مدخل

الفصل الأول: مصادر تاريخ أبي الطيب

تراجم أبي الطيب وأخباره كثيرة في كتب المتقدمين والمتأخرين، ولكن كثيرًا منها قول مُعاد ينقله اللاحق عن السابق لا يُعنى فيه بنقد ولا ترتيب، وقلَّ أن يذكر سنده من راو أو كتاب، فينبغي للباحث في تاريخ هذا الشاعر أن يردَّ الروايات المكررة إلى أصولها، ثم يقارن هذه الأصول بعضها ببعض ليعرف وجوه الوفاق والخلاف فيها، ثم يتبين الرواية الوثقى من بينها.

والمراجع التي أعدها أصولًا لتاريخ أبي الطيب هي:
  • أولًا: كتب المعاصرين:
    • (١) شرح أبي الفتح بن جني لديوان الشاعر، وكان أبو الفتح صديقًا له، وقرأ عليه ديوانه، وسأله، وجادله في كثير من أبياته، وأثبت هذا في شرحه: ولد أبو الفتح قبل سنة ٣٣٠ وتوفي سنة ٣٩٢.
    • (٢) وترجمة الشاعر في كتاب إيضاح المشكل من شعر المتنبي لأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني الذي ألفه ليردَّ على ابن جني بعض تفسيره لديوان أبي الطيب. وقد أدرك الأصفهاني أبا الطيب وعاصر ابن جني، وألَّف كتابه هذا لبهاء الدولة بن بويه.

      وهذه الترجمة مثبتة باختصار في الجزء الأول من خزانة الأدب للشيخ عبد القادر بن عمر البغدادي، ولم أقف على الإيضاح نفسه.

    • (٣) وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني (٢٩٠–٣٦٦ﻫ)، وهو كتاب نقد ليس فيه من أخبار الشاعر شيء.
    • (٤) ويلحق بكتب المعاصرين كتاب يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر لأبي منصور محمد بن عبد الملك الثعالبي النيسابوري (٣٥٠–٤٢٩ﻫ)، وفيه فصل مسهب في شعر أبي الطيب افتتحه واختتمه ببعض أخباره.
  • ثانيًا: كتب الثقات من رجال القرن الخامس الهجري وهي:
    • (١) شرح أبي العلاء المعري لديوان الشاعر وهو الشرح المسمى «معجز أحمد» وفيه تفصيل كثير من الحوادث التي قيلت فيها القصائد، وكثير من الروايات يرجع إلى الشاعر نفسه، ولا أظن القصص التي بالشرح من رواية أبي العلاء ولكنها روايات أثبتت في نسخة الديوان التي شرحها.

      وقد عاش المعري بين سنة ٣٦٣ و٤٤٩ﻫ.

    • (٢) وشرح علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة ٤٦٨ﻫ، وفيه نُتف قيِّمَة من أخبار الرجل، ويظهر أنه رواها عن شيخه أبي الفضل العروضي (أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف) وقد روى العروضي ديوان أبي الطيب عن رواة كثيرين.
    • (٣) وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ، وترجمة أبي الطيب في الجزء الرابع منه، وهي منقولة في طبقات الأدباء لابن الأنباري، مع زيادة.
  • ثالثًا: من كتب المتأخرين:
    • (١) معجم الأدباء لياقوت الحموي؛ وليس فيها ترجمة لأبي الطيب، ولكن شذرات عنه متفرقة في تراجم الأدباء.
    • (٢) والصبح المنبي عن حيثية المتنبي للشيخ يوسف البديعي المتوفى سنة ١٠٧٢ﻫ، وهذا ليس أصلًا فيما يرويه ولكنه تضمن روايات كثيرة مفيدة، عن كتب مفقودة.
  • رابعًا: نسخ الديوان المشتملة على أخبار الشاعر، والحوادث التي قيل فيها الشعر، ولا سيما النسخة المكتوبة سنة ٦٠١ﻫ، المحفوظة بدار الكتب المصرية (٥٣٠ – أدب) فيها كثير من أخبار الشاعر، وتفصيل الحادثات التي نظمت فيها القصائد، وفيها كذلك تفسير مثبَت بين أبيات القصائد مروي عن الشاعر نفسه؛ ولكن النسخة ناقصة، وصفحاتها مختلة الترتيب، ثم النسخة (٥٤٢ – أدب) بدار الكتب أيضًا. وتشبه النسخة الأولى نسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد كتبت سنة ١٠٤٧ﻫ، وهي كثيرة التحريف كتبها نَسَّاخ جاهل لا يفرق بين النظم والنثر، وتشبه في كثير من أخبارها نسخة شرح المعري كذلك.

الفصل الثاني: القرن الرابع الهجري

أبو الطيب المتنبي من شعراء القرن الرابع الهجري، نشَّأته آدابه وعركته حوادثه، وكان لأحوال ذلكم القرن أثر بيِّن في شعره، فيجمل أن أقدم كلمة عن الحال السياسية والأدبية إذ ذاك، ولا أفيض في هذا، فجمهور المتأدبين يعرفون ما لا بد من معرفته منه، وإنما هي تذكرة أمَهد بها للكلام في سيرة ذلكم الشاعر العظيم:

(١) الحال السياسية

كان سلطان الأمويين قائمًا في البلاد الإسلامية كلها، فلما أديل منهم للعباسيين استقلت الأندلس فلم يقم فيها للعباسيين سلطان.

وفي عهد هارون الرشيد خامس الخلفاء العباسيين (١٧٠–١٩٣ﻫ) نشأت للعلويين دولة في المغرب الأقصى هي الدولة الإدريسية (١٧٢–٣٧٥ﻫ) فخشي الرشيد أمر هذه الدولة الناجمة في أقصى الأرض فأقام إمارة بني الأغلب في إفريقية (١٨٤–٢٩٥ﻫ).

ثم منح المأمون قائدَه طاهر بن الحسين ولاية خراسان سنة ٢٠٥، فنشأت لبني طاهر إمارة استمرت إلى سنة ٢٥٩.

ثم كان عهد الدول الكبيرة التي استقلت بالسلطان على رغم الخلفاء وإن اعترفت لهم بالخلافة.

قامت الدولة الصفارية في فارس (٢٥٤–٢٩٦ﻫ)، ثم نسختها دولة السامانيين في فارس وما وراء النهر (٢٦٩–٣٨٩ﻫ).

وفي مصر والشام نشأت الدولة الطولونية (٢٥٣–٢٩٢ﻫ)، وبعد ثلاثين سنة من انقضاء هذه الدولة استقل محمد بن طغج بمصر ولقَّبه الخليفة الراضي بالله العباسي بالإخشيد، وبعد قليل استولى على الشام والحجاز. وكان الأمر بعد وفاة الإخشيد سنة ٣٣٤ في يد مولاه كافور وصيًّا إلى أن انتحل الملك سنة ٣٥٥، وفي كافور يقول أبو الطيب:

يصرِّف الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الشام فالنُّوب
إذا أتتها الرياح النُّكب من بلد
فما تهبُّ بها إلا بترتيب
ولا تجاوزها شمس إذا شرقت
إلا ومنه لها إذن بتغريب
يصرِّف الأمر فيها طينُ خاتَمه
ولو تطلَّس منه كل مكتوب

وبعد قليل من وفاة كافور استولى الفاطميون على مصر، وقد قامت دولتهم في إفريقية وما يليها إلى الغرب سنة ٢٩٧ واتسع ملكها حتى استولت على مصر سنة ٣٥٨ ومدَّت سلطانها على الحجاز ومعظم الشام، وكان في شمالي الشام وما يليه دولة بني حمدان، وسنذكرهم من بعد.

ففي النصف الأول من القرن الرابع، وهو عصر المتنبي، لم يكن في أيدي العباسيين إلا العراق والجزيرة، ولم يكن الأمر في هذه البقاع بأيدي الخلفاء، بل كان السلطان للمتغلبين من القوَّاد والكبراء. وحدث سنة ٣٢٤ لقب أمير الأمراء يلقِّب به الخليفةُ الأميرَ المتغلب على دار الخلافة حتى استولى بنو بويه على بغداد سنة ٣٣٤، وقد بقي سلطانهم بها إلى سنة ٤٤٧.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤: «وتغلب أصحاب الأطراف وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها والحكم في جميعها لابن رائق ليس للخليفة حكم.

وأما باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، وكرمان في يد علي محمد بن إلياس، والري وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه وفي يد وشمكير أخي مرداويج يتنازعان عليها، والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن طُغُج، والمغرب وإفريقية في يد أبي القاسم القائم بأمر الله ابن المهدي العلوي وهو الثاني منهم ويلقب بأمير المؤمنين، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد الساماني، وطَبَرستان وجُرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القرمطي.»

وكان القرن الرابع الهجري قرن ثورات وفتن ونزاع ومحاربة، كثر فيه الثائرون من العلويين والمتخذين الدعوة العلوية وسيلة إلى المجد والسلطان، وكثرت غارات الأعراب والخوارج، وكثرت كذلك دعاوى المتنبئين وأصحاب المقالات الضالة.

وكانت الدعوة الشيعية التي اشتدت في القرن الثالث قد أدت في أواخره إلى قيام الدولة الشيعية الكبيرة دولة الفاطميين، فقويت بها دعوة الشيعة في المشرق وعظمت آمالهم.

وقد ذكر أبو الطيب الفاطميين في القصيدة التي مدح بها طاهر بن الحسين العلوي بالرملة سنة ٣٣٦:

كذا الفاطميون الندى في أكفِّهم
أعزُّ امِّحاءً من خطوط الرواجب

وذلك قبل استيلائهم على مصر والشام بنحو خمس وعشرين سنة. وقد كثرت الدعوات العلوية في ذلك العصر.

يقول ابن الأثير في حوادث سنة ٣٠٣: «ظهر بالجامدة رجل زعم أنه علوي فقتل العامل بها ونهبها وأخذ من دار الخراج أموالًا كثيرة.»

ويقول في حوادث سنة ٣١٢: «ظهر عند الكوفة رجل ادعى أنه محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وهو رئيس الإسماعيلية، وجمع جمعًا عظيمًا من الأعراب أهل السواد واستفحل أمره في شوال فسُيِّر إليه جيش من بغداد فقاتلوه فظفروا به وانهزم وقتل كثير من أصحابه.»

وفي ذلك العصر ظهر أعظم الفرق إفسادًا، القرامطة الذين لبثوا زهاء ثلاثين سنة ينشرون الفزع في جزيرة العرب والحجاز والشام، ولا تكاد تخلو سنة في ذلك العصر من غارة لهم على بلد أو قطع طريق على الحجاج وغيرهم. وقد أغاروا على مكة سنة ٣١٧ﻫ، تحت إمرة أبي طاهر وقتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود.

ثم توالت الوقائع حتى اضطر الخلفاء العباسيون أن يراسلوا أبا طاهر ليقرُّوه على البلاد التي في سلطانه ويردَّ الحجر الأسود ولا يتعرض للحجاج، فأجاب إلى مسالمة الحجاج، وأبى ردَّ الحجر.

وقد لقيت الكوفة بلدة أبي الطيب منهم أهوالًا، أغاروا عليها سنة ٣١٢ ثم رجعوا سنة ٣١٥ فهزموا جند الخلافة وأسروا قائده يوسف بن أبي الساج، وأخذوا الأنبار وتوجهوا نحو بغداد ففزع أهلها ولكنهم لم يدخلوها، وكذلك توجهوا إلى الكوفة سنة ٣١٦ فوُجه إليهم الجند فانصرفوا عنها، ولكن جماعة ممن يرون رأيهم ظهروا في جهات من العراق ونزلوا بظاهر الكوفة وجبوا الخراج، ولم تسلم الكوفة من غاراتهم سنة ٣١٩ و٣٢٣ و٣٢٥.

وكان إلى هذه المصائب غارات الأعراب، وظهور بعض الخوارج: في سنة ٣١٥ دخل جماعة من الأعراب الكوفة وأخربوا سورها وأخربوا الحيرة أيضًا. وسنة ٣١٨ أغار بنو نمير وبنو كلاب وعاثوا بظاهر الكوفة فخرج إليهم أمير الكوفة فأسروه.١

ولما رجع أبو الطيب إلى وطنه بعد خروجه من مصر شهد غارة بني كلاب على بلدته واشترك في حربهم، وتتصل بهذه الحادثات قصيدته في مدح القائد دلير، كما في الفصل الخامس عشر، وكذلك سجلت كتب التاريخ حوادث لبعض الخوارج في ذلك الوقت.

وكذلك كثرت دعوات المتنبئين في ذلك العصر: ففي سنة ٣٢٢ قبل الواقعة التي سجن فيها أبو الطيب بسنتين ظهر بباسند من أعمال الصغانيان رجل ادَّعى النبوَّة فقصده فوج بعد فوج، واتبعه خلق كثير وحارب من خالفه فقتل خلقًا كثيرًا ممن كذبه فكثر أتباعه،٢ وفي السنة نفسها قُتل في بغداد أبو جعفر الشلمغاني الذي ذهب مذهبًا غاليًا في التشيُّع والتناسخ وحلول الألوهية فيه.

وكان لهذا الاضطراب في السياسة والآراء، ولهذه الثورات الكثيرة والدعوات المتوالية أثر بالغ في نفس أبي الطيب الثائر الطموح كما سنرى.

(٢) الآداب والعلوم

لا ريب أن العلوم والآداب تنمو وتزدهر في ظلال الأمن والرخاء وفي رعاية الدول الرشيدة التي ترفع شأن العلماء والأدباء وتحرضهم على الجد والاستقصاء، وتوفر لهم من أسباب العيش والكرامة ما يمكنهم من العكوف على الدرس والتأليف، فعظمة الأمة السياسية، واستقرار الأمور ورغد العيش فيها تستتبع اهتمام الناس بالعلوم، وكلفهم بها، ولكن نمو العلوم والآداب وازدهارها ثم ذبولها وجفافها يتقلب في أطوار مديدة بطيئة لا تساير الأطوار السياسية، فإذا نمت العلوم في أمة قوية لا تؤتي ثمارها إلا بعد زمن مديد، وربما يوافق ازدهارُها زمن الضعف السياسي في الدولة التي نمت في ظلالها، وكذلك أطوار ضعفها وزوالها تتم في عصور طويلة، فلا ينبغي أن تقاس حال العلوم والآداب بالأحوال السياسية، ولا يجوز أن تلتمس في التاريخ مسايرة رقي العلوم وتدليها للقوة السياسية والضعف وإن يكن لاضطراب السياسة أثر سيئ في العلوم والآداب، ولاستقرارها أثر حسن فيهما.

وكذلك كان القرن الرابع الهجري: اضطربت فيه السياسة وكثر المتغلبون، واضطرمت بينهم نيران الحرب، وكثرت الثورات والغارات؛ ولكنه كان مع ذلك عصرًا مخصبًا بالعلوم والآداب، فما زال العلماء والأدباء منذ القرن الثاني الهجري يفكرون ويبحثون ويؤتون الناس ثمار عقولهم، ويخلِّدونها في الكتب ميراثًا لمن بعدهم، حتى كان القرن الرابع، فإذا ثروة عظيمة زاد العلماء عليها واجتهدوا في نقدها وترتيبها.

ثم كثرةُ الدول أدَّت إلى تنافس الملوك في المجد وحسن السمعة وبعد الصيت فحرَص كل ملك على أن يجذب إليه العلماء والأدباء، ويكثر حوله الشعراء ليَذيع صيته ويَخلد اسمه بما يؤلَّف من الكتب له، وما ينظم من الشعر في مدحه، ويكفي في هذا نظرة إلى الأدباء والعلماء الذين التفوا حول أمراء المسلمين في المشرق والمغرب.

انظر كيف ازدحم العلماء والأدباء والشعراء حول سيف الدولة على ضيق ملكه، وقلة ثروته.

كان القرن الرابع يموج بالشعراء ولكنهم كانوا أقلَّ ابتكارًا وأصالة من شعراء القرن الثالث، وإذا استثنينا أبا الطيب لم نجد فيهم من يُقاس بأبي نواس وأبي تمام والبحتري.

وأما الكتابة فكانت في هذا القرن أوسع موضوعًا، وأصفى أسلوبًا، وأبعد فكرًا، وأوضح منطقًا، وتناولت أغراض الشعر المألوفة من المدح والهجاء والغزل والوصف والمواعظ وغيرها، فاتسع المجال في النثر لذوي الأفكار الثاقبة، والقلوب الفياضة، خلصوا فيه من الأوزان والقوافي، ولكنهم جمَّلوه بالتقسيم والسجع، فنبغ في هذا القرن أئمة الكتاب في المشرق والمغرب.

وليس يتسع المجال لتفصيل الكلام عن شعراء القرن الرابع وكتَّابه فحسبي أن أذكر من شعراء المشرق، الشريف الرضي وتلميذه مهيارًا، وأبا فراس الحمداني، وابن نُباتة السعدي، وأبا العلاء المعري، وأبا الحسن التهامي، والسريَّ الرفَّاء، والناشئ وأبا الفرج الببغاء، وغير هؤلاء كثيرون ذكرهم الثعالبي في اليتيمة. ومن شعراء المغرب ابن عبد ربه وابن هانئ وابن عمَّار وابن خفاجة وابن اللبَّانة وابن زيدون. ومن الكتَّاب في هذا العصر ابن العميد، وابن عبَّاد، والصابي، والهمذاني، والخوارزمي، والبُستي، وأبو حيَّان التوحيدي، وابن زيدون، وابن عبدون.

ومن الأدباء المؤلفين الآمدي صاحب الموازنة، وأبو علي القالي صاحب الأمالي، وأبو الفرج صاحب الأغاني، والجرجاني صاحب الوساطة، والثعالبي صاحب اليتيمة، والصُّولي صاحب الأوراق.

ومن أئمة اللغة والنحو الذين توفوا في النصف الأول من القرن الرابع الزَّجَّاج والأخفش الصغير، ومحمد بن عرفة نفطويه، وابن مجاهد، وابن دُريد وابن السراج، وابن الأنباري، والمطرز أبو عُمر الزاهد، وابن درستويه، والجوهري.

وممن توفوا في النصف الثاني من هذا القرن، الأزهري، وابن فارس، والسيرافي، وابن خالويه، وأبو علي الفارسي، وأبو الفتح بن جني، وأبو الحسن الرماني، وكلهم إمام في علمه، مبرز في موضوعه.

وإجمال الكلام أن القرن الرابع كان من أزهى العصور الإسلامية في كل ما تناولته الحضارة العربية الإسلامية من علم وأدب.

(٣) الكوفة

وُلد أبو الطيب بمدينة الكوفة ونشأ بها وتعلم، ولست في حاجة إلى الإبانة عن مكانة الكوفة والبصرة في تاريخ العلوم العربية والدينية، وأن هاتين المدينتين كانتا مهد هذه العلوم ولبثتا زهاء ثلاثة قرون مثابة للعلم والأدب.

وكانت الكوفة في عهد المتنبي لا تزال ذات مكانة في الأدب عظيمة؛ على أننا لا نُعْنَى بتاريخ الكوفة وحدها في سيرة المتنبي فقد ورد بغداد وأخذ عن أدبائها وناهيكم ببغداد حاضرة العلوم والآداب في ذلك العصر، وسنعرف عما قليل شيوخ المتنبي الذين درس عليهم، وفيهم الكوفي والبغدادي.

وكذلك عاش أبو الطيب حقبة في الشام، وأقام في مصر سنتين ولقي الأدباء والعلماء، وتردَّد على الجامع العتيق (جامع عمرو في الفسطاط)، وكانت به مجالس العلم والأدب.

الفصل الثالث: ديوان أبي الطيب٣

المرجع الأول لتاريخ كل شاعر ديوانُه الذي سجل فيه آراءه وعواطفه ووصف وقائع مختلفة عرضت له أو لأهل عصره.

فديوان أبي الطيب أول عمدة في تاريخه، وأجدر مراجعه بالبحث والتمحيص.

وكان سلفنا لا يقبلون رواية شفوية أو مكتوبة إلا بسند يصلها بمصدرها، فإذا سرنا على آثارهم فلا بدَّ لنا بادئ بدء أن نتثبت من أن هذا الشعر الذي بأيدينا والذي يسمي ديوان المتنبي هو كله من كلامه، وأنه يجمع كلامه جميعه إلا شذرات لا يعبأ بها، ولو أن الذين يطبعون الديوان يكلفون أنفسهم أن يبينوا لنا السند الذي يصل الديوان بقائله لتيسر الأمر للباحثين، فإن المطابع هوَّنت الرواية وجعلت إثبات نسخة واحدة إثباتًا لآلاف النسخ، ولكنهم لم يتعبوا أنفسهم فأتعبوا الباحثين.

وهنا بحثان:
  • البحث الأول: هو هل هذا الديوان كله شعر أبي الطيب، وهل هو يستوعب كلامه كله؟
  • والبحث الثاني: في ترتيب الديوان.
فأما البحث الأول فهذا إجمال القول فيه:
  • (١)

    قد رتَّب المتنبي ديوانه بنفسه، وقرأه الناس عليه، وأملى شرحًا لبعض أبياته، وناقشه فيه من أخذوا عنه، ففي نسخة من الديوان بدار الكتب المصرية (٥٤٢ أدب) وفي آخر شرح الواحدي المطبوع في بمباي:

    قال الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بالواحدي رحمه الله تعالى: هذا آخر ما اشتمل عليه ديوان أبي الطيب الذي رتبه بنفسه، وهو خمسة آلاف وأربعمائة وأربع وتسعون قافية.

    وفي مقدمة نسخة بدار الكتب المصرية (أدب رقم ٥٣٠) يقول راوي الكتاب: «وجميع ما فيه من تفسير معنى وشرح غريب واختلاف لغة فهو من إملائه عند القراءة عليه.»

    وسنعود إلى هذا عند كلامنا عن علم المتنبي باللغة.

  • (٢)
    وقد روى الديوان عن أبي الطيب ثقات منهم أبو الفتح بن جني، وقد ناظره في كثير من أبياته ثم شرَحه، وعلي بن حمزة البصري الذي نزل المتنبي في داره حينما قدم بغداد بعد مفارقة مصر، وكان ضيفه إلى أن رحل، تُوفِيَ بصقلية في رمضان سنة ٣٧٥،٤ ومحمد بن أحمد المغربي أحد أئمة الأدب والشعر، وقد ألَّف كتابين في فضائل المتنبي ورذائله، والقاضي المحاملي (محمد بن أحمد بن القاسم) الذي سمع الديوان من أبي الطيب ببغداد.

    وفي النسخة (٥٣٠): «حدثني أبو الحسن بن سعيد راوية المتنبي بحلب» فهذا راوية آخر.

    وقد روى العكبري عن أبي الفضل العروضي قوله في الرد على ابن جني في تفسير بيت من قصيدة المتنبي في مدح ابن العميد:

    إذا ما استحين الماء يعرض نفسه
    كرعن بسبت في إناء من الورد
    «ما أصنع برجل ادَّعى أنه قرأ على المتنبي ثم يروي هذه الرواية، ويفسر هذا التفسير، وقد صحت روايتنا عن جماعة منهم: محمد بن العباس الخوارزمي، وأبو محمد بن القاسم الجرمي، وأبو الحسن الرُّخجي، وأبو بكر الشعراني، وعدة من الرواة يطول ذكرهم إلخ.»٥
    هؤلاء الرواة المعاصرون للشاعر، وقد استمرت الرواية بعدهم، قال العكبري في مقدمة شرحه، وهو من رجال القرن السادس؛ ولد سنة ٥٣٨ وتوفي سنة ٦١٦ﻫ:

    وقرأته قراءة فهم وضبط على الشيخ الإمام أبي الحزم مكيِّ بن ريَّان الماكسيني بالموصل سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقرأته بالديار المصرية على الشيخ أبي محمد عبد المنعم بن صباح التيمي النحوي. ا.ﻫ.

    فديوان أبي الطيب أخذ بالرواية من أيام الشاعر إلى زمان العكبري وعندنا ما يدل على روايات بعد هذا التاريخ.

    وكانت نسخه قد انتشرت في الآفاق، وبلغت حد التواتر أو كادت.

  • (٣)

    ولدينا نسخ عليها سماعات موصولة بالمتنبي وهي توافق سائر النسخ في القصائد كلها، ومعظم القطع الصغيرة كالنسخة (رقم ٥٣٠ أدب) التي بدار الكتب المصرية، عليها سماعات لبعض الوزراء والكبراء المصريين في القرنين السابع والثامن بسند متصل إلى المتنبي، ونسخة حبيب الرحمن الشرواني الحيدر آبادي التي وصفها صديقنا العلامة الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي أستاذ الأدب العربي بجامعة على كرْه في رسالته «زيادات شعر المتنبي» المطبوعة في مصر.

  • (٤)

    ولدينا شروح الثقات مثل ابن جني والمعري والواحدي والعكبري، والشروح قلَّ أن يقع التغيير في متونها. وعندنا نسخ كثيرة من ديوان المتنبي كتبت في أزمنة مختلفة وبلاد متباعدة، وهي متفقة في جملتها، على ما تحتوي من شعر أبي الطيب ولا سيما القصائد، وقد قارنتُ شرح الواحدي وشرح المعري، وثلاث نسخ مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية إحداها كتبت سنة ٦٠١ﻫ ونسخة مخطوطة في مكتبة الأوقاف ببغداد، فلم أجد بينها خلافًا في القصائد ومعظم القطع الصغيرة، ولا خلافًا في ترتيب الشعر إلا يسيرًا.

ثم ليس شعر أبي الطيب بالشعر الخامل الذي تسهل الزيادة عليه والنقص منه؛ فقد شغل الناس منذ نظمه أبو الطيب إلى يومنا هذا. قال الواحدي:
وإنما دعاني إلى تصنيف هذا الكتاب مع خمول الأدب وانقراض زمانه، اجتماع أهل العصر قاطبة على هذا الديوان، وشغفهم بحفظه وروايته، والوقوف على معانيه وانقطاعهم عن جميع أشعار العرب جاهليها وإسلاميها إلى هذا الشعر، واقتصارهم عليه في تمثلهم ومحاضراتهم، وخطبهم ومقاماتهم حتى كأن الأشعار كلها فقدت.٦

فليس من ريب في أن الشعر الذي في نسخ الدواوين السائرة شعر المتنبي.

وهنا نجيب عن السؤال الثاني: هل الديوان يتضمن شعر المتنبي كله؟

قال عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني في كتابه إيضاح المشكل من شعر المتنبي: «أخبرني أبو الفتح عثمان بن جني أن أبا الطيب أسقط من شعره الكثير، وبقي ما تداوله الناس.»٧

وفي نسخة دار الكتب (رقم ٥٣٠ أدب) في عنوان القصيدة التي قالها في السجن والتي مطلعها:

أيا خدَّد الله وردَ الخدود
وقدَّ قدود الحسان القدود

«وقد امتنع عن عمل الشعر بمصر فسأله جماعة من أهل الأدب بها إثبات بعض ما كان أسقطه من شعره رغبة فيه فأجابهم إلى ذلك. فمما أثبته قوله في صباه وقد وشى به قوم إلى السلطان إلخ.»

وفي بعض النسخ قبل القطعة:

وشادن روح من يهواه في يده
سيف الصدود على أعلى مقلده

«وهذه القطعة شذ بعضها.»

وقال ابن نباتة في شرح رسالة ابن زيدون عن المتنبي: «له أشعار لم تدخل في ديوانه.»

ومهما يُقل فأغلب الظن أن الذي أسقط المتنبي من شعره قطع لم يُعن بها الشاعر لسخف معناها أو لأسباب أخرى، ولسنا نصدق أن أبا الطيب الذي حرص على إثبات قطع صغيرة ما بين بيتين وأربعة ليس لها قيمة في الأدب كبيرة، يرضى أن يحذف شيئًا من قصائده إلا لضرورة، إنما حذف المتنبي أبياتًا ارتجلها ثم لم يحرص على أن تُنسب إليه، أو قصائد ذكر فيها حوادث يكرهها كقصيدة السجن التي حذفها ثم أثبتها؛ ولكن الناس لكلفهم بشعر المتنبي التقطوا كثيرًا مما أسقط وجمعوه وألحقوه ببعض نسخ الديوان، وقد أفرد صديقنا الميمني لهذه القطع تأليفًا سماه «زيادات شعر المتنبي» وجعل من الزيادات كلَّ ما لم يَرْوِه العكبري، ولكن كثيرًا منها مثبت في نسخ الديوان ولا سيما النسخة (٣٥٠ أدب) المحفوظة بدار الكتب المصرية.

وأكثر النسخ زياداتٍ هي النسخة التي نشرتُها وطبعتْها لجنة التأليف والترجمة والنشر بعد إخراج الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وفي مقدمة هذه النسخة بحث عن الزيادات وافٍ، وهذه الطبعة ومقدماتها مع تعليقات أبي الطيب المثبتة فيها أوفى الطبعات وأجدرها بثقة الباحثين.

وبعدُ فَمَهْمَا دَقَّقَ الباحث لا يسعه الارتياب في أن هذا الشعر السائر بين الناس باسم ديوان المتنبي، هو شعر المتنبي الذي يمثِّل أفكاره وعواطفه وتاريخه؛ وأن ما شذَّ عن الديوان يمكن الإغضاء عنه عند البحث في سيرة الرجل وشعره.

ترتيب ديوان المتنبي

ديوان أبي الطيب قسمان؛ الأول: شعره في صباه إلى أن مدح الأمير الحسن بن عبد الله بن طغج بالرملة سنة ٣٣٦ﻫ، وذلكم زهاء اثنين وعشرين عامًا، والثاني: ما نظمه من هذا التاريخ إلى أن قُتل سنة ٣٥٤ وذلكم ثمانية عشر عامًا.

فأما القسم الثاني فقد نظمه بعد أن نبُه أمره، ومدح به جماعة من الكبراء والأمراء والملوك، ومعالم هذا القسم واضحة وتاريخه معروف حتى لا يجد المحقق قصيدة من القسم خالية من التاريخ؛ بل كثير من القصائد مؤرَّخ بالسنة والشهر واليوم كالقصيدة التي رثى بها أبا شجاع فاتكًا حين تُوفِيَ ليلة الأحد عشاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلاثمائة.

وقصيدته في مدح كافور التي أولها:

عدوك مذموم بكل لسان
وإن كان من أعدائك القمران

أنشدها يوم السبت لست خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وكثير من القصائد لها مقدمات طويلة تبين عن الحالة التي نظمت فيها، وذلكم ما لا نجده في ديوان شاعر من كبار شعرائنا، وأحسب هذا كله من إملاء المتنبي على رواة ديوانه.

وأما القسم الأول فقد نظمه المتنبي وهو خامل حين كان، كما يقول الثعالبي، يمدح الغريب والقريب ويصطاد ما بين الكركي والعندليب، والممدوحون في هذا القسم خاملون إلا ثلاثة أو أربعة ذكروا قليلًا في كتب التاريخ.

وقد قارنت شرح المعري وشرح الواحدي وثلاث نسخ مخطوطة بدار الكتب المصرية ونسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد فوجدتها كلها متفقة على ترتيب القصائد إلا خلافًا يسيرًا في بضع قصائد من شعره الأول الذي نظمه في العراق، وفي أول عهده بالشام، وبين النسخ خلاف في ترتيب القطع الصغيرة، ويتم الاتفاق بين النسخ على ترتيب القصائد والقطع كلها بعد القصيدة التي مدح بها محمد بن زريق الطرسوسي:

هذا برزتِ لنا فهجتِ رسيسا
ثم انثنيت وما شفيت نسيسا

والذي قبل هذه القصيدة في الديوان يعدل جزءًا من أحد عشر جزءًا من شعره كله.

وكدت أعتقدُ كما اعتقدَ غيري أن القسم الأول من ديوان المتنبي مرتب على التاريخ حتى عرفت بعد بحث طويل مُتْعب أن القصيدتين اللتين مدح بهما مساور بن محمد الرومي نظمتا سنة ٣٢٩، يُعرف ذلك من ولاية هذا الأمير على حلب في هذه السنة، ومن ذكر هزيمة ابن يزداد في إحدى القصيدتين وكانت هزيمته في ذلك الوقت أيضًا، وهاتان القصيدتان في الديوان مقدمتان على قصائد بدر بن عمار التي نظمت منذ أواخر سنة ٣٢٨ وأوائل سنة ٣٢٩، وأظن مدح مساور كان بعد مدح بدر، ثم بين قصيدتي مساور ومدائح ابن عمار قصائد كثيرة لا يُظن أن المتنبي نظمها بين مدائح هذين الأميرين، فهذا أضعف ثقتي بالترتيب في الديوان، قسمه الأول، ومنعني أن أعتمد عليه في تاريخ الشاعر وإن ظننت أن الأصل في ترتيب الديوان كله الترتيبُ التاريخي، لهذا أدع الاعتماد على ترتيب الديوان في القسم الأول منه إلى أن أجد من الأدلة التاريخية ما يكفي للثقة بترتيب قصائده كلها على التاريخ.

١  ابن الأثير والطبري حوادث سنة ٣١٨.
٢  ابن الأثير.
٣  يرجع القارئ المستزيد إلى المقدمة النافعة الوافية التي كتبتها لنسخة الديوان الممتازة التي نشرتها وطبعتها لجنة التأليف والترجمة والنشر تخليدًا للذكرى الألفية لوفاة الشاعر.
٤  معجم الأدباء لياقوت جزء ٥ ص٢٠٢ وإيضاح المشكل.
٥  العكبري ج١ ص٢٧٦.
٦  آخر المخطوط ٥٤٢ أدب – دار الكتب المصرية.
٧  خزانة الأدب ص٣٨٣ جزء ١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤