الفصل الثالث عشر

الرحيل من مصر

(١) هل منع كافور أبا الطيب أن يرحل عن مصر؟

أقام شاعرنا في مصر أربع سنين وستة أشهر كما قدمنا، وقد بينا أنه قد بدأ يشكو مِطال كافور بعد ثلاثة أشهر من قدومه عليه وأنه لم ينشئ في مدحه ما بين شوال سنة ٣٤٧ وسفره من مصر، وهي ثمانية وثلاثون شهرًا، إلا قصيدتين: قصيدة شبيب العقيلي والقصيدة الآخرة، وأنه بعد القصيدة الخاتمة بقي أربعة عشر شهرًا لا يمدح الرجل ولا يلقاه، وقد ذكر الرحيل في شعره مرارًا، فما الذي أمسكه في مصر هذه المدة؟ أكان الرحيل محظورًا عليه؟

يقول في قصيدة الحمى:

أقمت بأرض مصر فلا ورائي
تخب بي الركاب ولا أمامي
وملني الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عام

ويقول:

ألا يا ليت شعر يدي أتمسي
تصرف في عنان أو زمام
وهل أرمي هواي براقصات
محلاة المقاود باللغام
فربتما شفيت غليل صدري
بسير أو قناة أو حسام
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام
وفارقت الحبيب بلا وداع
وودعت البلاد بلا سلام
يقول لي الطبيب: أكلت شيئًا
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
تعود أن يُغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجام

فانظر كيف يتمنى الرحيل، ويرى فيه شفاءه، فكيف أقام سنة بعد هذه القصيدة؟

ومن قوله في القصيدة التي هجا بها كافورًا عند رحيله من مصر:

إني نزلت بكذابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود

وقوله:

جوعان يأكل من زادي ويُمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود

وقوله:

لو كان ذا الآكل أزوادنا
ضيفًا لأوسعناه إحسانًا
لكننا في العين أضيافه
يوسعنا زورًا وبهتانًا
فليته خلى لنا طرقنا
أعانه الله وإيانا

وهذا يُشعر أن كافورًا كان يمنعه المسير.

وفي الديوان ما هو أبين من هذا، في شرح المعري ونسخ من الديوان أن الشاعر كتب إلى كافور يستأذنه في المسير إلى الرملة ليتنجز مالًا بها، وأراد أن يعرف رأيه في مسيره، فأجابه: لا والله، أطال الله بقاءك، لا نكلفك المسير ولكن ننفذ رسولًا يأتيك به، فلما قرأ الجواب قال:

أتحلف لا تكلفني مسيرًا
إلى بلد أحاول فيه مالًا
وأنت مكلفي أنبى مكانًا
وأبعد شقة وأشد حالًا
إذا سرنا عن الفسطاط يومًا
فلقني الفوارس والرجالا
لتعلم قدر من فارقت مني
وأنك رمت من ضيمي محالا

وسنرى في رحيل أبي الطيب إلى الكوفة أنه رحيل هارب لا رحيل مودع مشيع.

فلماذا منع كافور أبا الطيب الرحيل؟ أنزل كافور الشاعر الأبي دارًا، وأعطاه أكثر ما يعطي الشعراء، وحسب أن هذا يكفيه وأنه يكون عنده كما كان عند سيف الدولة، فلما طالبه بولاية أو ضيعة وعده، ثم خافه حين رأى علو نفسه، وبعد أمانيه، ولما سمع من حبسه في صباه، وأنه ادعى النبوة. وأسباب أخرى سنذكرها عند الكلام على هجاء كافور.

فلما ألح أبو الطيب في اقتضاء كافور ما وعده، وأشفق كافور أن يُنيله، بقي الشاعر بين يأس قريب ورجاء بعيد، وتلدد كافور لا يدري ما يفعل، أيولي هذا الرجل الطماح ولاية أم يعطيه ضيعة أم يرضيه بعطاء جزيل ليس هو أهلًا له أم يتركه يذهب حيثما شاء فيعرض نفسه للهجاء، ويحرم مدائح الشاعر الذائع الصيت التي تطير بذكره في الآفاق، فمنى نفسه أن يبقى أبو الطيب بجانبه قانعًا بما يدره عليه بين الحين والحين مشيدًا بذكره.

جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود

(٢) من الفسطاط إلى الكوفة

أقام أبو الطيب في مصر أربعة عشر شهرًا لا يمدح كافورًا ولا يلقاه إلا أن يركب فيسير معه لئلا يوحشه.

وكان يتعزى بأبي شجاع فاتك والحديث معه، فلما تُوفِيَ فاتك عزم على الرحيل، وكانت وفاته ليلة الأحد وقت العشاء الآخرة لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلاثمائة١ فقد لبث أبو الطيب بعد فاتك شهرين يدبر لرحيله، «وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق ولا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج ودفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عُدة لعشر ليال وتزود لعشرين.»٢
وكان كافور يتحسس أخباره حتى قيل: إن جيرانه كانوا يراعونه، وإن جماعة كانوا يرقبون داره يتعرفون من يدخل إليه، وإن صاحب الخبر كان يفد إلى بابه كل يوم٣

وفي ليلة عيد الأضحى أنشأ قصيدته الباكية الساخطة التي أولها:

عيدٌ بأية حال عدت يا عيد؟
بما مضى أم لأمر فيه تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدًا دونها بيد
لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدود
وكان أطيب من سيفي معانقةً
أشباه رونقه الغيد الأماليد
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئًا تتيمه عين ولا جيد
يا ساقييَّ أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخرة أنا؟ ما لي لا تحركني
هذي القيان ولا تلك الأغاريد
إذا أردت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود

ويقول في هجاء كافور:

جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال عظيم القدر مقصود
ويلمها خطة ويلم قابلها
لمثلها خُلق المهرية القود
وعندها لذ طعم الموت شاربه
إن المنية عند الذل قنديد
قال في الإيضاح:
وكان رسم السلطان أن يستقبل العيد بيوم تعد فيه الخلع والحملانات وأنواع المبار لرابطة جنده، ورتبة جيشه، وصبيحة العيد تفرق، وثاني اليوم يذكر له من قبل ومن رد واستزاد، فاهتبل المتنبي غفلة كافور، ودفن رماحه وسار ليلته.٤

وكتب أبو الطيب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي في بلبيس يطلب منه دليلًا، وتتفق الروايات على أنه كتب إليه هذه الأبيات:

جَزَى عربًا أمست ببلبيس ربها
بمسعاتها تَقْرَرْ بذاك عيونها
كراكر من قيس بن عيلان ساهرًا
جفون ظباها للعلى وجفونها
وخص به عبد العزيز بن يوسف
فما هو إلا غيثها ومعينها
فتى زان في عيني أقصى قبيلة
وكم سيد في حلة لا يزينها

ولا ريب أن أبا الطيب كان يعرف عبد العزيز من قبل، ويركن إليه ولولا معرفته إياه ووثوقه به ما كتب إليه ولا مر به، وبرهان هذا أن في النسخة (١٥٣٠) وله في عبد العزيز الخزاعي قبل رحيله من مصر:

لئن مر بالفسطاط عيشي لقد حلا
بعبد العزيز الماجد الطرفين
فتى زان قيسًا بل معدًا جميعًا
وما كل سادات الشعوب بزين
تناول ودي من بعيد فناله
جرى سابقًا في الود ليس برين

فانظر قوله لئن مر بالفسطاط وقوله: «تناول ودي من بعيد فناله» تر أن المودة بدأت بين الرجلين، وأبو الطيب في الفسطاط، وأحسب الشاعر قد كتب إليه يؤذنه بسيره، ويسأله دليلًا، ثم مر به.

وقد نزل عنده حين مر ببلبيس فأضافه وأكرمه وسيره.٥
وفي شرح المعري ونسخ من الديوان:

وأخفى طريقه حتى قال بعض أهل البادية: هبه سار فهل محا أثره؟ وقال بعض المصريين إنما أقام حتى عمل طريقًا تحت الأرض، وتبعته البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عمالهم بالحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي.

وأحسب خروج أبي الطيب خفية أثار أحاديث الناس، وخلق طائفة من القصص التي تحركها العامة حول الحادثات الخفية العجيبة وليس عجيبًا أن يتبعه كافور جماعة، ويكتب إلى عماله، فما كان ليرضى خروج شاعره على هذه الشاكلة غير مادح ولا مستأذن، خروجًا يفتح عليه بابًا من الهجاء والتشهير، وأحسب القصيدة التي أنشأها أبو الطيب ليلة العيد بلغت كافورًا بعد قليل فثارت ثائرته. وتحفُّظُ أبي الطيب في مسيره دليل على أنه كان يتوجس شرًّا من كافور أن يتبعه جندًا أو يكتب إلى من يقطع عليه الطريق.

وتتبعُ أبي الطيب في سفره وتعرفُ ما عرض له في طريقه، يشوق كل متأدب معجب بهذا الشاعر الشجاع، وأنا أثبت هنا القصة بعد أن قابلت منها روايتين محرفتين في شرح المعري ونسخة بغداد، ونتفًا في شرح ابن جني، فصححتها على قدر الطاقة.

ثم اهتديت، بعد الطبعة الأولى، إلى نسخة من الديوان قديمة صحيحة جعلتها أصلًا لطبعة الديوان التي أخرجتها على ذكرى الشاعر بعد ألف سنة من وفاته، وفي هذه النسخة مقدمات للقصائد وتفصيل للحوادث لا يجدها الباحث في نسخة أخرى.

وهي توافق في قصة سفر أبي الطيب من مصر إلى العراق ما في شرح المعري إلا قليلًا.

وإليك هذه القصة العجيبة كما جاءت في هذه النسخة:

«وكانت للأسود عليه عيون، وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يسهرون حذاء منزله يتفقدونه ويتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده، ويفد كل يوم صاحب الخبر إلى بابه، حتى يقف على حاله، وهو يعلم بذلك فلا يظهره لهم.

وكان يتسلى بفاتك والحديث معه، وتوفي فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل، وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في رفق ولطف لا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ فخرج فدفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عُدة لعشر ليال، وتزود لعشرين.

وكتب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي «الأبيات التي قدمتها» وأخفى طريقه فلم يأخذوا له أثرًا حتى قال بعض أهل البادية؛ هبه سار فهل محا أثره، وقال بعض المصريين: إنما أقام حتى عمل طريقًا تحت الأرض.

وتبعته البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عمالهم بالحوفين والفجار وغزة والشام وجميع البوادي.

وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجة الطير٦ إلى الرثنة حتى خرج إلى ماء يعرف بنخل في التيه بعد أيام وتسميه العامة بحرًا — فلقي عنده في الليل ركبًا وخيلًا صادرة عنه فقاتلوه فأخذهم. وتركهم وسار حتى قرب من النقاب فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين، فركب وطردهما حتى أخذهما فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين ووعداه النزول ذلك اليوم بين يديه، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما، وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل، فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء وذبح له وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس، فذبح له عفيف المعني غنمًا وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه في الطريق، فصعد في النقب المعروف بتربان، وفيه ماء يُعرف بغرندل فسار يومه وبعض ليلته ونزل وأصبح فدخل حِسْمَى.

وحسمَى هذه أرض طيبة، تؤدي أثر النحلة من لينها، وتنبت سائر النبات مملوءة جبالًا في كبد السماء متناوحة ملس الجوانب، إذا نظر الناظر إلى قلة أحدها فتل عنقه حتى يراها، بشدة، ومنها ما لا يقدر أحد أن يصعده، ولا يكاد القتام يفارقها، وذلك معنى قول النابغة:

فأصبح عاقلًا بجبال حسمَى
دقاق الترب محتزم القتام

وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد، وتكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين يعرفها من رآها من حيث رآها؛ لأنها لا مثيل لها في الدنيا ومن جبالها جبل يُعرف بأرم عظيم العلو تزعم البادية أن عليه كرومًا وصنوبرًا.

فوجد بني فزارة بها شاتين فنزل بقوم من عدي فزارة فيهم أولاد لاحق ابن مخلب.٧

وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها، وكانت فزارة قد أخذت غزيًّا غزاها فكانت الأسرى في القد بين البيوت فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة، فقال هي بموضع كذا وكذا وجدناها أمس فشربنا لبنها وتركناها لنعود فنأخذها؛ فنادى مخلب على شهادتكم يا معشر العرب، ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه وقال: الغزي ضيوفي، فخلصهم من القد بعد اختلاف الناس وخوف الشر، فرد عليهم كل شيء أخذ لهم، وقراهم وسيرهم وقال:

إن تك ناقتي منعت غزيًّا
تجر صرارها ترعى الرحابا
فأي فتى أحق بذاك مني
وأجدر في العشيرة أن يُهابا

وكان بينه وبين أمير بني فزارة حسان بن حكمة مودة وصداقة فنزل بجار للقوم ليوري عنهم فلا يعلم بما بينه وبينهم واسم الجار وردان بن ربيعة من طي ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيده وأفسدهم عليه وأجلسهم مع امرأته، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله.

وطابت حِسْمَى لأبي الطيب فأقام بها شهرًا، وكتب الأسود إلى من حوله من العرب ووعدهم، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفًا مستورًا فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل؛ لأنه كان على قائمه ونعله ذهب من مائة مثقال، وكان السيف لا ثمن له، فجعل الطائي يحتال على العبيد بامرأته طمعًا في السيف؛ لأن بعضهم أعطاه خبره.

فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد، ووقف على مكاتبة الأسود لكل العرب التي حوله في أمره، أنفذ رسولًا إلى فتى من بني فزارة ثم من بني مازن ثم ولد هرم بن قطبة بن سيار يقال له: فليتة بن محمد، وفيهم يقول بعض البادية:

إذا ما كنت مغتربًا فجاور
بني هرم بن قطبة أو دثارًا
إذا جاورت أدنى مازني
فقد ألزمت أقصاها الجوارا
وكان قد وافقه قبل ذلك على المراسلة، فسار إليه، وترك أبو الطيب عبيده نيامًا وتقدم إلى الجمال فشد على الإبل وحمل خوفًا أن يحتبس٨ عنه بعض عبيده، فلم يعلموا حتى أنبههم وطرحهم على الإبل، وجنب الخيل وسار تحت الليل والقوم لا يعلمون برحيله، ولا يشكون أنه يريد البياض، فأخذ طريق البياض فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد، إلى عرب بين يديه وتوقف.
وأخذ أحد العبيد في الليل السيف فدفعه إلى عبد آخر ودفع إليه فرسه، وجاء ليأخذ فرس مولاه، وانتبه أبو الطيب، وقال الغلام: أخذ العبد فرسي، يغالط بهذا الكلام، وعدا نحو الفرس ليقعد في ظهره، فالتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسل العبد السيف فضرب رسنه، فضرب أبو الطيب وجه العبد فقسمه (فخر على رتمة)٩ وأمر الغلمان فقطعوه، وانتظروا الصباح، وكان هذا العبد أشد من معه وأفرسهم (قال الرتم شجر له أغصان ملس دقاق سباط والواحدة رتمة).١٠

فلما أصبح أتبع العبد علي الخفاجي وعلوان المازني، وأخذا أثره فأدركاه عصرًا وقد قصر الفرس الذي تحته، فسألهما عن مولاه فقالا جاءك من ثم؛ وأشارا إلى موضع، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر، فقالا له: تقدم، فقال: ما أراه، فإن رأيته جئتكما، وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف، فامتنع منهما، وعادا في غد ووافق عودة فليتة، فقال فليتة: لقد كان فيما جرى خيرة؛ لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه، كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدث بعضكم بعضًا، فقال أبو الطيب ارتجالًا:

إن تك طيئ كانت لئامًا
فألأمها ربيعة أو بنوه
وإن تك طيئ كانت كرامًا
فوردان لغيرهم أبوه
مررنا منه في حسمى بعبد
يمج اللؤم منخره وفوه
أشذ بعرسه عني عبيدي
فأتلفهم، ومالي أتلفوه
فإن شقيت بأيديهم جيادي
لقد شقيت بمنصلي الوجوه

وقال فيه:

لحى الله وردانًا وأمًّا أتت به
له كسب خنزير وخرطوم ثعلب
فما كان منه الغدر إلا دلالة
على أنه فيه من الأم بالأب
إذا كسب الإنسان من هن عرسه
فيا لؤم إنسان ويا لؤم مكسب
أهذا اللذيا بنت وردان بنته
هما الطالبان الرزق من شر مطلب١١
لقد كنت أنفي الغدر عن توس طيئ١٢
فلا تعذلاني رب صدق مكذب

وقال أيضًا (في العبد الذي قتله):

أعددت للغادرين أسيافًا
أجدع منهم بهن آنافا
لا يرحم الله أرؤسًا لهم
أطرن عن هامهن أقحافا
ما ينقم السيف غير قلتهم
وأن تكون المئون آلافا
يا شر لحم فجعته بدم
وزار للخامعات أجوافا١٣
قد كنت أغنيت عن سؤالك بي
من زجر الطير لي ومن عافا١٤
وعدت ذا النصل من تعرضه
وخفت لما اعترضت إخلافًا
لا يذكر الخير إن ذُكرت ولا
تُتبعك المقلتان توكافا١٥
إذا امرؤ راعني بغدرته
أوردته الغاية التي خافا

وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل، ولم يجد مع فليتة خبرًا عن العرب التي طلبها، فقال له: اخرق بنا على بركة الله إلى دومة الجندل، وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد علمت أنه يريد البياض فسار حتى انحدر إلى الكفاف فورد البويرة بعد ثلاث ليال، وأدركتهم لصوص أخذت آثارهم وهم عليها فلم يطمعوا فيهم، وسار معهم حمصي بن القلاب.

فلما توسط بسيطة (وهي أرض تقرب من الكوفة) رأى بعض عبيده ثورًا يلوح فقال: هذه منارة الجامع، ونظر آخر إلى نعامة في جانبها الآخر، فقال وهذه نخلة، فضحك أبو الطيب وضحكت البادية فقال:

بسيطة مهلا سقيت القطارا
تركت عيون عبيدي حيارى
فظنوا النعام عليك النخيل
وظنوا الصوار عليك المنارا
فأمسك صحبي بأكوارهم
وقد قصد الضحك فيهم وجارا

وورد العقدة بعد ليال وسقى بالجراوي؛ واجتاز ببني جعفر بن كلاب، وهم بالبريت والأضارع فبات فيهم؛ وسار إلى أعكش حتى ورد الرهيمة، ودخل الكوفة فقال في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة:

ألا كل ماشية الخيزلَى
فدى كل ماشية الهيدبَى

ا.ﻫ.»

لم يسلك أبو الطيب طريقًا معهودة بين مصر والعراق، تجنب طريق الشام إذ كانت في سلطان كافور، فما سلك طريق دمشق إلى الكوفة ولا طريق الفرات، ولم يسلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق الحاج العراقي من المدينة إلى الكوفة، فهذه المواضع التي ذكرت في الرواية المتقدمة والمواضع التي ذكرها أبو الطيب في قصيدته ليست من منازل الطرق المعروفة في كتب المسالك، فقد سار؛ كما قال صاحب الإيضاح: «على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل الأواجن.»١٦ ومن أجل هذا كان أبو جعفر وزير عضد الدولة يختلف إليه في شيراز ليحفظ المناهل والمنازل من مصر إلى الكوفة.١٧

وحقٌّ أن مسير أبي الطيب من الفسطاط إلى الكوفة على هذه الشاكلة تصديقُ ما ادعى في شعره من الجرأة والدربة على الأسفار بالليل والنهار، والخبرة بالبوادي، والمعرفة بقبائل العرب وسادتها، والدهاء والحزم. وقد صدق حين قال:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والضرب والطعن والقرطاس والقلم

(٣) بلوغه الكوفة

بلغ أبو الطيب الكوفة في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط، فأنشأ قصيدة يعدد فيها المواضع التي مر بها في مسيره، وقد عد واحدًا وعشرين موضعًا، ويفخر بما فعل ويهجو كافورًا، وأول القصيدة:

ألا كل ماشية الخيزلَى
فدى كل ماشية الهيدبَى
وكل نجاة بجاوية
خنوف وما بي حسن المِشَى
ولكنهن حبال الحياة وكيد
العداة وميط الأذى
ضربت بها التيه ضرب القمار
إما لهذا وإما لذا
إذا فزعت قدمتها الجياد
وبيض السيوف وسمر القنا
فمرت بنخل وفي ركبها
عن العالمين وعنه غنى

وذكر مواضع مر بها إلى أن قال:

فلما أنخنا ركزنا الرماح
بين مكارمنا والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا
ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
وما كل من قال قولًا وفى
ولا كل من سيم خسفًا أبى
ومن يك قلبٌ كقلبي له
يشق إلى العز قلب التوى
ولا بد للقلب من آلة
ورأي يصدع صم الصفا
وكل طريق أتاه الفتى
على قدر الرِّجل فيه الخُطى

ثم أخذ يهجو كافورًا ووزيره، ويصف حاله في مدحه:

ونام الخويدم عن ليلنا
وقد نام قبل عمى لا كرى
وكان على قربنا بيننا
مهامه من جهله والغبى
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكى
بها نبطيٌّ من اهل السواد
يدرس أنساب أهل الفلا
وأسود مشفره نصفه
يقال له أنت بدر الدجى
وشعر مدحت به الكركدن
بين القريض وبين الرقى
فما كان ذلك مدحًا له
ولكنه كان هجو الورى

هكذا رجع الشاعر الهمام إلى بلده بعد أن غاب عنها نحو ثلاثين سنة.

١  المعري، والواحدي ونسختي من الديوان.
٢  المعري، ونسخة أوقاف بغداد.
٣  المعري، ونسخة أوقاف بغداد.
٤  الخزانة ج١ ص٣٨٥.
٥  النسخة ١٥٣٠.
٦  معجم البلدان: نجة الطير موضع بمصر وأرض التيه له ذكر في خبر المتنبي.
٧  في شرح المعري: مجلب.
٨  في شرح المعري: يختلس.
٩  الزيادة من شرح المعري.
١٠  ما بين القوسين من شرح المعري.
١١  بنت وردان: دويبة كالخنفساء حمراء تألف القاذورات.
١٢  التوس: الأصل.
١٣  الخامعات: الضباع.
١٤  في شرح الواحدي أن العبد الذي قتل كان سأل عائفًا عن حال المتنبي فذكر له من حاله ما زين له الغدر به.
١٥  وكف المطر: قطر.
١٦  الخزانة ص٣٨٥.
١٧  الخزانة ص٣٨٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤