الفصل الثامن

أبو الطيب وسيف الدولة

مقدمة: أبو العشائر بن حمدان الحسن بن علي بن الحسن بن الحسين بن حمدان

سار أبو الطيب سنة ست وثلاثين من الرملة إلى إنطاكية فمرَّ ببعلبك وفيها علي بن عسكر، فخلع عليه وحمله وسأله أن يقيم عنده فمدحه بأربعة أبيات. ورحل إلى إنطاكية فمدح أبا العشائر بالقصيدة:

أتراها لكثرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي

ثم مدحه في ثلاث قطع، وأنشأ في إنطاكية أرجوزة حينما غشَّى الثلج الأرض، وتعذر المرعى على حِجرته الجَهامة ومُهره الطخرور:

ما للمروج الخضر والحدائق
يشكو خلاها كثرةَ العوائق

ثم أغار على إنطاكية يانس المؤنسي قائد الإخشيديين وفجِئ أبا العشائر، فقاتل عن نفسه حتى خرج إلى حلب، وفي هذه الغارة قُتل الطخرور وأمُّه، فقال أبو الطيب الأبيات التي أولها:

إذا غامرتَ في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
ستبكي شجوها فرسي ومهري
صفائحُ دمعُها ماء الجسوم
ثم رجع أبو العشائر إلى إنطاكية، وكان أبو الطيب قد رجع إلى الرملة، فلما سمع بعودته خرج يقصده، فلما كان بطرابلس أراده إسحاق بن كيغلغ على مدحه، فكان بينهما ما رواه المعرِّي في شرحه:

ومرَّ بطرابلس وبها إسحاق بن الأعور بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان جاهلًا، وكان يجالس ثلاثة من بنى حَيدرة، وكان بين أبي الطيب وبين أبيهم عداوة قديمة، فقالوا له: ما نحب أن يجاوزك ولم يمدحك، وإنما يترك مدحك استصغارًا لك، وجعلوا يُغرونه به، فراسله وسأله أن يمدحه، واحتج أبو الطيب بيمين ألا يمدح أحدًا إلى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر قضاء تلك المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها، ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه به في مدة أربعين يومًا، فقال أبو الطيب يهجوه بطرابلس، قال: ولو فارقته قبل قولها، لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها، قال: وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج وجف عن لبنان خرج كأنه يُسيِّر فرسه، وسار إلى دمشق وأتبعه ابن كيغلغ خيلًا ورَجْلًا فأعجزهم ثم ظهرت القصيدة.

وهي القصيدة التي مطلعها:

لهوى النفوس سريرة لا تُعلَم
عرَضًا نظرت وخلت أني أسلم

وهي قصيدة جمع فيها أبو الطيب بين التحليق إلى أوج الحكمة والإسفاف إلى حضيض الإقذاع.

ثم سار إلى إنطاكية فلقي أبا العشائر، ومدحه بقصيدتين وثماني قطع.

سيف الدولة

١

كان أبو العشائر بن حمدان واليًا على إنطاكية من قِبَل سيف الدولة، فلما قدم الأمير إنطاكية سنة ٣٣٧ قدَّم أبو العشائر إليه أبا الطيب وأثنى عليه، قال في الإيضاح: فاشترط أنه لا ينشده إلا قاعدًا، وعلى الوحدة، فلما سمع سيف الدولة شعره حكم له بالفضل وعدَّ ما طلبه استحقاقًا، وقال صاحب الصبح المنبي: «واشترط المتنبي على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد، وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه، فنُسب إلى الجنون، ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط.»

فأما اشتراط المتنبي ما اشترط فجدير بنفسه الأبية، فقد ألف أن يتخذ الممدوحين أصدقاء لا سادة، وأشفق على نفسه أن تُسام الهوان، وأن تكلَّف ما يكلَّفه الآخرون في لقاء الملوك، ولم يكن صعبًا على سيف الدولة أن يجيبه إلى ما اشترط؛ فالعربي بطبعه أبعد الناس عن أن يرضى العبودية لنفسه أو لغيره.

٢

وجد أبو الطيب في علي بن حمدان الأمير العربي الذي ينشده، ورأى سيف الدولة في أحمد بن الحسين فتى أبيًّا أهلًا لصداقته، وشاعرًا مُجيدًا جديرًا بتخليد مآثره، وكان لا بد لبطولة سيف الدولة من شاعر كأبي الطيب، يُشيد بها ويسجل مفاخرها وقد أراد الله سبحانه لهما هذه الصحابة فوُلدا في سنة واحدة، ولم يعش سيف الدولة بعد قتل أبي الطيب إلا سنتين، لقد كانا بطلين يتعاونان بل شاعرين يتباريان كما قال أبو الطيب في أبي العشائر:

شاعر المجد خدنه شاعر اللفظ
كلانا ربُّ المعاني الدقاق

وقال في سيف الدولة:

لك الحمد في الدر الذي لي لفظه
فإنك معطيه وإني ناظم

•••

إن هذا الشعر في الشعر ملك
سار فهو الشمس والدنيا فلك
عدل الرحمن فيه بيننا
فقضى باللفظ لي والحمد لك

٣

صحب أبو الطيب سيف الدولة ثماني سنوات نظم فيها ١٥١٢ بيتًا في ٣٨ قصيدة و٣١ قطعة.

ومن هذا أربع عشرة قصيدة في وصف وقائعه مع الروم، وأربع في وقائعه مع القبائل العربية، وخمس عشرة في المدح دون وصف الوقائع، وخمس في الرثاء، ومن القطع اثنتان في حوادث الروم، وغيرها في مقاصد مختلفة.

ويضاف إلى هذه القصائد القصيدة التي أولها:

ذكر الصبى ومراتع الآرام
جلبت حِمامي قبل يوم حمامي

نظمها سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ثم ألحقها بمدائح سيف الدولة وهي ٣٣ بيتًا.

تتفق نسخ الديوان، وأقوال الشارحين على أن هذه القصيدة قيلت في سيف الدولة سنة ٣٢١، وهي السنة التي رحل فيها الشاعر إلى الشام كما قدمنا، ولعل القارئ يجد فيها ما يصده عن تصديق هذا، يجد الشاعر يقول لممدوحه:

صلى الإله عليك غيرَ مودَّع
وسقى ثرى أبويك صوبَ غمام

ونحن نعلم أن أم سيف الدولة ماتت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ورثاها أبو الطيب وهو في صحبة ابنها، فكيف قال سنة إحدى وعشرين: «وسقى ثرى أبويك صوب غمام.»

ثم في القصيدة هذا البيت:

يا سيف دولة هاشم من رام أن
يلقى مثالك رام غير مرام

وعلي بن حمدان لم يلقب «سيف الدولة» قبل سنة ٣٣٠.

يجوز أن يقال: إن هذا البيت منحول كما قال بعض الشراح، أو إن أبا الطيب زاده حين ألحق القصيدة بمدائح سيف الدولة بعد، ويجوز أن يقال في «ثرى أبويك» إنه أراد أباه وجده أو أباه وعمه، وقد تُوفِيَ أبوه سنة ٣١٧ أو لم يفطن الشاعر إلى أن أم سيف الدولة كانت حية. إن يكن في النفس شيء من أن يكون أبو الطيب أنشأ هذه القصيدة في مدح سيف الدولة سنة ٣٢١، فهذا لا يقتضي رد الروايات الصريحة التي تبين أن أبا الطيب أنشأ هذه القصيدة في مدح علي بن حمدان هذه السنة.

وسيأتي أنه مدحه من بعد بقصيدتين وعزاه عن أخته بأخرى بعد أن رجع إلى العراق.

وقصائد الحروب كلها، وهي ثماني عشرة قصيدة في واحد وسبعين وسبعمائة بيت، يبلغ فيها أبو الطيب الغاية التي ليس بعدها متقدَّم لشاعر أو ناثر. وليس هذا موضع الكلام في شعره ولكني أقول: إن هذا المقدار من الشعر الحماسي البليغ في ديوان الشاعر العربي يعسر على الباحث أن يختاره من الملاحم الكبيرة، مثل: الإلياذة اليونانية والشاهنامة الفارسية والأنياذ الرومانية، والمهابهرتا والراميانا الهنديتين على طولها، ولا أحط من قيمة هذه الملاحم ولكن أقول: إنها لا تعلو في شعرها إلى مستوى قصائد أبي الطيب القصيرة إلا أبياتًا متفرقة تنبغ في المنظومة حينًا بعد حين، ويبقى لهذه الملاحم قيمتها في القصص وما تضمنته من فلسفة وأفكار وأمور أخرى.

وتختلف قصائده في حرب الروم عن قصائده في حرب القبائل العربية، يتبين في الأولى نقمة الشاعر على الروم وفرحه بانتصار المسلمين عليهم.

ويتبين في القصائد التي وصف فيها حرب قبائل العرب بني كلاب وبني قشير والعجلان وكعب، عطف الشاعر عليهم والشفاعة لهم، والاعتذار عنهم، واضطراب نفسه بين الإشادة بانتصار الأمير، وحزنه على ما أصاب هذه القبائل.

يقول في بني كلاب:

فقاتلَ عن حريمهم وفروا
ندى كفَّيك والنسبُ القُراب
وحفظُك فيهم سَلَفَي معدٍّ
وأنهم العشائر والصِّحاب

•••

ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب

•••

فإن هابوا بجُرمهم عليًّا
فقد يرجو عليًّا من يهاب
وإن يك سيف دولة غير قيس
فمنه جلود قيس والثياب
وتحت ربابه نبتوا وأثوا
وفي أيامه كثروا وطابوا
وتحت لوائه ضربوا الأعادي
وذل لهم من العرب الصعاب

ويعتذر عن بني كعب ومن عصى معهم بأنهم لم يألفوا الطاعة والخضوع:

وفيك إذا جنى الجاني أناة
تُظن كرامةً وهي احتقار
وأخذٌ للحواضر والبوادي
بضبط لم تُعوَّده نزار
تشممه شميمَ الوحش إنسًا
وتنكره فيعروها نفار
وما انقادت لغيرك في زمان
فتدري ما المقادة والصَّغار
فقرَّحت المقاودُ ذفرييها
وصعَّر خدَّها هذا العِذار

إلى أن يقول:

إذا لم يُرع سيدهم عليهم
فمن يُرعى عليهم أو يغار
تفرِّقهم وإياه السجايا
ويجمعهم وإياه النِّجار

ويقول:

بنو كعب وما أثَّرت فيهم
يدٌ لم يُدمها إلا السِّوار
بها من قطعه ألم ونقص
وفيها من جلالته افتخار
لهم حق بشِرْكك في نزار
وأدنى الشرك في أصل جوار
لعلَّ بنيهم لبنيكَّ جُند
فأوَّل قُرَّح الخيل المِهار

٤

ولم يأل سيف الدولة في بر شاعره، وإغداق النعمة عليه وإكرامه، وإعظامه، يؤخذ من رواية في الصبح المنبي أنه كان يعطيه ثلاثة آلاف دينار كل سنة، ويدل الديوان أنه كان يعطيه عطايا أخرى في مقامات مختلفة.

فالقطعة:

موضع الخيل من نداك طفيف
ولوَ انَّ الجياد فيها ألوف

إلخ، قالها حين سأله سيف الدولة عن صفة فرس يُرسله إليه.

والقطعة:

اخترت دهماء تين يا مطر
ومن له في الفضائل الخِيَر

إلخ، قالها حين خيَّره في حجرتين إحداهما دهماء، والأخرى كميت.

والقطعة:

فعلتْ بنا فعل السماء بأرضه
خِلعُ الأمير وحقَّه لم نقضه

إلخ، قالها حين أنفذ إليه خلعًا.

والقطعة التي أولها:

أيا راميًا يُصمي فؤاد مرامه
تُربي عِداه ريشَها لسهامه
قالها حين خرج إلى إقطاع أقطعه إياه الأمير في معرَّة النعمان.١

وكذلك نرى في شروح الديوان ذكر الخلع والهدايا التي منحها الأمير شاعره حين اصطلحا بعد أن تنافرا، وأنشده القصيدة:

أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل
دعا فلبَّاه قبل الركب والإبل

وروى الثعالبي أن سيف الدولة عاب على المتنبي ببيتين من قصيدته:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
فردَّ المتنبي ردًّا أعجب الأمير فأمر له بخمسين دينارًا من دنانير الصلات، وهي دنانير ضربها للهبات عليها اسمه وصورته، في كل واحد عشرة مثاقيل، فالخمسون منها خمسمائة،٢ وفي الإيضاح أن سيف الدولة أمر بحساب ما أعطى لأبي الطيب فكان خمسة وثلاثين ألف دينار في أربع سنين.

وشعر أبي الطيب ينطق بالغبطة والشكر، يقول:

ناديتُ مجدك في شعري وقد صدرا
يا غَير منتحل في غير منتحَل
بالشرق والغرب أقوام نحبهم
فطالعاهم وكونا أبلغ الرسل
وعرفاهم بأني في مكارمه
أقلِّب الطَّرف بين الخيل والخوَل

ويقول:

تركت السُّرى خلفي لمن قلَّ ماله
وأنعلتُ أفراسي بنعماك عسجدا
وقيَّدتُ نفسي في هواك محبة
ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدا
إذا سأل الإنسان أيامه الغنى
وكنتَ على بعد جعلتك موعدا

ويقول:

أسيرُ إلى إقطاعه في ثيابه
على طرفه من داره بحسامه
وما مطرتنيه من البِيض والقنا
وروم العِبِدَّى هاطلات غمامه
فتى يهب الإقليم بالمال والقرى
ومن فيه من فرسانه وكرامه
ويجعل ما خُولته من نواله
جزاء لما خولته من كلامه

وقد سكن أبو الطيب إلى صحبة الأمير الكريم، وما يشهد معه من مشاهد الحرب والمجد فترك الشكوى، وكف عن حديث الثورة والقتل الذي طفح به شعره الأول إلا قليلًا نادرًا كقوله:

ولقد ذخرت لكل أرض ساعة
تستجفل الضرغام عن أشباله
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها
ضرب يجول الموتُ في أجواله

وقوله:

أهم بشيء والليالي كأنها
تطاردني عن كونه وأطارد
وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قلَّ المساعد

وكان يصحب سيف الدولة في أكثر حروبه فيصفها شاهدًا:

وإني لتعدو بي عطاياك في الوغى
فلا أنا مذموم ولا أنت نادم
على كل طيار إليها برجله
إذا وقعت في مسمعيه الغماغم

ويقول:

وإن كنت سيف الدولة العضبَ فيهم
فدعنا نكن قبل الضراب القنا اللدنا
فنحن الألى لا نأتلي لك نصرة
وأنت الذي لو أنه وحده أغنى
يقيك الردى من يبتغي عندك العلَى
ومن قال لا أرضى من العيش بالأدنى

وقال وقد أرسل إليه الأمير يسأله إجازة أبيات:

أتاني رسولك مستعجلا
فلباه شعري الذي أذخَر
ولو كان يومَ وغى قاتمًا
للبَّاه سيفي والأشقر
١  اليتيمة: سيف الدولة.
٢  اليتيمة: سيف الدولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤