الحافة
يقول لي بيورنار نيكولايسن عند دائرة عرض ٦٩٫٣١ درجة شمالًا: «لديَّ أربعة حيواناتٍ أليفة: قِطَّان وزوجٌ من نسور البحر. أُطعِمها جميعًا معًا على الشاطئ، هناك بجانب العرش، وأعطيها أفضلَ سمكٍ في العالَم!»
يضحك ضحكةً عريضة، ويُشير شرقًا عبر نافذة غرفة معيشته: حقولٌ مملوءة بالثلج ومنحدرة بعيدًا إلى الشاطئ الصخري الذي يَحدُّ المضيق البحري بعَرض عدةِ أميال. والماء الأزرق اللامع في المضيق البحري المُتلاطِم الأمواج حيث تجري التيارات. بعيدًا عبر المضيق البحري، تُوجَد صفوفٌ من القمم ذات الثلوج الناعمة تلمع في ضوء آخِر النهار. وتمتدُّ على نطاقٍ واسع يزيد عرضُه عن أي جبال رأيتُها من قبل. إنَّها على شكل قُبعات السحرة، وزعانف سمك القرش، والأصابع الواخزة؛ كلُّها بيضاء مصقولة كالخَزف. لكني لا أستطيعُ رؤية كرسيٍّ على الشاطئ.
يُعطيني منظارًا مُقرِّبًا. ويقول لي: «إليكَ هذا، جَرِّبه.» هناك جزءان أسطوانيان يُغلِّفهما جلدٌ أسود، تحوَّل لونهما في بعض المواضع إلى اللَّون البُني بفِعل العوامل الجوية … وعدسَتان مصقولتان، ويُوجَد نِسرٌ نَازي محفور على ظهر الجزء الأسطواني الأيسر.
يقول بيورنار: «إنَّه يعود إلى قوات الفيرماخت. وذو عدستَيْن جميلتَيْن. وهو يخصُّ أحدَ الضباط. سألني والدي وهو يحتضِر عمَّا أريد اقتناءَه من مُمتلكاته. فقلتُ له: «شيءٌ واحد فقط، المنظار المُقرِّب الذي أخذتَه من الألمان.»
أرفعُ المنظار المُقرِّب، فيتراءى خط الشاطئ على الفور أمام ناظريَّ، وقد بدا قريبًا للغاية حتى ظننتُ أنه يمكن لمسُه. وأرى أمامي شبكةً مُدرَّجة ذات شعيرات متقاطعة. أحرِّك مجالَ الرؤية يمينًا على طول الشاطئ. ولكن لا يُوجَد شيء. ثم أعودُ إلى اليسار. أجل، هناك كرسيٌّ من نوعٍ ما، ولكن طوله ست أو سبع أقدام، مصنوع من الخشب المجروف المربوط والمُسمَّر معًا. يبدو كأنه شيءٌ قد صَنَعه الآيرونبورن القاطنون على ساحل قارة ويستروس الخيالية.
«آخُذ للنسور سمكةَ قُدٍّ أو سَيث كلما أعودُ من يوم صيدٍ جيد. وأُطعمها من مقعدي هناك.»
«إنك الوحيد بين مَن أعرفهم يا بيورنار الذي يَعتبِر نسور البحر من الحيوانات الأليفة.»
رد بيورنار: «أحِبُّ القطط أكثر.»
«أكثر من الكلاب أو أكثر من النسور؟»
«بل أكثر من البشر!»
يضحك بيورنار كثيرًا، ضحكةً عميقة ومُقهقهة صادرة من أعماق صدره.
•••
تُضيء العواصفُ الثلجية في لوفوتون، ثم تنقشع، أثناء سفري شمالًا إلى أندويا. انتهى يومي الأول بغسقٍ صافٍ من السُّحب في أندينيس، تلك البلدة الكائنة في أقصى الطرف الشمالي للجزيرة. أندينيس مدينة ذات شوارع واسعة، وفصول شتاء قاسية، وإبحار ليلي. يغطي أسطح المداخن نبات الكروم. ويُزقزق عقعق على أحد أعمدة الإنارة في الشارع. يظهر ضبابٌ بنفسجي في الهواء، وهناك برودة لاسِعة. وتحمل القِمَم نتوءاتٍ ناعمة من الثلج. كما يظهر البحر بعيدًا عن البلدة. وإلى الشمال من هنا، تقع مائة ميل من المحيط ثم أرخبيل سفالبارد.
يكسو غروبُ الشمس الأُفقَ بغزارة، ويُضفي على السماء بأكملها نسيجًا حريريًّا باللونَين الأرجواني والبرتقالي خلف خط القِمَم. وفي وقتٍ لاحق يسطع قمرٌ أبيض فوق المُحيط.
في صباح اليوم التالي، أذهبُ لرؤية بيورنار وإنجريد. يقع منزلهما على بُعد أميالٍ قليلة جنوب أندينيس. ويبعُد المنزل عن الطريق، مُتجهًا شرقًا نحو القناة البحرية التي تفصل الجزيرة عن البَرِّ الرئيسي للنرويج. تتَّكِئ الزلَّاجاتُ وأعمدة التزلُّج على جدار المنزل من الخارج.
أقرعُ الجرسَ، فيُفتَح البابُ على مصراعيه، ويستقبلني بيورنار مُرحِّبًا، ويُعانقني واضعًا إحدى يدَيه الكبيرتَيْن على ظهري، بينما يُربِّت بالأخرى على ساعدي ويقبض عليه بحرارة.
إنني في حوزة بيورنار نيكولايسن، ولن أفلت من قبضته لعدة أيام قادمة.
«تفضَّل، تفضَّل!»
إنَّه رجلٌ ذو لحية بيضاء قصيرة، ويرتدي قُبعة مُسطَّحة من الجلد الأسود، وسترة صياد من الصوف الرمادي. وهو في عُمر الستين على ما أظن أو الخمسين، أو السبعين. وذو ذِراعَيْن وصدر هائلَين. وساقَين مُنفرِجَتَين. وابتسامة عريضة، بل وضحكة أكبر، وعيناه هما أغربُ عينَيْن رأيتُهما في حياتي.
إنَّ بؤبؤ عينيه أزرق ذو بياض، وعيناه شاحبتان لدرجةٍ يبدو معها كأنه أعمى. إنَّهما عينا الرائي، ثابتَتَيْن ثباتًا مُوتِّرًا. يظل مُمسكًا بي للحظة، ثم يرمقني بنظره من منبت شعري إلى أخمص قدمي، وأشعر أنَّ هاتَين العينَين تريان داخلي ومن خلالي.
ثم يقول لي: «هذه هي إنجريد!»
ترتدي إنجريد خُفًّا أحمر من الزغب عليه علامةُ نادي ليفربول لكرة القدم، وتحمل طفلًا. وتبتسِم ألطفَ ابتسامة، وتعتذِر عن أنها لا تستطيع مُصافحتي.
تقول إنجريد: «هذه حفيدتُنا سيجريد. القهوة في الدورق. تفضَّل، اجلس وكُنْ على راحتك.»
يتثاءَب قِطٌّ ذو فروٍ بنقشة صَدف السلحفاة وعينَيْن كعيني السحلية على سجادة غرفة المعيشة. وبدلًا من أن أرى صفًّا من البط الطائر على الحائط، أشاهدُ صفًّا من أربعة نسورٍ بحرية من النحاس الأصفر تُحلِّق على ورق الحائط في مسارٍ مُنظَّم مُتناقصةً في الحجم. ويُزيِّن اثنان من الدِّببة القطبية الأبوابَ الحديدية لمَوقِد الحطب. وعلى الشرفة خارج النافذة، يُعلَّق سمك القُدِّ المقطوع الرأس في خطَّافاتٍ ويُترك ليجف، مُتمايلًا في النسيم الخفيف كأجراس الرياح.
بيورنار صياد ومُقاتل، وهو يفهم عالَم ما تحت قاع البحر؛ ولهذه الأسباب أتيتُ لمقابلته. في الشتاء، يصطاد بيورنار على مدى أيامٍ طويلة من الخامسة صباحًا حتى السابعة أو الثامنة مساءً. الشتاء هو موسم سمك القُدِّ، وينتهي للتوِّ مع وصولي إلى أندويا. عندما يتدفَّق سمك القُدِّ، يخرج بيونار في ظُلمة الليل من خطوط العرض المرتفعة هذه، ويعود في الظلام، ويسود الظلام في معظم الأوقات التي يكون فيها في البحر، باستثناء بضع ساعاتٍ من الضوء قرب وقت الظهيرة.
يصطاد بيورنار وحدَه. ولا يُوجَد أحدٌ ليراه إذا ما سقط في البحر أو غرق به قاربه. ويمكن أن تنخفض درجات الحرارة التي يعمل فيها إلى سالب ١٥ درجة مئوية في يوم عمل من خمس عشرة ساعة. ومع ذلك، فإن سمك القُدِّ هو المكافأة التي ينالها نظير المخاطر الكثيرة التي يتعرض لها والجهد الكبير الذي يبذله، ويا لها من مكافأة. إنها أفضلُ الأسماك من أفضل مياهٍ تحتوي على سمك القُدِّ في العالَم؛ فقد يصل وزن سمكة القُدِّ إلى سبعين كيلوجرامًا. وتُسمَّى الأسماكُ الأكبر حجمًا من سمك القُدِّ بسَمك كافيتورسك؛ أي «سمك القُدِّ البُني بلون القهوة».
ومثل العديد من الأشخاص الذين يمتهنون عملًا صعبًا وخطيرًا، لا يهتم بيورنار بالتحدُّث عن مصاعب عمله. الصيدُ هو المهمة، والصعابُ هي الثمن، والمكافأة واضحة تمامًا له: إنَّه الحاكِمُ الأوحد لمَملكته العائمة المُكوَّنة من شخصٍ واحد، ويكسب قوتَ يومه، ويُشبِع شغفه العميق بالبحر. لا يعتزم بيورنار الإقلاع عن الصيد حتى يُجبره جسدُه على ذلك. ونادرًا ما تكون الحياة على الأرض أقل خطورة على أية حال. فقبل خمسة عشر عامًا، سقط بيورنار مسافة عشرين قدمًا بين طوابق أحد المصانع. دُفِعَ معصمه في ساعده وأُصيبَ بكسر في الحوض. يقول لي مُلوِّحًا بيدَيه في غير اكتراثٍ، عندما رآني قد أقلقني الأمر، إنه كان في المستشفى «لبضعة أسابيع».
هناك شيءٌ مُشترك بين الدُّبِّ القطبي وبيورنار؛ فهو يُشبهه في تكوينه الجسماني القوي، وإبحاره إلى الشَّمال، وهاتان العينان البيضاوان، وبالطبع في اسمه: بيورنار؛ أي الدُّب، وهو مُشتقٌّ من لفظة «بيورن» اللغة الاسكندنافية القديمة. يتمتع بيورنار بحضورٍ قوي وذكي؛ فهو شخصٌ لا ينفكُّ يقاتل من أجلِك ولكنه يُرعبك إنْ كان عدوَّك. إنَّه لا يفتقر إلى التقدير الذاتي، ولكني لا أحسدُه على ذلك.
يتمتع بيورنار كذلك بمسحةٍ روحانية قوية، ربما تكون غير مُتوقَّعة في رجلٍ تُجبره حياته العملية يوميًّا على مثل هذا القدْر من البراجماتية والاعتماد على النفس. لكن — كما سأعلم — فإن بيورنار ينظر في كثيرٍ من الأحيان عبر الأشياء؛ إذ ينظر بإمعان داخلها ومن خلالها بعينَيه الشاحبتَيْن. ينظر من خلال الناس، ومن خلال الهواء، ومن خلال سطح البحر.
يجلس بيورنار على كرسيٍّ دوَّار كبير أسود اللون بالقُرب من النافذة، حيث يمكنه مراقبة مياه المضيق البحري. أهدهدُ سيجريد السمينة على ركبتيَّ مسرورًا بأنها كطفلةٍ رضيعة تشعر بالأمان والطمأنينة معي.
«أتعلَمُ يا روب، عندما كنتُ شابًّا، قررتُ أنَّني لن أترك جزيرتي أندويا أبدًا.»
وأردُّ عليه قائلًا: «من النادر هذه الأيام أن تظلَّ متمسكًا بمكان ولادتك.»
«ربما. بالنسبة إليَّ كان الأمر واضحًا. هذه الجزيرة بها كلُّ ما أحتاجه لحياة طويلة، وأنا أحبُّها.»
ثم يتوقَّف قليلًا.
«بالأمس شاهدنا أنا وإنجريد الحيتانَ القاتلة، هناك تمامًا.» ويُشير شرقًا إلى قناة البحر. شاهدنا حيتان الأوركا، وهي إحدى فصائلها. ونحظى بمشاهدتها مجانًا!»
«لقد زُرتُ أوسلو، بالطبع، لكني لا أحبُّ أبدًا الابتعاد عن هذه الجزيرة، إلا إذا كنتُ على متن قارب الصيد. هذه الجزيرة يا روب ربَّتني.»
تجلس إنجريد في مكانٍ قريب. تبدأ سيجريد في البكاء، فتُمرِّر لي إنجريد حلقة تسنين. أسأل إنجريد عن طفولتها. فتحكي لي قصةً رائعة. لقد نشأتُ في جزيرة صغيرة للغاية ونائية، يستغرق الوصول منها إلى أكبر جزيرة تالية مَسيرة ساعتَيْن بالقارب، ويستغرق الوصول إليها هي نفسها مسيرةً طويلة بالقارب من البَر الرئيسي.
تقول إنجريد: «كانت جزيرتنا موطنًا لعشر عائلاتٍ عندما وُلدتُ. وهو ما يعني أنها كانت في الواقع مَوطنًا لعائلةٍ واحدة كبيرة.» أتذكَّر هنا مُستوطنة ريسفيكا، لقد كانت مستوطنة إنجريد أبعدَ من ذلك، بل وأصغر.
تقول مُبتسمة: «أوه أجل، كنت أعرف كلَّ شبرٍ في جزيرتي! عندما كنا صغارًا، كنا نستكشِف، وهذا ما كنَّا نفعله. ولم يكن أحدٌ معنا ليرعانا سوى أنفسنا. عرفنا كلَّ شبرٍ من ذلك المكان.»
لكن العائلات رحلت واحدةً تلو الأخرى، وبحلول الوقت الذي كانت فيه إنجريد في المدرسة الثانوية بقِيَت عائلتان فقط.
«ورويدًا رويدًا، صعَّبت الحكومة علينا أمرَ العيش هنا؛ ومن ثمَّ اضطررنا إلى «الدخول» إلى البَرِّ الرئيسي. وكان ذلك حيث قابلتُ بيورنار …» تنصرف مُبتسمةً.
ويقهقه بيورنار.
ثم يقول: «لا تُغادر جزيرتك أبدًا! ذلك هو المغزى من تلك القصة يا روب! إذ ستجد نفسك على الفور في ورطة لبقية أيامك! تعالَ الآن، اجلس هنا بجانب الطاولة، وسأحضرُ المخططات وأريكَ أين سنذهبُ معًا في الأيام القادمة.»
يضع مُخطَّطًا على الطاولة. إنَّه ذو صفحاتٍ مطوية الزوايا وملطخٌ بما يُشبه الدم. وتمر عبره خطوطٌ مُقوَّسة باللون الأرجواني، وبه نقاطٌ بعلامات العمق ومواضع الطفو. ويظهر النصفُ الشمالي لأندويا، والحافة الغربية للبَرِّ الرئيسي التي يقطعها المضيق البحري، وربما أربعون ميلًا من البحر المفتوح شمال الساحل وغربه. كما أن به خطوطًا كنتورية تُشير إلى أعماق قاع البحر المُتغيِّرة.
يقول بيورنار مُشيرًا بأصبعه: «هنا أندينيس، من حيث سنُبحر غَدًا.» «وانظر هنا!» ثم يُحرِّك طرف أصبعه شمالًا بمقدار أربعة أو خمسة أميال، ليُشير إلى النقطة التي تتجمَّع فيها الخطوط الكنتورية مُتقاربةً وتنطوي إلى الداخل على نفسها. إذا كانت على جبل، فإنها تُمثل مضيقًا يمرُّ عبر أجرافٍ كبيرة. يَحضرني هنا أرخبيل لوفوتين وعبوري للجدار.
يقول بيورنار وهو يُحرِّك أصبعه ذهابًا وإيابًا على طول الخطوط المُتجمِّعة: «إننا هنا في أندويا نُسمِّي هذه الحافة. لا أدري كيف تقولها، ولكننا — هنا في أندويا — نعيشُ على الهامش. يقع هذا المُنخفض، هذا الجرف، على بُعد بضعة أميال بحرية فقط من الساحل. وهذا هو السبب وراء غزارة الصيد هنا وسهولته؛ فالأسماك تتجمَّع عند الحافة، ونحن لسنا بحاجة إلى الذهاب بعيدًا لجمعها.»
يهزُّ رأسه.
«بالنسبة إليَّ، لا تتوقَّف اليابسة عندما تغوص في المحيط. بل تستمر في الامتداد، وأنا أعرفُ تلك اليابسة تحت البحر كما أعرفُ هذا العالَم بالأعلى. يُمكنني رؤيتُها كما يمكنك رؤية ذلك.» ويُشير عبر النافذة إلى المضيق البحري.
«إنَّها معرفةٌ بما هو تحت السطح، الذي دائمًا ما يُبقي هؤلاء السكان الساحليين وهذا الساحل على قيد الحياة.»
يواصل حديثه، ضاربًا بأصبعه مرارًا وتكرارًا على المخطط بالقرب من الحافة: «وهنا. هنا في بعض أفضل مناطق الصيد في القطب الشمالي، هنا حيث كان ثمة انفجارٌ صوتي، وتنقيبٌ عن النفط، هنا هو المكان الذي يريد هؤلاءُ الحمقى أن يضعوا منصَّات الحفر.»
•••
في ١٥ يونيو ١٩٧١، بدأ الإنتاجُ في حقل النفط البعيد عن الشاطئ المعروف باسم إيكوفيسك، والواقع في الجنوب الغربي من الجرف القاري النرويجي. وفي تلك المرحلة، كان مخزون النفط النرويجي لا يزال غير معروف، لكن النجاح السريع لإيكوفيسك أطلق الشرارة الأولى لحُمَّى المضاربة على النفط على طول سواحل النرويج الغربية والشمالية الغربية. استجابت الحكومة النرويجية بسرعة، وأنشأت شركة «ستات أويل» في عام ١٩٧٢، ورسَّخت لمبدأ المشاركة الجوهرية للدولة في كلِّ ترخيص إنتاج يصدر لهذه المياه الثرية.
النفط هو قوام الحياة للنرويج. ذلك حيث يعتمد نظامُها السياسي وبِنيتها التحتية بكثافة شديدة على النفط. ودائمًا ما كانت تُفرَض ضرائب كبيرة على الدخل الناتج عن النفط والغاز، وفي أقل من نصف قرن من العمليات، أنشأت صناعةُ النفط صندوقَ ثروة سيادي وطني — أولجيفاوندر، أو صندوق النفط — برصيد أكثر من ثلاثة أرباع تريليون جنيه إسترليني، أي ما يُعادل حوالي ١٥٠٠٠٠ جنيه إسترليني لكل مواطن. ويمثل قطاع البترول ما يقرُب من رُبع توليد القيمة في البلد ككل؛ فما يقرُب من ثُلث إجمالي الاستثمارات الفعلية للبلد قائم على النفط. فقد استُثمرت مبالغ ضخمة من قِبَل كلٍّ من الشركات والحكومة معًا في مجالات التنقيب عن النفط وتطوير حقول النفط، وكذلك في مجالات النقل والإمداد ومرافق الدعم.
أجل، إنَّ النفط — وتيار الخليج — هما ما جعل تحديث النرويج أمرًا مُمكنًا. كما أن إحدى أهم السمات المُميِّزة للدولة أنها تجمع في مزيج رائع بين البنية التحتية والبرية. كما أنَّ الطريق المُمتدَّ على طول لوفوتون — وهو معجزةٌ هندسية تربط بين أكثر من مائة ميل من الجزر، بما في ذلك الأنفاق تحت البحر، والأنفاق الجبلية، والطرق السريعة التي تحيط بها الانهياراتُ الجليدية، وعشراتُ الجسور — دُفِعَت تكلفته جزئيًّا من صندوق النفط. تعشق النرويج الطبيعة التكنولوجية أيضًا، وتراها في الأغلب عنصرًا مُكمِّلًا وليس مُتعارضًا.
لكن النفط النرويجي آخِذٌ في النفاد. ففي مَطلع الألفية، سجَّل الإنتاجُ من حقول بحر الشَّمَال ذروة ارتفاعه عند ٣٫٤ مليون برميل يوميًّا. وبحلول عام ٢٠١٢، انخفض إلى ما يقرُب من نصف هذا المستوى، مع انخفاضٍ مُماثل في دخل صندوق الثروة السيادي. وكان الحل الواضح لتضاؤل حجم الإنتاج — ولا يزال — هو حفر حقول نفطٍ جديدة. تحوَّل الانتباه إلى الشَّمَال النرويجي وبحر بارنتس. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، زاد الاهتمامُ بإمكانيات استغلال الاحتياطيات التي كان يُعتقَد بوجودها تحت المياه قُبالة جزر لوفوتين وفسترالن. وذهبت التقديراتُ إلى أنَّ ما يقرُب من ١٫٣ مليار برميل من النفط مدفونٌ بالقُرب من جزر الأرخبيل هذه. كانت مناطق الحفر في المياه الضحلة نسبيًّا، وكانت قريبة نسبيًّا من الأرض، وكانت جيولوجيتها تُبشِّر بعوائد ثابتة. ذلك أنها تُقدِّم نفطًا جيدًا مقارنةً بمواقع الحفر الأخرى، التي تُعَدُّ أبعدَ من ذلك بكثيرٍ شَمالًا في بحر بارنتس، حيث أدَّت ظروف القطب الشمالي إلى زيادة تكاليف الاستخراج إلى حدٍّ كبير؛ كما أنها تُقدِّم نفطًا زهيد الثمن.
ومع ذلك، فإن هذه البحار نفسها هي أيضًا موطنٌ لأحد أكبر الشعاب المرجانية في المياه الباردة في العالَم، وتُعَدُّ جزر لوفوتين وفسترالن من بين أكثر المشاهد الطبيعية الساحلية إثارةً للدهشة في العالَم، حيث تجتذب الزائرين من جميع أنحاء العالم بما يعود بأرباحٍ هائلة على مجال السياحة. كما أنَّ المياه قُبالة مجموعات الجزر هي أيضًا موطنٌ لمناطق الصيد التي كانت بمثابة ذَهَبِ النرويج على مدى ألف سنة، قبل وقت طويل من اكتشاف النفط. وكان يُعتقَد أن سمك القُدِّ المُجفَّف من مناطق الصيد تلك قد حمله الفايكنج معهم كمأكولاتٍ بحرية أساسية في رحلاتهم التأسيسية إلى أيسلندا وجرينلاند. سمكة القُدِّ هي السمكة المؤسِّسة للأمة؛ فهي المُموِّل الأصلي لثروة البلاد.
وقد أصبحت مسألةُ ما إذا كان ينبغي التنقيب عن النفط قُبَالة لوفوتين وفسترالن، على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، معركةً تدور رحاها لأجل الحفاظ على روح النرويج. المخاطر كبيرة والقوى المُتصارعة قوية. فمن ناحية، هناك آلياتٌ خاصة بالدولة تُعزِّزها أموال النفط، وسكانٌ مُمتنُّون لثقافة النفط ويشعرون أنهم جزء لا يتجزَّأ فيها. ومن ناحية أخرى، هناك تصوُّر النرويج عن نفسها كأمَّةٍ خضراء — مُكرَّسة لدِين الطبيعة العَلْمَاني، وملتزمة بالحَدِّ من ارتفاع درجات الحرارة العالمي ومكافحة تغيُّر المناخ — وهويتها القديمة كأمَّة صيد. وتنصُّ المادة ١١٢ من دستور النرويج على أنه «ينبغي استغلال الموارد الطبيعية على أساس الاعتبارات الطويلة الأمد، بحيث يتم الحفاظ على هذا الحق وصَونه للأجيال القادمة.» وهذا ما يرى الكثيرون في البلاد أنه يُبطِل فتح حقول نفط جديدة، لا سيَّما في المياه الشمالية الواهنة.
خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تشكَّلت أولُ مقترحات التنقيب في جُزر لوفوتين وفسترالن، بدأت الآراء المُعارضة لهذه المقترحات أيضًا في الظهور. وبدأ المُعارضون للتنقيب في تنظيم أنفسهم. وتشكَّلت التحالفات على غير المُتوقَّع. إذ نشأ تحالفٌ يُوحِّد الجماعات الخضراء الوطنية (لا سيَّما الشباب) والناشطين المحليين من الجزر، ودُعاة المحافظة على الموارد، ودُعاة حماية البيئة، والصيادين. وتعلَّم النشطاء سريعًا كيف يُظهرون قضيتهم ويعرضونها للعيان. ونقلوا معركتهم إلى العاصمة، وعبر موجات الأثير، والصحف. كما نظَّموا مَسيراتٍ احتجاجية عبر أوسلو، أضاءوها بالمصابيح. واجتمعوا عَلنًا في شفق شمس ليلة منتصف الصيف على شواطئ الجزر المُهدَّدة.
وكان أحدُ الأشخاص الذي أصبح في ذلك الوقت شخصيةً بارزة في النضال هو بيورنار نيكولايسن.
•••
نُغادر إلى الحافة بعد الفجر مباشرةً، ونتحرَّك مُحدِثَيْن جلبةً عبر سلسلة حواجز المياه لميناء أندينيس. جلجلة المُحرك ودمدمته، وسماء زرقاء عالية، وسكون طبقة الزيت على البحر. يتوهَّج ضوءُ الشمس باللَّونَين الأخضر والأحمر في بلورات الجليد العالقة في رموشي. وأرى سحابتَين على شكل شعابٍ مرجانية رقيقة بيضاء إلى الغرب، ولكن بخلاف ذلك، فالسماءُ صافية، والطقسُ بارد وساكن. إنَّه طقس مِثالي للصيد في المحيط الشمالي.
نجتاز آخِر ذراع للميناء. ونُشاهِد خطوطَ الثلج الذي يكسو القِمَم إلى الشرق والغرب والجنوب تنخفض إلى البحر. وهناك مجموعةٌ كبيرة من بطِّ العيدر تسبح مع الموج، وطائر غاق وحيد جاثم على إحدى علامات مياه المَد على الشاطئ، في مواجهة الشمس، وأجنحته مفتوحة على شكل صليب حديدي. ثم تلحق بنا بسرعةٍ وباطراد ثلاثُ بجعات، لأجنحتها صريرٌ كالأبواب، وتطير شمالًا إلى الفضاء القطبي.
أقول لبيورنار: «أخبِرْني بما ينبغي لي فعله هنا وما لا ينبغي، وسأمتثِل لما تقوله.»
يلتفتُ إليَّ، ويُميل رأسه مُتسائلًا. «أتلتزم بالقواعد؟ إنني لا ألتزم بها على الإطلاق!» وضحكَ ضحكةً عالية جعلته يسعل. «لكن اليوم، قاعدتي لك هي: ألَّا تنهار! أيُّ شيءٍ آخر لا بأسَ به.»
يرتدي بيورنار قُبعة من جلد الراكون. ولا يزال رأس الراكون مُتصلًا ويستقر فوق جبين بيورنار مباشرةً، مُحدِّقًا إلى الأمام. جُعِّدَ جسمه فوق قلنسوة وخِيطَ في مكانه، وذَيله يتدلَّى من الخلف. يبدو الراكون مُستريحًا، مُقرفصًا طوال الوقت.
وقد وُضَعَت مكان عينَي الراكون مُقلتان زائفتان باللون الأسود اللامع. لهما تأثيرٌ مُربِك للغاية. إذ كلما تحدَّثت إلى بيورنار، أجدُ نفسي أنظر إلى أربع عيون تبدو غير مُبصرة: اثنتان منها باللون الأسود الفاحم، واثنتان باللون الأبيض الشاحب.
وفيما وراء حواجز المياه، يرتفع الموج في شكل تلالٍ طويلة وبطيئة، تتحرَّك نحوَنا ثم تحتنا، وتُميل القارب في بعض الأحيان بمقدار عشرين أو ثلاثين درجةً أفقيًّا. وتنحدِر البوصلة في محورها مع كلِّ قمةٍ وقاع من مستويات ارتفاع الأمواج وانخفاضها. يتحرَّك بيورنار بالقارب بسهولةٍ كما لو كان في حوضٍ جاف.
يبلُغ طول القارب ثلاثةً وثلاثين قدمًا، وهو من طراز ليبرا النرويجي الصنع. واسمه ترونجران؛ أي «قاع ترون». اشتراه بيورنار منذ خمسة عشر عامًا من رجلٍ في مقاطعة فينمارك مقابل مليون كرونر. ويُمثل مساحة عمل صعبة، فلا يَسَع سوى الضروريات، وتَعُمُّه الفوضى، لكنه فعَّال. أما كابينة قمرة القيادة، فلها بابٌ قابل للغلق عند السَّير بسرعة في البحار الكبيرة. وهناك رافعتان على الجانب الأيمن تسحبان خَيطَي صيدٍ، أحدهما أمامي والآخر خلفي، الخيط الخلفي تفصله عن المروحة الدافعة ذراعٌ معدنية يمكنها التأرجُح إلى اليمين. وتُوجَد أربعة خطَّافات على كل خيط صيدٍ بها سمك إنقليس الرمل أو طُعْمٌ للحبَّار. إنها معداتٌ من أبسطِ ما يمكن، لكنها أكثر من كافية في مياهٍ جيدة كهذه، ومع حصصٍ محدودة كتلك الموجودة في هذا البلد.
السكاكين مُعلَّقة من شفراتها بشريطٍ مغناطيسي بجوار باب الكابينة. وخيوط الطُعْم الأحمر والأصفر معقوفة في صفوف إلى حافة الطاولة في قمرة القيادة. يلبَس بيورنار حذاءً من النيوبرين ذا نعل غير قابل للانزلاق، وبنطالَ تزلُّج مبطَّنًا مقاومًا للماء باللونَين الأصفر والأزرق، وسترة برتقالية، والراكون. وكل نصف ساعة أو نحو ذلك، يأخذ حَفنة جديدة من التبغ الأسود من علبةٍ من القصدير، ويرفع صدغه للخلف ويدخلها في المكان ما بين اللثة والصدغ، كما لو كان يُدخِل وحدة بِت جديدة في إحدى برامج الكمبيوتر.
تُوجَد فوق لوحة التحكُّم في قمرة القيادة قبعة بيسبول بُنية اللون، وقد تركَ الملح علامات بها ولطختها الدماء. وتلمع بقشور السمك. أنقرُ عليها بأصابعي. وأجدُها صلبة كالأحفورة. يُصدِر جهاز الكشف عن السمك صوتًا كالطنين، ويعرض تحديثًا على الشاشة المُقسَّمة: صورة غير واضحة ذات خطوط متداخلة بالألوان البرتقالي والأخضر والأبيض.
يقول بيورنار مشيرًا إلى الشاشة: «يُظهر الخط الأبيض قاع البحر. ويُظهر الخط البرتقالي فوقه السمك.»
أسأله: «وما الذي يُظهره الخطَّان البرتقالي والأخضر تحت قاع البحر؟»
«إنَّه العالَم السفلي يا روب! ذلك هو النفط!»
نتدحرج فوق تلك التلال الزرقاء.
ويقول بيورنار لاحقًا: «حان الآن أن نخرج على الحافة. لا أدري كيف تقولها، ولكن الأرض هنا تهبط عموديًّا لمسافةٍ بعيدة تحتنا.»
أشعرُ بوخزٍ في معدتي، ويتبادر إلى ذهني فجأة التحرُّك على طول أنفاق الانجراف لمنجم بولبي قبل سنوات، والعبور أسفل عتبة الساحل ثم الخروج أسفل بحر الشَّمَال.
تتبعنا مجموعة من النوارس، التي يدوي صياحُها في الرياح. وينجو القارب من أمواجٍ أكبر وأكثر ارتفاعًا. يتضاءل حجم قمة منارة أندينيس بفِعل المسافة. آخُذ العُلبة البرونزية معي، وأفكِّر في إلقائها من فوق متن القارب إلى البحر بمجرد عبورنا للحافة. فلن يتبقى سوى القليل من الأماكن الأكثر عمقًا.
يقول بيورنار: «عندما تكون صيادًا، لا بدَّ أن تكون لديك القدرة على الرؤية من خلال الماء. عندما تكون في الخارج هنا، فإنك لا تستطيع رؤية أي شيء. أمَّا أنا فيُمكنني أن أرى معالِم المشهد الطبيعي تحتنا؛ فهناك نتوءاتٌ ووديان وجبال بالأسفل، وجداول تجري، وأسماك تتحرك في تلك الجداول. ولكي تتمكَّن من تخيُّل هذا، عليك استخدام عقلك في الوقت نفسه الذي تراقب فيه آلتَك، وتتحدَّث فيه مع الأصدقاء عبر اللاسلكي هنا.» — ينقر جهاز الإرسال والاستقبال — «وأحيانًا تكون هناك موجات شديدة، وبرودة مُجمِّدة للأوصال، ويصبح علينا أن ننعطف بالقارب في مهبِّ الريح. أجل، يجب أن يكون الصيادون مُتعدِّدي المهام!»
يطلق ضحكة مُدوية، ثم يتوقَّف عن الابتسام.
ثم يقول وهو يُشير بإبهامه فوق كتفِه: «إننا نواجه الموتَ كلَّ صباح لنجلب الطعام لهؤلاء الحمقى على الشاطئ. الحمقى من السياسيين. هؤلاء الأشخاص الذين يُريدون تفجير قاع البحر للحصول على مزيدٍ من النفط!»
يظهر الآن زُمَّجُ الماء بين طيور النورس.
ويردف قائلًا: «لطالَما كان سمك القُدِّ موجودًا هنا قبل وقتٍ طويل من العثور على النفط، وسيعود هنا — إذا أتحْنا له الفرصة — بعد فترةٍ طويلة من نفاد النفط. كان سمك القُدِّ طعامَ الفايكنج في رحلاتهم، وهو طعامُنا الآن أيضًا. عندما يصل الجنونُ بالمرءِ إلى الحد الذي يجعله على استعدادٍ للتضحية بطعامه من أجل جني المزيد من الثروة، واستخراج المزيد من النفط، فإن جنونه بذلك يكون قد اكتمَل ولا أملَ لنا بعد الآن.»
بدأت معركة بيورنار مع شركات النفط الكبرى في ربيع عام ٢٠٠٧ عندما وصلت مديريةُ النفط — وهي الجهة الحكومية المسئولة عن تنظيم موارد النفط والغاز في الجرف القاري النرويجي — إلى أندويا. كانت المديرية قد تواصلت بالفعل مع علماء الأحياء البحرية ونقابات الصيادين في شمال النرويج؛ من أجل تمهيد الطريق لحملةٍ من أجل إقناعهم في أندويا ولوفوتين. وهي تبتغي الآن تأييدَ المجتمع لخطتها من أجل حفر حقولٍ جديدة خارج الحافة. ومن بين الأدلة التي أظهروها لصالح خُطَطهم، البياناتُ التي جُمِعَت عن طريق خرائط الزلازل.
تُعدُّ خرائط الزلازل وسيلةً لفحصِ ما تحت الحياة البحرية. وذلك عن طريق سفينة مُتخصِّصة تحمل مدفعًا هوائيًّا منخفض التردُّد وذا مستوى صوتٍ عالٍ يطلق نبضاتٍ صوتية في الماء. هذه النبضات قوية بما يكفي لاختراق قاع البحر حتى مسافةٍ مُعينة، قبل أن ترتد مرةً أخرى صعودًا إلى حيث سجَّلتها أجهزة استشعار الزلازل التي تُسحَب بكابلاتٍ طويلة خلف السفينة. يمكن أن تحدُث الانفجارات على فتراتٍ أقل من دقيقة، وتستمر لأسابيع أو شهور في المرة الواحدة. وهي بالكاد تكون مسموعةً فوق السطح؛ فهي تسبر أغوار قاع البحر. لكن الانفجارات الصوتية تنتقل أيضًا لمئات الأميال جانبيًّا تحت الماء، ما يؤدي إلى تردُّد صوت رعدي جانبي عبر المُحيط. لا يُستعان بمسوحات الزلازل في مجال صناعة النفط فحسب، ولكنها تُستخدَم أيضًا لاستهداف البُقَع الرسوبية في أعماق البحار المناسبة للكشف عن طبيعة تغيُّر المناخ في الماضي وأسبابه، بحيث يمكن اختبار نماذج لتغيُّر المناخ في المستقبل وتحسينها. ويحمل معظم قوارب المسح الآن مراقبين مُختصين يراقبون الحيتان، ويأمرون بوقف إطلاق النار عليها إذا شاهدوها، وينصحون بأفضل الطرق لجدولة التفجير لتجنب أنماط هجرتها. ومع ذلك، تُحدِق الشكوك والخلافات بهذه التقنية، لا سيَّما فيما يتعلق بتأثيرها على الحيتان والدلافين والحياة البحرية الأخرى.
ومن ثمَّ، دُعِيَ إلى عقد اجتماع عام في أندينيس، حيث نسَّقَ ممثلو المديرية ما كانوا يصوغونه باعتباره «استشارة» مع سكان أندويا حول احتمالات المزيد من أعمال التنقيب عن النفط، بما في ذلك المزيد من التفجير الزلزالي.
يتحقَّق بيورنار من ثبات الطُّعم على عدَّة الصيد أثناء حديثه.
«أتذكَّر عندما كنتُ أجلسُ على كرسيٍّ هناك، وأستمعُ إلى أول المُتحدِّثين. جلستُ أُفكِّر، ورأيتُ أنَّ الأمر مُنتهٍ ومحسوم. فقد خطَّطوا كلَّ شيءٍ بالفعل، وحسَمُوا أمرهم. والاختباراتُ تجري بالفعل على قدمٍ وساق. في رأيي، لم تكن هذه الاستشارة المزعومة سوى استعراض، لا أدري كيف تقولها، ولكنها كانت خدعة. الأمر محسومٌ ومنتهٍ. إنَّهم قادمون إلى قاع البحر، ولتدمير مصادر رزقنا.» ثم يتوقَّف قليلًا.
«بينما كنتُ جالسًا هناك أفكِّر، تخيَّلتُ نفسي وقد تقدَّم بي العمر، وربما سأجلسُ على كرسيٍّ لا أقوى على الحركة، وعندئذٍ أدركُ أنني لم أفعل شيئًا للتصدي لهذا الأمر والحيلولة دون حدوثه. ولذا، قلت لنفسي، يجب أنْ أبدأ هذه المعركة الآن، اليوم!»
يتحدَّث بجُملٍ واثقة تتخللها فتراتُ صمتٍ طويلة، والذكرياتُ واضحة بجلاءٍ أمامه. يتفحَّص الخُطَّاف الأخير، ويترك العُدَّة تسقط، ويرمقني بنظرته المُقلِقة.
«روب، ما رأيك، لديَّ هدية لك لرؤيةِ ما سيحدث في المستقبل.»
وعندما أنظرُ إلى هاتين العينَيْن البيضاوَيْن، اللتَين تنظران إليَّ، أصدِّقه وأجدُني لا أشكُّ في كلامه.
بدأ بيورنار حملتَه ضد هذه المخططات، في الوقت نفسه الذي تواصل فيه شركات النفط تفجيراتها ذات التأثير الزلزالي. كان يُمارس مهنته كصياد، ويكافح من أجل قضيته. وقد انتُخِبَ سكرتيرًا لاتحاد الصيادين المحليين؛ ما منحه سلطةً سياسية مارسها بعد ذلك ليكون صاحب نفوذ ورأي. طرقَ الأبواب في كل أنحاء الجزر. كما طرقَ أبواب الصحف، حيث كتبَ عن مخاطر التفجير والحفر. وقد فعَّلَ الولاءَ النرويجي القديم تجاه سمك القُدِّ، ووضعه في مواجهةٍ مع الولاء النرويجي الجديد للنفط. وتحدَّى أن يجادله ممثلو شركات النفط. واتخذَ من التهكم والسخرية أداةً للاستهزاء بهم وبخُططهم في وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة، وتحدَّى ما يستندون إليه في مزاعمهم من علم جامد.
يقول بيورنار: «ربما كانت استراتيجيتي الرئيسية هي التسويف. وكان الوقت يعمل لصالح المقاومة والشعب. كنت أعرفُ هذا. إذا سوَّفت الأمور، فسوف ترِدُ معلوماتٌ جديدة، والمعلوماتُ الجديدة لا تكون عادةً في صالح الصناعة.»
يروي قصته أسرع الآن، ويتحدَّث كالسيل، على نحوٍ تصعُب معه المقاطعة أو طرح الأسئلة. يتذبذب مِزاجه وهو يتحدَّث: ابتساماتٌ عريضة، وضحكات عالية، ثم لحظاتٌ عابرة من الحزن والخسران. أستشعرُ أيضًا تفخيمًا لما تمَّ إنجازه، لكنني لا أرى هذا غرورًا أو تفاخُرًا، ولكن أراه صدًى لتمجيد الذات الذي كان ضروريًّا لبيورنار لكي يخوض معاركه، ويستوعب الضرر الذي عاناه شخصيًّا.
بعد ستة أشهر من حملته ضد شركات النفط الكبرى، انهار بيورنار. كان الإجهاد شديدًا للغاية. وقد وجدَتْه إنجريد ذات يومٍ عند لوحة مفاتيحه وهو في حالةٍ تُشبه الشرود. أمضى أسابيعَ في مصَّحة نفسية. وعندما خرجَ، استغرق الأمر ثلاثة أشهر لاستعادة شتات نفسه. ثم استأنفَ النضال من جديد.
نسمع دويَّ المحرك، وهديرَ الأمواج العارمة. ونرى الآن اثنين من طيور الفلمار في سِرب طولي من الطيور البحرية، وقد اختفى زُمَّج الماء.
يقول بيورنار: «سأُخبرك بصورة ذهنية كانت لديَّ عندما عُدت من تلك الغفوة الأولى. شعرتُ وكأنني أقفُ على شِبه الجزيرة الأبعد عن الشاطئ هناك.» — يشير مرةً أخرى إلى القمم الشائكة لساحل أندويا على البُعد — «وكان حذائي مُدَلًّى في البحر، والتفتُّ برأسي تجاه الناس على الشاطئ، بينما أُصارعُ ضد البشرية، والحافة بانتظار أن تستحثني. كانت هذه هي الصورة التي لاحت من عقلي الباطن في ذلك الوقت. كان ذلك جنونًا. هل لكَ أن تتخيَّل؟»
القاربُ مُثبَّت على وضع القيادة الآلية. وكان بيونار قد كفَّ عما يفعله مع عُدَّة الصيد، مُركِّزًا بالكامل على سرد قصته. ينحرف الترونجران إلى الشمال الغربي، مُتعثرًا على تلال الأمواج العالية. ويستند بيونار على غرفة القيادة وهو ينظر إليَّ دون أن تطرف له عين. أصبح ما يَرويه يمارس ضغطًا شديدًا عليه الآن.
«ولكن، رويدًا رويدًا، انضمَّ إليَّ آخرون على الشاطئ. وأتت إلى هنا المزيد والمزيد من المُنظمات البيئية وانضمَّت إلينا. وتجمَّع الأفراد احتجاجًا.» بسَطَ ذراعَيه، ثم طواهما في إشارة إلى التجمُّع. «كان مشروعي دائمًا هو تجميع كلِّ هذه المنظمات في جيشٍ واحد كبير!»
أقول: «إنَّه «التعايُش» يا بيورنار. أخذتَ نهجك هذا عن شركات النفط الكبرى!»
يضحك. «أجل، كنَّا نحرص على التعايُش معًا، لأجل المقاومة، وكنا بصدد صناعة التاريخ، حيث بدأت مُجريات الأمور تتحوَّل ضد هؤلاء المسئولين الكبار. أحدثنا جلبةً كبيرة هنا. كانوا على وشك أن يستحوذوا عليها. كانوا على وشك ضَمِّ المنطقة في ذلك الوقت. ولكننا أوقفناهم.»
«كان مَوسم مسوحات الزلازل يبدأ من شهر مايو ويستمر حتى شهر سبتمبر. وقد استمروا في عمليات التفجير على مدى ثلاث سنوات، وحاربتُهم على مدى هذه السنوات الثلاث. وفي هذه الأثناء، تُوفي أخي في فينمارك مُتأثرًا بمرض السرطان، كما تُوفِّيت أختي بالقُرب من باريس متأثرةً بالسرطان. وظلُّوا يمارسون عمليات التفجير على مدى ثلاث سنوات، دخلتُ خلالها المصحة النفسية بمُعدل مرةٍ كل عام، غائبًا عن الوعي. لقد أُنهِكتُ وخارت قواي.»
يُدوِّي صياح طيور النورس، ومواء زُمَّج الماء.
«لستُ نادمًا على تلك السنوات من النضال والغياب عن الوعي يا روب. فقد تعلَّمتُ منها، على الرغم من أنها كانت قاسية علينا جميعًا، لا شكَّ في ذلك. خلال تلك السنوات، حتى ابني — الذي يعمل نفسه صيادًا — نظرَ إليَّ على أنني غريب. ولم أكن لأفعل هذا دون إنجريد. إنَّها امرأةٌ قوية للغاية، قوية جدًّا. إنها دائمًا بجواري. تعتني بعائلتي …» هنا كفَّ عن الحديث. وأومأتُ إيجابًا. فعلى الرغم من الوقت القصير الذي التقيتُ بها خلاله، فقد بدا لي جليًّا أنَّ إنجريد مصدر دعمٍ وطمأنة استثنائيَّين؛ فهي حجر الأساس الذي يرتكز عليه عُباب بيورنار الجارف، وهي مصدر السكينة والتهدئة لعاصفته.
ثم ينحسِر الضغط. ويتحدَّث ببطءٍ أكثر الآن.
«ومع ذلك، فقد تغيَّرت مُجرياتُ الأمور. حيث حالت أحزابُ الأقلية في الائتلاف دون استمرار أعمال الحفر. لقد كان انتصارًا لنا. ولم يزِدنا الأمر إلا قوة. الآن أصبحت الغالبية في النرويج تقول لا للنفط. حدث الكثير بفضل معركة النفط وتلك السنوات. فقد عاد الشبابُ إلى الصيد، عادوا إلى ممارسة هذه الطريقة للعيش، إلى المناطق الريفية. كانت كلُّ الأمة تُراقِب عن كثبٍ هذه المعركة التي تدور رحاها أعلى الساحل وأسفله.»
ومع ذلك، كانت تلك السنوات ذات توابع كارثية على صحة بيورنار، وكذلك على عالَم ما تحت سطح البحر.
يقول بيورنار: «منذ اختبارات التفجير ذات التأثيرات الزلزالية، تغيَّر كلُّ شيءٍ هنا. أتعرف الأسماكَ التي ننوي اصطيادها اليوم؟ لقد اختفت. قبل التفجير كان مِن المُمكن أن نصطاد ما يصِل إلى ٣٠٠٠ كيلوجرام من السمك باستخدام خيوط الصيد وحدَها في يومٍ واحد فقط. وكان هذا أحدَ الأسباب التي دفعتْني إلى شراء هذا القارب.» ثم ربَّت على غرفة قيادة الترونجران بحنان ورقة.
«ولكن في السنة الأولى من التفجير، اختفى سمك السيث، ولم يبدأ في العودة إلا في عام ٢٠١٥. بعد ستِّ سنواتٍ من التفجير الأخير. كما تأثرت الحيتان أيضًا. وغادر الأوركا كذلك. بدأنا نرى حيتان العنبر في المضايق البحرية، حيث دفعها الجوع إلى هناك.»
يرفع قدَمَه عن دواسة الوقود، ويضبط المحرك على وضع اللاتعشيق البطيء. ثم يُشبِّك يدَيه معًا في إيماءةٍ ساخرة بالصلاة والتضرُّع، وينحني مُبتسمًا في اتجاهي.
«والآن، لنَصطَد.»
•••
في الليلة التي سبقت انطلاقنا أنا وبيورنار على متن الترونجران، ظللتُ مُستيقظًا أقرأ قصة إدجار آلان بُو الصادرة عام ١٨٤١ «الانجراف إلى الدوَّامة»، التي تحكي عن الدوامة التي تقع قُبالة شاطئ لوفوتين، تلك الدوامة التي رأيتُها وسمِعتُ صوتَها خلال الأيام التي قضيتُها في خليج الراقصين الحُمر، ثقب الحفر الذي يعتقد البعضُ — بما فيهم أثناسيوس كيرشر، مُؤلِّف الدراسة المَلحميَّة في مُستهل العصر الحديث عن الأرض السفلية «عالَم ما تحت الأرض» (١٦٦٤) — أنَّه يخترق الأرض ثم يُعاود الظهور على السطح في خليج بوثنيا.
تُستَهل قصة بُو بِرَجُلَيْن بالقُرب من قمة هيلسيجا؛ تلك القمة الوعرة التي ترتفع إلى جنوب خليج ريسفيكا. يجلس الرجلان على حافة «جرفٍ من الصخر الأسود اللامع، وهو جرفٌ شديد الانحدار لا تعترضه عوائق.» وينظران إلى جزيرة فاري البعيدة. أحدُ الرجلَيْن هو زائر للأرخبيل مجهول الاسم، والآخر هو مواطن لوفوتيني من موسكينيس ذو شعرٍ أبيض لافتٍ للنظر.
عندما حصل الرجلان على مَرصدهما لأول مرة، كان المُحيط تحتهما عبارة عن «حياة بَرية صاخبة» ذات «شيءٍ غير معتاد إلى حدٍّ كبير يُميِّزها». يتوجَّس الزائر خيفة، شعورًا مُزعجًا بشيءٍ لمَحَه جزئيًّا. ثم يُسمَع صوتٌ عالٍ ويزداد علوُّه تدريجيًّا؛ صوتٌ مثل نَئِيج «قطيع كبير من الجاموس». وسرعان ما يُغيِّر البحرُ هيئته؛ حيث تبدأ تياراتُ الماء ذات «السرعة الهائلة» في التدفُّق، وينشقُّ البحرُ وتنفتح خلاله «ألف قناة مُتصارعة»، تتحوَّل تدريجيًّا إلى عددٍ كبير من الدوامات الصغيرة. تختفي هذه الدوَّامات ثم «على حين غرة»:
[ظهرت] دائرة يزيد قطرها عن نصف الميل. اتخذت حافةُ الدوَّامة شكلًا مُغايرًا على هيئة حزامٍ عريض من الرذاذ اللامع، ولكن لم ينجرف أيُّ جزءٍ منها في فم القُمع الرهيب، الذي بدا على مَدِّ البصر أن داخله أملس ولامع وذو جدارٍ فاحم السواد من الماء، يميل إلى الأفق بزاوية مِقدارها حوالي خمسٍ وأربعين درجة، وكان يتحرَّك في مسارٍ دائري مائل وبسرعة كبيرة، ويدوِّي صوته المُرعِب في الرياح، ما بين صيحة وهدير.
يتلعثم الراوي، الذي يشعر بالجبل يهتزُّ تحته من شدَّة الماء وزمجرته، فيلقي بنفسه على الأرض في حالةٍ من الذُّعر، وهو يقول: «لا يمكن أن تكون هذه سوى الدوامة الهائلة للدوامات المُحيطية العملاقة.» إنَّها كذلك، وحسبما يُخبره ساكنُ الجزيرة صاحب الشعر الأبيض، فقد ابتلعت على مَرِّ السنين الحيتان وأشجار الصنوبر وأعدادًا لا تُحصَى من القوارب. حتى إنَّ دُبًّا قطبيًّا قد انجرفَ في نطاق جاذبيتها في يومٍ من الأيام، فالتهمتُه «هاوية الدوامة العملاقة».
كان وصْف بُو، بالطبع، غيرَ معقول من الناحية البحرية. فلم يذهب قطُّ إلى جزر لوفوتين، ولم يتحدَّث إلى أي شخصٍ قد رأى الدوامات المُحيطية العملاقة. وقد استقى رؤيته عن الدوَّامات المحيطية العملاقة من الأساطير والشائعات والخرائط البحرية القديمة. ومن هنا، كانت صورة القمع الذي يصلُ إلى قاع المحيط وما وراءه لا تَمتُّ بصلةٍ إلى الواقع. فالدوامات المُحيطية العملاقة لا تُشبه في هيئتها الدوامات الحلزونية المزدوجة التي تتأثر بتيارات المَدِّ والجَزر، كما أنها لا تكون على شكل حفرةٍ منحدرةٍ إلى قلب المُحيط يسودها الظلام من الداخل. بل هي بالأحرى مجالٌ مائي مُتماوج، ذو شكلٍ دائري تقريبًا، ويزيد طول قُطره عن ميلٍ أو أكثر. وداخل تلك الدائرة التقريبية يتَّخِذ الماء شكل مَوجاتٍ، وتخرج من تلك الدائرة التقريبية خطوطٌ غير منتظمة من الزَّبد — وكأنها أذرُع مِجرَّةٍ حلزونية — تتَّبع تيارات المَدِّ والجَزْر القادمة التي تكوِّن الدوامة المُحيطية العملاقة.
ومع ذلك، فإنَّ رؤية بُو السريالية للدوَّامة الحلزونية التي لا يمكن مقاومتها إنما تدل على التأثير الذي تُمارسه الدوامات على الخيال، بدءًا من دوامات بالوعة حوض الاستحمام وحتى الثقوب السوداء العملاقة. تأسِرنا مثل هذه الهياكل بسبب قوة الجذب البعيدة الأثر التي تُمارسها علينا، وآفاق الأحداث التي تُولِّدها. وهكذا يُحاصَر ضحاياها حتى قبل أن يُدركوا أنهم وقعوا في شَرَكها.
في قصة بُو، يشرع ساكن الجزيرة في إخبار الراوي كيف أنه هو وأخوه، عندما خرجا للصيد، قد وقعا في شَرَك الدوَّامة المُحيطية العملاقة. قال الرجلُ إنه بينما كان قاربهما ينجذب نحو الدوامة، وجدَ نفسه هادئًا هدوءًا غريبًا، حيث انزوى خوفه فاسحًا المجال لنوع غريب من الحُبِّ القاتل: «استحوذَ عليَّ فضولٌ شديد تجاه الدوامة نفسها. وشعرتُ برغبةٍ أكيدة في استكشاف أعماقها، حتى على حساب التضحية التي كنتُ أعتزم تقديمها.» ونظرًا لدورانها بعنف ووقوعها تحت قوة الطرد المركزي للدوامة المُحيطية العملاقة، انزلقَ القارب ببطءٍ إلى أسفل مُنحدرات بئر سوداء الجوانب. يتذكَّر ساكنُ الجزيرة قائلًا: «بدا مُعلَّقًا، كما لو كان بفِعل قوةٍ سحرية، في منتصف الطريق بالأسفل، على السطح الداخلي لقمعٍ دائري كبير، ذي عمقٍ هائل، والناظر إلى جوانبه الملساء قد يَظنُّ خطأً أنها من خشب الأبنوس بسبب البريق اللامع والمُروِّع الذي ينبعث عنها.» شكَّل الرذاذ الذي ينبثق خارجًا من الدوَّامة قوسًا قمرية من الضوءِ فوقها؛ هلال غير أرضي يحوم فوق هذه البوابة المؤدية إلى عالَمٍ تحت القاع.
ساهمت قصة بو في الانبهار السائد خلال القرن التاسع عشر بفكرة وجود أرض سُفلية حقيقية على مستوى العالَم، تُوجَد لها نقاطُ دخول مُعينة، حيث تؤدي إما إلى كوكبٍ أجوفَ بالكامل أو على الأقل إلى فضاءٍ داخلي ضخم. كما ازدهر في القرن التاسع عشر نوعٌ فرعي من الأدب الروائي يتعلَّق بعالَم تحت الأرض، حيث كثيرًا ما تُصوَّر قشرة الأرض وغلافها على أنهما يزخران بالثقوب والأنفاق المُنتشِرة خلالهما، وغالبًا ما يؤدِّيان إلى لُبٍّ صالح للسُّكْنَى. في عام ١٨١٨، شرعَ ضابطٌ بالجيش الأمريكي يُدعَى جون كليفز سيمز يُعلِن كأمرٍ واقعٍ اعتقادَه بأنَّ الأرض قد تكوَّنت على شكل سلسلةٍ من الأغلفة الكُروية المُتحدة المركز، التي تتخلَّلها فتحاتٌ شاسعة يبلُغ قطرُها حوالي ١٤٠٠ ميل في كلٍّ من القطبَيْن. وطالبَ سيمز بضرورة القيام برحلةٍ استكشافية إلى القطب الشَّمَالي للنزول إلى هذه النطاقات الكُروية واستكشاف إمكاناتها من الموارد ومدى صلاحيتها للسُّكْنَى.
لم تحدُث هذه الرحلة الاستكشافية قط، ولكن في عملٍ أدبي يُعَدُّ من أوائل الأعمال الأدبية في مجال الخيال العلمي بعنوان «سيموزونيا: رحلة استكشاف» (١٨٢٠)، التي يُزعَم أن مَنْ كتبَها هو «الكابتن آدم سيبورن»، تنزل مجموعةٌ من المسافرين إلى مركز الأرض عبر القطب الشَّمَالي، حيث يكتشفون بالفعل قارةً داخلية. وسَّعَ بُو نطاق نظريات سيمز في روايته لعام ١٨٣٨ «حكاية آرثر جوردن بيم من نانتاكيت»، ثم جاءت عام ١٨٦٤ أشهرُ هذه القصص الخيالية «رحلة إلى مركز الأرض» لجول فيرن، حيث يدخل المُستكشِفون بركانًا أيسلنديًّا، وينزلون إلى عُمق سبعةٍ وثمانين ميلًا رأسيًّا، ويُبحِرون في بحرٍ تحت الأرض، ويخرجون من فُوَّهة بركان سترومبولي قُبَالة ساحل صقلية. وفي العام التالي لذلك، نشرَ لويس كارول قصته في أدب المغامرات «ألِيس في بلاد العجائب» — التي كان عنوانُها الأصلي «مغامرات أليس تحت الأرض» — وهو نوعٌ مختلف تمامًا من الرحلات الاستكشافية إلى عالَم تحت الأرض.
استمرت هذه القصص الخيالية عن الأرض الجوفاء، وشهدت طفرةً في القرن العشرين. ففي عام ١٩٢٣، قام الرسَّام والروحاني الروسي نيكولاس روريتش برحلة استكشافية في جبال الهيمالايا مع زوجته الفيلسوفة، هيلينا، من أجل الدخول إلى مدينة شامبالا، وهو ما من شأنه أن يقودهما إلى «مملكة الأرض الجوفاء». سافرا على صهوة الجياد من دارجيلنج في مسعاهما غير المُجدي، حامِلَيْن العَلَم الأمريكي مُرفرفًا على رُمح منجولي، ومن المُرجَّح أنهما قاما برحلتهما بمساعدة عملاء المخابرات السوفيتية. بعد عام ١٩٤٥، وعلى نحوٍ مُقلِق، ظهرت قصة خيالية جغرافية في فترةِ ما بعد النازية، عن الكهوف الموجودة في قشرة الأرض التي يُزعَم أن هتلر وحلفاءَه المُقرَّبين قد اختبئوا فيها بعدما فرُّوا من مخابئهم خلال الهجوم الروسي الأخير على برلين، والتي انبعثت منها القوة الآرية بعد ذلك.
في تلك الليلة في أندويا، رُحتُ أفكِّرُ في قصة بُو على أنها رؤيا تحذيرية مُنذِرَة عن النفط. وفيها، تعمل الدوامة المُحيطية العملاقة كما لو كانت نوعًا من الحفر الثاقِب وكوسيلة لرؤية قاع البحر حيث يقبع مكشوفًا في قاعدة الدوامة. غالبًا ما يصِف بُو مياه الدوامة المُحيطية العملاقة بعباراتٍ خاصة بالنفط؛ حيث يقول إنه يتحوَّل إلى ملمسٍ «ناعم» و«لامع» ولون «أسود فاحم»، و«يبرُق» مثل «خشب الأبنوس». إنَّه كالنفط مُميتٌ ومُعجِزٌ في الوقت نفسه، وهو يُعيد تسلسل الزمن.
تتحدَّث قصة بُو — وقصصٌ أخرى مثلها — بصفةٍ جزئية عن أحلام منتصف القرن التاسع عشر ﺑ «محيطات النفط»، التي كان يُتصَوَّر وجودُها تحت الأرض. أدَّت هذه القصص الروائية إلى زيادة الاعتقاد الواهم الذي سادَ العصر الهولوسيني عن وجودِ جزءٍ داخلي لكوكب الأرض يحتوي على ثروة وطاقة لا تنضبان، ذلك الاعتقاد الواهِم الذي لا يزال يُميِّز الخطاب النفطي التوسُّعي بعد مُضي ما يقرُب من قرنَيْن على كتابة بُو لقصته. أعلنت شركة «ستات أويل» النرويجية في الخريف قبل أن أسافرَ إلى الشَّمَال، قائلةً: «نحن في حاجةٍ إلى بُقعةٍ جديدة لاستكشافها، كما نُريد تكثيف أنشطتنا الاستكشافية.» وبعد عدة أشهر، أعلنت شركة النفط والغاز الأسترالية العملاقة «كارون» رغبتها في فتح حقولٍ جديدة في الخليج الأسترالي العظيم بحُجة أنَّ المنطقة تُوجَد بها «أحواضُ طباشيرية غير مُكتشَفة».
يرجع السبب جزئيًّا وراء كارثة التسرُّب النفطي في خليج المكسيك، التي وقعت عام ٢٠١٠ في منصة «ديب ووتر هورايزون» البحرية لاستخراج النفط، إلى توسيع نطاق الحفر العميق إلى أقصاه في محاولةٍ لفتح حقول جديدة. في يوم ٢٠ أبريل من ذلك العام، وعلى بُعد واحدٍ وأربعين ميلًا من جنوب شرق ساحل لويزيانا، انفجرت حفرة سبر لمنصة نفط شِبه غوَّاصة. وقد أسفر الانفجارُ الذي أعقبَ ذلك على مستوى المنصة عن مقتل أحد عشر شخصًا من أفراد الطاقم وأشعلَ النار في طُرْبِيد على نحوٍ تُمكن رؤيته على الشاطئ. وبعد يومَيْن من غرق المنصة، استمرَّت البئر في التدفُّق من قاع البحر على عُمق المياه الذي بلغَ حوالي ٥٠٠٠ قدم. وتسرَّبَ مائتان وعشرة ملايين جالون من النفط إلى خليج المكسيك، وطَفَت فوق سطح المُحيط في صورة بُقعة نفط كانت مرئية من الفضاء. ومن ثمَّ، دمَّر النفطُ الحياةَ البحرية عند مستوى سطح البحر. وتدحرجت كراتُ القطران بفِعل الأمواج، مُتجمِّعةً بالآلاف على الساحل. قفزت الدلافين المُخطَّطة عبر بُقَع النفط الطافية. وكان من المفترَض أن تستغرق تغطية البئر وإحكام غلقها حتى الخريف، بحيث يمكن بعدها التصريح بأنها أصبحت بئرًا «شبه خاملة»، بيدَ أنَّ عواقب الأمر على النظم البيئية والأحياء البحرية في الخليج لا تزال قائمة حتى اليوم. تمثل هذه الكارثة كَشفًا نادرًا للعمليات ذات الجانب الأكثر إظلامًا لشركات استخراج النفط العالمية. كانت إحدى الاتفاقيات التي أبرمها المُستهلِكون ضمنيًّا مع هذه الشركات تنصُّ على أنَّ عمليات الاستخراج وتكاليفها ستظل في الغالب بعيدةً عن الأنظار، ومن ثمَّ لا تُمثل إزعاجًا للمُستفيدين. تدرك تلك الشركات حاجة السوق إلى العمالة المغتربة والبنية التحتية المَخفية، والإخفاء الاستراتيجي لكلٍّ من العنف البطيء المُتمثِّل في التدهور البيئي والعنف السريع المُتمثِّل في الحوادث. انتهكت منصَّة «ديب ووتر» هذا الاتفاق انتهاكًا صادمًا، وذلك بإعلانها بوضوح عن مادة تعتمد عليها كثيرًا حياةُ الإنسان الحديثة، غير أنَّ قلةً من الناس فقط هم مَنْ يجدونها في صورتها الخام.
بعد عودتي من النرويج، علمتُ أن نظام الدوامات المُحيطية العملاقة «موسكستراومن» قد أصبح حرفيًّا تمكينًا لصناعة النفط. في الثمانينيات من القرن العشرين، عاشَ رجلٌ يُدعَى بيورن جيفيج — وهو عالِم آثار محترف، وعالِم رياضياتٍ، وبحَّار هاوٍ، يبدو كأنه إحدى الشخصيات الخيالية التي صنعها بُو لكنه موجودٌ بالفعل — واستهوتُه الديناميكا المائية للدوامات المُحيطية العملاقة إلى الحدِّ الذي أصبح مُتيَّمًا بها. وباستخدام البيانات التي جُمِعَت جزئيًّا أثناء الإبحار بالقُرب من نظام الدوَّامات العملاقة، شرعَ جيفيج في تصميم نموذجٍ للحسابات الرياضية الخاصة بتياراته. وعندما اكتُشِفَ النفط قُبَالة سواحل لوفوتين، أدركَ أن الفرصة قد سنحت لاستخدام بياناته ووضعها حيز التطبيق؛ ذلك حيث ستحتاج شركات النفط إلى فهمِ قوى المُحيط هذه لبناء منصَّات نفطٍ يمكنها أن تصمد أمام «التيارات المُدمِّرة من النوع الموجود في نظام الدوامات المُحيطية العملاقة».
في ذروة الأحداث في قصة بُو، يفقد جسم الإنسان إرادته بالكامل، ويُصبح نوعًا ما من المادة المُنجرفة، التي لا حول لها ولا قوة داخل «التيارات المُدمِّرة». ينجذب الصياد وشقيقُه انجذابًا مُطَّردًا إلى عمقٍ أكبرَ داخل الدوامة. ويُدرك الصيادُ أنه دخل آلة فرز عملاقة، تَزِنُ الأشياءَ التي سُحِبَت داخلها وتقيسها؛ وتُحرِّك الأشياءَ الأثقل وزنًا وغير المُنتظمة الشكل على نحوٍ أكبر لتدميرها في قاعدتها.
في ومضةِ ذكاءٍ عجيبة، يفطن الصياد إلى أنَّه لكي يبقى على قيد الحياة لا بدَّ له، على خلاف الحدس البديهي، أن يتخلَّى عن الأمان الظاهري لقارب صيده الثقيل، وأن يربط نفسه بدلًا من ذلك ببرميلٍ خشبي أخف. ومن غير المُستغرَب أنه لا يستطيع إقناع أخيه بالحكمة وراء هذا التصرُّف، ومن ثمَّ لا خيارَ أمامَه سوى التخلي عن أخيه والقارب على حدٍّ سواء. وكما توقَّع، يتقدَّم البرميل الذي يربط نفسه به ببطءٍ إلى برِّ الأمان. أمَّا قارب الصيد الذي يقِف أخوه على متنه مفتوحَ الذراعين مُنفرجَ الساقين، فإنَّه يُسحب للأسفل نحو دماره.
تُقرأ الآن كلُّ هذه النصوص عن الأرض الجوفاء التي كُتِبَت في القرن التاسع عشر بوصفها إيماءاتٍ وتحذيراتٍ من الفراغ. كلُّها من أعمال عصر الأنثروبوسين، قبل وضع المصطلح، وتدور حول اشتهاء الوصول إلى باطن الأرض الغني بالثروات. فهي تتنبأ بظهور الصناعات الاستخراجية بكامل قوَّتها العملاقة. وتُنذِر بإنشاء البنية التحتية الهائلة التي انتشرت في جميع أنحاء الأرض، المُكرَّسة لسحْب المواد الخام من باطن الأرض وقاع المسطحات المائية، مما يتسبَّب في حوادث تسرُّب النفط بدءًا من الأراضي القاحلة المُحترقة في دلتا النيجر، وحتى آبار النفط المُشتعلة في الشرق الأوسط ومعامل التكرير وصهاريج الصوامع المنتشرة في هيوستن. إنَّ تاريخنا بوصفنا ننتمي إلى النوع البشري الحديث هو تاريخُ الاستخراج المُتسارع الذي لا هوادة فيه، مصحوبًا بممارساتٍ بسيطة من أجل الحفاظ على البيئة وأغانٍ رثائية على سبيل التعويض. لقد حفرنا إلى الآن ما يقرُب من ٣٠ مليون ميل من الأنفاق وحُفر السبر في بحثنا عن الموارد، الأمر الذي يؤدي حقًّا إلى تحويل كوكبنا إلى أرض جوفاء.
•••
كانت المساحة المُخصَّصة لنحر الأسماك على متن الترونجران بسيطةً ومُفرَّغة: حوضٌ من الزنك مُثبَّت في الجانب الأيمن للقارب، ويُغطي الحوض لوحٌ خشبي قابل للإزالة. يزيل بيورنار خيوط الصيد من الرافعة. ذلك حيث ترفع ضغطة زر واحدة الخيط لأعلى، وتصدر الرافعة صريرًا تحت وطأة وزن السمك.
الرافعة تُتكتك. وعُدَّة الصيد تطقطق. ويلقي بيورنار نظرةً على الحافة. هناك حيث نرى أمام ناظرينا أجسامًا فضية تسبح لأعلى، ثم تتمركَز وتشقُّ طريقها ضدَّ اتجاه الرياح قادمةً إلى السطح. يُمسك بيورنار الخيط بيدٍ واحدة وقد حرَّره من القارب، وباليد الأخرى يمسك السمك بالخُطَّاف، بمعدل سمكةٍ واحدة في كل مرة، رافعًا إيَّاه لأعلى ثم إلى الحوض بحركاتٍ مُتقَنة باستخدام يدٍ واحدة. وبهزِّ الطُّعم لتحرير الخطَّاف، تسقُط كل سمكةٍ مرفرفةً في الحوض، وتنبثق مثاناتها الهوائية البرتقالية اللون عبر أفواهها كالبالونات الاحتفالية. إنَّه سمك السيث، وهو يُشبه سمك البولوق وسمك الفحم الذي اصطدتُه من الشواطئ البريطانية من قبل، ولكنه ضخم: سبعة، عشرة، اثنا عشر رطلًا. ينساب خط أبيض ناصع على منتصف طول جناح كل سمكة، كالخطِّ الموجود في مُحدِّد موقع الأسماك، ويُوجَد لون نحاسي أسود فوق الخط، ولونٌ بُني برونزي أسفله. إنَّه رائع حتى في موته.
يقول بيورنار: «إنَّ صلاة الشكر التي أُصليها في المنزل عندما نجلس إلى المائدة لتناول السمك الذي اصطدتُه تكون دائمًا: «اللعنة! إننا لا نعرف كم نحن محظوظون».»
يُدلِّي بيورنار الخيوط مرةً أخرى بعد كل مرةٍ يسحب فيها السمك. عندما يكون السمك في الأسفل، يأخذ بيورنار سكينًا ذا يدٍ حمراء من الشريط المغناطيسي، ويسحب كلَّ سمكة مُخرِجًا إياها بواسطة خطَّافٍ يغرسه في خياشيمها السفلية، ويدير السمكة على ظهرها، وبحركةٍ سريعة وجُرح خاطِف يذبحها ويكسر عنقها في الوقت نفسه. يقطر الدم على سطح السفينة أسفل الحوض.
«يا له من سكينٍ حادٍّ يا بيورنار.»
ينظر إليه كما لو كان عصًا.
«هذا ليس سكينًا حادًّا. سترى لاحقًا سكينًا حادًّا.»
تلتقط طيور زُمَّج الماء والفلمار، ونورس عشب البحر الفُتات. ونسمعُ صريرَ الرافعة وقبقبة بالوعة السفينة عندما يُنظِّف بيورنار سطح السفينة من الدم بخراطيم المياه.
يظهر سمك القُدِّ فجأةً بين سمك السيث: زعانف مُنقطة باللون البُني المُصفر الذي يُشبه لون الجعة، وزوائد لمسية، وبطن ناصعة البياض.
«لا بدَّ أنك شاهدت سمك القُدِّ في فصل الشتاء. إنه يجعل سمك السيث يبدو كالسردين. لقد غادر للتوِّ واختفى في هذَيْن الأسبوعَيْن. ويتعقَّبه الآن ابني الأكبر إلى رأس الشمال. لقد اصطدتُ سمكة منه هذا العام، تَزِنُ اثنين وثلاثين كيلوجرامًا.»
تخضَّب الخطَّاف الآن بلون الدم، مُلطخًا بقطع اللحم. وتظهر سمكة فضولية، نحيلة الجسم، وذات قشور مُتقزِّحة اللون كبيرة، كقوس قزح في ضوء الشمس، ومُقلتا عينيها عريضتان ومسطحتان. أما بؤبؤ العين، الذي تكيَّف مع ظلام الأعماق، فإنه يتَّسِع في ضوء الشمس ليُصبح في حجم غطاء الزجاجة.
يقول بيورنار: «إنَّها سمكة جميلة، أليس كذلك؟» لم يذكر اسمَها. يحرِّرها من الخطَّاف ويضعها على صينية معدنية. لقد فقع الخُطَّاف عينها المواجهة لأعلى، ورُحتُ أشاهدها تمتلئ ببطءٍ بدم ياقوتي داكن. إنَّها تُشبه، بقشورها القزحية وعينها المُرصَّعة، أحد حُلي فابرجيه الذي قد ينبثق في الحياة المُتناغِمة.
ينصرف ذهني شَمالًا إلى أرخبيل سفالبارد، على بُعد ١٠٠ ميل من قاربنا المُتعثِّر، حيث شُيِّدَ قبو البذور العالمي، وهو موقع تخزين بقيمة مليار دولار غاطِسٌ تحت الأرض الدائمة التجمُّد للحفاظ على التنوع البيولوجي، تحسُّبًا لمُستقبلٍ قد يُستنزَف فيه التنوع بسبب الانقراض والتعديل الوراثي. أفكِّرُ في الشحنات التفجيرية ذات التأثيرات الزلزالية الموجودة تحت الماء، وفي سُفن النفط التي تُنزِل حفَّاراتها إلى قاع البحر، وفي انفجار «ديب ووتر هورايزون»، وغريزتنا كنوع بشري التي تدفعنا إلى فتحِ ما كان مُحكَم الغلق دون تفكيرٍ في العواقب.
يقول بيورنار بعد أن اصطدنا ثلاثين سمكةً أو نحو ذلك: «فلنذهب إلى المنزل ونتناول طعامَنا.» يدير المحرك، ويدير دفَّة القارب، وبضحكةٍ خافتة تنمُّ عن الرضا، يتجه إلى منارة أندينيس.
•••
نرسو مُجددًا على رصيف الميناء. والطقسُ بارد في ظل سطح القارب. ويشكِّل النفط طيفًا من الألوان على سطح المياه حول القارب.
يقول بيورنار وهو يتناوَل سكينًا ذا يد صفراء من الشريط المغناطيسي: «هذا سكينٌ حاد.»
يدخل إلى القبو، ويلتقِط سمكةً من ذيلها، ويضرب بها على لوح خشبي ذي ندوب متقاطعة من أثر السكين. يدخل أصبع كالخطَّاف في الخياشيم لتثبيت السمكة، ثم يقطعها من رأسها في ضربةٍ تُقطِّعها إلى شرائح على طول الخاصرة. يبدو أنه بالكاد يضغط بالسكين؛ إذ إنَّ كلَّ ما يفعله أنه يضع السكين في مكانه ويتساقط اللحم احترامًا لحافة النصل. ويستمر هكذا للأسفل وعلى طول الذيل، ثم يقلب السمكة، ويُكرِّر ما فعله على الجانب الخلفي. يقلب الشريحة، وينزع الجلد، ويُقشِّر ويُقطِّع إلى شرائح. إنَّه لحمٌ أبيض مصفر، طريٌّ كالمعجون، وشفَّافٌ بعضَ الشيء. ثم يضع الرأس والهيكل العظمي في المرفأ، والشرائح في دلو من الماء.
يمشي رجلٌ يرتدي قُبعة ذات أُذنَيْن من الفرو على طول المَعبر الخشبي، ويتوقَّف عند القارب، ويُومئ برأسه إلى بيورنار، ويرمقني بنظرةٍ خاطفة.
يقول بيورنار: «آها! هذا سفين. إنه صديقٌ قديم. لقد اصطدْنا معًا عدة مرات.»
وبينما يُباشر بيورنار عمله، يتجاذبان أطرافَ الحديث حول الصيد، واحتمال انطلاق تفجير زلزالي مرةً أخرى، ورحيل سمك القُدِّ مؤخرًا شَمَالًا إلى فينمارك.
يقول سفين: «سأتعقَّب سمك القُدِّ غدًا. وربما أُمضي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بعيدًا؟ فلا تزال لديَّ حصة. وربما أبحث عن سمك العفريت أيضًا.»
يُصطَاد سمكُ العفريت لأجل الحصول على بطارخه؛ فهي تُمثل نوعًا رخيصًا من الكافيار. ذلك حيث تُفتَح بطنه وتُستخرَج البطارخ الحمراء منها.
يقول سفين بتواضع، كما لو كان يعترف بتقديمه تبرُّعًا خيريًّا كبيرًا: «إنني دائمًا ما أتأكَّد من ذبح سمك العفريت قبل أن أستخرجَ بطارخه.»
ويستأنف قائلًا: «يقول بعضُ «دُعَاة حماية البيئة» إننا ينبغي ألا نقتل سمك العفريت من أجل بطارخه. ولكن بقية أجزاء السمكة لا تُؤكَل. فقط قطعتان صغيرتان من اللحم على الخَدَّيْن؛ ومن ثمَّ نأخذ البطارخ، ونقطع الخَدَّيْن، ثم نعيد ما تبقَّى من السمكة إلى النظام البحري. ذلك أن هذا النظام يقتاتُ عليه. إنهم لا يفهمون أن البحر يحتاج إلى الغذاء مِثلنا تمامًا.»
يُصدِر بيورنار نخيرًا. «أتوقَّع أن أعود — لا أدري كيف تقولها — في حياتي القادمة مُتجسِّدًا على هيئة سمكة عفريت. ولذا، فإنني دائمًا ما أذبحها قبل استخراج بطارخها، تمامًا مثلما أريدُ أن أُذبَحَ ويُجَزَّ عنقي قبل أن تُقتلَع أحشائي.»
أقولُ: «تَعامَلْ مثلما تَودُّ أن تُعامَل، إنَّها القاعدة الذهبية لأنْ يضع المرءُ نفسه محل الآخرين.»
•••
في وقتٍ مُبكر من بعد ظهر ذلك اليوم، جلسْنا لتناول سمك السيث مع الزُّبد والبطاطس بينما يرمقنا القطُّ ذو العينين اللتَين تُشبهان عينَي السحلية من أحد الأركان. فرَّغت إنجريد قِطعًا من سمك السيث من القِدر إلى صحن. يضرب بيورنار المائدة بكلتا قبضتَيْه، ويتلو صلاة المائدة: «إلهي! شكرًا لك على السمك الموجود في القِدر!»
فأقولُ له: «هذه نسخة أكثر تهذيبًا من تلك التي أخبرتَني بها على متن القارب.»
يضحك بيورنار ويضرب المائدة مرةً أخرى. «هناك لغة للبحر، وأخرى للبر!»
بعد الانتهاء من تناوُل الغداء، يصطحبني بيورنار في جولةٍ في أنحاء الجزيرة. يرتدي قُبعة الراكون مرة أخرى، ونحمل المنظار المُقرِّب لقوات الفيرماخت. وبينما يقود بيورنار الطريق ويتحدَّث، بدأتُ أفهم شيئًا من التعقيدات القديمة والمعاصرة في أندويا. فمن الناحية البيئية، هي جزيرةٌ تتكوَّن من أربع مناطق: القِمَم، والخُثُّ، والمُستنقعات، والشاطئ. جرفتها الأنهار الجليدية فجعلتها مسطحةً من جهة الشرق، وتركتها جبلية من جهة الغرب. مناطق كبيرة في الجزيرة مفتوحة أمام جميع الزائرين، ولكن هناك مناطق أخرى يسيطر عليها الناتو، ومُحاطة بأسوار عالية. إنها تُذكِّرني كثيرًا بجزيرة لويس في جزر هبرديس الخارجية: الخُثُّ، والعُزلة، والانفتاح، والإمكانات الجذابة نفسها للاستغلال الصناعي والاستعمار العسكري.
يقول بيورنار بينما نصطدِم في مسار جانبي على الساحل الغربي للجزيرة: «هل تعلم يا روب أنه إذا وقع انفجار في أحد أجهزة الحفر المعروضة، فإنه سيُدمِّر هذا الساحل. يضخ تيار الخليج الهواء داخل جميع المضايق وخارجها. وسوف ينتشر النفط في كل مكان. وإنَّ انفجارًا في لوفوتين من شأنه أن ينشر النفط على طول الطريق شَمالًا من هنا وحتى مقاطعة فينمارك. سيكون تيار الخليج حزامًا ناقِلًا للنفط.»
ما يخشاه بيورنار هو نسخة من «السولاستالجيا»، وهو المصطلح الذي وضعه جلين ألبريشت في عام ٢٠٠٣ ليعني به «شكلًا نفسيًّا أو وجوديًّا لمشاعر الضيق الناجمة عن التغيُّر البيئي.» كان ألبريشت يدرس آثارَ الجفاف الطويل الأجل، وأنشطة التعدين الواسعة النطاق على المجتمعات في نيوساوث ويلز عندما أدركَ أنه لا تُوجَد كلمة تصِف تعاسة الأشخاص الذين كانت الطبيعة تتبدَّل من حولهم بفِعل قوًى خارجة عن إرادتهم. ومن ثمَّ، اقترحَ مصطلحه الجديد لوصف هذا النوع المُميَّز من الحنين إلى الوطن. فبينما ينشأ ألمُ الحنين إلى الماضي من الابتعاد، ينشأ ألم السولاستالجيا من بقاء المرءِ في مكانه. وبينما يمكن تخفيف ألَم الحنين إلى الماضي بالعودة، يميل ألم السولاستالجيا إلى أن يكون بلا رجعة. لا تُمثل السولاستالجيا مرضًا خاصًّا بحقبة الأنثروبوسين — فقد نَعُدُّ جون كلير شاعرًا سولاستالجيًّا، حيث كان شاهدًا على موطنه الأصلي، نورثامبتون شير، بينما تُمزقه أعمال التسييج في العقد الأول من القرن التاسع عشر — ولكنه بالتأكيد مرضٌ ازداد مؤخرًا. كتبَ ألبريشت في ورقةٍ بحثية مُبكرة حول الموضوع: «في جميع أنحاء العالم، هناك زيادة في مُتلازمات ضائقة النظام البيئي، يُقابلها زيادة مُماثلة في مُتلازمات الضيق البشري.» تتعلق السولاستالجيا بحالةٍ غريبة ومعاصرة، حيث لا يتمكَّن المرءُ من التعرُّف على المكان المألوف له بسبب التغيُّر المناخي أو نتيجة مُمارسات إحدى الشركات؛ فيُصبح المكان المألوف لقاطنيه غيرَ مألوفٍ لهم.
يرى بيورنار نسرًا بحريًّا على الشاطئ. ويأخذنا المسار الجانبي إلى مسافةٍ أقرب إليه. نسير ببطءٍ عبر صفٍّ من المنازل الخشبية بالقُرب من الشاطئ. أشاهدُ النسر عبر المنظار المُقرِّب. إنه جاثم على جلمود عشب البحر. وجناحاه اللذان يبلغ طولهما أربعة أقدام يتدلَّيان حوله مثل عباءة فضفاضة.
هناك حركةٌ تصدُر من أحد المنازل. أصبع يزيح ستارةً ووجه يُحدِّق فينا بقلق.
يسأل بيورنار في حيرة: «لماذا ينظُر إلينا هذا الرجل بهذه الطريقة؟»
«يا بيورنار، لقد قرأتُ في روايات الجريمة الاسكندنافية ما يكفي لأعرف أننا نتصرف كثيرًا كالقتلة. رجلان في سيارة سوداء كبيرة ويرتديان نظارات داكنة، وأحدهما يرتدي راكونًا مَيتًا على رأسه، والآخر يتفحَّص وحدَه المنازل عبر منظار مُقرِّب. لا عجبَ أن ينظر إلينا الرجل مُتوجسًا.»
يضحك ضحكته المُجلجلة مرة أخرى. «يا لكَ من رجل طيب يا روب.» ويواصل القيادة. ويختفي الوجه عند النافذة.
تشوب الثلج الآن مسحةٌ من اللون الأزرق. وتهزُّ الرياح أرجوحة خشبية على الشاطئ. وتتسلَّق الظلال الأرجوانية قِمَم الجبال الشرقية. وتنقرُ نسور البحر جيفةً داكنة بعيدًا على بحيرةٍ مُتجمِّدة.
•••
في الأيام التالية، تهبُّ رياحٌ شمالية. ولا يمكننا الذهاب للصيد، ومن ثمَّ أذهبُ للتسلق في الجبال غرب أندويا، ثم أعود إلى منزل بيورنار بعد الظهيرة وفي المساء.
يظل الطقس صافيًا. ويتوهَّج النهار بضوءٍ مَعدِني لامع: الثلج الفضي، والشمس الذهبية، والظل أسود كالحديد. تُسهم الليالي المليئة بالنجوم في تجمُّد الثلج بشدة. وتصِل درجة الحرارة في الغابات إلى سالب ١٠ درجات مئوية ظهرًا. وتتسبَّب الريح في زوبعة من الأعاصير الحلزونية المتحركة من حُبيبات الثلج، أكبر بكثيرٍ من أي أعاصير رأيتُها في أسكتلندا أو جبال الألب. وتجوب مُنحدرات قِمم أندويا المواجهة للرياح. وبعضُها يصل ارتفاعه إلى مئات الأقدام. أشاهدُها عبر الوديان، تُغيِّر اتجاهها وسرعتها على نحوٍ مفاجئ، ويضرب الهواء قِمَمَها في الأرجاء كالأشجار في مهبِّ الريح.
ذات يوم رُحتُ أتزلَّج فوق وادٍ تعلوه ثلوجٌ عميقة، عبر غابات البتولا المُتناثِرة وصولًا إلى قاعدة كتفٍ جبلي. أخفيتُ الزلَّاجات وواصلتُ السير مشيًا على الأقدام، مُحدِثًا ثقوبًا في القشرة مع كلِّ خطوة. إنَّها مسيرةٌ صعبة ومُثيرة. يحمل الثلج سجلًّا أرشيفيًّا من آثار المسارات المطبوعة: أرنب ثلج بري، وثعلب، وغراب. تصلصل الريح على بشرتي وتضغط على عينيَّ. يهيم نحوي ماردٌ ثلجي بطول خمسين قدمًا، ويضربني بهسهسة يرتفع صوتُها ليُصبح هديرَ طقطقة، ثم يطوف عبر المنحدر في صمتٍ. أشعرُ كأنَّ شبحًا قد مَرَّ بي. وعلى الهضبة، نحتت الرياحُ تشكيلاتٍ عجيبةً في الثلج. وينتشر جليد الصقيع كالريش على الجلاميد. وتنزلق ظلال السُّحب فوق القمم غربًا. ويطارد طائرٌ جارح فريسته عبر غابات البتولا تحتي في الوادي. إنه أحد أكثر الأماكن نقاءً التي زُرتُها على الإطلاق، على الرغم من أنني أعرفُ أن هذا مجرد وهْم. أجلسُ في الجانب المحجوب عن الرياح من الجرف، مُمتَنًّا لظلِّ رياحه.
وعند عودتي عبر الهضبة، أعثر على آثار أقدامي وأتَّبعها. لقد أزاحت الرياح بالفعل الثلج الذائب حول آثار أقدامي بحيث بدأت تبرُز من الثلج، كأنَّ الزمن كان يسير في الاتجاه المعاكس، وما انضغطَ أسفل السطح صارَ يرتفع الآن.
بعد ظهر ذلك اليوم، أنزلُ إلى أحد الشواطئ في الشَّمَال الغربي لأندويا. هناك جزيرةٌ صخرية على شكل زعنفة ظهر القرش على بُعد بضع مئات الياردات من الشاطئ. تدور حولها مئاتُ الطيور البحرية. المَدُّ منخفض، ورمالُ الخليج منثور عليها مقذوفات البحر، التي معظمها من البلاستيك. وهنا، كما في لوفوتين، كثافة الحُطَام البشري مُروِّعة. عوامات الصيد، وفُرشات الأسنان، وزجاجات التبييض، وشِبَاكُ الصيد المتشابكة، والآلافُ من الشظايا المجهولة الهُويَّة.
أشعرُ بالغثيان وأنا أسيرُ في خَطِّ الحُطَام بفضلاته المُريعة قُبالة الهضبة، التي أُضمِّنها في المشهد. كان هذا كلُّه نفطًا في يومٍ من الأيام. أرى النفطَ — ذلك «المُحوِّل الوحشي» — في كلِّ هذه الأشياء؛ فهو عنصرٌ حيوي في تصنيع البلاستيك الذي لم يمر على صناعته الأولى سوى قرنٍ واحد من الزمان. أفكِّرُ في الصور الفوتوغرافية التي شاهدتُها مؤخرًا لسرطان البحر الناسِك في جزيرة هندرسون المرجانية النائية في المحيط الهادئ؛ حيث يظهر في إحدى الصور سرطانٌ بحري اتخذ رأسَ دمية بلاستيكية صدَفةً له، ويظهر في صورةٍ أخرى أنبوبٌ فارغ من كِريمٍ ليلي ماركة إيفون. البلاستيك هو المادة التي تُمثِّل الحاوية الأمثل لنا، وهو الآن ينتشر على نطاقٍ واسع في أنظمة الاحتواء المتوفرة لدينا. فالمواد التي صنعناها تتراكم من حولنا بلا هوادة، وتُشكِّل ماضيًا غير غائب بالمرة. على مدى القرنَيْن الماضيين، وبالتحديد في الخمسين عامًا الماضية، أدَّت معدلات إنتاجنا واستهلاكنا الهائلة وتخلُّصنا من المنتجات إلى ظهور «إمبراطورية الأشياء» بحياتها المادية الجامحة، «طوبوغرافيا مُتضخِّمة من نفايات الحَداثة»، كما كتبَت ثورا بيتورسدوتير وبيورنار أولسن: «التي تُطالعنا على نحوٍ مُتزايد بوجودها المزعج، على الرغم من الأنظمة الأكثر فاعلية في التخلص من النفايات.» كما تقبع النفاياتُ النووية في قوارير مكسوَّة بالزجاج بانتظار دفنها في الأماكن المُخصَّصة لذلك تحت الأرض. وتتراكم النفايات البلاستيكية في البحار والسواحل. كما يتراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. أتذكَّرُ العبارة الموجَزة والقاتلة ذات السطر الواحد لدُون ديليلو في روايته «العالَم السفلي»: «ما نطرحه يعودُ ليَستنفِدنا.»
هذه المواد المتنوعة المندفعة بقوةٍ وازدياد من حقبة الأنثروبوسين هي ما يُسميه تيموثي مورتون «الأجسام المفرطة»: كياناتٌ يستحيلُ علينا إدراكُها في مُجمَلها المُشتَّت «اللزج»، ويَصعُب علينا الحديث عنها. كما أدَّت أنشطتنا المُتراكمة إلى إنتاج نوع جديد من الصخور يُسمَّى «البلاستيكلوميرات»؛ وهو تخثرٌ صلب يحتوي على حبيباتٍ رملية، وأصداف، وأخشاب، وأعشاب بحرية، جميعها مُتماسكة معًا بواسطة البلاستيك المصهور الناتِج عن إحراق مُخلَّفات الشاطئ في نيران المُخيمات على أيدي البشر. عرفَ علماءُ الجيولوجيا البلاستيكلوميرات لأول مرة على شاطئ كاميلو في هاواي، ونظرًا لقوة تحمُّلها وتكوينها المُميَّز، فقد اقتُرحَت على أنها العلامة المُميِّزة لطبقات الأنثروبوسين في التصوُّرات المُمكنة للمستقبل. إنَّ البلاستيكلوميرات هي بالتأكيد مادة ترمز لعصرنا. وهي مصنوعة من مادة لزجة ترتبط بمواد أخرى وتُخثِّرها، وهي مُتولِّدة من جيولوجيا جديدة في غير محلها تمارِس نوعًا من جمع العينات وتعيد خلطها، وتمزج بين ما هو طبيعي وما هو اصطناعي في هجين عجيب.
في رأيي، ربما تكون اللزوجة هي إحدى التجارب المُميِّزة لحقبة الأنثروبوسين كما عِيشَتْ هناك على الشاطئ. جميعنا متورطون في آثار هذه الحقبة؛ حيث ساهم كلٌّ منا في تكوينها وموروثاتها. في الأنثروبوسين، لا يُمكننا الابتعاد عن الطبيعة بسهولة، حيث نُبقيها على مسافة ذراع إعجابًا بها أو سَبْرًا لأغوارها. لم تَعُد الطبيعة مجرد قمة بعيدة تسطع في ضوء الشمس، أو طير جارح يُطارد فريسته فوق غابات البتولا، بل أصبحت أيضًا خطوط مَدٍّ مُثخَنة بالبلاستيك المنجرِف، أو مركَّبات الميثان المُشبكة التي تحلَّلت على مدى ملايين الأميال المربعة من الأرض الدائمة التجمُّد الاحترارية. إنَّ هذه الطبيعة الجديدة تُحيِّرنا بطرقٍ بدأنا للتوِّ في فهمها. كما هو الحال مع الخيوط اللاصقة للبلاستيك الحريري الذاتي الإحكام الذي ينجرف للأسفل من مروحياتٍ من «الأشخاص الجُدد» في نهاية رواية جون ويندهام التحذيرية المُنذِرة «الميلاد الجديد» أو «الانبعاث» (١٩٥٥) — وعنوانها الأصلي «أوانُ التغيير» — فكلَّما ناضلنا لإبعاد أنفسنا عن الأنثروبوسين، أصبحنا عالقين أكثر في شرَكِه.
•••
«تعالَ يا روبرت، سنمشي معًا مرةً أخرى، حان دورك لاعتلاء العرش.»
إنَّه يوم جمعة جيد في أندويا، وهو آخر يومٍ لي مع إنجريد وبيورنار. لقد تناولنا جميعًا الغداء معًا: ألسنة سمك القُدِّ، وشرائح سمك القُدِّ، وشرائح السيث الرفيعة، وبطاطس وردية نُقشرها على الشوكة.
نسير إلى الشاطئ، ونخطو بحذَر على الغطاء الجليدي الذي يقع فوق الحقول المنحدرة، وأقدامنا مُسطحة تمامًا. وتهبُّ الرياح من جهة الشَّمَال شديدة البرودة. تلسع كاحليَّ وتحرق قصبة ساقيَّ. وأنفاسُنا كالصوف الخشن.
على حافة الماء يستقرُّ عرش الخشب المجروف الطافي. وعلى جانبه، رُفِعَ حجرٌ قائم صغير وثُبِّتَ عميقًا في الأرض.
يقول بيورنار بابتسامةٍ هادئة: «إلهي هو إله الحجر. لا حاجة لي بإلهٍ سواه.»
ثم زمجر مرةً أخرى، رافعًا صوته بالضحك ومُربِّتًا على ذراع العرش.
«تعالَ! يا ماكفارلن! اجلِسْ هنا وكُنْ ملك أندويا لبضع دقائق.»
أرجلُ العرش وظهره مصنوعة من جذوع البتولا التي في سُمك مِعصمي. ظهره وقاعدته عبارة عن ألواح مُثبَّتة بالمسامير من الأخشاب المجروفة، التي أُزيلَ لحاؤها من جهة الظهر. وذراعاه عبارة عن طرَفَيْن من الأخشاب المجروفة. ويبلغ ارتفاعه حوالي ثمانية أقدام، ويرتفع مقعده بمقدار أربعة أقدام عن الأرض. إنَّه كرسيٌّ يصلح أنْ تتسلَّقَه تسلُّق الجبال.
أعتلي العرش، وألقي نظرةً على المضيق البحري. أسمعُ صوتَ زقزقةٍ وأزيز صادرًا من طائر ذي أجنحة بيضاء، وأرى زوبعة ثلجية يُحدِثها طائر دُرَسَة الجليد الذي يظهر مارًّا بنا ومُحلِّقًا فوق الأمواج.
يقول بيورنار مشيرًا إلى الصخور أمام العرش: «هذا هو المكان الذي أترك فيه السمك للنسور. وعندما تأتي الحيتان القاتلة، نراها في القناة القريبة. إنَّها تتنقَّل من أرض صيدٍ إلى أخرى، وهي دائمًا واثقة تمامًا من وجهتها.»
وعلى طول الشاطئ من العرش مباشرةً، يُوجَد أنبوبٌ عمودي صَدِئ، يبرز على ارتفاع ستة أقدام من الخط الساحلي. وهناك ثلاثُ زجاجاتٍ بلاستيكية بجواره على الشاطئ.
ورحت أسأله: «ما ذاك يا بيونار؟»
بدا فجأة مُتعبًا وحزينًا. وعيناه دامِعتان. وراحَ يُحرِّك فكَّيه في صمتٍ وكأنهما التصقا معًا، وقد التصَق فمُه في أعلى حَلْقه. لا يُجيبني، ثم يقول بهدوءٍ — كأنَّه لم يُخبرني من قبل، وكأنَّه يقول ذلك لنفسه أو للرياح — «مارَسوا تفجيراتهم على مدى ثلاث سنوات، وتصدَّيتُ لهم على مدى ثلاث سنوات. وها هم الآن يعيدون الكَرَّة. كلُّ شيءٍ يعود ويُعيد الكَرَّة.»
ثم يقول: «كفَى يا روب. يجب ألا نذهب لأبعد من ذلك. إنَّ الطقس شديدُ البرودة.»
نسير بحذَرٍ فوق الحقول الجليدية إلى المنزل.
«بعد ظهر ذلك اليوم، جلستُ ألعبُ مع الطفلة سيجريد، حيث أجعلها تثبُ على رُكبتيَّ بينما أُدندنُ بموسيقى ويليام تيل وأغنية الأطفال «وداعًا يا حبيبتي بونتينج».» إنَّها شديدة البهاء وعيناها زرقاوان شاحبتان.
قبل أن أُغادر، أساعدُ في تحريك كرسي تدليكٍ جَلَبَه ابن بيورنار له، أُمسكُ به قبل أن ينزلق. نسحبه من السيارة ونضعه في قبو المنزل. إنَّه ثقيل جدًّا، ومصنوعٌ من الجلد الأسود، وبه وحدة تحكُّم في إحدى ذراعَيه مع تجهيزاتٍ مُتعددة للاسترخاء الأمثل لمختلف المجموعات العضلية.
تقول إنجريد بلطفٍ: «سيكون مفيدًا لظهره.»