بيضة الفيل

قال الشيخ: الفيَلة تلِد ولا تبيض؛ والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بَيضها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء؛ يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء. واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بَيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بَيضته لونًا آخر غير البياض؛ فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوته ونابه، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البَيضة لونًا غير البياض، فقد يكون الحيوان صغيرًا كالذبابة أو كبيرًا كالنعامة، قويًّا كالعُقاب أو ضعيفًا كالحمامة، بِناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبَيضة هي هي في لونها بيضاء لا تتغيَّر؛ ومما يزيد هذه الحجة وزنًا ورجحانًا هو أن الخلائق تجري على اطِّراد وتشابُه، فالكواكب مُتشابِهة والبحار مُتشابِهة والطير مُتشابِه والحيوان مُتشابِه؛ فلو قيل مثلًا: إن حيوانًا جديدًا سيُولَد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين؛ وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بَيضة الفيل لو باض. وأما دليل اللغة فهو أن البَيضة مُشتَقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبَيضة فرع منه، ولا يُعقَل أن يتفرَّع عن البياض حُمرة أو زُرقة؛ لأن الفرع شبيه دائمًا بأصله، ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.

ثم استطرد عمارة فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قَدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجمًا بهذا القَدر كله؛ بل لأنه في قوته يُوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البَيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتصغر بَيضة الحيوان أو تكبر بمِقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمِقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيَّد عمارة قوله هذا بأمثلة ساقَها تدُل على أن الحيوان ربما كان كبيرًا وباض بيضًا صغيرًا، أو كان صغيرًا وباض بيضًا كبيرًا.

ثم تساءل عمارة أيضًا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغيَّر لو باض، فيكون ذا جناحين ليتَّخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته، فالسمك يخرج من البَيض وليس له أجنحة؛ بل له زعانف تُساعِده على السبح ولا تُساعِده على الطيران؛ وبَيض الفراش وبَيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدُّود ولا تخرج منه ذوات الجناح؛ وإذن فقد يخرج من بَيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.

وأخيرًا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بَيضة الفيل، أيحِل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة أن بَيضة الفيل حلال أكلها بشرط، حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تُكسِب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خِيف أن تُكسِبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجًى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان. بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بَيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجَب فهو الفقيه العالم الذي سارَت بفتاواه الركبان فيما تعذَّر حَله على غيره من العلماء.

وتصدَّى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بَيضه أبيض، ولذلك فبَيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطِّرادًا مع القاعدة: إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع، فليس صحيحًا أن كافة الحيوان الذي يبيض بَيضه أبيض؛ فبَيض البط فيه خُضرة خفيفة، وبَيض الدجاج في بعضه حُمرة خفيفة، ومن الطير ما بَيضه أرقَط، ومنه ما بَيضه أزرق. وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البَيضة مُشتَقة من البياض ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معًا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البَيضة مُشتَقة من البياض، فليس هذا دليلًا على أن البَيضة بيضاء لأنها بَيضة، بل هو دليل على أنها بَيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتَّبنا مراحل الاستنتاج ترتيبًا صحيحًا، وقُلنا إن البَيضة بَيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأ، لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول إن هذا الجدار بَيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بَيضة لأنه أبيض، وهلمَّ جرًّا.

وبعد أن فنَّد معسرة أقوال عمارة، بسط رأيه في لون بَيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ لا بد أن يُنتِج شذوذًا، وإلا لما تكافأت المُقدِّمات والنتائج؛ والشذوذ في البَيض أن يكون أسود، ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بَيضته سوداء، إذ لو باض بَيضة بيضاء، كُنا بمثابة من يقول إن الحيوان الشاذ تتفرَّع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقُض بين الصدر والعجُز.

وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب، فتصدَّى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة وهو شيخ المناطقة في زمانه، قد زَل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو يُنكِر أن يكون للبَيض لون خاص، ويزعم أن من البَيض ما هو أزرق أو أرقَط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانًا شاذًّا وجب أن يكون بَيضه شاذًّا في لونه كذلك، والشذوذ في البَيض أن يكون أسود؛ فكيف يكون الشذوذ سوادًا إذا لم تكُن القاعدة بياضًا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نُسائل هذا العالم المَنطِقي: أصحيح أن الشاذ لا يُنتِج إلا شاذًّا؟ أيظُن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا حية، فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج يُنسِل من يمشي على قدميه، كما يُنسِل الأعمى من يُبصِر بعينيه؛ فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بَيضة تجري مع الإلف والعادة؟

قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء.

•••

وزُلزِلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلة ذَرية، في لمحة تقضي على الأصل والذُّرية.

قيل: فعجِب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤