خاتمة

١

صحبنا أبا الطيب أحمد بن الحسين من نشأته إلى وفاته، على قدر ما عرفنا من أخباره، وأثرنا من سيرته.

وذكرنا طرفًا من أخلاقه ومذاهبه في الحياة وآرائه في الناس، وتكلمنا في علمه باللغة والأدب وغيرهما فعرفناه إمامًا من أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري، وراوية من رواتها يأخذ عن العرب في حضره وسفره.

ثم أبنا مكانته في الأدب، وما أحدثه في تاريخه، وذكرنا محاسنه في رأي القدماء ومساوئه.

وانتهى الكلام إلى بيان رأيي في شعره وخصائصه.

٢

ومن يقرأ هذه الفصول متأملًا، ويقرأ شعر أبي الطيب متمعنًا، يعرف رجلًا أبيًّا وشاعرًا فحلًا، ويجد ثروة في الأدب ورثناها عن هذا الشاعر العبقري، ثروة من الشعر العزيز، والأدب المتعالي والحكمة القوية والخلق المنيع.

والشاعر الكبير بل الإنسان العظيم أيًّا كان، يُقدر بجملته لا بتفصيله، ويُعرف بهيئته لا بتفصيل حليته، كالوجه الجميل يروعك بطلعته قبل أن يفصل نظرك محاسنه، وإذا راعت الناظر صورة جميلة لم يخل بروعتها أن يجد في تقاسيمها أو ألوانها وخطوطها مآخذ، أو يدرك في جزء منها موضعًا للتمني، وإن لقيت الناظر صورة فاترة لا روعة فيها ولا جمال، لم ينفعها بعدُ أن يتأمل فيرى إحكامًا في جزء منها، وإتقانًا في قسمة فيها، وكذلكم كبار الشعراء، فالشاعر الذي يكون أبا الطيب، هو شاعر عظيم لا محالة؛ ودع لفظًا معيبًا، وشطرًا مردودًا، وبيتًا مرذولًا، فما تزال الصورة رائعة جليلة، ولا يزال الشاعر هو أبا الطيب الذي جاء فملأ الدنيا وشغل الناس.

٣

وكذلك يُقدر الشاعر بما أحدث في أدب أمته، وما أمدها من عقله وقلبه وبيانه وإحسانه، فإن رأيت الشاعر جاء فأثار الأفكار، وهاج النفوس، وترك شعره على الألسنة والأقلام، وفي بطون الكتب، يتمثل به الناس في الحين بعد الحين، وينشدونه طربين، ويحفظونه محتفلين، ويتناشدونه متنافسين فهذا شاعر مطبوع مبتكر، صنع للناس شيئًا، ومهد لهم طريقًا، وصاغ لهم حلية، وأورثهم شعرًا خالدًا؛ ودع بعدُ محك الماحكين وتكلف المتكلفين، وتحامل الجاهلين، وبغي المتعصبين، ودع عيوبًا بينة أو خفية.

وحسب أبي الطيب أن أديبًا لا يسعه أن يعد عشرة من أعلام الشعر العربي الذي امتد حينًا بين الصين وبحر الظلمات وامتد عمره خمسة عشر قرنًا، إلا كان نظرة في هذه المآخذ أبو الطيب في هؤلاء العشرة، ولا أريد أن أقلل العدد، أو أحكم له بالسبق والاستيلاء على الأمد.

٤

وبعدُ فأختم هذه الخاتمة بكلمة أُثرت عن رجلين في الأدب عظيمين: ضياء الدين بن الأثير، وهو من هو علمًا بالأدب وبصرًا بنقده، والقاضي الفاضل وناهيك به. قال ابن الأثير: «وكنت سافرت إلى مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة، ورأيت الناس مكبين على شعر أبي الطيب المتنبي دون غيره، فسألت جماعة من أدبائها عن سبب ذلك، وقلت: إن كان لأن أبا الطيب دخل مصر فقد دخلها قبله من هو مقدَّم عليه، وهو أبو النواس الحسن بن هانئ فلم يذكروا لي في هذا شيئًا.

ثم إني فاوضت عبد الرحيم بن علي البيساني، (القاضي الفاضل) رحمه الله في هذا فقال لي: «إن أبا الطيب يتكلم عن خواطر الناس، ولقد صدق فيما قال».» ا.ﻫ.

•••

يسر الله تعالى الفراغ من مراجعته، وإجالة القلم في صفحاته بتنقيح يسير، وتغيير قليل، عشية يوم الأربعاء الثلاثين من المحرم سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة (التاسع والعشرين من أيلول سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف من الميلاد) في دار السفارة المصرية من مدينة كراجي عاصمة باكستان.

والحمد لله الملهم المنعم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

•••

وكان الفراغ من تأليفه ضحى يوم الجمعة لتسع بقين من شهر.

ربيع الثاني سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة.

(عاشر تموز سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف من الميلاد).

في مدينة السلام بغداد حرسها الله.

وله الحمد في الأولى وفي الآخرة.

والله أعلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤