الفصل التاسع عشر

رثاء أبي الطيب

أثبت هنا ما اطلعت عليه من رثاء أبي الطيب لنعرف وقع قتله في نفوس الأدباء ولنتبين الصفات التي رثوه من أجلها.

رثاه صديقه أبو الفتح عثمان بن جني بقصيدة رواها ياقوت بعد قوله:

وما كنت أعلم أنه ينظم القريض أو يسيغ ذلك الجريض حتى قرأت له مرثية في المتنبي.

وأثبت ستة عشر بيتًا، وكلامه يفهم أن هذه الأبيات بعض المرثية، ولكن يظهر عند قراءتها أنها المرثية كلها وهي:

غاض القريض وأودت نضرة الأدب
وصوحت بعد ري دوحة الكتب
سُلبت ثوب بهاء كنت تلبسه
كما تخطفت بالخطية السلب
ما زلت تصحب في الجُلى إذا انشعبت
قلبًا جميعًا ورأيًا غير منشعب
وقد حلبت، لعمري، الدهر أشطره
تمطو بهمة لا وانٍ ولا نصب
من للهواجل يُحبي ميت أرسمها
بكل جائلة التصدير والحقب١
قبَّاء خوصاء محمود عُلالتها
تنبو عريكتها بالحلس والقتب
أم من لبيض الظبى توكافُهنَّ دم
أم من لسمر القنا والزُّغْف واليَلب
أم للجحافل يُذكى جمر جاحمها
حتى يقر بها من جاحم اللهب
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها
بالنظم والنثر والأمثال والخطب
أم للصواهل محمرًا سرابلها
من بعد ما غبرت معروفة الشهب
أم للمناهل والظلماء عاكفة
يواصل الكر بين الورد والقرب
أم للقساطل تعتم الحروب بها
أم من لضغم الهزبر الضيغم الحرب
أم للملوك يحليها ويلبسها
حتى تمايس في أبرادها القشب
باتت وسادي أطراب تؤرقني
لما غدوت لقًى في قبضة النوب
عمرت خدن المساعي غير مضطهد
كالنصل لم يدَّنِس يومًا ولم يعب
فاذهب عليك سلام المجد ما قلقت
خوص الركائب بالأكوار والشعب

ورثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بأربعة أبيات رواها الثعالبي في اليتيمة:

لا رعى الله سرب هذا الزمان
إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي
أي ثان يُرى لبكر الزمان
كان من نفسه الكبيرة في جيش
وفي الكبرياء ذا سلطان
كان في لفظه نبيًّا ولكن
ظهرت معجزاته في المعاني

وفي رواية الصبح المنبي: «هو في شعره نبي ولكن … إلخ.»

وكذلك رثاه ثابت بن هارون الرقي النصراني، وحرض عضد الدولة على عقاب من قتلوه:

الدهر أخبث والليالي أنكد
من أن تعيش لأهلها يا أحمد
قصدتْك لما أن رأتك نفيسها
بخلا بمثلك، والنفائس تقصد
ذقتَ الكريهة بغتة وفقدتها
وكريه فقدك في الورى لا يفقد
قل لي إن اسطعت الخطاب، فإنني
صب الفؤاد إلى خطابك مكمد
أتركتَ بعدك شاعرًا؟ والله لا
لم يبق بعدك في الزمان مقصد
أما العلوم فإنها يا ربَّها
تبكي عليك بأدمع لا تجمد

•••

يا أيها الملك المؤيد دعوة
عمن حشاه بالأسى يتوقد
هذي بنو أسد بضيفك أوقعت
وحوت عطاءك إذ حواه الفرقد
وله عليك بقصده، يا ذا العلى
حق التحرم والذمام الأوكد
فارع الذمام وكن لضيفك طالبًا
إن الذمام على الكريم مؤبد
١  في الصبح بيت بعد هذا هو:
أم من لسرحانها يقريه فضلته
وقد تضور بين اليأس والسغب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤