الفصل الثاني

أسرة أبي الطيب

يتفق ثقات المؤلفين على أن أبا الطيب هو أحمد بن الحسين ثم يختلفون فيمن بعد هذا؛ فيقول بعضهم: الحسين بن الحسن بن عبد الصمد، ويقول آخرون: ابن مرة بن عبد الجبار.

وقد قدَّمت ما رواه الخطيب عن محمد بن يحيى العلوي، والقاضي ابن أم شيبان الهاشمي أن أبا المتنبي كان يسمى عبدان السقاء.

ويظهر كذلك من أبيات رواها الثعالبي في اليتيمة وياقوت في معجم الأدباء وابن خلكان أن أبا المتنبي كان سقاء: فقد هجاه ابن لنكك البصري حينما سمع بقدومه بغداد راجعًا من مصر ووقوع شعراء بغداد فيه فقال أبياتًا منها:

لكنَّ بغداد جاد الغيث ساكنَها
نعالها في قفا السقاء تزدحم

وقال شاعر آخر:

أيُّ فضل لشاعر يطلب الفضـ
ـل من الناس بكرة وعشيَّا
عاش حينًا يبيع في الكوفة الماء
وحينًا يبيع ماء المُحَيَّا

ويخبرنا صاحب اليتيمة أن والد المتنبي «سافر به إلى الشام فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضَرها ومن مَدرها إلى وبرها ويسلمه في المكاتب ويردُّده في القبائل ومخايلُه نواطق الحسنى عنه، وضوامن النجح فيه حتى تُوفِيَ أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعرَ وبرع.»

وسواء أصحَّ ما يقوله الثعالبي عن سفر والده إلى الشام أم لم يصح؛ فما ذكر المتنبي والده بكلمة ولا رثاه حين مات كما رثى أبو العلاء المعري أباه وأمه رثاء بليغًا، وهذا يشهد بما اتفقت عليه الروايات من أن والد أبي الطيب لم يكن رجلًا نابه الشأن.

ولا نعرف شيئًا عن والدة المتنبي، ولعلها ماتت في حداثته قبل سفره إلى الشام، ولكنا نعرف عن جَدته لأمه ما رواه الخطيب عن محمد بن يحيى العلوي أنها كانت هَمْدانية صحيحة النسب وكانت من صلحاء النساء الكوفيات، وأظنها التي عناها حين قال:

أمُنْسيَّ السكون وحضرموتًا
ووالدتي وكندة والسبيعا
فقد رثاها من بَعْدُ وسماها أمه. وقد رُوِي في الصبح المنبي وفي نسخة الشرواني:١ أن أبا الطيب قال في الاعتقال:
بيدي أيها الأمير الأريب
لا لشيء إلا لأني غريب
ولأمٍّ لها إذا ذكرتني
دم قلب بدمع عين مشوب

فإن صح هذا فليس دليلًا قاطعًا على أن أمه كانت حية إذ ذاك، فإنه يسمي جدته أمًّا كما تقدَّم، وجدَّة المتنبي تفردت من بين أسرته برثاء أبان فيه الشاعر عن إجلالها وحبها، ووصفها أحسن الصفات.

وأخبرنا كما أخبرنا الرواة أنها ماتت فرحًا بكتاب جاءها منه بعد طول غيبة أيأستها. يقول الشاعر في أول هذه القصيدة التي مزج فيها الحزن بالثورة على الزمان وأهله:

ألا لا أرى الأحداث مدحًا ولا ذمًّا
فما بطشها جهلًا ولا كَفُّها حلما
إلى مثل ما كان الفتى مرجعُ الفتى
يَعُود كما أبدى ويُكري كما أرمَى
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة شوق غيرِ مُلحقها وصما
أحنُّ إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضما
بكيتُ عليها خيفة في حياتها
وذاق كلانا ثُكلَ صاحبه قدما
ولو قتلَ الهجرُ المحبين كلهم
مضى بلد باق أجدَّت له صرما
عرفتُ الليالي قبل ما فعلتْ بنا
فلما دهتني لم تزدني بها علما
منافعُها ما ضرَّ في نفع غيرها
تغذى وتَروى أن تجوع وأن تَظما
أتاها كتابي بعد يأس وترحة
فماتت سرورًا بي فمتُّ بها غما
حرام على قلبي السرور فإنني
أعدُّ الذي ماتت به، بعدها سما
تعجَّب من لفظي وخطِّي كأنما
ترى بحروف السطر أغربة عُصما
وتلثمه حتى أصار مدادُه
محاجر عينيها وأنيابَها سحما

إلى أن يقول:

وما انسدَّت الدنيا عليَّ لضيقها
ولكنَّ طرفًا لا أراك به أعمى
فوا أسفا ألَّا أكبَّ مقبلًا
لرأسك والصدر اللذَيْ مُلئا حزما
وألا أُلاقي روحك الطيب الذي
كأنَّ ذكيَّ المسك كان له جسما
ولو لم تكوني بنتَ أكرم والد
لكان أباك الضخمَ كونُك لي أما

فقد أعلمنا شاعرنا أنه ترك في الكوفة بيتًا يحن إليه، وقلبًا يعطف عليه، وأن له جدَّة صالحة تؤثره على نفسها، أحبته وأحبها وحزنت لفراقه وحزن لفراقها.

وسنرى أثر هذا في سيرته من بعد.

١  ننظر زيادات شعر المتنبي للشيخ عبد العزيز الميمني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤