الفصل السابع عشر

أبو الطيب في فارس

(١) عند ابن العميد

قال ابن خلكان في ترجمة أبي الفضل جعفر بن الفرات وزير كافور الإخشيدي:

ذكر الخطيب أبو زكريا التبريزي في شرحه ديوان المتنبي أن المتنبي لما قصد مصر ومدح كافورًا مدح الوزير أبا الفضل المذكور بقصيدته الرائية التي أولها:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى

وجعلها موسومة باسمه، فكانت إحدى قوافيها جعفرًا، وكان قد قال فيها:

صغت السوار لأي كف بشرت
بابن الفرات وأي عبد كبرا

فلما لم يرضه صرفها عنه ولم ينشده إياها، فلما توجه إلى عضد الدولة قصد أرجان، وبها أبو الفضل بن العميد فحول القصيدة إليه، وحذف منها لفظ جعفر وجعل ابن العميد مكان ابن الفرات.

وقال صاحب الإيضاح: «وكان السبب في قصده أبا الفضل بن العميد على ما أخبرني أبو علي بن شبيب القاشاني — وكان أحد تلامذتي ودرس علي بقاشان سنة ثلاثمائة وسبعين وتوزَّر للأصبهبد بالجبل وأبوه أبو القاسم توزَّر لوشمكير بجرجان — عن العلوي العباسي نديم أبي الفضل بن العميد الذي يقول فيه:

أبلغ رسالاتي الشريف وقل له
قدك اتئد أربيت في الغُلَواء

أن المعروف بالمطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
وجعل مكان أبا المسك أبا الفضل، وسار إلى خراسان وحمل القصيدة أعني قصيدة المتنبي إلى أبي الفضل وزعم أنه رسوله فوصله أبو الفضل بألفي درهم، واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد فقال رجل يعطي لحامل شعري هذا فما تكون صلته لي؟»١

وهاتان روايتان خليقتان بالرد، ويكفي التأمل في القصيدتين لنرى كذب الروايتين، ففي القصيدة الرائية أبيات لا تصلح لخطاب ابن الفرات ولا مدحه، وأبيات تصف سفر أبي الطيب إلى أرجان، وما كان أبو الطيب عييًا بالشعر فيحول قصيدة من مدح ابن الفرات إلى مدح ابن العميد ويتكلف حذف أبيات وإثبات أبيات، وتغيير أخرى لتلائم ممدوحه الثاني.

والقصيدة البائية فيها ندم أبي الطيب على فراق سيف الدولة وأبيات فيها اسم كافور، وأبيات فيها لوم كافور على حرمانه الشاعر مما أمَّل، ويذكر الشاعر في القصيدة العيد وشوقه إلى أهله، ثم أبيات أخرى لا تلائم مدح ابن العميد. وما كان الشاشي ليغفل عن هذا وما كانت هذه الرسالة المفتراة لتخيل عند ابن العميد النقادة.

وروى صاحب الصبح المنبي أن ابن العميد كان يخاف ألا يقصده أبو الطيب ويعامله معاملة المهلبي، فكان يتحامل عليه ويغض من شعره.

رُوي عن بعض أصحاب ابن العميد قال: «دخلت عليه يومًا قبل دخول المتنبي فوجدته واجمًا، وكانت قد ماتت أخته عن قريب فظننته واجدًا لأجلها، فقلت: لا يحزن الله الوزير فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أُخمل ذكره وقد ورد عليَّ نيف وستون كتابًا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملًا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

فكيف السبيل إلى إخماد ذكره؟ فقلت: القدر لا يغالب، والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر واشتهار الاسم، فالأولى ألا تشغل فكرك بهذا الأمر.

ويؤخذ من رواية الصبح المنبي أن ابن العميد لم يرسل إلى المتنبي يدعوه، وفي بعض نسخ الديوان أنه أرسل إليه، في نسخة الوزير تاج الدين المحفوظة في دار الكتب المصرية والتي رمزت إليها بالحرف ت في تعليق على الديوان: «ثم خرج أبو الطيب من الكوفة إلى العراق (لعله يريد بغداد) فراسله ابن العميد أبو الفضل محمد بن الحسين وزير ركن الدولة من أرجان فسار إليه.»

ومهما يكن فقد فصل من مدينة السلام يوم الخميس ١١ صفر سنة ٣٥٤،٢ وذلك بعد سبعة عشر شهرًا من خروجه من بغداد المرة الأولى بعد أن يئس من المهلبي ومعز الدولة، وسار من طريق الأهواز، ولقيه التنوخي بها كما في تاريخ الخطيب، وبلغ أرجان في الشهر نفسه، ويحدثنا صاحب الإيضاح عن دخوله أرجان روايةً عن ابن جني عن علي بن حمزة البصري قال:

كنت مع المتنبي لما ورد أرجان، فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن، فضرب بيده على صدره وقال: تركت ملوك الأرض يتعبدون بي، وقصدت رب هذه المدرة، فما يكون منه؟ ثم وقف بظاهر المدينة وأرسل غلامًا على راحلته إلى ابن العميد، فدخل عليه وقال: مولاي أبو الطيب خارج البلد، وكان وقت القيلولة وهو مضجع في دسته، فثار من مضجعه واستثبته ثم أمر حاجبه باستقباله، فركب واستركب من لقيه في الطريق، ففصل عن البلد بجمع كثير فتلقوه وقضوا حقه وأدخلوه البلد، فدخل على أبي الفضل فقام له من الدست قيامًا مستويًا، وطُرح له كرسي عليه وسادة ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقًا إليك يا أبا الطيب.

ثم أفاض المتنبي في حديث سفره، وأن غلامًا له احتمل سيفًا وشذ عنه.

وأخرج من كمه عقب هذه المفاوضة درجًا فيه قصيدته:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
فوحى أبو الفضل إلى حاجبه بقرطاس فيه مائتا دينار وسيف غشاؤه فضة، وقال: هذا عوض عن السيف المأخوذ، وأفرد له دارًا نزلها، فلما استراح من تعب السفر كان يغشى أبا الفضل كل يوم ويقول: ما أزورك إكبابًا إلا لشهوة النظر إليك، ويؤاكله.٣

لبث أبو الطيب شهرين عند ابن العميد، وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه.

وقد مدح الشاعر ابن العميد بثلاث قصائد؛ الأولى التي مطلعها:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك إن لم يجز دمعك أو جرى

وفيها يقول بعد النسيب:

أعطى الزمان فما قبلتُ عطاءه
وأراد لي فأردت أن أتخيرا
أرجان أيتها الجياد فإنه
عزمي الذي يدع الوشيج مكسرًا
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله
ما شق كوكبك العجاج الأكدرا
أمي أبا الفضل المبر أليتي
لأيممن أجل بحر جوهرا
أفتى برؤيته الأنام وحاش لي
من أن أكون مُقصِّرًا أو مُقصِرا
صُغتُ السوار لأي كف بشرت
بابن العميد وأي عبد كبرا
إن لم تغثني خيله وسلاحه
فمتى أقود إلى الأعادي عسكرا

فقد رجع إلى ذكر الخيل والسلاح والأعادي كما ترى في البيت الأخير. ويصف بلاغة ابن العميد ومهابته ثم يقول:

أرأيت همة ناقتي في ناقة
نقلت يدًا سرحًا وخفًّا مجمرا
تركت دخان الرمث في أوطانها
طلبًا لقوم يوقدون العنبرا
وتكرمت ركباتها عن مبرك
تقعان فيه وليس مسكا أذفرا
فأتتك دامية الأظل كأنما
حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
بدرت إليك يد الزمان كأنها
وجدته مشغول اليدين مفكرا
مَن مبلغ الأعراب أني بعدهم
لاقيت رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكًا متبديًا متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا
وأتى «فذلك» إذ أتيت مؤخرًا٤

ربما يظن أن في قول أبي الطيب: «تركت دخان الرمث إلخ» و«من مبلغ الأعراب إلخ» تحقيرًا للعرب لا يجمل بهذا الشاعر العربي القح، وجواب هذا في الكلام على العروبة في شعر أبي الطيب فيما يأتي.

والقصيدة التالية مدحه بها يوم النوروز وقد انتقد ابن العميد شعره فهو يمدحه ويعتذر بقوله:

هل لعذري عند الهمام أبي الفضل
قبول سواد عيني مداده؟
أنا من شدة الحياء عليل
مكرمات المعلة عواده
ما كفاني تقصير ما قلت فيه
عن علاه حتى ثناه انتقاده
إنني أصيد البزاة ولكن
أجل النجوم لا أصطاده
رب ما لا يعبر اللفظ عنه
والذي يضمر الفؤاد اعتقاده
ما تعودت أن أرى كأبي الفضل
وهذا الذي أتاه اعتياده
إن في الموج للغريق لعذرًا
واضحًا أن يفوته تعداده
للندى الغلب إنه فاض والشعر
عمادي وابن العميد عماده
نال طبي الأمور إلا كريمًا
ليس لي نطقه ولا فيَّ آده
ظالم الجود كلما حل ركب
سيم أن تحمل البحار مزاده
غمرتني فوائد شاء فيها
أن يكون الكلام مما أفاده
ما سمعنا بمن أحب العطايا
فاشتهى أن يكون فيها فؤاده

وقال صاحب الإيضاح: أرسل ابن العميد بعض ندمائه إلى المتنبي: كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب، وما سمعته دونه. فلم يحر جوابًا إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئًا ومعتذرًا.

وفي الأبيات اعتراف بما أخذه ابن العميد عليه، واعتذار عنه، وكأن شاعرنا استشعر الهيبة حين مدح أديبًا كبيرًا وهو لم يتعود مدح الأدباء النقاد، كما يقول: ما تعودت أن أرى كأبي الفضل … إلخ.

وقد أدرك الواحدي هذا فقال في شرح هذا البيت: وهذا يدل على تحرز المتنبي منه وتواضعه له، ولم يتواضع لأحد في شعره ما تواضع له.

وأزيد على هذا أن اهتمام الشاعر بابن العميد وتهيبه إنشاد هذا الأديب العالم أوحيا إلى أبي الطيب شيئًا من التكلف والإغراب في القصيدة الأولى، فقد أراد أن يأتي بأمر بدع، وأن يتفلسف مسايرة لابن العميد فحط هذا من شعره.

وبعد هذه القصيدة في الديوان قطعتان الأولى خمسة أبيات أنشأها حين ورد عليه كتاب من أبي الفتح بن أبي الفضل بن العميد يثني عليه ويذكر شوقه إليه، وهي:

بكتب الأنام كتاب ورد
فدت يد كاتبه كل يد
يعبر عما له عندنا
ويذكر من شوقه ما نجد٥ … إلخ

والثانية أربعة أبيات يصف فيها مجمرة رآها عند ابن العميد:

أحبُّ امرئ حبت الأنفس
وأطيب ما شمه معطس
ونشرٌ من الند لكنما
مجامره الآس والنرجس٦ … إلخ

ثم يودعه بالقصيدة الثالثة:

نسيت وما أنسى عتابًا على الصد
ولا خفرًا زادت به حمرة الخد

وفيها يصف غلمانه الذين صحبوه في أسفاره كما وصفهم من قبل في مرثية فاتك الميمية:

تبدل أيامي وعيشي ومنزلي
نجائب لا يفكرن في النحس والسعد
وأوجه فتيان حياءً تلثموا
عليهن لا خوفًا من الحر والبرد
وليس حياءُ الوجه في الذئب شيمةً
ولكنه من شيمة الأسد الورد
إذا لم تُجزهم دار قوم مودةٌ
أجاز القنا والخوف خير من الود
يحيدون عن هزل الملوك إلى الذي
توفر من بين الملوك على الجد

إلى أن يقول في مدح ابن العميد:

فإن يكن المهدي من بان هديه
فهذا، وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟

ثم يقول:

تفضلت الأيام بالجمع بيننا
فلما حمدنا لم تُدمنا على الحمد

وفي هذا تسوية نفسه بابن العميد وهي عادته في مدائحه. ثم يذكر أهله وانتظارهم رجوعه:

وقد كنت أدركت المنى غير أنني
يعيِّرني أهلي بأدراكها وحدي

(٢) عند عضد الدولة

كان عضد الدولة بصيرًا بالأدب له شعر جيد، وكانت دولته هو وبني بويه عامة دولة للأدب العربي، وتولى الوزارة لهم ابن العميد والصاحب والمهلبي.

وكان الشعر الفارسي يترعرع في الجهات النائية من فارس لا في الجهات القريبة من العراق العربي، ولم يهتم أحد من بويه ووزرائهم بشعراء الفرس، إذ كان الأدب العربي غالبًا، والشعر العربي أبعد صيتًا وأروج سوقًا.

وكان عضد الدولة يسمع بأبي الطيب ويتمنى قدومه عليه، ففي الإيضاح أنه كان جالسًا في البستان الزاهر في يوم زينته وأكابر حواشيه وقوف؛ فقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الحكاري: ما يُعوز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين٧ فقال عضد الدولة: لو حضر المتنبي لناب عنهما.

أرسل عضد الدولة إلى ابن العميد يسأله أن يدعو أبا الطيب إلى المسير إليه، وكان الشاعر يريد العود من أرجان إلى الكوفة، وفي قصيدة وداع ابن العميد ما يشعر بهذا، فقد اعتذر عن الرحيل بتطلع أهله إليه، وهذا صريح في كلام صاحب الإيضاح فهو يقول: «لما ودع أبا الفضل بن العميد ورد كتاب عضد الدولة يستدعيه فعرفه ابن العميد، فقال: ما لي وللديلم؟ فقال أبو الفضل: عضد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به. فأجاب بأني مُلَقَّى من هؤلاء الملوك، أقصد الواحد بعد الواحد، وأملكهم شيئًا يبقى ببقاء النيرين، ويعطونني عرضًا فانيًا، ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه …» فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث فورد الجواب بأنه مملك مراده في المقام والظعن.

وصدق أبو الطيب في حديثه عن الملوك وفراقهم فكذلك فارق سيف الدولة وكافورًا.

وفي شرح المعري:

«وجه أبو شجاع عضد الدولة في طلبه، ولم يمكن الأستاذ مخالفته فحمله مكرهًا.

سار من أرجان فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب، فلما تلاقيا وتسايرا استنشده فقال المتنبي: الناس يتناشدونه فاسمعه. فأخبر أبو عمر أنه رسم له ذلك عن المجلس العالي، فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها:

ألا كل ماشية الخيزلَى
فدى كل ماشية الهيدبَى

ثم دخل البلد فأنزل دارًا مفروشة ورجع أبو عمر الصباغ إلى عضد الدولة فأخبره بما جرى وأنشده أبياتًا من كلمته وهي:

فلما أنخنا ركزنا الرماح
بين مكارمنا والعُلى
وبتنا نقبل أسيافنا
ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا

فقال عضد الدولة: هو ذا يتهددنا المتنبي.

ثم لما نفض غبار السفر واستراح ركب إلى عضد الدولة فلما توسط الدار انتهى إلى قرب السرير مصادمة فقبل الأرض واستوى قائمًا، وقال شكرت مطية حملتني إليك، وأملًا وقف بي عليك، ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر، وعن علي بن حمدان فذكره وانصرف.» ا.ﻫ.

أنشأ أبو الطيب عند عضد الدولة ست قصائد وأرجوزة طردية وقطعة، وإحدى القصائد تعزية بعمة عضد الدولة التي توفيت ببغداد، والأخريات مدائح ليس فيها من التاريخ إلا وصفه هزيمة وهشوذان الكردي الثائر على بني بويه في قصيدتين.

وأولى القصائد القصيدة التي مطلعها:

أوه بديل من قولتي واها
لمن نأت والبديل ذكراها

ويؤخذ من الإيضاح أن الأولى هي التي وصف فيها الشعب في طريقه إلى شيراز:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان

ولكن ترتيب الديوان وعنوان الأولى في النسخ، وقوله في الثانية يصف ابني عضد الدولة:

ولم أر قبله شبلي هزبر
كشبليه ولا مهري رهان

وهو لم يرهما إلا بعد قدومه إلى شيراز، وغشيانه مجلس عضد الدولة.

كل هذا يدل على أن الأولى هي: أوه بديل من قولتي واها.

ويعنينا من هذه القصائد في تاريخ أبي الطيب أنه استوحش من فقد العربية في فارس، وذكر الشام وحن إليها في قصيدتين، ولم نر ذلك في شعره بمصر والعراق كأنه حن إلى ملاعب الصبي من بلاد العرب حين رحل إلى بلاد العجم، يقول في القصيدة الأولى:

أحب حمصًا إلى خناصرة
وكل نفس تحب محياها … إلخ

ويقول في الثانية:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان

إلى أن يقول وقد افتقد الضيافة التي تعودها في بلاد العرب:

ولو كانت دمشق ثنى عناني
لبيق الثرد صيني الجفان
يلنجوجي ما رُفعت لضيف
به النيران ندي الدخان
تحل به على قلبٍ شجاع
وترحل منه عن قلبٍ جبان
بلاد لم يزل منها خيال
يشيعني إلى النَّوبندجان

وكذلك يدل على حنينه إلى العرب، ولا سيما باديتهم وهو مغرم بالبداوة، تغزله بالبدويات في القصيدة اللامية التي مدح بها عضد الدولة:

اثلث فإنا أيها الطلل
نبكي وترزم تحتنا الإبل

يقول فيها:

في مقلتي رشأ تديرهما
بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها
وصدودها ومن الذي تصل

وقد وصل عضد الدولة الشاعر صلات كثيرة، روى صاحب الإيضاح أنه لما أنشده القصيدة الأولى «حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية والأمنان، من بين الكافور والعنبر والمسك والعود، وقاد فرسه الملقب بالمجروح، وكان اشتُري له بخمسين ألف شاة، وبدرةً دراهمها عدلية، ورداء حشوه ديباج رومي مفصل، وعمامة قومت بخمسمائة دينار، ونصلًا هنديًّا مرصع النجاد والجفن بالذهب.»

وأنه لما دخل عليه يوم نثر الورد قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم، وأنشده قطعة فأعطاه فرسًا وخلعة وبدرة.

وروى صاحب اليتيمة أنه وصله بأكثر من مائتي ألف درهم، وأنه لما استأذنه في المسير أمر أن يخلع عليه الخلع الخاصة، ويقاد إليه الحملان الخاص، وتعاد صلته بالمال الكثير.

وقد ظهر أثر هذا في شعر أبي الطيب ولا سيما قصيدة التوديع.

أقام أبو الطيب في شيراز زهاء ثلاثة أشهر وقرئ عليه ديوانه، ثم أنشد قصيدة الوداع في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ولا بد من وقفة نتأمل فيها هذه القصيدة.

يبالغ الشاعر في شكر الأمير ويقول:

أروح وقد ختمت على فؤادي
بحبك أن يحل به سواكا
وقد حملتني شكرًا طويلًا
ثقيلًا لا أطيق به حراكًا
أحاذر أن يشق على المطايا
فلا تمشي بنا إلا سواكا

ويظهر الشاعر رغبته في الرجوع إلى الأمير:

لعل الله يجعله رحيلًا
يعين على الإقامة في ذراكا
فلو أني استطعت خفضت طرفي
فلم أبصر به حتى أراكا
وكيف الصبر عنك وقد كفاني
نداك المستفيض وما كفاكا

ويقول:

وما أنا غير سهم في هواء
يعود ولم يجد فيه امتساكا

ويعتذر بأن أهله في شوق إليه وحزن لغيابه.

وكم دون الثوية من حزين
يقول له قدومي: ذا بذاكا
ومن عذب الرُّضاب إذا أنخنا
يقبل رحل تروك والوراكا
يحرم أن يمس الطيب بعدي
وقد عبق العبير به وصاكا
ويمنع ثغره من كل صب
ويمنحه البشامة والأراكا
يحدث مقلتيه النومُ عني
فليت النوم حدث عن نداكا

ويقول ما يدل على أنه يتوقع شرًّا في طريقه:

فزل يا بُعد عن أيدي ركاب
لها وقع الأسنة في حشاكا
وأيا شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا
فلو سرنا وفي تشرين خمس
رأوني قبل أن يروا السماكا
يُشَرِّدُ يُمْنُ فنَّاخُسْرَ عَنِّي
قنا الأعداء والطعن الدراكا
وألبس من رضاه في طريقي
سلاحًا يذعر الأعداء شاكا

فقوله: وأيَّا شئت إلخ … وقوله: إن يمن فناخسر يشرد عنه الأعداء والطعن، وإن رضاه سلاح له في طريقه، يشعر أنه يخاف الطريق، ويحذر عدوًّا عليها أو لصًّا.

وقد روى العكبري أن عضد الدولة قال: تطيرت عليه من ترك النجاة بين الأذاة والهلاك. ومعنى هذا أن سامع القصيدة شعر أن فيها ما يتطير منه، وقد قال من قبل في قصيدة يصف الأمن في بلاد عضد الدولة:

أروض الناس من ترب وخوف
وأرض أبي شجاع من أمان
يُذم على اللصوص لكل تجر
ويضمن للصوارم كل جان

وفي هذا إعراب عن إشفاق أبي الطيب من الطريق وتوقعه شرًّا فيها، وأنه عرف أن الطريق خارج مملكة عضد الدولة مخوفة، هذا ما يعرب عنه كلامه، وأحسبه عرف في العراق وفي طريقه إلى أرجان فشيراز أن السبل آمنة في أرض عضد الدولة مخوفة في بلاد العراق حيث سلطان معز الدولة البويهي، ولا أدري أتوقع مع هذا شرًّا من عدو يقصده بسوء أم لا.

١  الخزانة ج١ ص٣٨٥.
٢  شرح ابن جني.
٣  الخزانة ج١.
٤  فذلك، يقولها الحاسب حين يجمع الأعداد ويكتبها قبل حاصل الجمع يريد المتنبي أن ابن العميد هو حاصل جمع المتقدمين.
٥  نسختي من الديوان ص٥٤٦.
٦  نسختي من الديوان ص٥٥١.
٧  يعني أبا تمام والبحتري، وقد توفيا منذ زمن بعيد، ولكن المتكلم يتمنى أن يكون في المجلس أحدهما أو من يشبههما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤