الفصل الثاني والعشرون

البداوة في طباع أبي الطيب وشعره١

في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل لين، وفي خلقه صراحة تحبب إليه كل صريح من القول والفعل والرأي، وتنفره من كل مموه مزخرف، وقد لاءمت هذه الأخلاق التبدِّي، وزادها التبدي تمكنًا فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله.

وسأمر بسيرة أبي الطيب سريعًا منبهًا إلى الحادثات والأقوال الدالة على حبِّه البداوة والمبينة عن تمكن البداوة في طبعه وأثرها في نفسه.

١

عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي، روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن أبا الطيب صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدويًّا قحًّا، وعاش في الشام بين البدو والحضر، وبعض ممدوحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي، وهو يقول في الشام:

أوانا في بيوت البدو رحلي
وآونةً على قَتد البعير
أعرِّض للرماح السمر نحري
وأنصِب حُرَّ وجهي للهجير
وأسري في ظلام الليل وحدي
كأني منه في قمر منير

ويقول:

ومُدقعين بسُبروت صحبتُهم
عارين من حُلل كاسين من دَرن
خُرَّاب بادية غرثَى بطونهم
مَكْن الضِّباب لهم زاد بلا ثمن
يستخبرون فلا أعطيهم خبري
وما يطيش لهم سهم من الظِّنن

٢

وفي مصر حنَّ إلى البادية وفضَّل البداوة على الحضارة، وتغزل بالبدويات في القصيدة التي مطلعها:

مَن الجآذر في زيِّ الأعاريب
حمرُ الحلى والمطايا والجلابيب؟

يقول فيها:

ما أوجه الحضر المستحسناتُ به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوبٌ بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرةً
وغيرَ ناظرة في الحسن والطيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا خرجن من الحمام مائلة
أوراكهنَّ صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموَّهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
ومن هوى الصدق في قولي وعادته
رغبت عن شَعرٍ في الرأس مكذوب

وكانت له في مصر مع بعض رؤساء القبائل مودة، فلما أزمع الرحيل مغاضبًا كافورًا استعان بأحد أصدقائه عبد العزيز بن يوسف ببلبيس، وسأله دليلًا فأنفذه إليه، وقال في هذا:

جزى عربًا أمست ببُلبَيس ربُّها
بمسعاتها تقرِر بذاك عيونها
كراكر من قيس بن عيلان ساهرًا
جفونُ ظباها للعلى وجفونها
وخَصَّ به عبد العزيز بن يوسف
فما هو إلا غيثها ومَعينها
فتى زان في عيني أقصى قبيلة
وكم من فتى في حِلَّة لا يزينها

وكان سيره من الفسطاط إلى الكوفة برهانًا بينًا على ما تمكن في نفسه من أخلاق البادية وعاداتها، ودليلًا على خبرته بالسير في البيد، فقد سلك طريقًا أُنفًا لا تسلكه القوافل، ذكر في قصيدته التي وصف بها سفره اثنين وعشرين موضعًا ليس على السبل المطروقة منها إلَّا اثنان أو ثلاثة، فما سلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق دمشق إلى الكوفة، ولا طريق الفرات، بل سار على أحياء البادية والمفاوز المجاهيل والمياه الأواجن حتى بلغ غايته.

وكانت له في مسيره وقائع تمثله بدَويًّا قحًّا خبيرًا بقبائل البادية وعاداتها، مزودًا بجرأة الأعراب وإقدامهم.

٣

لما بلغ نخلًا في سيناء ألفى خيلًا صادرة عن الماء، فأشفق أن يكونوا عيونًا عليه أو عدوًّا له فقاتلهم وغلبهم، ولما قرب من النِّقاب رأى رجلين فطردهما وأخذهما فأخبراه أنهما رائدان من بني سليم فخلَّاهما، وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سُليم آخر الليل فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء وذبح له، وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من مَعن وسُنْبُس فذبح له عفيف المَعني غنمًا وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جُذام يدلَّانه. ولما بلغ حِسْمَى في شمال الحجاز وجد بني فزارة شاتين بها، فنزل بقوم من عَدي فزارة فيهم أولاد لاحق بن مخلب، وكان بينه وبين أمير فزارة حسان بن حكمة مودة، وأراد ألَّا يُعلم ما بينه وبينهم من ودٍّ فنزل بجار لهم من طيئ، واستطاب أبو الطيب حِسْمَى فأقام بها شهرًا، وما أحبَّ المُقام بالبادية إليه! ثم استراب ببعض عبيده وظن أنهم يسرقون أمتعته ويريدون سرقة سيف ثمين كان معه، أغراهم على هذا وردان بن ربيعة، فأرسل إلى فتى من بني مازن اسمه فليتة بن محمد وكان قد عرفه من قبل، فلما جاءه المازني تقدم شاعرنا فشد أحماله، وعبيدُه نيام، ثم أيقظهم وطرحهم على الإبل وسار والقوم لا يشعرون، وأخذ بعض العبيد السيف فدفعه وفرسه إلى عبد آخر، وجاء إلى فرس أبي الطيب ليأخذه فانتبه الشاعر البدوي الشجاع، فقال العبد مخادعًا: أخذ الغلام فرسي، وعدا إلى فرس سيِّده ليركبه، فالتقى هو وأبو الطيب عند الفرس، وسلَّ العبد السيف فضرب الرسَن فضرب أبو الطيب وجهه فقتله، وأرسل رجلًا من بني خفاجة وآخر من بني مازن ليدركا العبد الذي أخذ السيف فلم يقدرا عليه.

وفي قتل العبد يقول الشاعر:

أعددت للغادرين أسيافا
أجدع منهم بهنَّ آنافا
لا رحم الله أرؤسًا لهم
أطَرْن من هامهنَّ أقحافا

إلى قوله:

إذا امرؤ راعني بغَدرته
أوردته الغاية التي خافا

وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياض، فأرسل فُليتة إلى الأعراب الذين في طريقه، فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على الطريق رصَد.

فعدل إلى دومة الجندل وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة ٣٥١ بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط، فهل يستطيع أن يسير هذا المسير ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟ أليس في هذا تصديق قوله:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والطعن والضرب والقرطاس والقلم

ألا يحق له أن يفخر به فيقول:

فلما أنخنا ركزنا الرما
ح بين مكارمنا والعُلى
وبتنا نقبل أسيافنا
ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا

وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها، انظر قوله:

وقلنا لها أين أرض العراق
فقالت ونحن بتِربان: ها

واسأل اليوم بدويًّا عن مكان قريب يقل لك: ها.

٤

وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبديه، فقد اجتاز بالطَّفِّ فنزل بأصدقاء له، وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلَّا السير معهم كما يقول الشاعر في بعض الروايات، فسيرُ الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن من نفسه من عادات البادية.

٥

ولما رحل إلى فارس افتقد الوجه العربي واليد العربية واللسان العربي، وهو يصف مغاني شِعب بَوَّان:

ولكنَّ الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
مَلاعب جِنَّة لو سار فيها
سليمانٌ لسار بترجمان

وافتقد عرب دمشق الذين كانوا يكرمون مثواه فقال:

ولو كانت دمشق ثنى عناني
لبيق الثَّرد صيني الجفان
تحل به على قلب شجاع
وترحل منه عن قلب جبان
منازل لم يزل منها خيال
يشيِّعني إلى النَّوبندجان

وذكره الثرد والنَّار يدل على أنه يريد بادية دمشق لا حاضرتها، وقال في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة:

أحب حمصًا إلى خُناصرة
وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح
لبنان وثغري على محيَّاها
وصِفت فيها مصيف بادية
شتوت بالصَّحصَحان مشتاها
إن أعشبت روضة رعيناها
أو ذكرت حِلَّة غزوناها
أو عرضت عانةٌ مقَزَّعة
صدنا بأخرى الجياد أولاها
أو عبرت هَجمة بنا تُركت
تكوس بين الشروب عَقراها

فهذه عيشة أهل البادية وعاداتهم يحن إليها أبو الطيب وهو يمدح: ملكًا في بلاد الفرس، ورجع إلى التغزل بالبدويات فقال في القصيدة التي مطلعها:

اثِلث فإنا أيها الطلل
نبكي وتُرزِم تحتنا الإبل

•••

الحسن يرحل كلما رحلوا
معهم وينزل كلما نزلوا
في مقلَتي رشأ تديرهما
بدَوية فتنت بها الحِلل
تشكو المطاعمُ طول هجرتها
وصدودَها، ومن الذي تصل؟
ما أسأرتْ في القعب من لبن
تركته وهو المسك والعسل

وقصة قتله برهان آخر على ما ندعي، فقد حذَّره أبو نصر الجَبلي، وأشار عليه أن يستصحب خفراء، فأبى أن يسير في خفارة.

٦

وشعر أبي الطيب تتجلى فيه قوة البداوة وعزتها، ومن آثار البداوة فيه تهاونه في خطاب الممدوحين وخروجه عن الإلف أحيانًا، ولذلك أخذ عليه النقاد مآخذ لا يتسع المقام لذكرها، ومن آثارها الكلف بالحرب وآلاتها والخيل والسفر، وشعره مليء بهذا، ومن ذلك وصف الحبيبة بالمنعة في مثل قوله:

حبيب كأن الحسن كان يحبه
فآثره أو جار في الحين قاسمه
تحول رماح الخط دون سبائه
وتُسبَى له من كل حيٍّ كرائمه
ويُضحي غبارُ الخيل أدنى سُتوره
وآخرها نشر الكباء الملازمه

وقوله:

وما شرقي بالماء إلَّا تذكرًا
لماء به أهل الحبيب نُزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه
فليس لظمآنٍ إليه سبيل

وقوله:

متى تزر قوم من تهوى زيارتها
لا يُتحفوك بغير البِيض والأسل

وقوله:

سوائر ربما سارت هوادجها
منيعة بين مطعون ومضروب
وربما وخَدت أيدي المطي بها
على نجيع من الفرسان مصبوب

ومن أثر البداوة استعمال بعض الألفاظ الغريبة أحيانًا بما ألف من خطاب الأعراب والأخذ عنهم، وقد رأيته في كثير من تعليقاته على ديوانه يحتج بما سمع عنهم، وأكتفي هنا بمثال واحد، قال في قصيدته يعزي بها عضد الدولة:

مثلك يَثني الحُزن عن صوبه
ويسترد الدمع من غربه
إيما لإبقاءٍ على فضله
إيما لتسليم إلى ربِّه

ثم أتى بشواهد على وضع العرب إيما مكان إما، إلى أن قال: وقد ظلع فرس لي فقال بعض أهل البادية من خفاجة، وهو من أفصح الناس: إيما نسره مفلوق، وإيما موهوص.

٧

ذلكم إجمال الكلام في بداوة أبي الطيب، ولست أقول: إن البداوة أنتجت هذه النتائج كلَّها في أخلاقه وشعره، ولكني أقول: إن بين طباعه وشعره وبين البداوة صلة قويَّة: غرائز في الشاعر حبَّبت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكَّدت هذه الغرائز في نفسه، وبهذه الأخلاق الحرة والطِّباع القوية والشجاعة والإقدام كان أبو الطيب أقرب إلى الطبع العربي من غيره. ولو أن عمرو بن كلثوم وعنترة العبسي والحارث بن حِلِّزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب المتنبي لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.

١  مقال ألقيته في مهرجان أبي الطيب بدمشق ثم ألحقته بالكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤