الفصل الرابع عشر

رثاء فاتك وهجاء كافور

خرج أبو الطيب من مصر ناقمًا على كافور الذي وعده ومطله ثم أخلفه، باكيًا على صديقه أبي شجاع فاتك الذي أعطاه بغير وعد وتودد إليه فأنس به ورجا أن يجد فيه صديقًا معوانًا في النائبات، أخرجه من مصر خيبة أمله في كافور ومصيبته في أبي شجاع، فانظر قلب الشاعر مقسمًا بين نقمة يصبها على عدوه وحرقة يضرمها الحزن والحسرة على صديقه، وهو بين النقمة والحزن يرى الزمان وأهله فيأتي بالحكمة الثائرة الساخطة حينًا والحكمة الوادعة حينًا، وقد أبان في هجاء كافور عن قلب حقود لا يغفر الذنب ولا يعفو عن الإساءة كما أبان في رثاء فاتك عن قلب وفيٍّ لا ينسى المودة ولا يكفر النعمة.

١

فأما رثاء فاتك ففي ثلاث قصائد:

الأولى العينية التي أنشأها حين وفاة أبي شجاع وتوفي ليلة الأحد عشاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلاثمائة، وأنشدها بعد رحيله عن الفسطاط.١ وقد رحل عنها بعد شهرين من وفاة فاتك، وأولها:
الحزن يقلق والتجمل يردع
والدمع بينهما عصِيٌّ طيع
يتنازعان دموع عين مسهد
هذا يجيء بها وهذا يرجع
النوم بعد أبي شجاع نافر
والليل مُعيٍ والكواكب ظلع
إني لأجبن من فراق أحبتي
وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة
ويلم بي عتب الصديق فأجزع

وفي البيتين الأخيرين وصف صادق لنفسه فقد كان في هذه القصيدة نفسها قاسيًا على عدوه كافور، رقيقًا يذوب حسرات على صديقه فاتك.

وانظر كيف يجتمع الغضب والحزن في قوله:

قبحًا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل لؤم برقع
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكع
أبقيت أكذب كاذب أبقيته
وأخذت أصدق من يقول ويسمع
وتركت أنتن ريحة مذمومة
وأخذت أطيب ريحة تتضوع

ثم يقول في رثاء فاتك وهو يفكر في كافور وأشباهه:

المجد أخسر والمكارم صفقة
من أن يعيش لها الكريم الأروع
والناس أنزل في زمانك منزلا
من أن تعايشهم وقدرك أرفع

والقصيدة الثانية نظمها في الكوفة وقد أخرج تفاحة من الند عليها اسم فاتك فقال:

يذكرني فاتكًا حلمُه
وشيء من الند فيه اسمه
ولست بناسٍ ولكنني
يُجدد لي ذكره شمه
وأي فتى سلبتني المنون
لم تدر ما ولدت أمه
ولا ما تضم إلى صدرها
ولو علمت هالها ضمه
بمصر ملوك لهم ما له
ولكنهم ما لهم همه
فأجود من جودهم بخله
وأحمد من حمدهم ذمه
وأشرف من عيشهم موته
وأنفع من وجدهم عدمه
وإن منيته عنده
لكالخمر سُقِّيه كرمه
فذاك الذي عبه ماؤه
وذاك الذي ذاقه طعمه
ومن ضاقت الأرض عن نفسه
حرى أن يضيق بها جسمه

وهذه ذكرى تنطق بالحسرة على صديقه والوفاء له، تأمل قوله: ولست بناسٍ إلخ، وقوله: وأي فتى سلبتني المنون إلخ، لترى الحزن الصادق والوفاء الخالص.

ويرثي فاتكًا مرة أخرى بعد خروجه من بغداد في شعبان سنة اثنتين وخمسين، ورثاء الشاعر بالعراق صديقًا له مات في مصر قبل سنتين، وقد أدى حق رثائه من قبل، برهان على إعجاب أبي الطيب بأبي شجاع واعترافه بفضله وعلى ما كان بين الرجلين من مودة محكمة وما كان في خلق أبي الطيب من وفاء، يقول في أول المرثية يذكر أسفاره:

حتام نحن نُساري النجم في الظلم
وما سراه على خف ولا قدم
ولا يُحس بأجفان يحس بها
فقد الرقاد غريب بات لم ينم
تُسود الشمس منا بيض أوجهنا
ولا تُسود بيض العذر واللمم
وكان حالهما في الحكم واحدة
لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم

ويصف سيره عن مصر ثم يصف غلمانه الذين صحبوه في أسفاره:

في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
بما رضيت رضَى الأيسار بالزلم
تبدو لنا كلما ألقوا عمائمهم
عمائم خلقت سودًا بلا لثم
بيض العوارض طعانون من لحقوا
من الفوارس شلالون للنعم
قد بلغوا بقناهم فوق طاقته
وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
في الجاهلية إلا أن أنفسهم
من طيبهن به في الأشهر الحرم
ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة
فعلموها صياح الطير في البهم

ثم يدخل إلى رثاء فاتك بقوله:

تخدي الركاب بنا بيضًا مشافرها
خضرًا فراسنها في الرغل والينم٢
مكعومة بسياط القوم نضربها
عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
وأين منبته من بعد منبته
أبي شجاع قريع العرب والعجم
لا فاتك آخر في مصر نقصده
ولا له خلف في الناس كلهم
من لا تشابهه الأحياء في همم
أمسى تشابهه الأموات في الرمم
عدمته وكأني سرت أطلبه
فما تزيدني الدنيا على العدم

ثم يقول إنه سيترك القلم إلى السيف، وهذا أول كلام عن التوسل بالسيف إلى آماله منذ اتصل بسيف الدولة:

ما زلت أُضحك إبلي كلما نظرت
إلى من اختضبت أخفافها بدم؟
أسيرها بين أصنام أشاهدها
ولا أشاهد فيها عفة الصنم
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدًا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
أسمعتني ودوائي ما أشرت به
فإن عصيت فدائي قلة الفهم
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هل بلم

وينعى الوفاء في الناس وكأنه يعني كافورًا:

غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
وأعوز الصدق في الإخبار والقسم
سبحان خالق نفسي كيف لذتها
فيما النفوس تراه غاية الألم

ويختم القصيدة بقوله:

وقت يضيع وعمر ليت مدته
في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم

وفي هذه القصيدة أثر للخيبة وسوء اللقاء اللذين مُني بهما في بغداد، إلى خيبته التي مُني بها في مصر.

٢

هجاء كافور

(أ)

جاش أبو الطيب على أبي المسك لعنات تموج بها أبحر الشعر، وقذف عليه حممًا يهدم بها ما شاد في مدحه من بيوت، فلماذا هذا الهجاء؟

إن مدح الشعراء يُبغى ثوابه فلا ينبغي أن نلمس له أسبابًا أخرى، ولكن الهجاء لا ثواب عليه، بل يدعو الشاعر إليه نقمة على المهجو أدت إليها أسباب؛ فما الذي نقم أبو الطيب من كافور؟

أعطى كافور الشاعر كثيرًا؛ ضيفه في دار خاصة، ووصله صلات مختلفة، نجد في نسخ الديوان أنه خلع عليه حين قدم مصر وأعطاه آلافًا من الدراهم، وأعطاه مرة فرسًا أدهم، وأعطاه ستمائة دينار ذهب مرة أخرى، والذي يعطي هذا العطاء جملة يعطي غيره في هذه السنوات التي أمضاها الشاعر في ضيافته، وأبو الطيب يقول:

وإني لفي بحر من الخير أصله
عطاياك أرجو مدها وهي مده

أحسب أن كافورًا أعطى الشاعر أقل مما أمل ودون ما تعود من سيف الدولة، وكان الشاعر يؤمل أن ينال مالًا كثيرًا وينال إلى المال ضيعة أو ولاية، وقد قدمت بيان هذا.

ولم يكن كافور أهلًا لهذا الهجاء بما أقل هباته أو بما منع الشاعر ولاية أو ضيعة، ولكنه استحقه بما وعد ومطل ثم أخلف، فملأ نفس الشاعر الطموح أملًا، ثم ذبذبه بين الرجاء والخيبة، ثم أيأسه بعد انتظار طويل.

وكان أبو الطيب يبغي لنفسه مجدًا ويريد أن يسوغ فراق سيف الدولة بما ينال من هذا المجد، وكان يخشى أن يشمت به أعداؤه، فكان حرمان كافور إياه هدم مجد بناه في نفسه وإثارة ندم على فراق ابن حمدان، وإشمات أعداء وحساد طالما ذكرهم في شعره، ثم زاده غيظًا أن كافورًا حاول أن يمسكه عنده ولم ييسر له الرحيل.

وعلى قدر هذا كله كان سخطه ومرارة هجائه، وأبو الطيب إذا حقد اضطرم قلبه فإذا هجا رمى بالحمم كالإرة٣ المضطرمة.

ولم يهجُ في حياته إلا ثلاثة: ابن كيغلغ وكافورًا وضبة؛ ولكنه هجاء حاطم هادم مقذع بعثه الحقد والغل لا التلهي والسخرية.

(ب)

وأهاجي كافور قسمان: قسم جاء في أثناء منظومات تضمنت أغراضًا أخرى غير الهجاء، وذلك في ثلاث قصائد وقطعة، في القصيدة التي أنشأها قبل خروجه من مصر بيوم واحد:

عيدٌ بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد

والقصيدة التي وصف فيها سيره من مصر إلى الكوفة:

ألا كل ماشية الخيزلَى
فدى كل ماشية الهيدبَى

والقصيدة العينية التي رثى بها فاتكًا:

الحزن يقلق والتجمل يردع
والدمع بينهما عصي طيع

والقطعة التي نظمها حين رأى في الكوفة من هدايا فاتك تفاحة من الند عليها اسمه.

والقسم الثاني ست قطع فيها أربعة وأربعون بيتًا.

وليس يعنينا ما في الهجاء من شتم وسخرية وازدراء، ولكن يعنينا الأبيات التي تعرب عما نقمه الشاعر من كافور، وما أثار غضبه عليه لنتعرف باعث هذا الهجاء.

فمن هجائه في القطع قوله:

أمَيْنًا وإخلافًا وغدرًا وخسة
وجبنًا؟ أشخصًا لحت لي أم مخازيا؟

فهو يصفه بالمين والإخلاف والغدر؛ لأنه كذبه وعده.

وفي قطعة أخرى:

ما من يرى أنك في وعده
كمن يرى أنك في حبسه
لا يُنجز الميعاد في يومه
ولا يعي ما قال في أمسه
وإنما تحتال في جذبه
كأنك الملَّاح في قلسه
فلا تُرجَّ الخير عند امرئ
مرت يد النخاس في رأسه

وفي قطعة ثالثة:

لو كان ذا الآكل أزوادنا
ضيفًا لأوسعناه إحسانا
لكننا في العين أضيافه
يوسعنا زورًا وبهتانا
فليته خلى لنا طرقنا
أعانه الله وإيانا

فتأمل قوله: «يوسعنا زورًا وبهتانًا»، وقوله «فليته خلى لنا طرقنا.»

ومن قوله في قصيدة الخروج:

أمسيت أروح مثر خازنًا ويدًا
أنا الغني وأموالي المواعيد
إني نزلت بكذابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود

ويقول في القصيدة العينية التي رثا بها أبا شجاع:

أبقيت أكذب كاذب أبقيته
وأخذت أصدق من يقول ويسمع

فهذه هي الأبيات التي تبين لنا سبب الهجاء وما عداها سب قليل الغناء.

وفي القصيدة الميمية التي رَثَى بها فاتكًا يقول غير مصرح باسم كافور:

غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
وأعوز الصدق في الإخبار والقسم

(ﺟ)

متى نظم هذه الأهاجي؟

أما القصائد الثلاث فمعروفة التاريخ، العينية التي رثى بها أبا شجاع أنشأها حين وفاته وأنشدها بعد رحيله كما قدمت، والدالية نظمها قبل خروجه من مصر بيوم واحد، وقصيدة السفر قالها حينما حل بالكوفة.

وأما القطع الأخرى غير المؤرخة ففي الواحدي ونسخة بغداد ونسختي أن القطعة التي مطلعها:

أريك الرضى لو أخفت النفس خافيًا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيًا

نظمها حينما خرج من عند كافور وقد أنشده أولى مدائحه، وهذا قول لا يقبله النقد فلم يكن لأبي الطيب أن يهجو كافورًا وقد جاءه مادحًا مملوءًا رجاء، ولما ير منه ما يكره، ولأن الشاعر يقول في القطعة:

أمينًا وإخلافًا وغدرًا وخسة … إلخ.

ولم يكن كافور وعده إذ ذاك شيئًا فأخلف، وأحسب هذه القطعة وضعت بعد القصيدة الأولى في بعض نسخ الديوان؛ لأنها توافقها وزنًا ورويًّا؛ فوهم الشراح من أجل هذا.

والقطعة:

أنوك من عبد ومن عرسه
من سلط العبد على نفسه

وضعت في شرح الواحدي والمعري والنسخة (١٥٣٠) ونسختي بعد القصيدة الميمية التي أنشدها في ربيع الثاني سنة ٣٤٧ وقيل: إنه نظمها بعد هذه القصيدة، وهذا ممكن ولكنه بعيد فما أظن أبا الطيب هجا كافورًا إلا حين أشرف على اليأس منه وانقطع عن مدحه زمنًا طويلًا وذلك في سنة ٣٤٨ فما بعدها:

والقطعة التي يقول فيها:

وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب وأما بطنه فرحيب
يموت به غيظًا على الدهر أهله
كما مات غيظًا فاتك وشبيب

نُظمت بعد موت فاتك في شوال سنة ٣٥٠.

والقطعة التي يقول فيها:

فليته خلى لنا طرقنا
أعانه الله وإيانا

قيلت حين همَّ بالرحيل.

وأحسب بعض القطع أنشئت بعد خروجه من مصر.

وأما القصيدتان اللتان يقال إنهما وجدتا في رحله بعد قتله فسيأتي الكلام فيهما.

١  نسختي من الديوان.
٢  الرغل نبات أخضر صغير ينبسط على الأرض. رأيته في بحيرة العاقول على مقربة من المدينة المنورة فسألت جنديًّا كان معي من أهل المدينة فقال: هذا الرغل.
٣  الإرة: البركان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤