الفصل الأول

قبيلته

أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرَّة بن عبد الجبار الجعفي الكندي الكوفي، أو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي.١

ويقول بعض المؤلفين: أحمد بن محمد … إلخ.

جعفي، الذي ينسب إليه المتنبي هو جُعفي بن سعد العشيرة من مَذْحِج من كَهلان من قحطان، وكندة، التي ينسب إليها المتنبي هي مَحلة في الكوفة كانت تسكنها قبيلة كندة، قال في إيضاح المشكل: «حدثني ابن النجار ببغداد أن مولد المتنبي كان بالكوفة في محلة تعرف بكندة بها ثلاثة آلاف بيت من بين رَوَّاء ونَسَّاج.» ولا ينبغي أن نعول على قوله من بين روَّاء ونسَّاج، فقد روى لنا الخطيب أن المتنبي كان جارًا لأشراف من العلَويين، كما يأتي.

وقد ظنَّ بعض الناس أن أبا الطيب من كندة القبيلة، فقالوا: بُدئ الشعر بكندة وختم بكندة؛ يعنون امرأ القيس في البدء، والمتنبي والرمادي الشاعر في الختام، وكانا متعاصرين. وروي أن أبا فراس قال لأبي الطيب في مجلس سيف الدولة: «يا دعيَّ كندة.»

وروى الخطيب البغدادي عن أبي الحسن محمد بن يحيى العلوي الزيدي قال: كان المتنبي وهو صبي ينزل في جواري بالكوفة وكان يُعرف أبوه بعَبدان السقاء يسقي لنا ولأهل المحلة … وكان عبدان والد المتنبي يذكر أنه من جعفي، وكانت جدة المتنبي هَمْدانية صحيحة النسب لا أشك فيها وكانت جارتنا وكانت من صلحاء النساء الكوفيات.

وروى عَلِي بن المحسن التنوخي عن أبيه أنه حدث المتنبي بالأهواز وهو راجع من فارس عن أبي الحسن (العلوي) فقال: تربي وصديقي وجاري بالكوفة وأطراه ووصفه. قال التنوخي: واجتمعت بعد موت المتنبي بسنتين بالقاضي أبي الحسن بن أم شيبان الهاشمي الكوفي وجرى ذكر المتنبي فقال: كنت أعرف أباه بالكوفة شيخًا يُسمى عبدان يستقي على بعير له، وكان جعفيًّا صحيح النسب.

وقال العكبري: أما أبو الطيب فيقال: إنه جعفي ولم أتحققه.

وفي تبدِّي الشاعر في صباه وغلبة البداوة على طباعه طول عمره، ما يدل على أنه كان عربيًّا متصلًا بالبوادي.

ولسنا نجد في شعر المتنبي ذكر نسبه، وقد قال في قصيدة يمدح بها علي بن إبراهيم التنوخي:

أَمُنسيَّ السَّكون وحضرموتًا
ووالدتي وكندة والسبيعا

قال الواحدي: «هذه أماكن بالكوفة سميت بأسماء قبائل كانوا يسكنون بهذه المحال.» وقد روي البيت: أمنسي الكناس إلخ، وقال العكبري في شرحه: الكناس محلة بالكوفة، وكذا حضرموت وكندة محلة غربي الكوفة، والسبيع سوق بالكوفة ومحلة كبيرة، وكل هذه المواضع سميت بأسماء من سكنها.

فليس في ذكر هذه الأسماء إبانة عن نسب لشاعرنا، وقد حرص المتنبي على ألا يذكر نسبه في شعره، فما ذكر أباه ولا جده ولا أحدًا من آبائه ولا صرَّح باسم قبيلة ولا عشيرة.

وروى الخطيب عن علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال: «وسألت المتنبي عن نسبه فما اعترف لي به وقال: أنا رجل أخبط القبائل وأطوي البوادي وحدي ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها، وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني.»

وفي شعر الرجل نفسه ما يدل على أنه كان يكتم نسبه، وفي القصيدة التي مدح بها أبا العشائر بن حمدان والتي أولها:

لا تحسبوا رَبعكم ولا طلله
أول مَيت فراقُكم قتله

يقول:

أنا ابن من بعضُه يفوق أبا
الباحث والنجلُ بعض من نجله
وإنما يذكر الجدود لهم
من نفروه وأنفدوا حيله
فخرًا لعضب أروح مشتمله
وسمهري أروح معتقله
وليفخر الفخر إذ غدوتُ به
مرتديًا خيره ومنتعله
أنا الذي بَيَّن الإله له الأقدارَ
والمرءُ حيثما جعله
جوهرة تفرح الكرام بها
وغصة لا تسيغها السفله
إن الكذاب الذي أُكاد به
أهونُ عندي من الذي نقله
فلا مُبال ولا مُداج ولا
وانٍ ولا عاجز ولا تُكله

وظاهر من هذا الشعر أن قومًا تكلموا في نسبه وازدروه، فلم يجبهم بذكر نسبه بل قال: إن له آباءً عظامًا، ولكنه ليس في حاجة إلى أن يستنجد نسبه وهو قادر على أن يغلب خصومه وحده.

وكذلك فَخَرَ أبو الطيب بقومه وآبائه في مواضع أخرى من شعره دون أن يذكر اسم رجل أو عشيرة أو قبيلة.

قال في إحدى قصائد الصبا:

لا بقومي شرُفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد
وعَوذُ الجاني وغوث الطريد

وقال في قصيدة الحمَّى بمصر:

أرى الأجداد تغلبها كثيرًا
على الأولاد أخلاق اللئام
ولستُ بقانع من كل فضل
بأن أُعزَى إلى جَد همام

وقال في رثاء جدته لأمه:

ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونُك لي أما

•••

وإني لمن قوم كأنَّ نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

ليس في هذا تصريح بنسب ولكن بعض شعره يدل على عصبية يمانية فأكثر ممدوحيه في أيامه الأولى من قبائل يمانية، مدح: شجاع بن محمد الأزدي، وعلي بن أحمد الطائي، وشجاع بن محمد الطائي، وعبيد الله بن يحيى البحتري، وأخاه أبا عبادة، ومدح التنوخيين في اللاذقية، ومنهم علي بن إبراهيم التنوخي الذي قال فيه:

أمُنسيَّ السَّكون وحضرموتًا
ووالدتي وكندة والسبيعا

وقال على لسان بعض التنوخيين يفضل اليمن على خندف:

قضاعة تعلم أني الفتى
الذي ادَّخرتْ لصروف الزمان
ومجدي يدل بني خندف
على أن كل كريم يماني

ويقول في مدح عبيد الله بن يحيى البحتري:

كفى بأنك من قحطان في شرف
وإن فَخَرت فكل من مواليكا

وفي مدح أبي عبادة بن يحيى البحتري:

قد كنت أحسَب أن المجد من مضر
حتى تبحتر فهو اليوم من أدَد٢

وقال للحسين بن إسحاق التنوخي، وقد هجاه بعض الناس ونسب الهجاء إلى المتنبي:

أبت لك ذمي نخوة يمنية
ونفس بها في مأزِق أبدًا ترمى

فهذه الأبيات كلها تنمُّ عن تعصب لليمنية وولع بمدحهم، ولكننا نجد أبا الطيب يمدح أبا الحسين علي بن أحمد المرِّي في جبل جُرش، بالقصيدة الثائرة التي أولها:

لا افتخارٌ إلا لمن لا يُضام
مدركٍ أو محاربٍ لا ينام

فيقول:

كُتبت في صحائف المجد بِسمٌ
ثم قيسٌ، وبعد قيس السلام
إنما مرَّة بن عوف بن سعد
جمرات لا تشتهيها النعام

فكيف يقول هكذا رجل ذو عصبية قحطانية؟ كان بين أبي الطيب وأبي الحسين هذا مودة وهما في طبرية ولكن الشاعر لم يمدح صاحبه إلا بعد أن فارق طبرية، هل لنا أن نفسر هذا بأن الشاعر أراد أن يعتذر عن تأخره في مدح صديقه هذا وينفي عن نفسه تهمة تقديم القحطانيين عليه، ونستدل بما يقوله في القصيدة نفسها اعتذارًا عن التأخر:

قد لعمري أقصرْت عنك وللوفد
ازدحام وللعطايا ازدحام
خفت إن صرت في يمينك أن تأ
خذني في هباتك الأقوام
ومن الرشد لم أزُرْكَ على القر
ب، على البعد يعرف الإلمام
ومن الخير بطء سيبك عني
أسرعُ السحب في المسير الجهام

يمكن أن يقال هذا ويمكن أن يقال: إنه أراد أن يُرضي ممدوحه دون مبالاة بعصبية يمنية أو قيسية، ولكنا إذا رجعنا إلى الحقائق وتطلبنا الأدلة القاطعة لم نجد في شعر أبي الطيب ما يدلنا دلالة صريحة على أن الرجل يمانٍ أو مضري ولا ما ينبئ بعشيرة أو قبيلة.

فإن كان أبو الطيب كتم نسبه إشفاقًا مما عسى أن يكون بين قومه وبين القبائل من عداوة فما أحسب هذا الخوف صحبه طول عمره فما ذكر نسبه في فخر أو غيره، ثم قد أنبأنا الرواة أنه جعفي وأنه نسب إلى كندة إحدى محلات الكوفة إذ ولد بها حتى ظنَّ أنه كندي النسب، وهذا دليل آخر على خمول نسب شاعرنا، ثم اختلاف المؤرخين في تسمية أجداده دليل ثالث.

ومهما يكن فلا ريب أن شاعرنا كان عربيًّا قحًّا بل بدويًّا فلا يعيبه أن كان من بيت فقير، وكفاه أن كان كما وصف نفسه:

ولكنَّ قلبًا بين جنبيَّ ما له
مَدًى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يُكسى شُفوفًا ترُبُّه
فيختار أن يُكسى دروعًا تهدُّه
١  الخطيب وابن خلكان.
٢  تبحتر صار بحتريًّا، وبحتر من أدد من طيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤