» و«الجص»، فإنهما معربا «كوجان» و«كج».
  • السادس: أن يجتمع فيه الجيم والقاف مثل «منجنيق» للآلة الحربية المعروفة، و«الجردقة» للرغيف، و«الجرموق» للذي يُلْبَس فوق الخف، و«الجوسق» للقصر، و«الجولق» للوعاء المعروف «جوالة»، و«الجلاقق» للبندق، و«الجوقة» للجماعة من الناس.
  • السابع: أن يكون الاسم رباعيًّا أو خماسيًّا وهو خالٍ من أحد حروف الذَّلَاقة، وهي «ب، ر، ف، ل، م، ن» يجمعها قولك: «فر من لب»، وهي أخف الحروف ولذا لا تخلو منها الأسماء الرباعية والخماسية لما في هذه الأوزان من الثقل لكثرة حروفها، فيُلْحَق بها بعض هذه الحروف لتنحو بها نحو الخفة مثل «الزاووق» فإنه لغة في «الزئبق»، وشذ عن هذا الأصل كلمة «عسجد» فإنهم قالوا بعربيتها مع أنها خالية من حروف الذلاقة. وقال الأزهري في «التهذيب» متعقبًا على الوجه الخامس: «قد تجتمع الجيم والصاد في بعض الكلمات العربية، من ذلك قولهم جصص الجرو إذا فتح عينيه، وجصص فلان إناءه إذا ملأه، والصج ضرب الحديد بالحديد.»
  • الثامن: أن تجتمع الجيم والطاء في الاسم مثل «الطازج»، فإنه معرب «تازه» وهو الطري.
  • التاسع: أن يجتمع في الاسم الصاد والطاء مثل «الاصطفلية» وهي الجزرة فإنها معربة، وأما الصراط فالصاد فيه بدل السين إذ أصله السراط مأخوذ من السرط وهو الابتلاع بكثرة.
  • العاشر: أن يجتمع في الاسم السين والذال مثل «ساذج» فإنه معرب «ساده» وهو البسيط الخالص عما يشوبه، وهو في الأصل ما لا نقش فيه وما يكون على لون واحد لا يخالط غيره.
  • الحادي عشر: أن يجتمع في الكلمة السين والزاي مثل «سزاب»، وهي بقلة معروفة فإنها معربة.
  • الثاني عشر: أن يجتمع في الكلمة لام بعدها شين، قال ابن سيده: «ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، لأن الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات»، فكلمة التفليش بمعنى الهدم ليست عربية بخلاف كلمة «شغل». وقال الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» إن الجيم لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا تأخير.

هذا مجمل ما وضعه الأقدمون من الأعلام في هذه السبيل. وقد توصل علماء اللغات لهذا العهد إلى أصول في هذا الباب كان يعز على الأقدمين الوصول إلى بعضها، وما ذلك إلا لانصراف جماعات المستشرقين إلى دراسة اللغات المختلفة ولا سيما القديمة منها والإيغال في أحشاء القرون البعيدة واستشارة دفائنها، وبذل الوسع في دراسة أصول اللغات وفقهها والإحاطة بفروعها المختلفة من جميع جهاتها، وقد صدروا عن هذه المباحث وهم يحملون من العلم ما كان مطمورًا في غيابة التاريخ البعيد، فإذا حكموا في هذا الباب فحكمهم الفصل وإليهم يرجع أمر العقد والحل. ومن أمثلة ما وضعوا من القواعد في هذا الشأن قولهم: إذا اتفقت كلمتان لفظًا ومعنى، وكان بين أهل هاتين اللغتين صلات جغرافية أو تجارية أو سياسية أو نحوها مباشرة أو بالواسطة، يُنْظَر فإذا كان ذلك المعنى من نتاج قرائح إحدى تينك الأمتين أو من مصنوعاتهم أو من منتوجات بلادهم ومحاصيلها، يُرجَّح أن يكون أصلًا في تلك اللغة منقولًا منها إلى غيرها، مثال ذلك «الساعة» فإن العرب كانت تطلقها على الجزء المخصوص من الزمن، ثم لما أبدعوا الآلة المعروفة التي تدل على أجزاء الزمن وتعيينها أطلقوا عليها هذه اللفظة فهم أسبق الأمم إلى تسمية الآلة بهذا الاسم، فإذا سمعنا الفرس أو الترك مثلًا استعملوا هذه اللفظة بهذا المعنى نقطع بأنهم استعاروها من اللغة العربية. ومثل هذا كثير من المصطلحات التي وضعها العرب عندما دوَّنوا علوم لسانهم، مثل: عطف وإضافة وتمييز وغيرها، فإذا رأينا بعض الأمم الشرقية استعملت هذه المصطلحات في معانيها عند العرب أو في معانٍ تقرب منها نجزم بأنهم استعاروها من اللغة العربية، هذا إذا علمنا بأن العرب دونوا هذه المصطلحات قبل غيرهم. ومن ذلك كلمة القهوة فإنها موجودة في العربية وفي معظم لغات العالم، فإذا علمنا أن العرب كانوا يطلقون هذه اللفظة على الخمرة ثم أطلقوها على هذه الثمرة المخصوصة المسماة بالبن وهي من منتوجات بلاد اليمن في الأصل ثم انتقلت إلى البلاد الأخرى، إذا علمنا هذا نقطع بأن هذه اللفظة بهذا المعنى عربية النِّجَار، ومن ذلك الجمل والغزال ونحوها من الحيوانات التي تكثر في بلاد العرب أو كانت خاصة بها ومنها نُقِلَت إلى غيرها.

وإذا علمنا أن المسك مثلًا يُنْتَج في بلاد التيبت والصين وبعض بلاد الهند ومنها يُحمَل إلى سائر بلاد العالم، وعلمنا أن هذه اللفظة مستعملة في السنسكريتية الأصل والفارسية والعربية وغيرها؛ نعلم أن هذه اللفظة بمعناها هذا سنسكريتية الأصل ومنها انتقلت إلى غيرها من اللغات مباشرة أو بالواسطة. ومثل ذلك الكافور فإنه في السنسكريتية وغيرها، ولكنَّا إذا عرفنا أن مصدر هذا النوع من الطيب بلاد الصين واليابان وملقا وأن اسمه باللغة الملقية «كابور»، عرفنا أنها كلمة ملقية الأصل ومنها انتقلت إلى غيرها من اللغات، ومثل ذلك الفلفل فإن مصدره بلاد الهند وهو في اللغة السنسكريتية «ببالا» أو «فيفالا». والأمثلة في هذا كثيرة لا يكاد يحيط بها الحصر.

قلنا: إن المتبحرين في دراسة اللغات لهذا العهد انصرفوا إلى استشارة دفائن اللغات القديمة وحلوا رموزها، ودرسوا أصولها درسًا دقيقًا، واستخرجوا فروعها، وقارنوا بينها من حيث المادة والصرف والنحو وغيرها، وبذلك توصلوا إلى معارف جمة وعلوم مهمة، وقد أرجعوا كل طائفة من اللغات إلى أصل واحد وهذا الأصل إما أن يكون باقيًا أو مندثرًا، فأصول الباقية هي التي سارع أهلوها إلى تدوينها منذ العصور القديمة العريقة بالقدم، والمندثرة هي التي لم تُدوَّن فبقيت مطمورة في طيات القرون الخالية، أما فروعها فنمت وأورقت ثم أثمرت، ومنها ما قضى نحبه ومنها ما ينتظر.

فإذا ذهبنا إلى القول بأن اللغة العربية والعبرانية والكلدانية — مثلًا — بنات لأم واحدة هلكت وعاشت بناتها، نعلم أن كثيرًا من الألفاظ بقيت مشتركة بين هذه اللغات، فإذا رأينا لفظة في أكثر من واحدة من هذه اللغات دالة على معنًى واحد أو على معانٍ متقاربة لا يمكننا الحكم بأصالتها في لغة دون أخرى، بل نرجح أن تكون هذه اللفظة من ميراث اللغة الأم؛ فهي أصل في كل منها، وبالعكس إذا وجدوا لفظة في إحدى هذه اللغات تخلو منها سائر أخواتها يشكُّون في كونها أصلًا في هذه اللغة.

وعلى هذا وضعوا قاعدة أغلبية، وهي أنهم إذا وجدوا لفظة في لغتين أو أكثر ترجع إلى أصول مختلفة ولم يجدوا تلك اللفظة في أخوات إحدى اللغتين أو اللغات، يرجحون انتسابها إلى اللغة الأخرى، مثال ذلك إذا وجدوا لفظة في العبرية والمصرية القديمة مثلًا ولم يجدوها في العربية ولا الكلدانية يرجحون أنها مصرية.

(٦-٢) هل التغيير ضروري في التعريب؟

من الكلمات المعربة ما يبقى على حاله قبل التعريب مثل بخت ونوروز، ومنها ما يجري عليه التغيير يسيرًا كان أو كثيرًا.

والأصل في هذا الباب عدم التغيير وإبقاء الأصل على حاله إلا إذا دعت إلى التغيير ضرورة فيُصَار إليه، ولكن التغيير يكون بقدر ما قضت به تلك الضرورة من غير زيادة ولا نقصان، ومع هذا فإن كثيرًا ما نجد تغييرًا لا تدعو إليه الحاجة ولا تقضي به الضرورة، مثال ذلك «الكعك» فإنه معرب «كاك» قُلِبَت ألفه عينًا من غير ضرورة داعية، و«الدهقان» معرب «ده خان» أي رئيس القرية ومقدم أهل الزراعة من العجم.

وقد يجتمع في الكلمة الواحدة تغيير لازم وآخر غير لازم، مثل كلمة «البد» بمعنى الصنم فإنه معرب «بت» قُلِبَت فيه الباء الفارسية المثلثة باء عربية، وهذا القلب لازم لئلا يدخل في الحروف العربية ما ليس منها، وقلبت التاء دالًا وهذا القلب غير لازم كما هو ظاهر.

وأسباب التغيير كثيرة منها: اشتمال الكلمة الأعجمية المُرَاد تعريبها على بعض الحروف العجمية التي لا وجود لها في اللغة العربية كما أشرنا إلى ذلك في أول هذا البحث. ومنها أن يكون في الكلمة الأعجمية حركة لا وجود لها في العربية أو هي موجودة في لغة ضعيفة، مثل كلمة «زور» بمعنى القوة فإنها معربة من كلمة «زور» بضمة مشوبة بالفتحة، فأُبْدِلَت عند التعريب بضمة خالصة لعدم وجود الضمة المشوبة في العربية المشهورة. ومنها الثقل، مثل «ناي» آلة الطرب المعروفة فإنها معرب «ناي نرمين»، وقد حُذِف شطرها الثاني للخفة. ومنها نقص الكلمة الأعجمية من ثلاثة الأحرف، مثل «صك» بتشديد الكاف فإنه معرب «جك» الثنائي على ما عرفت آنفًا. ومنها كون الكلمة الأعجمية مبدوءة بحرف ساكن، فيُضطر عند التعريب إلى تحريكه أو زيادة همزة قبله، مثل هليلج وإهليلج معرب «هليله» وهو الثمر المعروف. ومنها أن يجتمع في الكلمة الأعجمية حرفان ساكنان سكونًا على غير حده فيُحَرَّك أحدهما، مثل «أبزن» تعريب «آبزن» كما تقدم. ومنها تحريك آخر الكلمة المعربة بحركة الإعراب، فإن كان الحرف الآخر في الكلمة الأعجمية هاء رسمية «دوره» لمكيال الشراب وللجرة ذات العروة و«لوزينه» لنوع من الحلوى و«روزونة» للكوة، وجب قلب هذه الهاء إلى حرف آخر قابل لحركة الإعراب وقد اعتادوا قلبها جيمًا وهو الأكثر وربما قلبوها قافًا أو تاء فقالوا لوزينج ودورق وروزونة، وقد تُقلَب هذه الهاء كافًا وعليه أعربوا كلمة «نيزه» وهو الرمح القصير إلى «نيزك».

وأسباب كثيرة يُعْرَف كلٌّ في محله. وقد تشدد بعض الأعلام في وجوب صيانة الأعلام من التغيير بقدر الإمكان حتى قال بعضهم: يجب صيانة العلم الأعجمي من كل تغيير مهما كلفنا ذلك من المئونة فيجب أن ننطق بها كما ينطق أهلها من غير أدنى تغيير، وهو رأي وجيه ولكنه عسر التطبيق لأن الحكم على الألسنة بإجراء ما لا عهد لها به أمر غير يسير كما يشهد به الواقع.

(٦-٣) هل يجب إلحاق المعرب بأوزان الكلم العربية؟

ذهب بعض اللغويين إلى أنه يجب إلحاق المُعرَّب بأوزان كلام العرب.

قال الحريري: «من مذهب العرب أنهم إن أعربوا الاسم الأعجمي يردونه إلى ما يُستعمَل من نظائره في لغتهم وزنًا وصيغة»، وقد كرر هذا الرأي في غير ما موضع من كتابه «درة الغواص في أوهام الخواص»، منها ما جاء في صفحة ٦١ من طبعة الجوائب في بحث دستور، وفي الصفحة ٨٠ في بحث الشطرنج، وقد أنكر عليه شُرَّاح كلامه هذا الرأي وعدوه من أوهامه.

والذي عليه جمهور علماء اللغة أنه لا يجب في المعرب أن يُرَدَّ إلى أوزان كلام العرب. وقد جاء في كتاب سيبويه أن الاسم المعرب ربما ألحقوه بأبنية كلامهم وربما لم يلحقوه، فما ألحقوه بأبنيتهم درهم وبهرج، ومما لم يلحقوه الإفرند والآجر إلى آخر ما فصله. وقد أوضح هذه الناحية أبو منصور الجواليقي في كتاب «المعرب» وابن السيد البطليوسي في كتاب «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب» في باب ما يُنْقَص منه ويُزَاد فيه ويُبْدَل بعض حروفه في الصفحة ٢١٥ من طبعة بيروت سنة ١٩٠١.

وبالجملة فإن الجمهور من أهل العربية لا يشترطون رد المعربات إلى أبنية اللغة العربية، ولكنهم يستحسنون ذلك إذا جاء بسهولة لتكون المعربات المقحمة على العربية شبيهة بأوزانها، ولذلك استعملوا «نيروز» أكثر من نوروز لأن نيروز أدخل في كلامهم وأشبه به لأنه كقيصوم وعيثوم، وبهذا نعلم سخف ما يذهب إليه بعض المعاصرين المتشددين من وجوب إلحاق المعربات بأوزان العرب.

(٦-٤) تنبيه

أول من حاول استيعاب أبنية الأسماء والأفعال في اللغة العربية سيبويه فأحصى الأسماء ٣٠٨ من الأمثلة، ثم جاء ابن السراج فذكر منها ما ذكره سيبويه وزاد عليه ٢٢ مثالًا، وزاد أبو عمرو الجرمي أمثلة يسيرة وكذلك فعل ابن خالويه، فتَقَرَّى أبو القاسم السعدوي اللغوي المعروف بابن القطَّاع أبنية الأسماء العربية وبذل جهده في الاستقصاء فاستوى لديه ١٢١٠ من الأمثال في هذا الباب، فلا يجوز لأحد أن يقضي بخروج بناء ما عن أبنية اللغة العربية ما لم يستقصِ هذه الأمثلة ويقتلها معرفةً وضبطًا.

(٦-٥) تصريف المعرب

ينقسم المعرب إلى قسمين: الأول الأعلام، والثاني أسماء الأجناس. فالأعلام الأعجمية المنقولة إلى العربية لا يُبحَث في العربية عن أصول اشتقاقها أو جمودها وإنما تُستعمَل أعلامًا في العربية كما كانت أعلامًا في الأعجمية، ولا يدخلها من التصريف إلا أحكامًا مخصوصة من جمع وتصغير ونحوهما.

فلا يجوز بعد هذا أن يقال إن إبليس مثلًا مأخوذ من الإبلاس بمعنى البأس والانكسار وإسحاق من أسحقه الله إذا أبعده، لأن الإبلاس والإسحاق لفظان عربيان وإبليس وإسحاق عَلَمان أعجميان، ولا يُعْقَل أن يُشتَق الاسم الأعجمي من لفظ عربي.

نعم يجوز أن يُؤخَذ من بعض الأعلام بعض التصاريف مثل: أعرق إذا صار إلى العراق على القول بأن العراق أعجمي، ودولب إذا قصد دولاب وهي مدينة أعجمية، ويقولون تبغدد إذا تشبه بالبغداديين، وبهذا يُعْلَم أنه يجوز اشتقاق بعض الصيغ من بعض الأعلام الأعجمية المنقولة إلى العربية، ولا يجوز قطعًا أن يزعم زاعم اشتقاق علم أعجمي من لفظ عربي، ولا يغرنك ما تراه مبثوثًا في معاجم اللغة من هذا القبيل لأنه صادر عن ذهول في الغالب.

وأما الضرب الثاني وهو أسماء الأجناس المعربة فلا ينبغي أن يُبحَث في العربية عن اشتقاقه، لأن هذا الاشتقاق إما أن يكون من أصل عجمي لا شأن للعربية فيه فيكون البحث عنه من قبيل الخلط الذي قد يؤدي إلى التخليط، وإما أن يكون الاشتقاق من لفظ عربي وهو محال إذ لا يُعْقَل أن يُشتَق الأعجمي من العربي كما لا يُعقَل بالعكس، وإنما تُشتَق الألفاظ بعضها من بعض في اللغة الواحدة لأن الاشتقاق نتاج وتوليد ولا يُعقَل أن يتولد الشيء من غير نوعه، قال بعضهم في هذا الشأن: ومن المحال أن تنتج النُّوق إلا حورانًا وتلد المرأة إلا إنسانًا، ومن اشتق الأعجمي المعرب من العربي كان كمن ادعى أن الطير من الحوت، وما ورد في كتب اللغة مما يخالف هذا الأصل فهو تخليط لا يُعبَأ به ولا يجوز أن يُصار إليه.

هذا هو الرأي في اشتقاق الاسم الأعجمي المعرب من غيره، وأما الاشتقاق من اسم الجنس الأعجمي المعرب فمعروف في العربية شائع فيها، والعرب كثيرًا ما تجري على هذا الضرب من المعربات الأحكام الجارية على العربي الصميم، ألا تراهم تصرفوا في اللجام وهو معرب تصرفهم في لفظ عربي أصيل فقالوا: ألجم يلجِم إلجامًا ورجل ملجم وفرس ملجم، وقالوا: تلجَّم يتلجم تلجمًا، كما تصرفوا في الديوان وهو دخيل فقالوا: دوَّن يدوِّن تدوينًا، والرجل مُدوِّن، والعلم مُدوَّن، وقالوا: بهرجه إذا أبطله، وأصله من قولهم درهم بهرج أي رديء، وهو مُعرَّب «نبهره» ويُرَاد به الزَّغَل والباطل.

والخلاصة

إنه لا يجوز بوجه من الوجوه أن يكون الاسم الأعجمي المعرب مشتقًّا من لفظ عربي سواء كان الاسم الأعجمي علمًا في اللغة الأعجمية أو نكرة، أما الاشتقاق من الاسم الأعجمي المعرب فيكثر في النكرات ويندر في الأعلام، فإذا سَمَّى بعض العرب ابنه «قابوس» تعريب «كابوس» أو ابنته شيرن فلا يُبحَث عن كون هذين العَلَمين مشتقَّيْن أو أنهما أصل يُشتَق منهما، وعربوا «زيوه» فقالوا «زئبق» ولم يسألوا هل هو مشتق ومن أين هو مشتق، ولكنهم تصرفوا به واشتقوا منه فقالوا زأبق الدرهم ودرهم مُزأبَق إذا كان مطليًّا بالزئبق، وقالوا فيه: الزوق والزاووق، وقالوا تزوق تزويقًا إذا تزين وتحسن، ووجه مُزوَّق وثوب مزوَّق بمعنى مزيَّن وتحرفه العامة فتقول: مزروق.

وعلى هذا الأصل مشى أسلافنا في تصريف كثير من أسماء الأجناس المعربة، فقالوا: فلسف وتفلسف ورجل متفلسف، وقالوا: قرطس من القرطاس وهو أعجمي معرب، ومعنى قرطس أصاب القرطاس وهو الهدف لأنه يكون من القرطاس في الغالب. وإذا علمنا أن «الكهربا» معرب «كاه ربا» بالفارسية ومعناه فيها جاذب التبن، ويريدون به المادة التي يُعْمَل منها هذا الخرز الأصفر المعروف اليوم باسم «الكهرب»، إذا علمنا هذا وأطلقنا اليوم هذه اللفظة على القوة المخصوصة جاز أن نتصرف بها فنقول: تكهرب الجسم، وجسم مكهرب، وقد كهربنا الصندوق، وصندوق مكهرب، وكذلك إذا قبلنا تعريب كلمة التلفون مثلًا قلنا على أسلوب الأسلاف أن نقول: تلفن فلان يتلفن.

وفي هذا ما فيه من تذليل العقاب الماثلة أمام المترجمين والمؤلفين في العلوم الكونية المختلفة، التي فاض فيض المصطلحات فيها وطمى تيارها.

(٦-٦) كيفية التعريف

قلنا: إن التعريب هو نقل الكلمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية بتغيير أو بدونه، ولكن الغالب فيه التغيير قليلًا كان أو كثيرًا وذلك إما أن يكون بالزيادة أو النقص أو الإبدال، وعلى كلٍّ إما أن يكون لازمًا أو غير لازم، وهاك الأمثلة على ذلك: مثال التغيير اللازم بالزيادة: «الدستجة» بمعنى الحزمة معرب «دسته»، بُدِّلت فيها الهاء جيمًا وزِيدَت التاء في آخرها للدلالة على الوحدة، و«صك» معرب «جك» زادوا في آخره حرفًا من جنسه وأدغموه فيه، لأن الأصل في الاسم العربي ألا يقل عن ثلاثة أحرف.

ومثال التغيير غير اللازم بالزيادة: «سكر»، زِيدَت فيه الكاف بعد السين وأُدْغِمت في الكاف بعدها.

ومثال التغيير اللازم بالنقص: «رست» معرب «راست» بمعنى «صحيح»، حُذِفَت الألف دفعًا لالتقاء الساكنين، و«أبزن» مثلث الهمزة حوض يُغتسَل فيه ويُتخَذ من نحاس ليجلس فيه المرضى للتعريق وقد يُتخَذ من الخشب، وقال أبو دؤاد الإيادي يصف فرسًا منتفخ الجنبين:

أجوف الجوف فهو منه هواء
مثل ما جاف أبزنًا بخار

أي مثلما وسع البخار جوف الأبزن، وهو معرب «آب زن» حُذِفَت ألفه دفعًا لالتقاء الساكنين.

ومثال النقص غير اللازم: «سرداب» للبناء المعروف، فإنه معرب «سرد آب» بمعنى «الماء البارد» وسُمِّي به البناء المعروف لأنه كان يُعَدُّ لتبريد الماء، وقد حُذِفَت ألفه عند التعريب من غير لزوم.

والنقص قد يكون في أول الكلمة مثل: «بهرج» بمعنى الباطل والزغل، وهو معرب «نبهره» حُذِفَت منه النون. وقد يكون في الوسط كما تقدم في سرداب، وقد يكون في الآخر مثل كلمة «النشا» فإنها مُعرَّبة من كلمة «نشاحنة». والنقص قد يكون بحرف واحد، وقد يكون بأكثر كما رأيته في الأمثلة الآنفة. والإبدال على قسمين: الأول إبدال حرف بآخر، والثاني إبدال حركة أو سكون بغيرهما.

وإبدال الحرف بغيره قد يكون لازمًا وقد يكون غير لازم، فمثال الإبدال اللازم «بد» بمعنى الصنم فإنه معرب «بت»، أُبْدِلَت الباء الفارسية المثلثة بالباء العربية إبدالًا لازمًا لئلا يدخل في كلامهم ما ليس منه، وأُبْدِلَت التاء بالدال إبدالًا غير لازم لقرب ما بين مخرجهما.

وبالجملة فإنهم يبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجًا في الغالب، وربما أبعدوا في الإبدال لأسباب قد تكون ظاهرة وقد تكون غامضة.

ومثال الإبدال غير اللازم: «برنامج»، فإنه معرب «برنامه» أُبدِلَت فيه الهاء جيمًا.

ومثال إبدال حركة بحركة أخرى: «سكر» معرب شكر كما مر، أُبْدِلَت فتحته بالضمة. ومثال إبدال حركة بأخرى، وسكون بحركة، وحركة بسكون كلمة سيبَوَيْه فإن العجم تنطقه سيبُويَه، فأبدلت العرب ضمة الباء بفتحة وسكون الواو بحركة وهي الفتحة أيضًا وأبدلوا فتحة الياء الثانية بالسكون.

وربما دخل في الكلمة الواحدة أنواع شتى من التغيير مثل كلمة «نزهة» فإنها معربة من كلمة «دوره ره» بمعنى الطريق البعيد، فأُبْدِلَت الدال بالتاء وحُذِفَت الواو وجوبًا لالتقاء الساكنين وأُدْغِمت الواو في الراء وحُرِّكَت الهاء الساكنة بالفتحة وزِيدَت بعدها تاء للدلالة على الوحدة، فأنت ترى أنه قد دخلها النقص والزيادة والإبدال بأنواعه، ويقارب هذه كلمة «زئبق» تعريب «زيوه» فإن الإبدال لحق جميع حروفها. والتغيير هو الغالب في التعريب، وأغلب ما يقع في الكلمات التي تبعد أوزانها عن الأوزان العربية، أو تشتمل على حروف لا وجود لها بين الحروف العربية مثل «پ، چ، ژ، گ، ڨ»، فإن الضرورة تقضي بإبدال الحرف الأول بالفاء أو الباء لأن العجم تلفظه بين هذين الحرفين، ولذلك قال العرب «فرند» و«برند» في تعريب كلمة «پرند» الفارسية، وفرند السيف وبرنده جوهره ووشيه. وكذلك تقضي الضرورة بإبدال الحرف «چ» بحرف يقاربه من الحروف العربية وقد اعتادوا أن يبدلوه بالصاد، ويقولون «صك» في تعريب «چك» وصين في تعريب «چين» و«صفانه» في تعريب «چفانه» وهي من آلات اللهو. وربما أبدلوه بالشين فقالوا «شاكري» في تعريب «چاكري» وهو الأجير المستخدم. وربما أبدلوه بالجيم فقالوا «جوالق» في تعريب «چواله» وهو العدل لأن العجم تلفظه بين الشين والجيم. والضرورة تقضي أيضًا بإبدال الحرف «ژ» بحرف من الحروف العربية يقاربه في المخرج، ولما كان العجم يلفظونه بين الزاي والجيم أبدلته العرب بالزاي فقالت «زئبق» في تعريب «ژيوه» و«زون» في تعريب «ژون» وهو الصنم.

وكذلك أبدلوا الحرف «گ» بالجيم لأنه يُلْفَظ بين الجيم والكاف، فقالوا «جزاف» في «گزاف» و«جلنار» في «گلنار» وهو زهر الرمان، و«جناح» في «گناه» وهو الذنب، و«جوز» في «گوز» للثمر المعروف.

وأبدلوا الحرف الخامس من الحروف الخمسة المذكورة بالفاء أو الواو لأنه ينطق بينهما.

(٧) تدوين علم اللغة

لا نريد في موضوعنا هذا أن نتعرض للبحث عن نشأة اللغة العربية وكيف تولدت مفرداتها وتوسعت وما هي عوامل توليدها وتنويعها وتوسيعها، وكيف تميزت أسماؤها وأفعالها وحروفها بعضها عن بعض، وكيف تفرعت هذه الأنواع إلى فروعها المختلفة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، لأن هذه المباحث وما أشبهها إنما هي من موضوع «الفلسفة اللغوية».

وكذلك لا نتعرض في هذا الموضوع للنظر فيما اعتور مفردات اللغة وتراكيبها من التقلبات وما طرأ عليها من التغيرات في مختلف الأزمان وتعاقب الأجيال، مثل هجر بعض الكلمات، وإماتة بعض، وإيجاد كلمات أخرى، وكإهمال بعض التراكيب ثم نسيانها وإحداث غيرها من التراكيب الجديدة والأسباب الداعية إلى هجر ما هُجِر وإهمال ما أُهْمِل ونسيان ما أُنْسِي وإماتة ما أُمِيت وتجديد ما جُدِّد، إلى غير هذه من المباحث التي ترجع إلى علم «تاريخ اللغة» لا إلى تاريخ «علم اللغة».

ولا بد لنا قبل الخوض في المقصود أن نمهد له بعض التمهيد، فنقول: كان علماء العربية في بادئ الأمر يعتمدون في الجمع والنقل على الحفظ والرواية فحسب، ثم ما لبثوا أن انصرفوا إلى تدوين منقولاتهم ومروياتهم وتبويبها وتفصيلها وتهذيبها، ولكنهم كانوا مع ذلك لا يعتمدون على الأخذ من هذه المدونات بقدر ما يعتمدون على الحفظ والأخذ بالمشافهة والمدارسة فالعبرة عندهم للحافظة واللسان لا للدفتر والقلم، وقد غبروا على هذه الطريقة المزدوجة حينًا من الدهر، ثم أخذ أمر الرواية يضعف شيئًا فشيئًا إلى أن صاروا يقتصرون على الأخذ من الكتب كما هي الحال لهذا العهد، ومن هنا تبين أن علم اللغة تقلَّب في ثلاثة أطوار:
  • (١)

    طور الرواية وحدها.

  • (٢)

    طور الرواية والكتاب.

  • (٣)

    طور الكتاب وحده.

ونحن نفرد لكل طور من هذه الأطوار بحثًا برأسه.

(٨) طور الرواية الخالصة

قلنا إن أول طلائع الاختلال في اللغة المعربة إنما ظهرت في إعرابها، ونقول الآن: إن عاهة اللحن في كلام الموالي والمتعربين ومن خالط الأعاجم من العرب أو جاورهم نشبت منذ عصر البعثة النبوية حينما اعتنق الإسلام أناس يرتضخون لُكْنًا شتى من بين رومية وفارسية وحبشية وغيرها، وقد رَوَوْا أن رجلًا لحن بحضرة النبي فقال النبي : «أرشدوا أخاكم فقد ضل»، وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلحن فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن «اضرب كاتبك سوطًا واحدًا»، ثم فشا اللحن في أخريات عهد الراشدين على أثر اتساع رقعة الفتوح وانتشار العرب في الأرض وتبسطهم في العمران، ولم يزل أمره آخذًا بالاتساع ولا سيما في الحواضر الكبرى التي تحوي ألفافًا من الموالي المتعربين وبعض الأعاريب الذين استخذت سلائقهم ولم تتوقح ملكة الفصاحة فيهم لأسباب اجتماعية أو جغرافية أو غيرها. وعند ذاك خشي عقلاء الأمة وأهل العلم منهم أن يتمادى أمر الاختلال والاضطراب في الألسنة فينتهي الأمر بفساد اللغة المعربة فسادًا لا صلاح وراءه فينغلق أمر القرآن والسنة النبوية على الفهوم وينهار صرح اللغة وآدابها، ولا سيما بعد أن أصبحت لغة دينهم الذي أُخْرِجوا به من الظلمات إلى النور، ولهذا شرعوا يستقْرُون الكلام ويستنبطون من مجاريه قوانين وضوابط وأصولًا ينقاس عليها أشباهها ونظائرها، واصطلحوا على تسميتها ﺑ «علم النحو».

ولا جرم أنهم عندما عمدوا إلى استنباط قوانين هذا العلم انجرت بهم الحال إلى استقراء الشيء الكثير من منظوم العربية ومنثورها، وقد امتطوا من ذلك غارب بحر عجاج لأن العربي بطبيعته من أثبت الناس حفظًا وأقواهم حافظة، ولا سيما إذا عاش في بيئة تغمرها الأمية وألجأته الضرورة إلى استخدام لسانه وحده في أفانين المحاورات والمناظرات والمساجلات وسائر ضروب التعبير عما في مطاوي الضمير، ولهذا كان العربي يومئذ — كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين — كتابًا أو جزءًا من كتاب، وكانت كل قبيلة بذلك كأنها سجل زمني في إحصاء الأخبار والآثار، فالعربي بطبيعته وطبيعة بيئته ضابط لمآثره ومآثر قومه راوٍ لما هو في سبيله من أمره وأمر عشيرته.

ومن هذا تعلم صحة ما قلناه من أن علماء العرب عندما انصرفوا إلى استخراج قواعد النحو وجدوا أنفسهم أمام بحر من منظوم القول ومنثوره.

وواضح أن النحوي لا يصل إلى استنباط قواعد النحو واستخراج مسائله إلا بعد البحث عن معنًى ما يستعين به من منثور القول ومنظومه، لأن القواعد النحوية تابعة للموضوعات اللغوية فمعرفة معاني الكلام سابقة لاستخراج قوانين تركيبه وضبط قواعده، فالمعاني اللغوية أساس للقواعد النحوية ومن لم يكن متبحرًا في معرفة موضوعات اللغة لا يتمكن من استخراج قواعدها وضبط أصولها، فالنحوي يجب أن يكون لغويًّا دون العكس لأنَّا نعرف لغويين كثيرين لا يعرفون إلا النزر اليسير من النحو، ونحن لا نعني في هذا المقام بالنحوي من يأخذ النحو عن المشايخ ومن الكتب بعد أن تم أمره ونضجت قواعده، بل نعني به أمثال أبي الأسود الدؤلي والخليل والكسائي وأضرابهم من الأئمة الذين وضعوا أساس هذا العلم واستنبطوا أصوله وفرعوا فروعه ورتبوا مسائله وبوَّبوها وفصلوها تفصيلًا، وبعبارة أخرى نحن إنما نعني بالنحاة هنا أولئك المجتهدين الذين تم على يدهم إبداع هذا العلم وإنماؤه وتوسيعه وإنضاجه، لا المقلدين الذين لا شأن لهم إلا معرفة ما وضعه أولئك الأئمة ودرس ما قرروه، وعلى هذا لا مراء في أن أول واجب على من يتصدى للإمامة في النحو أن يتوسع في معرفة اللغة كل التوسع وإلا فإنه يكون مفلوج الاجتهاد.

وإنما قدمنا هذه النبذة لنصل إلى نتيجة واضحة وهي أن المجتهدين من النحاة هم أنفسهم رواة اللغة الأولون، ومنزلة النحوي في النحو تابعة لسعة اطلاعه في اللغة، فليس من الغرابة بعد هذا أن تسمعوا في هذا الباب ذكر كثير من مشاهير النحاة الأقدمين، ذلك لأنهم لغويون قبل أن صاروا نحويين فقد رُوِي أن غلامًا كان يُلِم بأبي الأسود الدؤلي يتعلم منه، فتكلم يومًا بكلمة لم يفهم أبو الأسود مراده منها فسأله عنها فقال الغلام: هذا حرف من العربية لم يبلغك، فقال أبو الأسود: لا خير لك في ما لم يبلغني منها يا بن أخي. فأبو الأسود وهو رأس النحاة كان من أوسع الناس معرفةً في اللغة حتى إنهم زعموا أنه كان يجيب في كلها.

فأبو الأسود يُعَدُّ رأسًا في اللغويين كما يُعَدُّ رأسًا في النحويين على ما سيأتي من تاريخ علم النحو، ولم يطلق عليه المتقدمون اسم اللغوي لأن هذا اللقب لم يكن معروفًا إذ ذاك وإنما شاع استعماله في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع عندما نضج كثير من فنون اللغة وتمايزت فروعها، ولذلك كانت شهرة أبي الأسود في النحو أوسع وصيته فيه أبعد إذ هو واضع أساسه ومقرر سماعه وقياسه، على أنه في علماء العربية طبقة برأسها وتخرج به جماعة أشهرهم:
  • (١)

    ولده عطاء، وكان من متقدمي تلاميذ أبيه.

  • (٢)

    يحيى بن يعمر — على وزن يذهب — العدواني: كان من الأدباء المعروفين والرواة الأثبات المبرزين وهو مع ذلك فقيه ورع، تولى القضاء في خراسان على عدان قتيبة بن مسلم القائد المشهور، وتوفي سنة ١٢٩ﻫ.

  • (٣)

    نصر بن عاصم الليثي: تلقى القرآن والعربية عن أبي الأسود وكان من نبهاء أصحابه، وهو الذي رَوَى عنه صحيفته في العربية المعروفة إذ ذاك بالتعليقة حتى قال بعضهم: إن أول إسناد علمي عُرف في الأدب هو إسناد نصر هذا إلى أبي الأسود في تعليقته هذه، وقد ألَّف نصر كتابًا في العربية لم يصل إلينا، وقال بعضهم إن نصرًا أخذ العربية عن يحيى بن يعمر، وإليهما يرجع الفضل في إعجام الحروف الهجائية وترتيبها على النمط المعروف اليوم «أ، ب، ت، ث … إلخ»، وكانت من قبل مهملة ومرتبة على النمط الأبجدي كما سنبينه في تاريخ الخط. وقد توفِّي نصر سنة ٨٩ﻫ.

  • (٤)

    عنبسة بن معدان الملقب بالفيل: قالوا لم يكن فيمن أخذ عن أبي الأسود أبرع منه، حتى إن بعض تلاميذ أبي الأسود أخذ العربية عن عنبسة هذا لأنه رأس أصحاب أبي الأسود من بعده، وكان راوية للأشعار ظريفًا فصيحًا.

  • (٥)

    ميمون الأقرن: أخذ العربية عن أبي الأسود ثم من بعده عن عنبسة الفيل، ورأس علماء العربية بعد عنبسة.

هؤلاء أنبه تلاميذ أبي الأسود الدؤلي ذكرًا وأعلاهم شأنًا، وإذا اعتبرنا أبا الأسود طبقة برأسها فإن خريجيه هؤلاء يُعتبَرون الطبقة الثانية.

وأشهر من تلقى العربية عن هذه الطبقة:
  • (١)

    عبد الله بن زيد بن الحارث الحضرمي البصري: قالوا ليس في أصحاب ميمون أحد مثل عبد الله هذا، وكان شديد التجريد للقياس وشرح العلل، وقد أملى كتابًا في الهمز، وتوفِّي سنة ١٢٧ﻫ عن ثمانٍ وثمانين سنة.

  • (٢)

    أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني: إمام البصريين في القراءات والعربية فهو أحد القراء السبعة المشهورين، وأعلم أهل زمانه في العربية والشعر ومذاهب العرب حتى نقل أبو الطيب اللغوي أن بعضهم كان يقول: لم يُؤْخَذ على أبي عمرو بن العلاء خطأ في شيء من اللغة إلا في حرف واحد. وقد كتب الشيء الكثير من منثور اللغة ومنظومها حتى قيل إن دفاتره كانت تملأ بيتًا إلى السقف، ولكنه تنسك في أخريات أيامه فأحرقها، وتوفِّي سنة ١٥٤ﻫ أو ١٥٩ﻫ.

  • (٣)

    أبو سفيان بن العلاء: أخو عمرو بن العلاء، أخذ عمن أخذ أخوه من رجال الطبقة الثانية، وقد أخملته شهرة أخيه، وتوفِّي سنة ١٥٦ﻫ.

وأشهر من تلقى اللغة وآدابها عن هذه الطبقة:
  • (١)

    عيسى بن عمر الثقفي: رأس المتقعِّرين من اللغويين، أخذ العربية عن أبي عمرو بن العلاء وعبد الله بن زيد الحضرمي، وروى عن رؤبة بن العجاج وجماعة آخرين، ولكثرة تعمقه في اللغة كان يغلب عليه الإغراب في الكلام، قيل إنه سقط ذات مرة عن حماره فاجتمع إليه الناس، فنظر إليهم مغضبًا وقال: «ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة؟! افرنقعوا عني» أي ما لكم تجمعتم حولي كتجمعكم على مجنون تنحَّوْا عني، فقالوا: إن شيطانه يتكلم بالهندية. وله أمثال هذا شيء كثير، وله في العربية كتابان: أحدهما سماه الإكمال، والثاني الجامع، والظاهر أنهما لم يعيشا طويلًا على كثرة ثناء تلاميذه عليهما، قال الخليل:

    ذهب النحو الذي ألفتم
    غير ما ألف عيسى بن عمر
    ذاك إكمال وهذا جامع
    فهما للناس شمس وقمر

    وتُوفِّي عيسى بن عمر سنة ١٤٩ﻫ، وقيل ١٥٠ﻫ.

  • (٢)

    يونس بن حبيب الضبي البصري: أخذ العربية عن أبي عمرو بن العلاء، وعن كثير من العرب والأعراب، وكان له حلقة بالبصرة ينتابها أهل العلم وطلاب الأدب وفصحاء الأعراب، وكان ممن ينتاب هذه الحلقة رؤبة بن العجاج، وكان يونس يكثر من سؤاله عن غريب اللغة وهو يجيبه إلى أن قال له ذات مرة: «حتام تسألني عن هذه الأباطيل وأزخرفها لك، أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك؟» يريد أنه كان يكذب عليه في جواباته، وكان يونس واسع الحفظ، قال أبو عبيدة: «اختلفت إلى يونس أربعين سنة أملأ كل يوم ألواحي من حفظه»، وتوفي سنة ١٨٢ﻫ وكانت ولادته سنة ٩٠ﻫ.

  • (٣)

    أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الملقب بالأخفش الأكبر: لقي الأعراب وأخذ عنهم، وأخذ عن أبي عمرو بن العلاء وأهل طبقته، وبه تخرج جماعة من أئمة العربية المبرزين منهم سيبويه والكسائي وأبو عبيدة، وهو أول من فسر الشعر تحت كل بيت وكان الناس قبله يكتبون القصيدة كلها فإذا فرغوا منها فسروها.

  • (٤)

    أبو جعفر محمد بن الحسن الرؤاسي: عالم أهل الكوفة في زمانه، وهو أول كوفي ألَّف في العربية، وكان أهل الكوفة يعظمون من شأنه ويزعمون أن كثيرًا من علومهم وقراءاتهم مأخوذة عنه، حتى قيل إن كل ما جاء في كتاب سيبويه قال الكوفي «كذا» إنما يعني به الرؤاسي. وله مؤلفات في العربية منها الفصيل وهو الكتاب الذي نقله إلى البصرة في رحلته، والوقف والابتدا الكبير والصغير، ومعاني القرآن، ولم يصلنا شيء من كتبه.

  • (٥)

    أبو مسلم معان بن مسلم الهراء: عم أبي جعفر الرؤاسي المتقدم، وهو أول من وضع علم التصريف، وله كتب في العربية لم يطل عمرها كثيرًا، وقد كان وُلِد في خلافة عبد الملك بن مروان وعُمِّر طويلًا حتى توفِّي سنة ١٨٧ وقيل سنة ١٩٠ﻫ.

وأشهر من تلقى اللغة عن هذه الطبقة والتي قبلها:
  • (١)

    أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري الإمام المشهور: كان أحفظ الناس للغة وأوسعهم رواية وأوثقهم وأكثرهم أخذًا عن البادية حتى قالوا: كان يجيب في اللغة. أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر وأبي الخطاب الأخفش ويونس بن حبيب وعن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم، وكان جليل القدر رفيع المنزلة، وتخرج به جماعة منهم سيبويه وكل ما جاء في كتاب سيبويه «أخبرني الثقة» أو «حدثني من أثق بعربيته» فإنما يريد أبا زيد هذا، ولأبي زيد تصانيف كثيرة سرد منها الجلال السيوطي في كتابه «بغية الوعاة» ثلاثين ونيفًا، تُوفِّي بالبصرة سنة ٢١٥ﻫ عن عمر يناهز ٩٣ سنة.

  • (٢)

    أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي البصري: وسنترجم له فيما بعد ترجمة مبسوطة.

  • (٣)

    أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري الشعوبي الأخباري: كان أعلم أهل زمانه بالأنساب وأيام العرب وأخبارهم وعلومهم، حتى كان يقول: ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما. قال الجاحظ: «لم يكن خارجي أعلم بجميع العلوم منه»، ومن هذا يُفهَم أنه كان يرى رأي الخوارج مضافًا إلى ما كان عليه من الشعوبية السمجة، وكان يغلب عليه الغريب من اللغة ولهذا كان أول من ألف في غريب الحديث، وكان مع اتساع معرفته بلغة العرب وأدبهم لا يحسن قراءة الشعر وإذا أنشد بيتًا لم يقم إعرابه وينشده مختلف العروض، وما ذلك إلا لأنه يضرب بعِرق إلى اليهودية، لأن أبا المثنى جده كان يهوديًّا من يهود باجروان. ولأبي عبيدة مؤلفات كثيرة أشهرها: معاني القرآن، وغريب القرآن، وغريب الحديث، والمثالب، وأيام العرب، وطبقات الفرسان، وخلق الإنسان، والخيل والإبل، ونقائض جرير والفرزدق وغيرها، وقد أحصى له ابن النديم في فهرسته مائة مصنفٍ ونيفًا، وُلِد أبو عبيدة سنة ١١٢ﻫ وتوفي سنة ٢٠٩ﻫ، وقيل أكثر أو أقل …

  • (٤)

    خلف الأحمر البصري: كان راوية للأشعار ونقادة لها، وكان يُعد من أضراب الأصمعي بل قيل هو معلم الأصمعي، وهو والأصمعي فتقا المعاني وأوضحا المذاهب وبيَّنا المعالم، وكان الأخفش يقول إنه لم يدرك أحدًا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي. وكان خلف شاعرًا حاذقًا ماهرًا في التقليد وقد وضع على كثير من شعراء العرب، فكان يضع على كل شاعر ما يتلاءم مع ألفاظه وأسلوبه ومعانيه فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، وقد أخذ عنه أهل البصرة والكوفة، ثم نسك في أخريات أيامه وأقر بما كان يضعه، فلم ينتفع بإقراره هذا من انخدع له في أول الأمر وبقي ما وضعه مبثوثًا في الدواوين. وله من التصانيف كتاب جبال العرب وما قيل فيها من الشعر، وله ديوان شعر حمله عنه أنبه تلاميذه أبو نواس، وقد رثاه أبو نواس في حياته بأرجوزة منها:

    أودى جماع العلم مذ أودى خلف
    من لا يُعد العلم إلا ما عرف
    قليذم من العياليم الخسف
    فكلما نشاء منه نغترف
    رواية لا تُجتَنَى من الصحف

    وله فيه من قصيدة يرثيه بها في حياته أيضًا:

    وكان ممن مضى لنا خلفا
    فليس منه إذ بان من خلف

    وتُوفِّي في حدود الثمانين والمائة.

  • (٥)

    الخليل بن أحمد الفراهيدي: سيد أهل الأدب وإمام المصنفين في لغة العرب، وبه يبدأ الطور الثاني من أطوار الرواية المقرون بطور التأليف، وسوف نترجم له في غير هذا الموطن، ولكنَّا نقول هنا: إن الخليل أول من دوَّن اللغة، ورتب ألفاظها على حروف الهجاء ترتيبًا لم يُسْبَق إليه في كتابه المسمى «كتاب العين»، وبكتابه هذا يفتح الطور الثاني وهو طور الرواية والكتاب.

(٩) طور الرواية والكتاب

نهج الخليل في جمع اللغة واستيعابها طريقة مبتكرة اخترعها لنفسه، واقتفى أثره فيها الجم الغفير ممن جاءوا بعده من اللغويين في ترتيب الحروف؛ منهجًا خاصًّا لم يمشِ عليه الناس من بعده، وهو أنه رتبها على حسب ترتيب مخارجها الطبيعية مبتدئًا من الحلق ذاهبًا إلى اللسان فالشفتين، وجعل أولها العين ثم ما قرب مخرجه منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخر الحروف.

إن للمؤلفين في اللغة أسلوبين: أحدهما يبتدئ باللفظ وينتهي بالمعنى والثاني بالعكس، مثال الأول ما إذا قيل: «القطار: عدد من الإبل مقطورة على نسق واحد، والقطرُ: النحاس، والقطر: الجهة والناحية، والقطر: المطر»، ومثال الثاني ما إذا قلت: «ولد الناقة يُسمَّى الحوار، وولد الغزالة يُسمَّى الخشف، والنوم الخفيف يُسمَّى السِّنَة»، فالذي يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى يرمي في الغالب إلى تسهيل إيضاح معاني الكلام على السامع والقارئ، فإن من سمع كلامًا منظومًا أو منثورًا وغُمَّ عليه معاني بعض ألفاظه فإنه يرجع في إيضاح ذلك إلى المعاجم المؤلفة على الطريقة الأولى فيجد فيها ضالته، والذي يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ يرمي على الأكثر إلى تسهيل إنشاء الكلام على اللسان والقلم، فإن من تصور معنًى أراد التعبير عنه وغاب عنه اللفظ الدال عليه يستعين على وجدانه بالكتب المؤلفة على الطريقة الثانية، ومن ثم نجد أكثر الناس انتفاعًا بهذه الكتب أولئك الذين يُعْنَوْن بترجمة الكلام الأجنبي، لأنهم يجدون أمامهم من المعاني ما تحتاج إلى قوالب من ألفاظ لا تحضرهم فيرجعون إلى هذه الكتب ليهتدوا بها إلى بغيتهم.

وإنما ألمعنا إلى هذا التقسيم لنبين أن مصنفي اللغة في هذا الطور انخزلوا إلى فريقين: فريق سلك الطريق الأول وعلى رأسهم الخليل بن أحمد، وفريق سلك الطريق الثاني وعلى رأسهم الأصمعي وأبو زيد وأضرابهما. فالخليل بن أحمد أول من ألف في اللغة على الأسلوب الأول فهو أبو عذرته، نعم، لا يُنْكَر أن بعض معاصري الخليل ألف بعض الشيء على هذا الأسلوب كأبي عبيدة فإنه ألف في غريب القرآن وغريب الحديث، ولكن تلك التآليف في مواضع خاصة وأبواب معينة وعلى غير ترتيب يُعتَدُّ به، فهي عبارة عن مجموع مباحث مبعثرة لا يضبطها ترتيب ولا يؤلف بينها نظام، أما الخليل فإنه نزع إلى طريقة علمية لم يُسبَق إليها على ما ستقف عليه مفصلًا عند الكلام على ترجمته.

فطور الرواية والكتاب يُفْتَتَح بذينك الأسلوبين من التأليف على ما عرفت، وقد رأينا أن نسمي الأسلوب الأول «المسلك اللفظي» لأن البدء فيه يكون بجانب اللفظ ومنه ينتقل إلى جانب المعنى، والأسلوب الثاني «المسلك المعنوي» لأن البدء فيه يكون بجانب المعنى ومنه ينتقل إلى جهة اللفظ.

وينفرع عن كل واحد من هذين المسلكين فروع كثيرة، رأينا أن نجملها في هذا المكان لئلا نضطر إلى الرجوع إليها في مكان آخر فتُفَكَّك عُرى البحث وتتباعد أواصره.

(٩-١) فروع المسلك اللفظي

سلك المؤلفون في ترتيب الألفاظ مسالك شتى لاعتبارات مختلفة، فمنهم من وَجَّه همه إلى ضبط اللغة وإحصاء كلمها والتمييز بين مستعملها ومهملها، كما فعل الخليل بن أحمد في ترتيب كتاب العين وتبعه أبو بكر بن دريد في جمهرته، وقد علمت أن الخليل ابتكر أسلوبًا في إحصاء مفردات اللغة لم يسبقه إليه سابق، كما ابتكر طريقة خاصة في ترتيب حروف الهجاء تنكَّب فيها الطريق الأبجدي القديم والترتيب العلمي المعروف ومال إلى الترتيب المخرجي الطبعي على ما أشرنا إليه آنفًا، وأما ابن دريد فإنه لم يزد على ما جاء به الخليل من الترتيب والتبويب شيئًا يُذكَر ولذلك جاءت جمهرته مقاربة لكتاب العين على ما فيها من الفوائد والأوابد التي خلا منها كتاب العين.

وقد حذا حذو هذين الإمامين ثالث هو أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني القرطبي المتوفَّى سنة ٤٣٣ﻫ، فإنه وضع كتابًا أتى فيه على ما في كتاب العين من صحيح اللغة وزاد عليه ما زاده ابن دريد في الجمهرة، فصار كتابه هذا محتويًا على الكتابين معًا وسماه «فتح العين». وبعد، فنحن نُلقب هذا الترتيب ﺑ «ترتيب الخليل»، ويُعتبَر الفرع الأول من المسلك اللفظي، وآخر من سلك هذا المسلك — على ما نظن — أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سِيده والمتوفَّى سنة ٤٥٨ﻫ، فإنه ألف كتابه «المحكم والمحيط الأعظم» على ترتيب كتاب العين.

ومن اللغويين من وجَّه نظره إلى ضبط مفردات اللغة مع الالتفات إلى تسهيل أمر الحصول على المقصود في المراجعة عند الحاجة، فرتب الألفاظ معتبرًا أواخر حروفها الأصلية أبوابًا وأوائل حروفها الأصلية فصولًا، كما فعل الجوهري في كتابه «صحاح اللغة» وتبعه مجد الدين الشيرازي في قاموسه وتبعهما خلق كثير.

ومن طبيعة هذا الترتيب أن يتألف الكتاب من ثمانية وعشرين بابًا، ينعقد كل باب منها من ثمانية وعشرين فصلًا على عدد حروف المعجم حسب ترتيبها التعليمي المشهور «أ، ب، ت، ث … إلخ» إلا أن يهمل في بعض الأبواب بعض الفصول لعدم ورود شيء فيها، فإذا طلبت كلمة استقرى أو تقرى أو القيروان مثلًا فإنك تجدها كلها في فصل القاف من باب الواو لأن أصل مادتها «ق، و، ر»، وإذا طلبت السماء أو الاسم أو التسامي فإنك تجدها كلها في فصل السين من باب الواو لأنها كلها من مادة «س، م، و». ونحن نلقب هذا «بمسلك الجوهري» وهو الفرع الثاني من المسلك اللفظي. ومن المؤلفين من لم يلتفت إلى حصر المفردات بوجه، بل وجَّه كل عنايته إلى تسهيل الحصول على المقصود عند البحث والمراجعة، فبوَّب كتابه على ترتيب حروف الهجاء التعليمي واعتبر أصول أوائل الكلم أبوابًا وما يليها من الحروف الأصلية ثم ما يثلثهما فصولًا، فتجد كلمة أسد قبل كلمة أسر وهذه قبل كلمة أسف وهذه كلها قبل كلمة أشر لأن الشين بعد السين. وأول من سلك هذا المسلك في الترتيب — على ما أظن — أبو الحسين أحمد بن فارس المتوفَّى سنة ٣١٠ﻫ في كتابه «المجمل في اللغة»، وتبعه الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة» وجاء بعده تلميذه ناصر بن عبد السيد المطرزي المتوفَّى سنة ٦١٠ﻫ فألَّف كتابه «المغرب في لغة الفقهيات»، وسلك في ترتيبه مسلك شيخه في أساس البلاغة. وممن سلك هذا المسلك أحمد بن محمد المقري الفيومي المتوفَّى سنة ٧٧٠ﻫ في كتابه «المصباح المنير» في غريب الشرح الكبير، وعلى هذا المسلك سار المؤلفون من المعاصرين. والمؤلفون على هذا النمط يعتبرون من الكلمة حروفها الأصلية كما علمت فيضعون كلمة اتصل مثلًا في باب الواو لأنها من مادة «و ص ل»، ومثلها اتأد واتسع واتكأ واتسق واتهم واتكل لأنها من مادة: «و أ د»، «و س ع»، «و ك أ»، «و س ق»، «و ﻫ م»، «و ك ل»، ويضعون كلمة تترى في هذا الباب لأن مادتها «و ت ر». وفي هذا ما فيه من العسر على الذين لا علم لهم بمبادئ اللغة وأصول تصريفها، ولهذا نرى أن تُوضَع المعاجم على أسلوب تكون العبرة فيه لحروف الكلمة كلها سواء في ذلك الأصلية والزائدة، وتُوضَع كلمة تترى مثلًا في باب التاء والتاء وما يثلثهما، وكلمة اتقى في باب الهمزة والتاء وما يثلثهما وهكذا.

وقد سلك هذا المسلك من الأقدمين ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، فإنه رتبه على هذا النمط غير ناظر إلى أصول الكلمات، فيضع كلمة «أسورة» مثلًا في باب الهمزة والسين وما يليهما، وإذا طلبتها في المصباح تجدها في باب السين مع الواو وما يثلثهما وفي هذا عنت ليس بالهين. وعلى النمط السهل مشى مؤلفو معاجم الأسماء كابن خلكان في كتابه «وَفَيَات الأعيان» وياقوت في كتابه «معجم الأدباء» وابن حجر العسقلاني في «الإصابة»، فإنك تجد فيها اسم «المعلى» مثلًا في باب الميم والعين وما يليها، ولو طلبته في القاموس لوجدته في فصل العين من باب الواو، أو في المصباح لوجدته في باب العين واللام وما يثلثهما.

ولم نجد من اللغويين من سلك هذا المسلك على ما فيه من تسهيل المراجعة على المراجعين، ولا سيما أولئك الذين يتعسر عليهم تمييز أصول الكلمات من زوائدها.

(٩-٢) فروع المسلك المعنوي

للمؤلفين الذين سلكوا هذا الطريق في تآليفهم مناهج شتى مرجعها كلها إلى أمل واحد هو ترتيب المعاني حسب أجناسها وأنواعها، ثم توزيع كل نوع منها إلى طوائف تُوضَع كل طائفة منها تحت باب له عنوانه، وتُقَسَّم هذه الأبواب إلى فصول يُوضَع تحت كل فصل منها جملة من المعاني المتآخية. فإذا أُخِذ جنس الحيوان مثلًا نجده ينقسم إلى أنواع كثيرة منها الإنسان، والبحث عن الإنسان يتوزع إلى أبواب كثيرة يضم كل باب منها طائفة من شئونه: فمن أعضائه، إلى طعامه، إلى شرابه، إلى لباسه، إلى مسكنه، إلى سلاحه، إلى حركاته وأطوار حياته وسائر صفاته وتقلبات أحواله. وإذا أخذنا باب اللباس مثلًا نجده ينطوي على فصول عديدة في: النسج، والخياطة، والخيوط، والإبر، وفي ضروب الثياب وألوانها وأشكالها، وفي ثياب الرجال والنساء والولدان، وفي الأكسية والفرش … إلخ. فإذا أخذت فصل الوسائد مثلًا تجده يقول: «المخدة والمصدغة: ما يُوضَع تحت الرأس، والخرقة: هي التي تُصفُّ إلى أخرى، والمسند: ما يُسْتَند إليها، والمشورة: ما يُتَّكَأ عليها، والمنبذة: ما يُطْرَح للزائر وغيره، والحسبانة: ما صغر من الوسائد … إلخ.»

ثم من المؤلفين من يذكر المعنى المفرد ويذكر اللفظ الدال عليه، كأن يقول: «ما بين طرفي الخنصر والإبهام يُسمَّى الشبر، وما بين طرفي السبابة والوسطى يُسمَّى الرتب، وما بين طرفي الوسطى والبنصر يُسمَّى العتب، وما بين طرفي البنصر والخنصر يُسمَّى البصم، وما بين كل إصبعين طولًا فهو الفوت.»

ومنهم من يذكر المعنى المركب ويردفه بالعبارة أو العبارات الدالة عليه، فإذا ذكر باب الخطيب والخطابة مثلًا يقول: «خطيب بسيط اللسان، مصقول الخاطر، ناصع البيان، خلاب الألباب، تنفجر ينابيع الحكمة على لسانه، إذا أفاض في كلامه ملك أعنَّة القلوب واستدرَّ ماء الشئون وقوَّم زيغ النفوس … إلخ.»

وأشهر من نهج المنهج الأول أبو منصور الثعالبي المتوفَّى سنة ٤٢٩ﻫ في كتابه الموسوم ﺑ «فقه اللغة»، وابن سيده صاحب المحكم في كتابه «المخصص» في ١٧ جزءًا، ويُقال إنه قد سبقهما إلى هذا المنهج أحمد بن أبان الأندلسي المتوفَّى سنة ٣٣٢ﻫ في كتابه «العالم»، بدأ فيه بالفلك وختم بالذرة فجاء في مائة مجلد.

وممن ألف على النمط الثاني عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني المتوفَّى سنة ٣٢٧ﻫ ألف «الألفاظ الكتابية»، وقدامة بن جعفر المتوفَّى سنة ٣٣٧ﻫ فقد وضع فيه كتابه الذي أسماه «جواهر الألفاظ» وهو كتاب ممتع.

(١٠) المعاجم العامة والخاصة

ومن المعاجم ما هو عام في جميع أبواب اللغة وأنواعها كالقاموس لمجد الدين الشيرازي والمخصص لابن سيده، ومنها ما هو خاص في باب من أبواب اللغة ونوع من أنواعها، وهذا النوع كثير الفروع — على ما ستراه — ونحن نذكر بعض هذه الفروع في هذا المقام على سبيل المثال، فمن ذلك:

(١) مفردات القرآن. (٢) ما جاء في القرآن بغير لغة العرب. (٣) ما جاء في القرآن بغير لغة الحجاز. (٤) مبهمات القرآن. (٥) غريب الحديث. (٦) لغات الفقهاء. (٧) لغات بعض الكتب الفقهية. (٨) الأضداد. (٩) مثلثات اللغة. (١٠) لغات الشعر. (١١) النبات. (١٢) الشجر. (١٣) النخل والكرم. (١٤) خلق الإنسان. (١٥) خلق الفرس. (١٦) الأنواء. (١٧) الرياح. (١٨) الإبل. (١٩) الشاء. (٢٠) السلاح. (٢١) الفصيح. وغير ذلك مما يطول شرحه ويتعسر استقصاؤه، وفي كل من هذه الأنواع كتب كثيرة سيمر بك طرف منها إن شاء الله تعالى.

(١١) الطبقة السادسة

وبعد إجمال ما استطردنا إليه من تنويع مسالك المؤلفين من اللغويين، نرجع إلى ما كنا بصدده من تتبع طبقات اللغويين واستقراء سلسلتهم حلقةً حلقة فنقول: أشهر من تلقى العربية عن طبقة الخليل:
  • (١)

    أبو بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه المتوفَّى سنة ١٨٠ﻫ، وسنترجم له في النحويين لاشتهاره بكتابه الذي يُلَقَّب ﺑ «قرآن النحو».

  • (٢)

    النفر بن شميل: أخذ عن الخليل، ثم رحل إلى البادية وضرب في كبد الجزيرة وأخذ عن أعرابها وعربها فيقال إنه أقام في البادية أربعين سنة، وكان علمًا من أعلام العربية، وله مؤلفات منها: كتاب الجيم، غريب الحديث، الشمس والقمر، السلاح، الأنواء، المدخل إلى كتاب العين. وتُوفِّي سنة ٢٠٣ﻫ.

  • (٣)

    حماد بن سلمة الإمام المشهور: أخذ عن عيسى بن عمر وعن الخليل وغيرهما، وكان رأسًا في العربية والبلاغة، تُوفِّي سنة ١٦٧ﻫ.

  • (٤)

    يحيى بن المبارك اليزيدي: أخذ عن عمرو والخليل، وكان أحد القراء الفصحاء العالمين بلغة العرب وآدابها، وهو أحد أشياخ المأمون، ومن تآليفه: كتاب النقط والشكل، والمقصور والممدود، والنوادر، وتُوفِّي سنة ٢٠٢ﻫ.

  • (٥)

    أبو فيد المؤرج بن عمرو السدوسي: أحد أئمة الأدب المتوسعين في لغة العرب، قَدِم من البادية وأقام بالبصرة فحذق مقاييس العربية على أشياخها كأبي عمرو بن العلاء وأبي زيد الأنصاري والخليل بن أحمد، وله من المؤلفات في اللغة: غريب القرآن، الأنواء، المعاني وغيرها، تُوفِّي سنة ١٩٥ﻫ.

  • (٦)

    علي بن سلام الجمحي: أحد أعلام الأدب، أخذ عن خلف الأحمر ويونس بن حبيب وغيرهما، وهو أحد نَقَدَة الشعر الأفذاذ والرواة الأثبات، وله كتاب غريب القرآن، تُوفِّي سنة ٢٣١ﻫ.

  • (٧)

    أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي: رأس الكوفيين وإمام اللغويين، وسنترجم له في النحويين.

  • (٨)

    علي بن نصر الجهضمي: صحب الخليل وأخذ عنه، وهو من رفقاء سيبويه، تُوفِّي سنة ١٨٧ﻫ.

  • (٩)

    المفضل بن محمد الضبي الكوفي صاحب المفضليات: كان من علماء الشعر ورواة الأدب المكثرين.

  • (١٠)

    صالح بن إسحاق الجرمي: أخذ عن الأخفش ويونس والأصمعي وأبي عبيدة، وله كتب منها: كتاب الأبنية، وغريب سيبويه وغيرهما، تُوفِّي سنة ٢٢٥ﻫ.

  • (١١)

    عبد الله بن محمد التوزي: أخذ عن الأصمعي وأبي عبيدة، وبرع في فنون الأدب، وله كتاب الخيل، والأمثال، والأضداد، تُوفِّي سنة ٢٣٣ﻫ.

وأشهر من تلقَّى العربية عن هذه الطبقة:
  • (١)

    محمد بن المستنير المعروف بقطرب: لازم سيبويه ويونس بن حبيب، وأخذ عن عيسى بن عمر، وبرع في العربية، ولكن الرواة يغمزونه ويطعنون في روايته، وله مؤلفات جمة منها: المثلث — وهو ما جاء بالحركات الثلاث من الألفاظ، سواء كان لمعنى واحد مثل: ذروة، رغوة، أو لمعانٍ مختلفة مثل: قَطر، قِطر، قطر»، والنوادر، والأضداد، وخلق الإنسان، وخلق الفرس، والمصنف الغريب وغيرها، وتُوفِّي سنة ٢٠٦ﻫ.

  • (٢)

    يحيى بن زياد الفراء: تلميذ الكسائي وأحد أعلام اللغويين من الكوفيين، وله مصنفات كثيرة منها: معاني القرآن، المصادر في القرآن، آلة الكتاب، النوادر، المقصور والممدود، الحدود، وتُوفِّي سنة ٢٠٧ﻫ.

  • (٣)

    أبو عبيد القاسم بن سلام: الأديب المتفنن، كان إمامًا في معارف شتى، أخذ عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي واليزيدي وابن الأعرابي والكسائي وغيرهم، وكان مصنفًا حسن التصنيف ترك نيفًا وعشرين مصنفًا منها: الغريب المصنف، غريب القرآن، غريب الحديث، معاني القرآن، الأمثال السائرة، المقصور والممدود وغيرها، تُوفِّي سنة ٢٢٣ﻫ.

  • (٤)

    محمد بن زياد الأعرابي: أحد أئمة الرواة الكوفيين وأعلام اللغويين المبرزين، حتى قالوا: لم يكن أحد من الكوفيين أشبه رواية برواية البصريين منه، وكان واسع الحفظ جدًّا، قال ثعلب: لزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابًا قط، وما أشك في أنه أملى على الناس ما يُحْمَل على أجمال، وله كتب كثيرة منها: النوادر، الأنواء، صفة المحل، صفة الدرع، الخيل، معاني الشعر، النبات، النبت والبقل، الأمثال وغيرها، تُوفِّي سنة ٢٣٠ﻫ.

  • (٥)

    أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط: تخرج بسيبويه، وكان أحفظ أصحابه وأحذقهم، وله من المؤلفات: معاني القرآن، والاشتقاق، والمسائل الكبير والصغير، والأصوات، وكتب أخرى، تُوفِّي سنة ٢١٠ﻫ، ويزعم البصريون أن الكسائي قرأ عليه كتاب سيبويه سرًّا.

  • (٦)

    أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي: أحد الرواة المتوسعين والأدباء المطبوعين، أخذ عن سيبويه، وروى عن أبي عبيدة والأصمعي، ومن تآليفه كتاب النقط والشكل، والأمثال، والسحاب، والرياح، والأمطار، تُوفِّي سنة ٢٤٩ﻫ.

  • (٧)

    أبو عثمان بكر بن محمد المازني: أحد فضلاء الناس وكبار رواتهم وحذَّاق مناظريهم، روى عن جماعة منهم: أبو عبيدة والأصمعي وأبو زيد والجرمي والأخفش الأكبر، وأكثر مصنفاته في النحو والتصريف، تُوفِّي سنة ٢٤٩ﻫ.

  • (٨)

    أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي: أحد علماء الناس باللغة والشعر، روى عن الأصمعي وغيره، وقرأ النحو على المازني كما قرأ عليه المازني اللغة، ومن مؤلفاته: كتاب الخيل، الإبل، ما اختلفت أسماؤه من كلام العرب، تُوفِّي سنة ٢٥٧ﻫ.

  • (٩)

    أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني البصري: كان إمامًا في علوم القرآن واللغة والشعر وأخبار الناس، روى عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد وغيرهم، وله مؤلفات كثيرة منها: المقصور والممدود، الوحوش، الطير، خلق الإنسان وغيرها، وكانت كتبه في غاية من الإتقان والإمتاع، تُوفِّي سنة ٢٥٠ﻫ.

  • (١٠)

    عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب ابن أخي الأصمعي: كان يروي عن عمه الشيء الكثير، وربما حكى عنه ما يجده في كتبه من غير أن يكون قد سمعه من لفظه.

  • (١١)

    أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي: صاحب الأصمعي، ويزعم بعضهم أنه ابن أخته وليس هذا بثابت، وروى عن أبي عبيدة وأكثر الرواية عن أبي زيد، وله من المؤلفات: النبات والشجر، واللبأ واللبن، الخيل، الطير، الجراد، اشتقاق الأسماء وغير ذلك، تُوفِّي سنة ٢٣١ﻫ.

  • (١٢)

    أبو عمر إسحاق بن مِرار الشيباني الكوفي: راوية أهل بغداد في عصره، كان واسع العلم باللغة عالمًا فاضلًا، أخذ عن الكسائي وغيره، وأخذ عنه خلق كثير، وله من المصنفات: النوادر، كتاب الجيم، الغريب المصنف، غريب الحديث، الخيل، أشعار القبائل، خلق الإنسان وغيرها، تُوفِّي سنة ٢٠٦ عن مائة وعشر سنين.

  • (١٣)

    علي بن الحسن الأحمر: شيخ العربية في زمانه، صحب الكسائي وأخذ عن غيره، وكان بارعًا في النحو والحفظ حتى قيل إنه يحفظ أربعين ألف شاهد في النحو، وله كتب جُلُّها في التصريف والنحو، تُوفِّي سنة ١٩٤ﻫ.

  • (١٤)

    علي بن حازم اللحياني الكوفي: لازم الكسائي، وقرأ عليه كثيرٌ ممن في طبقته، وله كتاب النوادر.

  • (١٥)

    أبو محمد عبد الله بن سعيد الأموي: أخذ عن الكسائي ومن في طبقته، أخذ عنه جماعة، وله كتاب النوادر وغيره.

وأشهر من تلقى على هذه الطبقة:
  • (١)

    أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: إمام أهل العربية في زمانه وأديبهم، أخذ عن المازني والسجستاني والجرمي، وتخرج به خلق كثير، وكان قوي الذاكرة فصيحًا مفوَّهًا وأخباريًّا ظريفًا حتى كان الناس بالبصرة يقولون: ما رأى المبرد مثل نفسه. وله كثير من المؤلفات منها: معاني القرآن، والاشتقاق، والمقتضب، وما اتفق لفظه واختلف معناه، ويُعَدُّ في مقدمة تآليفه الكامل، وهو أحد أركان الأدب عند أهل الأدب. وتُوفِّي سنة ٢٨٥ﻫ.

  • (٢)

    أبو العباس أحمد بن يحيى البغدادي المشهور بثعلب: إمام الكوفيين في النحو واللغة، لازم ابن الأعرابي وأخذ عن محمد بن سلام الجمحي وغيره، وقد انتهت إليه رئاسة الكوفيين في العربية كما انتهت رئاسة البصريين إلى المبرد، وكانت بينهما منافرات مشهورة ومعارضات منكورة حتى أصبحا مثلًا في شدة التعادي، قال الشاعر:

    فأبداننا في بلدة والتقاؤنا
    عسير كأنا ثعلب والمبرِّد

    ولثعلب تصانيف أكثرها في النحو والتصريف، منها في اللغة: معاني القرآن، معاني الشعر، الفصيح وهو أشهرها، وينسبه بعضهم لغيره والصحيح أنه له، تُوفِّي سنة ٢٩١ﻫ.

  • (٣)

    أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني: أخذ عن المازني والجرمي ومن في طبقتهما واختص بالتوزي، وله كتب كثيرة منها كتاب المعاني.

  • (٤)

    يعقوب بن إسحاق السكيت: أحد أعلام الكوفيين، أخذ العربية عن البصريين والكوفيين، وممن أخذ عنهم: الفراء وأبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي وغيرهم، وكان واسع العلم باللغة والشعر، وله تصانيف كثيرة في النحو ومعاني الشعر وشروح دواوين العرب، وزاد فيها على من تقدمه الشيء الكثير، ويُذْكَر في مقدمة تآليفه إصلاح المنطق وهو مطبوع متداوَل، تُوفِّي سنة ٢٤٤ﻫ.

  • (٥)

    عمرو بن أبي عمرو الشيباني: الكوفي أحد كبار اللغويين من الكوفيين، تُوفِّي سنة ٢٣١ﻫ.

  • (٦)

    أبو جعفر محمد بن حبيب الكوفي: أحد علماء اللغة المعروفين ورواة الأخبار الموصوفين، أخذ عن قطرب وابن الأعرابي، له: غريب الحديث، الأنواء، الشجر، نقائض جرير والفرزدق، المختلف والمؤتلف في أسماء القبائل، الخيل، النبات وغيرها، تُوفِّي سنة ٢٤٥ﻫ.

  • (٧)

    أبو الحسن علي بن المغيرة الأشرم الكوفي: له مؤلفات في العربية أكثرها في النحو، وله كتاب في غريب اللغة.

  • (٨)

    أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري: كان بارعًا في فروع اللغة المختلفة، راوية ثقة مكثر، أخذ عن السجستاني والرياشي وغيرهما، وأخذ عنه خلق كثير، وانتشر عنه من كتب الأدب ما لم ينتشر عن أحد من نظرائه، وله مصنفات كثيرة منها النبات، والوحوش، وجمع أشعار جماعة من الشعراء منهم: امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير ولبيد والنابغة الجعدي وغيرهم، كما جمع شعر عدة قبائل من العرب منها: شعر هذيل، وبني شيبان، وبني يربوع، وبني ضبة، والأزد، وبني نهشل وغيرهم، وتُوفِّي سنة ٢٧٥ﻫ.

  • (٩)

    عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: نزيل بغداد، أحد أعلام اللغويين وكبار المصنفين ورجال الأخبار المتوسعين، ومن مؤلفاته: غريب القرآن، معاني القرآن، الخيل، خلق الإنسان، الأنواء، غريب الحديث وغيرها، تُوفِّي سنة ٢٦٧ﻫ.

ومن أشهر من تلقى عن هذه الطبقة:
  • (١)

    أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجَّاج: لازم المبرد وأخذ عنه معظم علمه فخرج فاضلًا، له جملة مؤلفات منها: معاني القرآن، خلق الإنسان، فعلت وأفعلت، الاشتقاق، النوادر، وله كثير غيرها، تُوفِّي سنة ٣١١ﻫ.

  • (٢)

    أبو بكر بن السراج.

  • (٣)

    أبو بكر بن دريد، وسنترجم له.

ومن أشهر تلاميذه وحاملي لواء علمه أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي المشهور بالقالي، كان أحفظ أهل زمانه للغة وآدابها، وله كتاب البارع في اللغة والنوادر والأمالي، وهو أحد أركان الأدب، تُوفِّي سنة ٣٥٦ﻫ.

ومنذ انفجر فجر هذه المائة — المائة الرابعة للهجرة — أخذ ظل الرواية يتقلص وشأنها يتضاءل شيئًا فشيئًا، وأخذ أمر الاعتماد على الكتاب يقوى ويتوسع، وأخذ القلم يحتل المكانة التي كانت تحتلها الحافظة، وقد أخرج أقطاب اللغويين للناس في هذا العصر أسفارًا جليلة تُعد في الطليعة من دواوين اللغة التي عليها يُعوَّل وإليها يُرجَع، ومن أشهرها:
  • (١)

    الجمهرة لأبي بكر بن دريد المتوفَّى سنة ٣٢١ﻫ المتقدم ذكره.

  • (٢)

    البارع لأبي علي القالي المتقدم.

  • (٣)

    مختصر العين لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي المتوفَّى سنة ٣٧٩ﻫ.

  • (٤)

    كتاب العشرات لأبي عمرو المعروف بغلام ثعلب المتوفَّى سنة ٣٤٥ﻫ، وقد جمع فيه المعاني التي تترادف على كل معنًى منها عشرة ألفاظ.

  • (٥)

    ديوان الأدب لأبي إسحاق بن إبراهيم الفارابي المتوفَّى سنة ٣٥٠ﻫ، خال الجوهري صاحب الصحاح، وهو كتاب مؤلف من ستة كتب: (١) في السالم. (٢) في المضاعف. (٣) في المثال. (٤) ذوات الثلاثة. (٥) ذوات الأربعة. (٦) الهمزة.

  • (٦)

    التهذيب لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفَّى سنة ٣٧٠ﻫ، وهو من أجلِّ المعاجم، وأغزرها مادة، وقد تقدم أنه مرتب على نمط كتاب العين.

  • (٧)

    غريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء للأزهري أيضًا.

  • (٨)

    المحيط للصاحب بن عباد المتوفَّى سنة ٣٨٥ﻫ، وهو في سبعة مجلدات فُقِد معظمها.

  • (٩)

    المجمل لابن فارس المتوفَّى سنة ٣٩٠ﻫ، وقد تقدم ذكره.

  • (١٠)

    الصحاح للجوهري المتوفَّى سنة ٣٩٨ﻫ، وقد وصفناه في دروس أصول اللغة.

وبالجملة فإنه ما كاد ينطوي بساط هذه المائة حتى ازدحمت المكتبات بمئات المؤلفات في هذا العلم، حتى حُكِي عن الصاحب بن عباد — المذكور آنفًا — أن بعض الملوك أرسل إليه يسأله القدوم عليه فقال له في الجواب: أحتاج إلى ستين جملًا أنقل عليها كتب اللغة عندي، ومهما كان في هذا القول من المبالغة فإنه يدل على غزارة مادة التأليف إذ ذاك في هذا العلم، قال الجلال السيوطي بعد أن نقل هذه الحكاية: وقد ذهب جُلُّ هذه الكتب في الفتن الكائنة من التتار وغيرهم.

ومن أشهر ما جادت به أقلام أقطاب اللغة في المائة الخامسة من جليل المعاجم:
  • (١)

    الجامع لأبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز، المتوفَّى سنة ٤١٢ﻫ.

  • (٢)

    المُوعِب لأبي غالب تمام بن غالب المعروف بالتياني المتوفَّى سنة ٣٣٦ﻫ.

  • (٣)

    المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده المتوفَّى سنة ٤٥٨ﻫ، وقد تقدم ذكره.

ومن أشهر ما أُلِّف في هذه المائة على المسلك اللغوي:
  • (١)

    فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي المتوفَّى سنة ٤٢٩ﻫ.

  • (٢)

    المخصص لابن سيده، وهو أجلُّ ما أُلِّف في بابه على الإطلاق.

وما كادت تدخل المائة السادسة حتى لم يبق للرواية شأن يُذْكَر، وصار اعتماد الناس على الكتب يتدارسونها ويُعْنَوْن بضبطها وتحقيق ما فيها على الأشياخ، وغبروا على ذلك زمنًا إلى أن فترت الهمم فأخذوا يقرءون الشيء من الكتاب ويستجيزون رواية الباقي من غير قراءة، وغبروا على هذا زمنًا فصاروا يكتفون برواية الكتاب أو الكتب من غير أن يقرءوا شيئًا على المجيز وهكذا حتى لم يبق للضبط والتحقيق، ومن ثم كثر التصحيف والتحريف في كتب المتأخرين مما لم يُعْهَد عشر معشاره في كتب الأقدمين.

ومن أشهر معاجم اللغة في المائة السادسة:
  • (١)

    تهذيب إصلاح المنطق لأبي زكريا التبريزي المتوفَّى سنة ٥١٢ﻫ، هذب فيه كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وفسر الغامض منه وأصلح ما رآه فيه من الخطأ.

  • (٢)

    مفردات القرآن لأبي القاسم الحسين المشهور بالراغب الأصفهاني المتوفَّى سنة ٥٠٢ﻫ وهو أجلُّ ما أُلِّف غاية في التحقيق وحسن الترتيب والتبويب.

  • (٣)

    السامي في الأسامي لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني صاحب مجمع الأمثال، المتوفَّى سنة ٥١٨ﻫ.

  • (٤)

    شمس العلوم ودواء العرب من الكلوم لنشوار بن سعيد الحميري، المتوفَّى سنة ٥٧٣ﻫ، وهو من أحسن المعاجم شرحًا للمعاني وإيضاحًا للمقاصد والمباني.

  • (٥)

    أساس البلاغة لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، المتوفَّى سنة ٥٣٨ﻫ، وهو أحسن كتاب أُلِّف في بابه، ويشرح فيه الألفاظ بإدخالها في جمل هي غاية في البلاغة، ويفصِّل استعمال الألفاظ على وجه الحقيقة ثم على وجه المجاز، ولو كان فيه شيء من التوسع لما فضَلَه معجم من المعاجم التي سلك فيها مؤلفوها المسلك اللفظي.

  • (٦)

    الفائق في غريب الحديث للزمخشري المذكور.

  • (٧)

    كتاب الأمكنة والجبال والمياه له أيضًا.

ثم دخلت المائة السابعة، ومن أشهر ما أخرجه فيها المؤلفون من المعاجم:
  • (١)

    المغرب في ترتيب المعرب لناصر الدين المطرزي المتوفَّى سنة ٦١٠ﻫ، وهو كتاب جمع فيه المؤلف ما يستعمله الفقهاء من الألفاظ التي تحتاج إلى تفسير.

  • (٢)

    كفاية المتحفظ لأبي إسحاق بن الأجدابي المتوفَّى في مفتتح السنة السابعة، وكتابه هذا مرتب على المسلك المعنوي على نمط «فقه اللغة» للثعالبي.

  • (٣)
    العباب الزاخر واللباب الفاخر لرضي الدين الصغاني المتوفَّى سنة ٦٥٠ﻫ، وهو كتاب غزير المادة وصل فيه المؤلف إلى باب الميم ولم يتمه، وقد جاء ما تم منه في ٢٠ جزءًا، وله:
    • (أ)

      كتاب التكملة والذيل والصلة، جمع فيه ما فات الجوهري وكتابه هذا وأسماه …

    • (ب)

      مجمع البحرين، جاء في اثني عشر مجلدًا، وله …

    • (جـ)

      كتاب الأضداد، جمع فيه الألفاظ تدل على الشيء وضده.

    وأشهر المعاجم التي جادت بها أقلام اللغويين في المائة الثامنة:
    • (١)

      لسان العرب لأبي الفضل محمد بن مكرم الأفريقي ويُعرَف بابن منظور، المتوفَّى سنة ٧١١ﻫ. وهذا المعجم من أوثق المعاجم وأجدرها بالاعتماد، وهو من أوسع ما وصل إلينا من المعاجم المعتبرة.

    • (٢)

      المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأحمد بن محمد المقري الفيومي المتوفَّى سنة ٧٧٠ﻫ، شرح فيه ما جاء من غريب الألفاظ في شرح الوجيز في فقه اللغة الشافعية للرافعي فهو من قبيل كتاب المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي، قال في آخره: وكنت جمعت أصله من نحو سبعين مصنفًا ما بين مطوَّل ومختصر.

    • (٣)

      مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، اقتصر فيه على ما لا بد منه في الاستعمال ولا سيما ما يحتاج إليه في شرح غريب بعض الآثار وضم إليه كثيرًا من تهذيب الأزهري وغيره.

ثم دخلت المائة التاسعة، وفيها ألف مجد الدين الفِيروزبادي الشيرازي كتابه الذي أسماه «القاموس المحيط والقاموس الوسيط الجامع لما في كلام العرب من شماطيط» واشتُهِر باسم القاموس، وقد كان مؤلفه جعله مقدمة لمعجم واسع وسمه باللامع المعلم العجاب المجامع بين المحكم والعباب يجيء في ستين سفرًا كما أشار إلى ذلك مؤلفه في خطبة القاموس، ولشهرة القاموس أخذ كثير من مؤلفي المعاجم ولا سيما الأعاجم منهم يطلقون هذا الاسم على كل ما يُؤَلَّف في اللغة من الأسفار حتى صار اسم القاموس عندهم مرادفًا لكلمة المعجم، ولبعد صيته كثرت عليه الشروح والحواشي والتعاليق وأحاطه النقاد من كل جانب فأكثروا من القول فيه له أو عليه، ولم يزل الأمر بين الأخذ والرد إلى أن جاء أبو الفيض السيد مرتضى الزبيدي الحسني المتوفَّى سنة ١٢٠٥ﻫ فألف كتابه الجليل الذي وسمه باسم «تاج العروس في شرح القاموس»، جمع فيه زبدة ما في معاجم اللغة المعتبرة من الألفاظ بأسلوب سهل وعبارة واضحة، وكتابه هذا يُعتبَر آخر ما أُلِّف في هذا العلم من المعاجم الموثوق بها والمعتمد عليها، وقد طُبِع فجاء في عشرة أسفار ضخام.

هذا وقد أَلَّف جماعة من المعاصرين معاجم أفرغوا جهدهم في تسهيل مواردها على المراجعين، ولكن مادتهم اللغوية قصرت بهم عن الوصول بهذه المعاجم إلى الدرجة التي تكون فيها موضع الثقة والاعتماد عند المحققين من اللغويين لهذا العهد، وهذه المعاجم معروفة متداولة لا حاجة بنا إلى التوسع في شأنها.

هذا وقد كنا ذكرنا أن من المعاجم ما هو عام في جميع أبواب اللغة كالصحاح والقاموس، ومنها ما هو خاص في موضوع كغريب القرآن والحديث، ومثلثات الكلام، والأضداد وغيرها، ولما كان للقرآن الكريم والكلام النبوي المكان الأسمى في إنهاض اللغة والرفع من شأنها رأينا أن نُلِمَّ بتاريخ هذين الفرعين على سبيل الإجمال.

(١٢) مفردات القرآن

ولا نقول غريب القرآن لأن مدارسة القرآن على ألسن الملايين من الناس منذ بدء الوحي إلى هذا العهد أخذت على الغرابة مجامع السبل فلم تجد إليه سبيلًا، ولا نجد لفظة من ألفاظه غير مألوفة الاستعمال ومعروفة المعنى واضحة المغزى، وهل الغرابة في الألفاظ إلا كونها غير أليفة فيُحتَاج إلى معرفتها إلى التنقير عنها في مطاوي المعاجم المبسوطة؟ وقديمًا عدُّوا الغرابة من عيوب الفصاحة فأنَّى لنا أن نلصقها ببعض ألفاظ القرآن وقد أجمع الأولون والآخرون على أنه أفصح كلام عرفته اللغة العربية منذ كانت في المهد إلى هذا العهد؟

هذا، ولسنا بحاجة إلى بيان ما للقرآن من اليد المشكورة والفضائل المذكورة على لغة العرب لأن هذا من أوائل البديهيات، فلقد كان القرآن ولا يزال المعين الفياض لعلماء اللسان يرِدونه ظماء ويصدرون عنه رواء، ومن ثم توافروا على ضبط مفرداته وتحرير لغاته واستقصاء حقائقه ومجازاته وتصاريحه وكناياته ودقائقه ونكاته، وذلك لأن الناحية اللسانية هي أول ما يستقبل طالب علوم القرآن من القرآن، ولهذا رأينا علماء الدين وطلاب اليقين يسيرون في هذه الناحية إلى جنب علماء اللغة كتفًا لكتف فأسفر هذا التآزر عن أحسن النتائج وأعظم الفوائد، ولا نذيع سرًّا إذا قلنا إن مفردات القرآن كتراكيبه هي لب لباب كلام العرب وصفوة الصفوة منه، وأنها معتصَم المتأدبين ومرجع العلماء المحققين بل مثابة أمراء القول من المتقدمين والمتأخرين، ولله شيخ المعرة حيث يقول في عرض كلام له في رسالة الغفران: «أجمع ملحد ومهتدي وناكب عن المحجة ومقتدي أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز ولقي عدوه بالإرجاز، ما حُذِي على مثال ولا أشبه غريب الأمثال … وأن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون فتكون كالشهاب المتلألئ في جنح غسق والزهرة البادية في جدوب ذات نسق.»

ولا مرية في أن القرآن كان يخاطب العرب على وفق مناهجهم في مخاطباتهم وخطاباتهم وتفاهمهم في أفرادهم وجماعاتهم، وكان الصحابة يعرفون أكثر ما يرمي إليه من المعاني ويومي إليه من المغازي، وإذا غُمَّ عليهم شيء من ذلك فزعوا إلى الرسول الكريم فينير إليهم السبيل، وأكثر ما يكون تساؤلهم عن الكلمات التي تصرَّف القرآن في أوضاعها وحوَّلها عن مجاريها الاعتيادية إلى معانٍ جديدة لم تكن من مألوف القوم قبلًا مثل: القرآن والإيمان والكفر والصلاة والزكاة بمعانيها الشرعية، وقد غبر الناس على هذا حياته ثم مدة حياة أصحابه من بعده، إلى أن فُتِح على العرب ممالك العجم واختلطوا بحمرائها وصفرائها وبيضائها وسودائها، ومن ذلك أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا من بين فارسي ورومي ونبطي وحبشي وغيرهم من مختلف الألوان التي دانت لسلطان الفاتحين، فاختلط القوم بالقوم بالمساكنة والمجاورة والمخاتنة والمصاهرة والمصاحبة والمتاجرة، وبذلك تداخلت اللغات ونشأت ناشئة من صميم العرب في أحضان هذا التبلبل فجاءت مختلفة السلائق مضطربة الألسنة، كما نبتت نابتة من أبناء الأعاجم لُقِّنت من العربية ما يسد حاجتها في المخاطبات والمحاورات، ومن هنا ذر قرن لغة أمشاج لا هي بالعربية الصافية ولا العجمية الصرفة، ولم تفتأ هذه اللغة أن ملكت الهجين من ألسنة الدهماء واحتلت مكانة ضيقت فيها على المعربة أنفاسها، وما كاد ينطوي بساط المائة الأولى للهجرة حتى بدت وجوه الاختلال سافرة وظهر الاضطراب في عمود اللغة كل الظهور.

ومن هنا شعرت جمهرة القوم بمسيس الحاجة إلى الاستفسار عن كثير من ألفاظ القرآن الكريم واستجلاء معانيها التي كان أسلافهم يدركون مراميها بحكم سلائقهم، لأنها من نوع ما كانوا به يتفاهمون وعلى نمط ما به ينثرون وينظمون. ولما رأى عقلاء الأمة وأهل العلم استرسال أمر الاختلال وتفاقم الاضطراب والاختبال، استفزتهم الحمية وأهابت بهم الغيرة فانصرف فريق منهم لرأب الصدع وسد الثغر. وأول من بلغنا أنه جمع شيئًا في تفسير بعض مفردات القرآن أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفَّى سنة ٢٠٩ﻫ، فقد ذكروا أنه ألف في هذا كتابًا أسماه «المجاز في غريب القرآن» وآخر أسماه «معاني القرآن»، والمراد بمعاني القرآن تفسير مفرداته وهو اصطلاح معروف عند المتقدمين، وحيث رأيت في كتاب علوم القرآن «قال أهل المعاني» فالمراد بهم مصنفو الكتب في مفردات القرآن، ونجد في فهرس كتب الأصمعي كتابًا اسمه «غريب القرآن» والأصمعي من معاصري أبي عبيدة وتأخر عنه قليلًا.

ثم أقبل أهل العلم على التأليف في هذا الموضوع حتى لا يكاد يقع نظرك على فهرس من فهارس أئمة اللغة إلا وتجد صدره متحليًا باسم كتاب في هذا المعنى، منهم: الزجاج، والفراء، ومحمد بن القاسم الأنباري، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد وغيرهم خلق كثير، وكان من أجمعها كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفَّى سنة ٢٢٣ﻫ. وكانت الكتب المصنفة في هذا الفرع عارية من الترتيب غفلًا من التبويب، وكانت بالمعاجم اللغوية أشبه منها بالكتب ذات الفصول والأبواب. واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني المتوفَّى سنة ٣٣٠ﻫ، فألف كتابه المشهور «نزهة القلوب» ورتبه على حروف المعجم ترتيبًا لم يُسْبَق إليه، فبدأ بالهمزة المفتوحة وثنَّى بالمضمومة وثلَّث بالمكسورة، وهكذا فعل بسائر حروف المعجم على الترتيب المشهور، وهذا الكتاب على صغر حجمه من أتقن ما أُلِّف من نوعه، وقد قيل إنه أقام في تأليفه خمس عشرة عامًا يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنباري، وكان يتعهده بالتصحيح والتجويد بين حين وآخر.

ولم تزل التآليف في هذا الباب آخذة في الاتساع من حيث الكمية والإجادة من حيث الكيفية، إلى أن جاء أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفَّى سنة ٤٠١ﻫ وصنف كتابًا كبيرًا جمع فيه بين غريب القرآن والحديث ورتبه على حروف المعجم، فاستخرج الكلمات اللغوية التي تحتاج إلى تفسير وتوضيح وأثبتها في حروفها وذكر معانيها فإذا أراد الإنسان كلمة وجدها في حرفها من غير تعب، فجمع كتابه هذا بين دقة التحقيق وجودة الترتيب والتبويب، ولذلك اعتمد عليه الناس من بعده وأكثروا عليه من الاستدراكات والتعليقات والإضافات. إلى أن جاء الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر المدني الأصفهاني، فصنف كتابًا جمع فيه ما فات الهروي من الغريب وسلك في وضعه مسالك الهروي فجاء مماثلًا له حجمًا وفائدةً. وغبر الناس يعتمدون على هذين الكتابين الجليلين وما سبقهما من الكتب المهمة، إلى أن جاء أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفَّى سنة ٥٠٢ﻫ، فألف كتابه «مفردات ألفاظ القرآن» مرتبًا على حروف الهجاء مقدمًا ما أول أصوله الهمزة ثم الباء إلى آخر حروف المعجم، مشيرًا إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارة والمشتقة، فجاء كتابه هذا من أحسن ما أُلِّف في بابه من حيث: غزارة المادة، وكثرة التحقيق، وحسن الاختيار، وبُعد النظر. فهو في نظرنا أفيد معجم يرجع إليه الطالب في تحقيق معاني الألفاظ القرآنية، وعليه اعتمد البيضاوي في تحرير تفسيره من ناحية معاني الألفاظ وأصول اشتقاقها، ولم نعرف من بعده كتابًا يفضله في موضوعه. هذا، ومن الواضح أن المؤلفين في هذا الفرع يستقون حاجتهم من المعين الذي تستقي منه اللغة العربية على العموم، زيادةً على استعانتهم بالأحاديث النبوية وآثار الصحابة كالمنقول عن ابن عباس وأصحابه والآخذين عنه، فإنه ورد عنهم في هذا الباب الشيء الكثير الجدير بالاعتماد تجد ذلك منثورًا في كتب التفسير ودواوين اللغة، وقد أحصى منها جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ما يقرب من ثمانمائة كلمة مع تفسيرها على طريق الإيجاز.

(١٣) غريب الحديث

لا تعرف العربية بعد القرآن الكريم كلامًا يسامي الكلام النبوي أو يدانيه فصاحة ومبنًى وبلاغة وجمال أسلوب وجلال قدر وبراعة تركيب وروعة تأثير، وإنه لكما يقول شيخ الكُتَّاب أبو عثمان الجاحظ: «لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه من كلامه ، ورب قائل يقول: إذا كان الأمر على ما وصفت فمن أين تسللت الغرابة إلى بعض ألفاظه، وتطرق التعقيد إلى بعض معانيه، والغرابة لا تساكن الفصاحة والتعقيد لا يجاور البلاغة؟! فنحن نقول: إن الكلام النبوي منزه عن التعقيد والغرابة بالمعنى الذي يريده المتأخرون من علماء البيان لأنهم لا يريدون بذلك إلا الخروج عن جادة المألوف من الألفاظ بالنسبة إلى المتكلم والمخاطب، فإذا كان اللفظ من مألوف المخاطبين فليس لأحد أن يسمه بسمة الإغراب أو يصمه بوصمة الإبهام وإن كان غير مألوف عند غير المخاطبين به من الناس، إذ الاعتبار في هذا الباب مقصور على من يتوجه إليه الخطاب دون غيره، ولو ذهبنا في تفسير الإغراب والتعقيد عند البيانيين غير هذا المذهب وقلنا من شرط الفصاحة في الكلام أن يكون عاريًا من كل لفظ غير مألوف للناس أجمعين في كل زمان ومكان؛ لما وجدنا كلامًا للمتكلم من عرب الجاهلية وصدر الإسلام يستحق أن نخلع عليه حُلَّة الفصاحة ضافية أو غير ضافية، لأنا لا نعرف لهم كلامًا منثورًا أو منظومًا يخلو من ألفاظ غير مألوفة بالنسبة للأجيال المتأخرة، تدفع السامع أو القارئ منهم إلى استنطاق دواوين الأدب ومعاجم اللغة والاستنجاد بالشروح والتعاليق.

والحقيقة أن الغرابة نسبية تختلف باختلاف الناس والزمان والمكان، فرُبَّ لفظ يكون شائعًا دائمًا عند قوم وعديم الاستعمال قليله عند آخرين، ورب لفظ يكون معروفًا مألوفًا في زمان أو بلد ومنكورًا مجهولًا في زمان أو بلد آخر.

هذا، واعلم أن النبي كان يشافه العرب ويكاتبهم أفرادًا وجماعات، وكانوا على ما تعلم من اختلاف اللون واللغات وتباعد المواطن واللهجات، وكان يخاطب كل قوم بلغتهم وعلى أسلوب تفاهمهم وإن كان ما يكلمهم به غير معروف تمام المعرفة عند قومه وأهله، بل قد تجهله قبائل معد كلها، فقد رُوِي أن عليًّا كرم الله وجهه قال للنبي وقد سمعه يكلم وفد بني نهد بلحنهم: «يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره»، فقال له: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.» ومن يرجع إلى أسفار قبائل العرب غير العدنانية يأخذه العجب مما أُوتِيه الرسول الكريم من البسطة في البلاغة وسعة الاطلاع على مختلف لغات الجمهرة من قبائل مضر، فلا نحكم على هذه الألفاظ بالغرابة المطلقة بل علينا أن نبحث عن مواردها ونقف على ما تكتنفها في زمان ومكان، وبذلك نصل إلى أنها قِيلَت في موضعها ووقعت في موقعها بحيث لو حَلَّ محلها غيرها مما نسميه مألوفًا الآن لوُسِم بسمة الإغراب والإندار.

ثم إن كثيرًا من الكلام النبوي نُقِل إلينا بالمعنى دون الألفاظ، والنَّقَلة أكثر من أن يُحصَوْا عدًّا وهم مختلفو الأنساب قبيلةً وبلدًا منهم القرشي والكناني والبكري والتغلبي، ومنهم الهمداني والكندي والقضاعي والزبيدي، ومنهم المكي والمدني والحضرمي … إلخ.

فإذا نقل أحدهم الحديث بالمعنى كان اللفظ له وعلى أسلوب كلام قومه وأهل بلده، ومن هنا ينكشف لنا السر في ورود بعض الأحاديث على نمط لم يكن مألوفًا في لغة أهل الحجاز وإن كان الخطاب معهم، وما ذلك إلا لأن اللفظ لبعض الرواة وهم غير حجازيي القبيلة أو البلد، وهذا هو السر أيضًا في أن المتقدمين من النحاة لم يجعلوا الحديث أساسًا في الاستشهاد لتقرير قواعد النحو واستخراج مسائله. وأول من وسع دائرة الاستشهاد به وعوَّل عليه في إثبات القواعد وتقرير المسائل إمام المتأخرين من النحويين محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي المتوفَّى سنة ٦٢٢ﻫ، والحق معه لأن المتقدمين الأولين من نقلة الحديث معظمهم ممن كلامه حجة في العربية، فإذا أبدلوا بعض ألفاظ الحديث بألفاظ من عندهم فليس معنى ذلك أنهم خرجوا به عن العربية المعربة إلى غيرها.

ولنرجع إلى ما نحن بصدده من الكلام في تاريخ علم غريب الحديث فنقول: أول من جمع في هذا العلم شيئًا أبو عبيدة معمر بن المثنى، جمع فيه كتابًا صغيرًا ذا أوراق معدودات لأنه مبتدئ ولأن في الناس إذ ذاك بقية وغصن اللغة لم يزل وريقًا، فلم تكن الحاجة ماسة إلى الكثير مما يعده المتأخرون غريبًا لأنه لم يكن إذ ذاك بالغريب.

ثم جاء النضر بن شميل المازني فجمع في ذلك كتابًا أكبر حجمًا من كتاب أبي عبيدة وأوسع فيه الشرح والإيضاح، ولكنه لم يخرج عن أن يعد من المختصرات.

وألَّف الأصمعي كتابًا أربى فيه على كتاب أبي عبيدة من حيث المادة والتبسط في البيان والتوضيح، ثم إن كثيرًا من أئمة اللغة جمعوا طوائف من الأحاديث وتكلموا على لغتها ومعناها، وهم في الغالب يتواردون على الحديث الواحد فيشرحه كلٌّ على مبلغه من العلم ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بالشيء المهم.

وغبر الناس على هذا إلى أن جاء أبو عبيد القاسم بن سلام فألف كتابه المشهور في هذا الموضوع، وجمع فيه من الأحاديث والآثار ما لم يجتمع في كتاب من قبله، وقد رُوي عنه أنه كان يقول: «جمعت كتابي هذا في أربعين سنة فهو خلاصة عمري.» وقد انتشر هذا الكتاب وذاع صيته لذلك العهد واعتمد الناس عليه في موضوعه.

فلما كان عصر عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ورأى ما عليه الناس من الاعتماد على كتاب أبي عبيدة، ووجد أن هذا الكتاب لم يأتِ على معظم الأحاديث وأكثر الآثار تحتاج إلى الإيضاح والتبيين؛ عَمَد إلى تأليف كتاب جمع فيه ما أغفله أبو عبيدة في كتابه ونحا فيه ما نحاه من طريقة التفسير والشرح. وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي معاصرًا لابن قتيبة، فألَّف كتابًا واسعًا جمع فيه الشيء الكثير من الأحاديث والآثار وبسط القول وأطال الشرح، ولكن الناس زهدوا في هذا الكتاب لأن المؤلف أطاله بذكر الأحاديث بطرق أسانيدها وذكر متونها من أولها إلى آخرها، ولم يكن في بعضها إلا الكلمة والكلمتان مما يحتاج إلى الشرح والتفسير.

ثم تتابع الأئمة على التأليف في هذا العلم وأقبلوا عليه أيما إقبال فقلما نجد كبيرًا من كبراء أهل هذا العلم إلا وله شيء في هذا الباب، مثل شمر بن حمدويه، وأبي العباس ثعلب، وأبي العباس المبرد، وأبي بكر بن الأنباري، وأبي عمر الزاهد المعروف بغلام ثعلب وغيرهم.

ثم جاء الإمام أبو سليمان أحمد أو «حمد» بن محمد الخطابي البستيُّ المتوفَّى سنة ٣٨٦ﻫ، فألَّف كتابًا سلك فيه مسلك أبي عبيد وابن قتيبة، ولكنه قصره على ذكر ما لم يورداه في كتابهما فجاء كنحو من أحدهما حجمًا.

وغبر الناس زمنًا يتداولون هذه الأمهات الثلاثة ويعولون عليها في بابها، ولكن هذه الكتب وما قبلها — ما عدا كتاب الحربي — لم تكن مبوَّبة تبويبًا يسهِّل على الناس المراجعة، وفي هذا ما فيه من العناء على المراجعين فإذا أراد المرء معرفة كلمة غريبة وردت في أحد الأحاديث لا يهتدي إليها إلا بعد جهود كثيرة، زيادةً على أنه لا يدري الحديث المطلوب في أي الكتب الثلاثة هو فيحتاج إلى استقرائها واحدًا واحدًا. فلما كان عصر أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي — وكان معاصرًا للخطابي — أَلَّف كتابه المشهور في غريب القرآن والحديث، ورتبه مقفًّى على حروف المعجم على ما قلناه في مفردات القرآن، وقد جمع في كتابه هذا ما في كتاب أبي عبيد وابن قتيبة وغيرهما، وأضاف إلى ذلك ما تتبعه بنفسه مما لم يرد في كتب من تقدمه.

ثم جاء الإمام محمود بن عمر الزمخشري المتوفَّى سنة ٥٣٨ﻫ، فألف كتابه «الفائق» ورتبه على حروف المعجم، ولكنه عندما يريد شرح كلمة غريبة من حديث يشتمل على أكثر من كلمة غريبة يورد الحديث كله أو بعضه ويشرح كل ما فيه من الغريب، وبذلك يشرح كثيرًا من الكلمات في غير حروفها فيعسر على المتتبع العثور على مطلوبه بالسرعة، ولذلك لم يشتهر كتابه اشتهار كتاب الهروي مع ما أودعه من الحقائق اللغوية والتدقيقات العلمية.

وجاء أبو موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصفهاني فألَّف كتابه في الغريبين، جمع فيه ما فات الهروي من غريبي القرآن والحديث على ما علمت في الكلام على غريب القرآن.

وألف أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي كتابه في الغريب، نهج فيه نهج الهروي بل هو كالمختصر منه.

وكان من معاصريه العلامة أبو السعادات المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الشيباني الجزري المتوفَّى سنة ٦٠٦ﻫ، فرأى أن أحسن ما يُرجع إليه في هذا الشأن كتابا الهروي وأبي موسى المذكورين، وقد رأى أن الإنسان إذا أراد كلمة غريبة يحتاج إلى أن يتطلبها في أحد الكتابين، فإن وجدها فيه وإلا طلبها من الكتاب الآخر، وهما كتابان كبيران في مجلدات، فعمد إلى جمع ما فيهما من غريب الحديث مجردًا من غريب القرآن، وأضاف كل كلمة إلى أختها تسهيلًا لكلفة الطلب، وقد ضم إليهما الشيء الكثير مما لم يوفقا إليه من غرائب الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم وغيرهما من الكتب المدونة في أول الزمان وأوسطه وآخره ومن كتب اللغة على اختلافها. وقد سلك طريقة الكتابين المذكورين في الترتيب والتبويب على حروف المعجم، ملتزمًا الحرف الأول والثاني من كل كلمة وإتباعهما بالحرف الثالث منها، ناظرًا إلى الحروف الأصلية من الكلمة دون الزوائد، وإنه كثيرًا ما يعتبر الحروف الزائدة في أوائل بعض الكلمات بمثابة الحروف الأصلية تسهيلًا على الطلاب ولا سيما الذين لا يكادون يفرقون بين الأصلي والزائد، على أنه عندما يذكر ذلك ينبه على أصل الكلمة لئلا يظن ظانٌّ أن الزائد أصلي فيختلط عليه الأمر، وأسمى كتابه هذا «النهاية في غريب الحديث والأثر» وهو أجلُّ كتاب أُلِّف في هذا العلم وأجمعه وعليه الاعتماد في فنه وقد صار مستمدًّا لمؤلفي المعاجم اللغوية من بعده، ولا نعرف أن أحدًا ألَّف بعده كتابًا يساويه أو يقاربه. غير أن جلال الدين السيوطي المتوفَّى سنة ٩١١ﻫ كان قد لخص هذه النهاية في كتاب أسماه «الدر النثير في تلخيص نهاية ابن الأثير»، وقال إنه ضم إلى كتابه هذا كثيرًا مما فات صاحب النهاية، ومن وقف على النهاية ثم وقف على هذا الكتاب لم يَرُق لنظره الرجوع إليه مرة أخرى، لأن جلال الدين السيوطي بتلخيصه هذا ذهب برونق الأصل وجماله وضيق منه واسعًا فسيحًا. هذا، وإنما تزاحمت أقلام أهل العلم في باب غريب الحديث أكثر من ازدحامها في باب مفردات القرآن؛ لأن الأحاديث الآثار فسيحة الرقعة منتشرة الأطراف واسعة الأرجاء وقلما توفق العالم المبرز إلى استقصاء أكثرها، فيأتي عالم آخر من بعده فيستدرك عليه كثيرًا مما فاته، ثم يأتي ثالث فيستدرك على الثاني وهكذا على ما علمت فيما مر، بخلاف القرآن الكريم فإنه مجموع بين دفتيه متواتر بكل ما في معنى التواتر من قوة، وبهذا يسهل على أهل العلم استقصاء كل ما فيه من المفردات. فلم يبقَ إلا اختلاف أنظارهم في تفسير بعض الكلمات، واختلافهم في إيجاز الشروح أو الإطناب فيها، واختلاف أذواقهم في الترتيب والتبويب والتنقيح والتهذيب وهذه أمور ليست من الصعوبة بمكان. بخلاف ما يعانيه المؤلفون في غريب الحديث من التتبع الكثير والاستقراء الواسع، هذا ابن الأثير بعد أن وقف على ما وقف عليه من جهود العلماء في هذا الباب، واستقرى ما وصل إليه جهده من المصنفات الكثيرة في الحديث والآثار؛ تجده مع ذلك كله يقول في خطبة نهايته: «كم يكون قد فاتني من الكلمات الغريبة التي تشتمل عليها أحاديث رسول الله وأصحابه وتابعيهم جعلهما الله ذخيرة لغيري يظهرها على يده ليذكر بها، ولقد صدق القائل: كم ترك الأول للآخر؟» يقول هذا وهو من هو في غزارة العلم وسعة الاطلاع وطول الباع في علوم الشريعة وفنون الآداب.

(١٤) النحو

قلنا في تاريخ علم اللغة إن انبساط العرب في الأرض على عدان نهضتهم المعروفة دفع بلغتهم إلى الاحتكاك بلغات الأمم المختلفة، فأخذ اللحن يدب في عروقهم والعجمة تسري في أطرافها، وإن أول ما مُنِيَت به الاضطراب في إعرابها والاختلاف في نظام تركيبها، والإعراب أجمل حلية تتحلى به لغة مضر وأنفس أعلاقها وأجلى مميزاتها وأجل مفاخرها، فعز على أبنائها وذويها أن تصاب على مرأى منهم ومسمع وهم عنها لاهون، فهب فريق من عقلائهم وأهل المواهب فيهم حفزتهم الحمية القومية والغيرة الدينية والحنكة السياسية إلى بذل الجهد في نصرتها وتعزيز جانبها. وكان مُجَلِّي الحلبة في هذا المضمار أبو الأسود الدؤلي الكناني أحد أعلام التابعين، فعل ذلك بإشارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أبو الأسود من أعلام شيعته وأنصاره، فعمد أبو الأسود إلى ضبط بعض القوانين واستقراء بعض الأبواب، وكتب في ذلك صحيفته المعروفة عند النحاة ﺑ «التعليقة»، وهي أول صحيفة دُوِّنت في علوم اللسان العربي.

واختلف الناس إلى أبي الأسود يتعلمون منه القواعد التي وضعها وأطلق عليها اسم «النحو»، وتخرج به في هذا العلم جماعة كان من أنبههم: ابنه عطاء، ويحيى بن يعمر العدواني، ونصر بن عاصم الليثي، وميمون الأقرن، وعنبسة بن معدان الفيل. ثم تخرج بهذه الطبقة جماعة وبهؤلاء آخرون على ما عرفناه في تاريخ علم اللغة. ولم يزل أمر هذا العلم في توسع إلى أن كان عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي فجمع متفرقه، وفصَّل قواعده، وأكمل أبوابه، وهذب مسائله، وبالجملة فإن الخليل يعد أمة في علوم اللسان العربي.

وأخذ النحو عن الخليل جماعة من أنبههم سيبويه، وقد ألَّف كتابه الذي أسماه «قرآن النحو»، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل، فإذا جاء في كتاب سيبويه لفظ «حدثني» أو «قال لي» أو «أخبرني» أو نحو ذلك من غير ذكر أحد فإنه يريد الخليل.

(١٤-١) البصريون والكوفيون

إن أبا الأسود وإن كان كوفي المولد إلا أنه بصري النشأة، وفي البصرة وضع حجر الزاوية في أساس علم النحو، وكان تلامذته من أهلها وكذلك تلامذتهم، ولم يزل النحو ربيبًا للبصريين ينتقل في حجور أئمتهم زمنًا قبل أن عرفه الكوفيون … وأول من عرف النحو من الكوفيين شيبان بن عبد الرحمن التميمي المتوفَّى سنة ١٦٤ﻫ، وكان في الأصل من ثقات البصريين ولكنه هاجر إلى الكوفة واتخذها دار إقامة له، وهو من تلاميذ أبي عمرو بن العلاء، ومن أخذ عن أبي عمرو من الكوفيين أبو جعفر الرؤاسي، وكان معظَّمًا عندهم وحجة لديهم، ويقولون إن كثيرًا من علومهم وقراءاتهم مأخوذة عنه، وهو أول من وضع كتابًا في النحو من الكوفيين وقد أسماه «الفيصل»، قيل: «إن كل ما في كتاب سيبويه من قوله: «وقال الكوفي كذا» إنما عنى به الرؤاسي هذا.»

وكان عمه معان بن مسلم الهراء معاصرًا له وهو نحوي مشهور، وهو الذي أبدع التصريف على ما سوف تعلمه. وتخرج بهذين الإمامين جماعة أشهرهم وأنبههم علي بن حمزة الكسائي، وكان حضر في حلقة الخليل بن أحمد، وضرب في البوادي سنين كثيرة يأخذ عن أقحاح الأعاريب وفصحائهم إلى أن استوى إمامًا غير مدافَع، وإليه انتهى علم العربية والقراءات بالكوفة، وهو الذي رسم للكوفيين الحدود التي احتذوا أمثلتها وخالفوا فيها البصريين وكان عندهم كالخليل عند البصريين، ومن هنا انماز نحو الكوفة عن نحو البصرة، وبدأ التدافع والتنازع بين الفريقين. ومن أشهر أمثلة ذلك المناظرة التي دارت بين إمامي المِصْرَيْن الكسائي وسيبويه في مجلس يحيى بن خالد البرمكي، وتحرير الخبر: أن سيبويه قدم على البرامكة وافدًا، فعزم يحيى على الجمع بينه وبين الكسائي فجعل لذلك يومًا، فلما حضر سيبويه تقدم إليه تلميذا الكسائي خلف والفراء، فسألاه مسائل عن قول العرب: «وقد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟» فقال سيبويه: «فإذا هو هي، ولا يجوز النصب …» وسأله عن أمثال ذلك نحو: «خرجت فإذا محمد القائمُ أو القائمَ؟» فقال سيبويه: «كل ذلك بالرفع»، وقال الكسائي: «العرب ترفع كل ذلك وتنصبه»، فقال يحيى البرمكي: «قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟» قال له الكسائي: «هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين، فيُحضَرون ويُسْأَلون» فأُحْضِروا فوافقوا الكسائي.

وإيضاح هذا أن العرب تقول: خرجت فإذا هاشم واقف أو واقفًا، فالرفع على الخبرية وهو الأكثر، وعليه قوله تعالى: هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ … والنصب على الحالية وهو قليل. وإذا قيل: خرجت فإذا هاشم الواقف وجب الرفع وامتنع النصب عند البصريين، لأن من شروط الحال عندهم أن تكون نكرة «والواقف» هنا معرفة، ومثل ذلك قولهم: «فإذا هو هي» فلا يجوز عندهم الإتيان بضمير النصب وهو «إياها» بدل ضمير الرفع وهو «هي» لأن «إياها» لا يصلح أن يكون حالًا لأنه معرفة بل هو من أعرف المعارف، ولأنه غير مشتق وشرط الحال عندهم أن تكون مشتقة …

أما الكوفيون فيستندون في قولهم هذا على السماع وإن كان قليلًا، والبصريون يُرجِعون ما سُمِع من ذلك إلى ما اشترطوه بضروب التأويل، معروفة عندهم ومبثوثة في كتبهم.

ومن هذا تعلم أن سيبويه اعتمد في جوابه على قاعدة أهل بلده والكسائي انتصر عليه بسماعه عن أعرابه، وهذه المسألة هي المشهورة عند النحاة ﺑ «الزنبورية»، وإليها أشار الأديب أبو الحسن حازم بن محمد الأنصاري الأندلسي المتوفَّى سنة ٦٨٤ﻫ في منظومته المشهورة:

والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا
إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربما نصبوا للحال بعد إذا
وربما رفعوا من بعدها ربما
فإن توالى ضميران اكتسى بهما
وجه الحقيقة من إشكاله غَمَما١
لذاك أعيت على الأفهام مسألة
أهدت إلى سيبويه الحتف والغُمَما٢
قد كانت العقرب العوجاء أحسبها
قدمًا أشد من الزنبور وقع حما٣
وفي الجواب عليها هل إذا هو هي
أو هل هو إياها قد اختصما
وخطَّأ ابن زياد وابن حمزة في
ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما٤
وغاظ عمرًا عليٌّ في حكومته
يا ليته لم يكن في أمره حكما٥
كغيظ عمرو عليها في حكومته
يا ليته لم يكن في أمره حكما٦
والغبن في العلم أشجى محنة عُرِفت
وأبرح الناس شجوًا عالمًا هُضِما

وهذه الحادثة أوضح مثال ينماز به أحد المذهبين عن الآخر، فإن البصري يبني قاعدته على الأغلب الشائع ويرمي ما وراءهما من الشاذ والنادر ناحية، أو يجتهد في إرجاعها إلى قاعدته بضرب من التأويل والتوجيه، أما الكوفي فيسمع الشاذ أو النادر ويجعلهما أصلًا يقيس عليه غيره، فكثير مما يعتبره البصريون شاذًّا أو نادرًا يعتبره الكوفيون قاعدة وأصلًا، وبذلك تنتشر المسائل وتتسع دائرة الجواز. أضف إلى ذلك أن البصريين لا يعتمدون في التأصيل والتفريع إلا على العرب الموثوق بعربيتهم من الذين توقحت سلائقهم وابتعدت عن الحواضر مضاربهم، بخلاف الكوفيين فإنهم قد يعتمدون على من كان يجاور مصرهم من الأعاريب الذين خارت سلائقهم واختبلت ألسنتهم لكثرة تردادهم إلى الحواضر واختلاطهم بالأكرة من الأنباط. فالبصريون لا يرون الأعراب الذي يحكي عنهم الكوفيون حجة وكانوا يعيرونهم بهذا ويقولون لهم: «أخذتم عربيتكم عن باعة اللبن وأكلة الكوامخ، ونحن أخذنا عربيتنا عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع.» زد على هذا وذاك أن جماعة من رواة الشعر الكوفيين كانوا يصنعون الشعر وينسبونه إلى غير أهله، وعلى رأس هذه الجماعة المفتعِلة حماد بن هرمز الديلمي اللحَّانة المصحِّف الكذوب، وكان النحاة من أهل الكوفة يعتمدون على هذا النوع من الشعر المختلط ويستشهدون به على تقرير قواعدهم وتأييدها، وهذا ما حمل البصريين على طرح نحو الكوفيين والاستخفاف به، زيادةً على اضطرام أوار المنافسة بين علماء المصرين من أول يوم. ولا يُعْلم أن أحدًا من البصريين أخذ شيئًا من النحو عن الكوفيين ولا روى عنهم شيئًا من الشعر يعتمد عليه في الشاهد، إلا ما كان من أبي زيد الأنصاري البصري فإنه روى عن المفضل الضبي الكوفي لثقته في الشعر وأمانته …

على أن البصريين في تحرجهم وكثرة تشددهم ضيقوا على العربية صدرها الواسع في كثير من المواطن التي تتطلب سعةً وانبساطًا، ولا يتسع هذا الباب للإفاضة في هذا، وسنفرد له فصلًا برأسه في غير هذا المكان إن شاء الله تعالى …

وانتهت رئاسة الكوفية من بعد الكسائي إلى يحيى بن زياد الفراء، وكان أخذ علمه عن الكسائي وهو عمدته وأخذ عن أعراب وثق بهم وعن يونس من البصرية، وكان المأمون قد رسم أن تُفرَد له حجرة من حجر دار الحكومة ووكل به من يكفيه كل حاجته وعين له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين وأمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، فكان يملي والوراقون يكتبون حتى أتم تصنيف كتابه المعروف بكتاب الحدود وجمع فيه ستة وأربعين حدًّا في النحو وألَّف كتبًا أخرى، وكان يتفلسف في تصانيفه، وكان الكوفية يلقبونه «أمير المؤمنين في النحو».

ولما أُنْشِئَتْ بغداد وصارت حاضرة الخلافة وعاصمة آل عباس وراجت فيها سوق الآداب، كان الكوفيون أسبق الناس إليها لمكانة الكوفة من بغداد من الوجهتين السياسية والجغرافية، ولهذا وجدنا أن علماء الكوفة اتصلوا بقصور الخلفاء والأمراء، واحتلوا الصدور من حلق تدريسها ومحافل آدابها، فكان الكسائي عند الرشيد والفراء عند المأمون بالمكانة السامقة، وكان مذهب الكوفية ما علمت من التساهل في التأصيل والتفريع، ومن ثم وجدنا تلاميذهم من البغداديين مولعين بالروايات الشاذة، يتفاخرون في النوادر ويتباهون بالترخيصات واعتمدوا على الفروع ولم يأبهوا للأصول، ومن هنا تولد مذهب مضطرب النواحي كثير التعاريج عُرِف بمذهب البغداديين، ولما كان هذا المذهب أحط من أبيه الكوفي طرحه الجمهور وما أقاموا له وزنًا.

ثم تكاثر الناس حول موارد هذا العلم وازدحمت أقدامهم في جنباته، وتكاثرت فيه التصانيف ما بين مطولة ومختصرة، وبين عامة مشتملة على جميع أبوابه وخاصة مقتصرة على باب أو بضعة أبواب، وكثر الأخذ والرد بين أرباب المذاهب من البصرية والكوفية والبغدادية، وطال اللجاج وكثر الحجاج وتمطت الأبواب والفصول وانتشرت المسائل واشتبكت الفروع. وبينما الناس في هذه الضجة في المشرق، كان النشاط آخذًا مأخذه في تكوين الدولة الأندلسية في المغرب، وقد أُولِع ملوك هذه الدولة واشتدت رغبتهم في تنشيط الحركة الأدبية وتعزيز جانبها، اقتفاءً لآثار أوليهم في شاماتهم وإحياءً لمآثرهم في أيام زهوهم ومباراة لأبناء عمهم في بغدادهم، فكان همهم تقريب أهل الأدب والحدب عليهم والحرص على تكريمهم وتبجيلهم، وقد أداروا لهم أخلاف النعم حافلة وخلعوا عليهم حُلَل الفواضل ضافية، مما زاد في إقبال الناس على المعارف يردون حياضها، ويرتشفون زلالها، ويرتادون رياضها، ويتفيئون ظلالها … فأنجبت تلك المملكة جماعات من فطاحل علماء العربية، رجعوا إلى ما أصَّله العراقيون من الأصول وما فرَّعوه من الفروع فأطالوا النظر فيه، ووقفوا على ما بين البصرية والكوفية من خلاف ووفاق وما يستند إليه كل فريق من رواية ودراية، وتهيأ لهم ما لم يتهيأ لغيرهم من الاطلاع على مرويات المشارقة كلها من منظوم القول ومنثوره.

وكان جُلُّ اعتمادهم على مذهب البصرية، ومع ذلك فإنهم شقُّوا لهم طريقًا واضحة تُنْسَب إليهم، وهي من أقوم الطرق وأتقنها لأنها لم تنحرف عن البصرية إلا عندما تنحرف البصرية انحرافًا لا تستسيغه الدراية ولا تدعو إليه الرواية.

ولم يزل هذا المذهب آخذًا في التوسع مع تعهده بالصقل والتهذيب وحسن التفصيل والتبويب، إلى أن طغى سيل الإفرنجة على تلك الربوع وفُجِعت سماؤها بشموسها وأقمارها، فولى علماؤها وجوههم شطر المشرق وفضلوا الجلاء عن الأوطان على الوقوع في شباك الهوان، فتكاثر في المشرق عديدهم وازدانت مدارسه بمعارفهم، وأخذ مذهبهم يزاحم مذاهب المشارقة ولا سيما في دمشق والقاهرة، حتى احتل الصدور ولا سيما في العصور المتأخرة.

هذه المذاهب الأربعة هي المذاهب الكبرى في هذا العلم، وإليها المرجع في حل المشكلات وإيضاح المعضلات، وإلا فهناك مذاهب كثيرة يكاد عددها يتعسر على العادِّين إذ لكل إمام في الحقيقة مذهب خاص به يخالف فيه غيره ولو من بعض الوجوه، فلسيبويه آراء يخالف فيها شيخه الخليل، وللأخفش الأوسط آراء يخالف فيها شيخه سيبويه، وللفراء مذهب ينحرف عن مذهب الكسائي في غير ما موطن. وهكذا نجد لكل عالم من علماء العربية آراء تخصه تكثر أو تقل حسبما أوتيه من بسطة في العلم وقدرة على الإبداع، ولكن مرجع هذه المذاهب المختلفة إلى تلك الأُمَّات الأربع، وأصول هذه الأربعة اثنان: البصرية والكوفية، أما مذهب البغدادية فمرجعه الكوفية وأما مذهب الأندلسية فمرجعه البصرية.

وقد أفرد بعض العلماء مسائل الخلاف بين هذين الفريقين بالتأليف وأحصى في ذلك مائة مسألة ونيفًا أوردها جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر النحوية».

ولما كان النحو ملازمًا لمتن اللغة لأن اللغة هي المحور الذي تدور عليه سائر العلوم اللسانية التي يُعدُّ النحو في مقدمتها، رأينا أنه قلما يتبحر عالم في النحو إلا وهو إمام في اللغة وبالعكس … فإذا استعرضنا أولئك اللغويين الذين أومأنا إليهم في تاريخ علم اللغة فكأنما استعرضنا جماعة النحويين، ولهذا لا نرى حاجة إلى تكرار تلك الأسماء في هذا المقام إلا إذا دعت الضرورة كما سترى.

وما كاد ينطوي بساط القرن الرابع الهجري حتى أصبح النحو يُعَدُّ في زمرة العلوم الناضجة، وقد تطورت حالته بتطور الحالة العلمية على وجه العموم.

وكان في مقدمة نحاة المائة الرابعة: أبو بكر بن محمد بن السراج البغدادي صاحب الأصول الكبير، وجمل الأصول، والموجز، وشرح كتاب سيبويه، وكان قد عوَّل على الأخفش والكوفيين في كثير من المسائل، وكانوا يقولون: «كان النحو مجنونًا حتى عقله ابن السراج بأصوله.» ومن أئمة هذه المائة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الزجاج، وتلميذه أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي صاحب كتاب «الجمل»، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري أحد علماء الحفاظ، قيل إنه كان يحفظ ٣٠٠ ألف بيت من شواهد العربية، وهذا من المبالغة بمكان ولكنه على كل حال يدل على سعة حفظ الرجل. ومنهم أبو سعيد بن عبد الله السيرافي المتوفَّى سنة ٣١٨ﻫ صاحب كتاب الإقناع، وله شرح لكتاب سيبويه من أجلِّ الشروح قدرًا وأعظمها فائدة.

ومنهم علي بن عيسى الرماني المتوفَّى سنة ٣٨٤ﻫ، أول من مزج النحو بالمنطق وألف كتاب الحدود وشرح أصول ابن السراج وكتاب سيبويه وله كتاب معاني الحروف وغير ذلك، ومنهم أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي صاحب التصانيف الكثيرة، منها: الإيضاح، التكملة، الحجة، التذكرة، المسائل الحلبية، والبغدادية، والقصرية، والنصرية، والشيرازية، والعسكرية، والكرمانية، والهيتية وغيرها … ومن حسنات الفارسي بل من حسنات هذه المائة أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي المتوفَّى سنة ٣٩٢ﻫ، تلميذ الفارسي وأحد أعلام العربية الذين خدموها خدمة تُذْكَر فتُشْكَر، ومن تصانيفه: الخصائص في عدة مجلدات، وسر الصناعة، واللمع، وكان نسيج وحده في صناعة التصريف على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

واتسعت دائرة النحو في المائة الخامسة وكثر النحاة واشتُهِر منهم جماعة كبيرة، من أشهرهم: عبد القاهر الجرجاني الإمام المشهور المبدع، له في النحو: المغني، والمقتصد في شرح الإيضاح، وله العوامل المائة وهو أول من أبدع هذه الطريقة في النحو، وله كتاب الجمل وله العمدة في التصريف.

ومن مشهوري هذا العصر: علي بن عيسى الربعي المتوفَّى سنة ٤٢٠ﻫ، أحد تلاميذ الفارسي الأفذاذ، وهو الذي قال له بعد أن لازمه عشر سنين: «ما بقي شيء تحتاج إليه، ولو سرت من المشرق إلى المغرب لم تجد أعرف منك بالنحو.» ومن هنا اتجهت الألفاظ إلى تخليص المسائل الكثيرة وتحريرها ولمِّ القواعد المنتشرة وتلخيصها، وجمع ذلك في كتب مختصرة أسموها ﺑ «المتون» ويستظهرونها بكل عناية، ولهذا اشتدت رغبتهم في الاختصار وإدخال المعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة، وانجرت بهم الحال إلى المبالغة في الإيجاز بل كان كثيرًا ما ينجر الأمر ببعضهم في هذا الباب إلى الإبهام والتعمية، وقد بلغ هذا الأسلوب من التأليف أبعد شأوه في المائة السادسة والتي بعدها، فقد نشأ في هاتين المئتين جماعة من فحول علماء العربية حُبِّبَ إليهم التحرير والتهذيب وحسن الترتيب والتبويب، ثم منهم من كان يُعْنَى بالاستقصاء والاستيعاب، ومنهم من كان يقتصر على المبادئ والأبواب التي لا بد منها تسهيلًا للأمر على المبتدئين من المتعلمين، ولما كانت العناية متوجهة إلى تسهيل الحفظ وكان المنظوم أسهل حفظًا من المنثور اتجهت أنظار بعضهم إلى نظم مسائل هذا العلم بأساليب مختلفة.

وأول من فتح هذا الباب — فيما نعلم — يحيى بن معطي الزواوي المغربي المتوفَّى سنة ٦٢٨ﻫ، وكان لهذا الرجل عناية فائقة في نظم العلوم اللسانية فقد نظم أرجوزة في النحو أسماها «الألفية»، وشرح شواهد الكتاب نظمًا، ونظم كتاب الجمهرة لابن دريد، ونظم كتابًا في العروض، ونظم الصحاح للجوهري ولم يتمه، وله منظومات في القراءات السبع، وهو الذي أوضح معالم هذه السبيل لمحمد بن عبد الله بن مالك الطائي المتوفَّى ٦٧٢ﻫ، فإن له في العربية منظومات قلَّ أن جاراه فيها مجارٍ في الأولين والآخرين، منها: أرجوزته الكافية الشافية في نحو سبع وخمسين وسبعمائة وألفي بيت، ومنها استخلص خلاصته المعروفة بالألفية وهي أجمل منظومة عرفها علم النحو، ومن منظوماته: لامية الأفعال، والمقصور والممدود، وله شروح على أكثر منظوماته. ومن أجلِّ كتبه في العربية كتاب «الفوائد»، حشد فيه كل ما حوته مطولات الأقدمين من أبحاث النحو والتصريف، ثم لخص هذا الكتاب ورتبه أحسن ترتيب وأسماه «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد»، وهو كتاب جليل القدر إلا أنه موجز العبارة إلى حد الغموض في بعض المواطن، وله عليه شرح لكنه لم يتمه. وممن نظم النحو: حازم بن محمد الأنصاري القرطبي المتوفَّى سنة ٦٨٤ﻫ، نظم قصيدة على حرف الميم امتدح بها بعض أمراء المغرب قال في مطلعها:

الحمد للَّه المعلي قدر من علما
وجاعل العقل في سبل الهوى عَلَما

وقد مرت بعض أبياتها في المسألة الزنبورية.

ومن المنظومات الموجزة في النحو: ملحة الإعراب لأبي محمد القاسم بن علي الحريري المتوفَّى سنة ٥١٦ﻫ صاحب المقامات المشهورة. ومن مشهوري علماء العربية في صدر المائة السادسة محمود بن عمر الزمخشري صاحب المفصل.

واشتُهِر في هاتين المئتين جماعة لعبت أيدي الفتن في مؤلفاتهم فلم تبقِ منها إلا النزر اليسير.

ومن أشهر النحاة المبالغين في الإيجاز: أبو عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب المتوفَّى سنة ٦٤٦ﻫ، له الكافية في النحو والشافية في التصريف، وله الأمالي النحوية، وله شرح الكافية وآخر للشافية، وشرح للمفصل وآخر للإيضاح وغيرها.

ومن مشهوري نحاة هذا العصر في الأندلس: علي بن مؤمن المعروف بابن عصفور الحضرمي الإشبيلي المتوفَّى سنة ٦٦٩ﻫ، حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس، له كتب في النحو والتصريف ممتعة كانت عمدة من جاء بعده من النحويين، منها: المغرب وشرحه، ومنها الممتع وشرحه.

أما نحاة المائة الثامنة فأشهرهم: أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي المتوفَّى سنة ٧٤٥ﻫ، أحد أعلام العربية الذين استنارت بمعارفهم العصور المتأخرة، وهو أول من جسَّر الناس على مصنفات ابن مالك ورغَّبهم في قراءتها وشرح لهم غوامضها، وشرح التسهيل شرحًا مطولًا أسماه «التذييل والتكميل» واختصره في كتاب جاء في سفرين أسماه «الارتشاف»، ولم يؤلَّف في العربية أحسن من هذين الكتابين من حيث الاستقصاء وإحصاء ضروب الخلاف، وله: التذكرة في العربية في أربعة مجلدات، وله شروح كثيرة وموجزات عديدة لكتب مختلفة.

ثم جاء عَلَم الأعلام المدققين وعمدة النحاة المتأخرين: عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري المتوفَّى سنة ٧٦١ﻫ، فسهَّل من هذا العلم موارده وقرَّب شوارده وذلَّل صعابه ومهَّد أبوابه، قال ابن خلدون: «ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه»، وقال في موطن آخر: «ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة، وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها، وسماه بالمغني في الإعراب، وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها، وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جمٍّ يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكان ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دالٍّ على قوة ملكته واطلاعه والله يزيد في الخلق ما يشاء.»

ومن تآليفه: التوضيح وهو شرح لألفية ابن مالك مع إغفال ذكر الأبيات، وله شرح آخر أسماه «رفع الخصاصة» في أربع مجلدات، وكتاب «التحصيل والتفصيل لكتاب التذييل والتكميل» في عدة مجلدات، والتذكرة في خمسة عشر مجلدًا، والقواعد الكبرى والصغرى، وأما كتابه «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» فهو الغاية في بابه.

ثم إن عامة المتأخرين من النحويين صاروا عيالًا على مؤلفات الزمخشري، وابن الحاجب، وابن مالك، وأبي حيان، وابن هشام، من بين شارحٍ ومحشٍّ ومعلق مطيل أو مختصِر.

فشروح المفصل والكافية والشافية والخلاصة والتسهيل والارتشاف والمغني وحواشيها وشواهدها أكثر من أن تُحْصَى، وربما يكون للشرح شرح وعلى الحاشية حاشية، فالتصريح للشيخ خالد الأزهري من علماء المائة التاسعة شرح للتوضيح وهذا شرح لألفية ابن مالك.

ولم يأتِ من بعد النحويين من أخرج للناس شيئًا جديدًا بالمعنى الصحيح، وإنما كانت الهمم مصروفة إلى خدمة مصنفات السابقين بالتلخيص أو الشرح أو التحشية والتعليق … إلخ، ومن هنا ثارت بين القوم ثائرة مناقشات لفظية يابسة انفجرت تحتها الأصول المؤصَّلة والمسائل المحررة والمطالب العالية المقصودة بالذات من هذه الصناعة، فبدل أن يشغلوا الطالب بتقرير القواعد وتحرير المسائل تجدهم يخوضون معه في غير هذا الحديث، فيأخذون عليه سمعه وبصره وفؤاده بسؤالات وجوابات تافهات: لِمَ قدَّم هذه الكلمة على تلك؟ وكيف جمع بين هذه وتلك؟ وعلامَ يرجع هذا الضمير؟ وما هو موقع هذه اللفظة من الإعراب؟ ولِمَ جاء هذا الباب بعد ذاك الباب؟ ولِمَ عبر بهذه الكلمة دون سواها؟ … إلى غير ذلك من سفساف الأمور وترك اللباب إلى القشور.

ولهذا نجد الطالب النابه يخوض هذه المعمعة بكل ما أُوتِيَه من قوة ويصرف من الوقت والجهد الشيء الكثير بكل إسراف وتبذير، ومع ذلك يخرج من هذه العجاجة بغير طائل، ولا يحور بيده من وراء هذه الجعجعة شيء من الطحين.

ومع الأسف فإنا نجد كثيرًا من هذه الكتب الجافة تتداولها الأيدي وتتدارسها المتعلمة من أبناء هذا الجيل، وما ذلك في نظرنا إلا لأن يد الطباعة تناولتها قبل غيرها فأخرجتها للناس فأُولِع بها من نابتة العصر من لم تصل يده إلى ما سواها، أو لم يستعد ذهنه لفهم ما وراءها من صحاح التأليف وجليلها.

ومن أشهر ما تناولته الأيدي من كتب المتأخرين كتب الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري من علماء المائة التاسعة، مثل شرحه على الآجرومية، والأزهرية، وقواعد الإعراب وغيرها.

ومن ذلك كتب شيخ المصنفين جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفَّى سنة ٩١١ﻫ، أحد الأعلام الأفذاذ الذين أنجبتهم العصور المتأخرة، له في العربية مصنفات كثيرة من أشهرها: شرحه لألفية ابن مالك، وشرح ألفيته نفسه، وهمع الهوامع شرح جمع الجوامع وهو من الكتب الممتعة، والأشباه والنظائر النحوية. هذا، وقد صنف بعض المعاصرين كتبًا موجزة ورسائل مقتضبة لتوضع بأيدي المتعلمين من أبناء المدارس النظامية تجردت من تحقيقات المتقدمين من حيث غزارة المادة وصحتها، ولم تنتفع بما أبدعته قرائح المعاصرين من رجال التربية والتعليم من بدائع الأساليب وتوخي السهولة في حسن الترتيب والتبويب، ولهذا نجد جُلَّ أبناء هذه المدارس يتبرمون من صعوبة هذه الصناعة ويتهيبون السير في مسالكها وإن صحبهم فيها الدليل الخِرِّيت، وما ذلك إلا لأنهم يدرسون العلوم الأخرى مصقولة الجوانب مهذبة أحسن تهذيب مبوبة أحسن تبويب مصبوبة بقوالب قدرتها أيدي التربية العصرية وأصول التعليم أيما تقدير، وبقي هذا العلم كغيره من علوم اللسان العربي في معزل عن هذا الإصلاح إلا شيئًا قليلًا لا يكاد يكون شيئًا مذكورًا.

وقد رأينا أن نذيِّل هذا الباب بفصل نذكر فيه أشهر الطرق التي اختطها الأولون من النحاة لتسهيل هذا العلم على المتعلمين، ونعقبه بفصل نذكر فيه ما يُؤخَذ على معظم تلك المصنفات ولا سيما المتأخرة منها من وجوه التقصير في هذا الشأن.

(١٤-٢) الطرق المشهورة

سلك معظم الأولين من النحويين في تآليفهم مسلك سيبويه في ترتيب كتابه، وكتاب سيبويه وإن كان مبوبًا ومرتبًا إلا أن ترتيبه ليس بمبني على أساس فني، فكثيرًا ما تجد مسائل في باب منبثة في أبواب أخر، وقد تتكرر بعض المسائل في عدة أبواب، ولهذا يتعسر على المراجع الوصول إلى المسألة التي يبتغيها ما لم يكن على ذكر من موطنها قبلًا.

فهذا الكتاب وأمثاله أشبه بالمجموعات العالية منها بالكتب ذات الترتيب العلمي والتنسيق الفني، وما ذلك إلا لأن هم المؤلفين لذلك العهد كان منصرفًا إلى تحقيق المسائل، وتقرير القواعد، وتأييدها بالشواهد، أكثر من انصرافهم إلى حسن الترتيب ودقة التبويب.

وعندما استبحر العمران وتفجرت ينابيع العلوم الكثيرة من شرعية وأدبية وفلسفية وغيرها، اتجهت الهمم إلى بذل العنايات في تقريب تلك العلوم من أذهان الطالبين وتسهيلها على المتعلمين، فكان حظ العربية من هذه الناحية ليس بالقليل إذ أقبل فريق من كبار علمائها إلى لَمِّ ما تشعَّث من مسائلها وجمع ما تفرق من أصولها، وعمدوا إلى صبها في قوالب قدروها تقديرًا بأساليب مختلفة حرروها تحريرًا.

فمنهم من نظر إلى موضوع هذا العلم وهو الكلام، فوجد أن عناصره التي يتألف منها لا تخرج عن أمور ثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف، ووجد أن لكل قسم من هذه الأقسام صفات تخصه وأبحاثًا تدور حوله، فأفرد لكل قسم منها بابًا فَصَّل فيه مسائله وأوضح مقاصده، فيفصل في باب الاسم مثلًا كونه نكرة أو معرفة وأنواع المعارف، وكونه مفردًا أو مثنى أو مجموعًا وأنواع الجموع، وكونه منونًا أو غير منون وأنواع التنوين، وكونه معربًا أو مبنيًّا وأنواع إعرابه وبنائه … إلخ.

ويذكر في باب الفعل مثلًا كونه ماضيًا، أو مضارعًا، أو أمرًا، وكونه مبنيًّا للمعلوم أو للمجهول، وكونه تامًّا أو ناقصًا وأنواع الأفعال الناقصة، وكونه متعديًا أو لازمًا وأنواع التعدي ووسائل التعدية واللزوم، وكونه معربًا أو مبنيًّا وأنواع إعرابه وبنائه … إلخ.

ويبين في باب الحرف مثلًا أصناف الحروف من: عاطفة، ونافية، وجوابية، وشرطية، واستفهامية، واستقبالية، ومؤكدة، ومصدرية … إلخ.

وهناك أمور مشتركة تتوارد فيها الأقسام الثلاثة أو اثنان منها، مثل: الإمالة، والوقف، والتقاء الساكنين وغيرها، أفردوا لها بابًا برأسه، فاستوت الأبواب أربعة. وأشهر من مشى على هذه الطريقة جار الله الزمخشري في كتابيه المفصل والأنموذج.

ومن النحاة من رأى أن أهم ما يجب على المتعلم إتقانه تمييز المعربات من المبنيات ومعرفة أنواع الإعراب والبناء، فبنى أبواب كتابه على أساس المعرب والمبني من الكلام. على أن معظم سالكي هذه الطريقة رأوا أن ينتفعوا بشيء من أساس الطريقة السالفة، فجعلوا معربات الأسماء في جانب ومعربات الأفعال في جانب آخر، كما فعل ابن الحاجب في كافيته وابن مالك في ألفيته.

ومنهم من رأى أن الإعراب أهم ما تتوجه إليه عنايات المتعلمين، ورأى أن المعرب يشتمل على أمور ثلاثة: العامل، والمعمول، والعمل، وبهذا انقسمت الأبواب إلى ثلاثة:

فيذكر في باب العامل: النواصب، والجوازم، وحروف الجر، والابتداء، والتجرُّد … إلخ.

ويشرح في باب المعمول: المرفوعات من الأسماء والأفعال، والمنصوبات منهما، والمجرورات، والمجزومات.

ويبين في باب العمل: الحركات الثلاث، والسكون، والحروف الأربعة «و، ى، ن، ا» وحذفها … إلخ.

ولا بد لمن يسلك هذه الطريقة أن يفرد بابًا للمبنيات كما فعل «البرگوي» في كتاب «الإظهار»، وأول من أبدع هذه الطريقة فيما نعلم عبد القاهر الجرجاني في كتابه الذي أسماه «العوامل المائة». وقد أبدع ابن هشام طريقة في كتاب له أسماه «قواعد الإعراب» ورتبه على أربعة أبواب، بحث في الأول عن الجمل وأقسامها وأحكامها، وفي الباب الثاني عن شبه الجملة وهو الظرف والجار والمجرور، وفسر في الباب الثالث كلمات يكثر في الكلام دورها ويقبح بالمُعرِب جهلها وهي نيف وعشرون كلمة، وأشار في الباب الرابع إلى عبارات محررة موجزة كثيرة الدوران على ألسنة المعربين.

ثم لما ثبتت عنده بالتجربة فائدة هذه الطريقة عمد إلى توسيعها وتحسينها وصقلها وتهذيبها، فألف فيها كتابه «المغني» المار ذكره مرتَّبًا على ثمانية أبواب، استوفى في الباب الأول منها شرح الأدوات الكثيرة التي تدور في الكلام مرتبة على حروف الهجاء، وشرح في الباب الثاني الجمل وأقسامها وأحكامها، وأوضح في الباب الثالث أحكام ما يشبه الجملة وهو الجار والمجرور والظروف، وبَيَّن في الباب الرابع أحكامًا يكثر دورها ولا يجمل بالمعرب جهلها، وعقد الباب الخامس للجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، وكسر الباب السادس على التحذير من أمور اشتُهِرت بين المعربين والصواب خلافها، وجعل الباب السابع لبيان كيفية الإعراب، والباب الثامن لأمور كلية يدخل تحتها ما لا يُحصَى من الأمور الجزئية.

هذه هي الطرق المشهورة البارزة، وإلا فإن المسالك كثيرة حتى يكاد يكون لكل مؤلف طريقة، بل لكل كتاب طريقة تختلف عن غيرها ولو من بعض الوجوه، ولكن العمود الأصلي ما ذكرناه من الطرق الأربع، وما عداها فإنه يُرجع إليها من حيث المجموع وإن اختلف عنها بعض الشيء.

(١٥) الصرف

أول من فَصَل الصرف عن النحو وصَيَّره علمًا مستقلًّا هو معاذ بن مسلم الهراء المتوفَّى سنة ١٨٧ﻫ.

ويذهب بعضهم إلى أن واضعه أبو عثمان المازني المتوفَّى سنة ٢٢٩ﻫ، والأول هو الصحيح.

ثم جاء أبو الفتح بن جني ففتح من هذه الصناعة مغاليقها، وسهَّل صعابها، ووسَّع رحابها.

ثم تتابع الناس في خدمة هذا الفن، فكتب ابن مالك كتابًا فيه وشرحه فسماه «التعريف».

وكتب ابن الحاجب مقدمته المعروفة ﺑ «الشافية»، وتكاثرت عليها الشروح والحواشي حتى صارت تُعَدُّ بالعشرات، وكثير من شروحها مطبوع متداوَل، وقد طُبِعت لهذا العهد مجموعة تحتوي على طائفة من تلك الشروح والحواشي.

وكثير من المؤلفين يختمون كتبهم بأبحاث في التصريف، كما فعل ابن مالك في ألفيته والجلال السيوطي في كتابه «همع الهوامع»، على أن معظم أبواب التصريف منبثة في ثنايا كتب النحو لمكان الحاجة إليها هناك.

ومن الكتب الموجزة في هذا الفن: نزهة الطرف في علم الصرف للميداني، ومراح الأرواح لعلي بن مسعود، والعزى، والمقصود، وكل ذلك مطبوع متداول.

وللأعاجم ولوع في مدارسة هذا الفن لمسيس الحاجة بالنسبة إليهم، أما العربي فيعرف كثيرًا من مسائله بمقتضى سليقته فلا يجد كبير فائدة بالمقدار الذي يجده الأعجمي، ولهذا قل المؤلفون فيه من أبناء العرب.

١  الغمم هنا: كناية عن الخفاء والغموض.
٢  والغمم: جمع الغمة، وهي الكربة.
٣  الحمة: سم العقرب وضرها، والجمع: حما وحمات.
٤  ابن زياد: هو يحيى بن زياد «الفراء»، وابن حمزة: علي بن حمزة «الكسائي»، وأبو بشر «سيبويه»، والمعنى أن الفراء وشيخه الكسائي خطَّأا سيبويه في هذه المسألة ظلمًا منهما.
٥  عمرو: اسم سيبويه، وعلي اسم الكسائي، والألف في قوله حكما للإطلاق، والحكومة: الحكم.
٦  المراد بعمرو في هذا البيت «عمرو بن العاص»، وبعلي: علي بن أبي طالب، وبالحكومة التحكيم، والحكم من يرتضيه الخصمان للحكم بينهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤