الفصل التاسع

فراق سيف الدولة

فارق أبو الطيب صديقه بعد أن لبث في كنفه ثماني حجج.

أنشده أول قصيدة مدحه بها:

وفاؤكما، كالربع أشجاه طاسمه
بأن تُسعدا، والدمع أشفاه ساجمه

في جمادى الأولى سنة ٣٣٧ وأنشده آخر قصيدة:

عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسمُ

سنة ٣٤٥.

لماذا ترك صاحبه الذي أخلص له الود، وتوَّجه بتاج الخلود؟

إذا رجعنا إلى ديوان أبي الطيب، وكتب الأدب نجد أمورًا تحدث في الحين بعد الحين، تنغِّص على الشاعر الأبيِّ عيشه، وتكدِّر صفوه، ونجد الشاعر يشكو ما يلقى، ويهدد بالفراق أحيانًا.

وفي هذه السطور إجمال الكلام في هذا الصدد:

١

كان حول سيف الدولة شعراء كسفت شمسُ أبي الطيب نجومهم، وأخمدت نباهته ذكرهم، فكانوا يحسدونه ولا يألون في ذمِّه والتسميع به، وإفساد ما بينه وبين صاحبه، وكانت كبرياء أبي الطيب وفخره بشعره وتعاليه عليهم وإيثار الأمير إياه تزيد حسدهم وغيظهم، وكان الشعراء يحسدون الشاعر الأبي على مكانته، وينقمون عليه تعاليه وتعاظمه. انظر إلى قوله:

وما أنا إلا سَمهريٌّ حملته
فزيِّن معروضًا وراع مسدَّدا
وما الدهر إلا من رُواة قصائدي
إذا قلتُ شعرًا أصبح الدهر مُنشدا
وسار به من لا يسير مشمرًا
وغنى به من لا يغني مغرِّدا
أجِزْني إذا أُنشدتَ شعرًا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى

انظر كيف يكون وقع هذا على شعراء سيف الدولة، وقد جعلهم أصداء له، وسأل الأمير أن يجيزه هو إذا هم أنشدوه، فلا جرم أنهم جهدوا أن يوقعوا بينه وبين الأمير، ومما قاله المتنبي في هذا:

أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القول قبل القائلين مَقول
وما لكلام الناس فيما يَريبني
أصولٌ ولا للقائليه أصول
أعادَى على ما يُوجب الحبَّ للفتى
وأهدأ والأفكارُ فيَّ تجول
سوى وجعِ الحساد داوٍ فإنه
إذا حلَّ في قلب فليس يحول
ولا تطمعن من حاسد في مودة
وإن كنت تبديها له وتُنيل

وقوله:

وللحساد عذرٌ أن يشِحُّوا
على نظري إليه وأن يذوبوا
فإني قد وَصلتُ إلى مكان
عليه تحسُد الحدق القلوب

وقوله:

أزِلْ حَسدَ الحسَّاد عني بكَبْتهم
فأنت الذي صيَّرتَهم لي حُسَّدا
إذا شدَّ زندي حسنُ رأيك، فيهم
ضربتُ بسيف يقطع الهام مغمدا

وقوله:

أفي كل يوم تحت ضِبني شويعر
ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاول
لساني بنطقي صامت عنه عادل
وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
وأتعبُ من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وما التيه طبي فيهم غير أنني
بغيضٌ إليَّ الجاهل المتعاقل
وأكبر تيهي أنني بك واثق
وأكثر مالي أنني لك آمِل
لعل لسيف الدولة القرم هبَّةً
يعيش بها حقٌّ ويهلك باطل

٢

وكان سيف الدولة مغرمًا بشعر أبي الطيب، يود أن يسمع كل حين قصيدة في مدحه، وكان الشاعر ينظم كل سنة أربع قصائد أو خمسًا غير القطع، فكان الأمير يسخط عليه أحيانًا استبطاء لمدحه، ومن أدلة هذا في الديوان أنا نجد قصيدة أنشدت في جمادى الآخرة سنة ٣٤٢ وأخرى أنشدت يوم الأضحى من هذه السنة وفي الفترة بين القصيدتين وهي زهاء ستة أشهر نظم أبو الطيب سبعًا ما بين قطع وقصائد قصيرة، يعتذر في اثنتين منها عن تأخير مدحه، يقول في قطعة:

وما كان ترك الشعر إلا لأنه
تقصِّر عن وصف الأمير المدائح

ويقول في قصيدة نظمها وقد تنكر له سيف الدولة لتأخره عن مدحه:

كفرتُ مكارمك الباهرات
إن كان ذلك منِّي اختيارا
ولكن حمى الشعرَ إلا القليل
همٌّ حمى النوم إلا غِرارا
وما أنا أسقمت جسمي به
ولا أنا أضرمتُ في القلب نارا
فلا تُلزِمنِّي ذنوب الزمان
إليَّ أساء وإيَّايَ ضارا
وعندي لك الشرَّد السائرات
لا يختصِصن من الأرض دارا
قوافٍ إذا سرن عن مِقْولي
وثَبْن الجبال وخُضْن البحارا
ولي فيك ما لم يقل قائل
وما لم يسر قمر حيث سارا

ثم القصة الآتية التي أنشأ فيها القصيدة: وا حرَّ قلباه ممَّن قبله شبم، وهذه القصيدة بين قصيدتين الأولى في المحرم سنة ٣٤١ والثانية في شعبان من السنة.

فهذا يدل على مقدار شغف الأمير بمدائح شاعره وتأخر الشاعر عن الاستجابة لهذا الشغف.

وفي الصبح المنبي أن أبا فراس قال لسيف الدولة:

إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرِّق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره.

٣

أوقعت هذه الأسباب نفرة بين الأمير وشاعره، وكان من ذلك قصتان:
  • (أ)

    القصة التي قال فيها القصيدة المعروفة:

    وا حرَّ قلباه ممن قلبه شبم
    ومن بجسمي وحالي عنده ألم
    وفي شرح ابن جني وغيره في سبب إنشاء هذه القصيدة:

    كان سيف الدولة إذا تأخر عن مدحه شق عليه، وأكثر أذاه، وأحضر من لا خير فيه وتقدَّم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يُحب، فلا يجيب أبو الطيب أحدًا عن شيء فيزيد ذلك في غيظ سيف الدولة، ويتمادى أبو الطيب على ترك قول الشعر، ويلح سيف الدولة فيما كان يفعله، إلى أن زاد الأمر وكثر عليه، فقال هذه القصيدة.

    وفي هذه القصيدة يقول:

    يا أعدل الناس إلا في معاملتي
    فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
    أعيذها نظرات منك صادقة
    أن تحسب الشحم فيمن شحمُه ورم

    ويفتخر بشعره وشجاعته ثم يقول:

    كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
    ويكره الله ما تأتون والكرم
    ما أبعد العيب والنقصَان عن شِيَمي
    أنا الثريا وذان الشيبُ والهرَم

    ولما أنشده القصيدة اضطرب المجلس وقال أبو الفرج السامري أحد كبار كتَّاب الأمير: دعني أسعى في دمه. فرخص له في ذلك.

    وفي ذلك يقول أبو الطيب:

    أسامريُّ ضُحكة كل راء
    فطنتَ وكنت أغبى الأغبياء
    صُغرتَ عن المديح فقلت أهجي
    كأنك ما صغرتَ عن الهجاء
    وما فكرتُ قبلك في محال
    ولا جَرَّبتُ سيفي في هبَاء

    وكاد أبو الطيب يهلك في هذه القصة.

    ففي النسخة (١٥٣٠ أدب) وشرح المعري وبعض نسخ الواحدي، أنه لما أنشد القصيدة الميمية وانصرف وقف له رجال في طريقه، فلما رآهم أمكن يده من قائم سيفه وحمل فاخترقهم ولم يصنعوا شيئًا، وأن أبا العشائر أرسل جماعة من غلمانه فوقفوا له في طريقه، فلما مرَّ بهم ضرب واحد منهم بيده إلى عنان فرسه، فسلَّ أبو الطيب سيفه فخلَّاه الرجل، وتقدم إلى قنطرة أمامه فعبرها واجترَّهم إلى الصحراء، ورمى أحد الغلمان الفرسَ بسهم فأصابه في نحره فانتزعه أبو الطيب ثم كرَّ عليهم فضرب أحدهم فقطع قوسه وأصاب ذراعه، ومضى عنهم فسمع أحدهم يقول: نحن غلمان أبي العشائر، فلذلك قال:

    ومنتسب عندي إلى من أحبُّه
    وللنبل حولي مِن يديه حفيف
    فهيَّج من شوقي وما من مذلة
    حَننتُ ولكنَّ الكريم ألوف
    وكل وداد لا يدوم على الأذى
    دوامَ ودادي للحسين، ضعيف
    فإن يكن الفعلُ الذي ساء واحدًا
    فأفعاله اللائي سَررنَ ألوف
    ونفسي لَهُ، نفسي الفداءُ لنفسه
    ولكنَّ بعضَ المالكين عنيف
    فإن كان يبغي قتلَها يك قاتلًا
    بكفيه، فالقتل الشريف شريف

    ثم عاد أبو الطيب إلى المدينة مستخفيًا فأقام عند بعض أصدقائه وراسل سيف الدولة، وأنكر الأمير أنه أمر بما وقع للشاعر، وكتب أبو الطيب الأبيات:

    ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبًا
    فَداه الورى أمضى السيوف مضاربا
    وما لي إذا ما اشتقتُ أبصرتُ دونه
    تنائفَ لا أشتاقها وسباسبا … إلخ

    ودخل الشاعر دار الأمير بعد تسعة عشر يومًا فتلقاه الغلمان، وأدخلوه إلى خزانة الألبسة، فخُلع عليه وَطيبَ، ودخل على الأمير فرحَّب به وسأله عن حاله وهو مستحٍ، فقال له: رأيت الموتَ عندك أحبَّ من الحياة عند غيرك، فقال: بل يُطيل الله بقاءك. ثم ركب أبو الطيب وركب معه جماعة كثيرة وأتبعه الأميرُ هدايا فقال القصيدة:

    أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل
    دعا فلبَّاه قبل الركب والإبل
  • (ب)
    والقصة الثانية رواها البديعي في الصبح المنبي قال:

    قال عبد المحسن بن علي بن كوجك إن أباه حدثه، قال: كنت بحضرة سيف الدولة أنا وأبو الطيب اللغوي وأبو عبد الله بن خالويه النحوي، وقد جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابنُ خالويه مع أبي الطيب اللغوي، والمتنبي ساكت.

    فقال له سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب؟ فتكلم فيها بما قوَّى حُجَّة أبي الطيب اللغوي، وضعَّف قول ابن خالويه، فأخرج من كمه مفتاحًا حديدًا ليلكم به المتنبي، فقال له المتنبي: اسكت ويحك، فإنك أعجمي وأصلك خوزي، فمالك وللعربية؟ فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي لذلك إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولًا ولا فعلًا، فكان ذلك أحد أسباب فراقه.١

٤

وقد هدد أبو الطيب بالفراق تصريحًا وتعريضًا، قال في القصيدة «وا حر قلباه»:

أرى النوَى تقتضيني كلَّ مرحلة
لا تستقلُّ بها الوَخَّادة الرُّسُم
لئن تركن ضُمَيرًا عن ميامننا
ليحدُثنَّ لمن ودعتُهم ندم
إذا ترحلتَ عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد بلاد لا أنيس بها
وشر ما يكسب الإنسانُ ما يصم

وقال في القصيدة: «دروع لملك الروم هذي الرسائل»:

أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك
ولا تعطينَّ الناس ما أنا قائل

وبعد هذا البيت أبيات قدمتها في هذا الفصل:

أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول … إلخ

وفي الصبح المنبي أن أبا الفتح بن جني قال: «كنت قرأت ديوان المتنبي عليه حتى وصلت إلى قوله:

أغالب فيك الشوقَ والشوقُ أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصلُ أعجب٢

فلما انتهيت إلى قوله:

لحا الله ذي الدنيا مناخًا لراكب
فكلُّ بعيد الهمِّ فيها معذب … إلخ

قلت: يعز عليَّ أن يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة، فقال: حذَّرناه وأنذرناه فما نفع فيه الحذر، ألست القائل فيه:

أخا الجود أعط الناسَ ما أنت مالك
ولا تعطينَّ الناس ما أنا قائل
فهو الذي أعطاني لكافور بسوء تدبيره، وقلة تمييزه.»٣

٥

وقد صرَّح بعد فراق سيف الدولة بما كان في نفسه، قال في أول قصيدة مدح بها كافورًا:

حَبَبتك قلبي قبل حُبك من نأى
وقد كان غدَّارًا فكن أنت وافيا
وأعلم أن البين يُشكيك بعده
فلستَ فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع العين غُدرٌ بربها
إذا كنَّ إثر الغادرين جواريا
إذا الجود لم يُرزَق خلاصًا من الأذى
فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا

فهو يعرض في هذه الأبيات بسيف الدولة، ويصفه بالغدر والأذى.

ويقول في قصيدة أخرى يمدح كافورًا:

قالوا هجرتَ إليه الغيثَ قلت لهم
إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تَهَب الدولات راحتُه
ولا يمنُّ على آثار موهوب
ولا يَروع بمغدور به أحدًا
ولا يفزع موفورًا بمنكوب

وهذا تعريض بسيف الدولة يصفه بالمن والغدر أيضًا.

وكذلك قال حينما سمع أنه نُعِيَ عند سيف الدولة:

رأيتكم لا يصونُ العرضَ جارُكم
ولا يَدِرُّ على مَرعاكم اللبن
وإن بُليت بودٍّ مثلِ ودِّكم
فإنني بفِراق مثلِه قَمِنُ

وأدل من هذا على ما كان في نفسه ما قاله في القصيدة التي أرسلها من العراق إلى سيف الدولة جوابًا لدعوته إياه إلى حلب، بعد أن أهدى إليه سيف الدولة وأعتبه، وبعد أن مدحه هو بقصيدتين، قال في القصيدة البائية:

فهمت الكتاب أبرَّ الكتب
فسمعًا لأمر أمير العرب
وطوعًا له وابتهاجًا به
وإن قصَّر الفعل عما يجب
وما عاقني غيرُ قول الوشاة
وإن الوشايات طُرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم
وتقريبهم بيننا والخبب
وقد كان ينصرهم سمعه
وينصرني قلبُه والحسب

وقال في آخر القصيدة:

وليت شكاتك في جسمه
وليتك تجزي ببغض وحب
فلو كنت تجزي به نلتُ منك
أضعفَ حظ بأقوى سبب
فليت سيوفك في حاسد
إذا ما ظهرت عليهم كئب

٦

ضاق أبو الطيب بالمُقام عند سيف الدولة لهذه الأسباب، ولسبب آخر لا ينبغي ألا يغفل عنه الباحث، ذلك أن الشاعر الطموح الذي يقول:

ولكن قلبًا بين جنبيَّ ما له
مَدًى ينتهي بي في مُراد أحُدُّه

بلغ درجة عالية عند بني حمدان فسمت نفسه إلى درجة أعلى منها، ولم يكن فارق نفسه حب المجد والسلطان والتطلع إلى الغلبة والتملك، فذهب يلتمس مُنيته في أقطار الأرض وأمل أن يجد في مصر وسيلة إلى غايته، فعزم أن يرحل إليها.

وقد أنشد سيف الدولة قصيدته الأخيرة:

عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسم

وهو على نية الرحيل.

في شرح المعري: «قال ابن جني: قلت لأبي الطيب وقت قراءتي هذه القصيدة عليه: إنه ليس في جميع شعرك أعلى كلامًا من هذه القصيدة، فاعترف بذلك وقال: كانت وداعًا.»

١  الصبح المنبي ص٤٥ ط دمشق.
٢  مطلع قصيدة من مدائح كافور.
٣  الصبح المنبي ص٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤