الفصل الرابع

العصبية العربية

أبو الطيب شاعر عربيُّ النسب، عربي النشأة، عربي الطباع، فهو يمثل العربية تمثيلًا صادقًا في خشونته، ونفوره من الترف، وترفعه عن الدنايا، وإبائه وطموحه وبعد همته وشجاعته وإقدامه وصبره ودربته على السفر، وبصره بالسبل والبلاد، وهلم جرًّا، ولو أن عنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلِّزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.

ذلك تمثيله العربية في أخلاقه ونزعاته وسيرته، وأما تحدثه بالعصبية العربية وإشادته بالعرب وفخره بهم فسأجمل القول فيها بعد هذه المقدمة:

بعض الكتاب يحاولون أن يفسروا تاريخنا بنزعات العصر الحاضر وبما يحسون من عصبية، ولا بدَّ لهم أن يتذكروا أن الأمم الإسلامية في القرن الرابع، كانت تعيش في أخوة الإسلام والتاريخ والأدب، وكانت عصبياتها لا تَطغَى على هذه الأخوة، وكانت الفوارق الوطنية والقومية والسياسية تخالف ما نراه في عصرنا هذا.

فأبو الطيب حينما رحل من العراق إلى الشام فمصر فالعراق ففارس فالعراق لم يُسأل في طريقه عن موطنه، ولم يكلَّف حَمل جواز السفر، ولا تسجيل اسمه في سجلات الشُّرطة كلما فارق مملكة إلى أخرى، وقد أقام في الشام سنين يمدح أناسًا جلهم عرب، وغير العربي منهم كالعربي في ثقافته ولغته ومعيشته.

ورحل إلى مصر فمدح رجلًا أسود ولكنه مسلم يتكلم العربية، ويعرف آدابها ولا يعرف لنفسه لغة أخرى ولا أمة غير الأمة العربية.

ولما رحل إلى فارس لقي ابنَ العميد، وهو علَم من أعلام الأدب العربي، ثم سار إلى عضد الدولة فإذا ملكٌ عربي اللسان، ينظم الشعر العربي ويحب الأدب العربي ويصل شعراء العربية ولا يبالي باللغة الفارسية وآدابها وشعرائها.

فإن انتظرنا أن يكون أبو الطيب في هذه الجماعات مَثَلًا لعصبياتنا ونزعاتنا في العصر الحاضر فقد أردنا مخالفة السنن وتحريف التاريخ. قال أحد الكتاب: إن أبا الطيب كان قد وافق سيف الدولة على خطة يمحوان بها سلطان العجم من البلاد العربية، وذهب في هذا مذهبًا مغرقًا في الوهم.١ وقال كاتب آخر: إن أبا الطيب كان في شعره داعية للأعاجم مشيدًا بمجدهم وحضارتهم، معظمًا رجالهم بمدائحه إلخ.٢ وإذ كان مرجع الرأي الخيال لا الحقيقة، ودليله الوهم لا كلام الشاعر وتاريخه، اختلف القائلان هذا الاختلاف في أمر واحد بين.

ثم ننظر فيما يوحيه كلام الشاعر وسيرته.

فأما مدحه الروزباري وابن طغج وكافور ودلير بن لشكروز وعضد الدولة فلا عار فيه، ولا إخلال بعزة الشاعر العربية إذا تذكرنا المقدمة التي أسلفتها، فلم يبق إلا النظر في كلام الشاعر لنتبين ما فيه من عصبية أو غيرها. فأما أدلة العربية فثلاثة أضرب:
  • الأول: ذكر فيه العرب والعجم وأعرب عن عصبيته لقومه.
  • والثاني: لم يقس فيه العرب بغيرهم، ولكنه دل فيه على اعتزاز بالعربية وافتخار بها.
  • والثالث: عطفه على القبائل العربية وحضه سيف الدولة على برهم ورعاية الأخوة العربية فيما يشجر بينه وبينهم من خلاف.

فأما الأول فقوله:

أحق عاف بدمعك الهمم
أحدثُ شيء عهدًا بها القِدم
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
بكل أرض وطئتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه
وكان يُبرَى بظفره القلم

وقوله في ذم ابن كيغلغ موازنًا بينه وبين أبي العشائر الحمداني:

أفعال من تلد الكرام كريمة
وفعال من تلد الأعاجم أعجم

وقوله في رثاء يماك التركي أحد جند سيف الدولة:

وإن الذي أمست نزارٌ عبيده
غني عن استعباده لغريب
ومن ذلك استيحاشه في فارس من فقد اللغة العربية، والوجه العربي واليد العربية وحنينه إلى دمشق وضيافتها وحمص وخناصرة كما تقدم.٣

وأما الضرب الثاني، وهو اعتزازه بالعروبة وافتخاره، فيتجلى في مدائح سيف الدولة حيث يشيد بعربيته، ويعدها من مفاخره كقوله:

تهاب سيوف الهند وهي حدائد
فكيف إذا كانت نزاريةً عربا

•••

تحير في سيف ربيعة أصله
وطابعه الرحمن، والمجد صاقل
إذا العرب العرباء رازت نفوسها
فأنت فتاها والمليك الحلاحل
أطاعتك في أرواحها وتصرفت
بأمرك والتفت عليك القبائل

•••

رفعت بك العرب العماد وصيرت
قمم الملوك مواقد النيران

•••

تشرف عدنان به لا ربيعة
وتفتخر الدنيا به لا العواصم

والثالث: وهو عطفه على القبائل العربية، يتبين في قصيدتيه اللتين ذكر فيهما حرب سيف الدولة وقبائل العرب فاجتهد في عطف الأمير عليهم وذكَّره بعربيتهم وقرابتهم، وقد قدمت أدلة هذا في [الفصل الثامن من الباب الثاني] وما بعدها.

وأما ما يخالف هذه العصبية أو يتوهم أنه يخالفها فبيانه فيما يلي:
  • (أ)

    مدحه علي بن صالح الروزباري الكاتب بقوله:

    فارسي له من المجد تاج
    كان من جوهر على أبرواز
    نفسه فوق كل أصل شريف
    ولو انِّي له إلى الشمس عاز
    وبآبائك الكرام التأسي
    والتسلي عما مضى والتعازي
    تركوا الأرض بعدما ذللوها
    ومشت تحتهم بلا مهماز
    وأطاعتهم الجيوش وهيبوا
    فكلام الورى لهم كالنحاز

    ولست أرى في هذا المدح إخلالًا بالعصبية العربية فمدح جماعة ليس تحقيرًا لأخرى؛ لا سيما من شاعر له من وراء المدح مأرب. وكأن الشاعر ضاق عليه مجال القول في هذا الممدوح فحلاه بشيء من مجد الفرس القديم، ولو أنه أراد تعظيم الفرس لاتسع له المجال في قصائد عضد الدولة وهو لم يذكر فيها كلمة عن الفرس وملوكهم، وقد مدح أبو تمام والبحتري غير العرب وقال البحتري في القصيدة السينية التي وصف فيها إيوان كسرى:

    ومساع لولا المحاباة مني
    لم تُطقها مسعاة عنس وعبس

    ثم ذكر فضل الفرس على اليمن إذ أعانوا على إخراج الحبش. ولم تعد مدائح أبي تمام والبحتري مزرية بالعصبية فيهما.

  • (ب)

    وقال أبو الطيب في كافور:

    ويغنيك عما ينسب الناس أنه
    إليك تناهَى المكرمات وتُنسب
    وأي قبيل يستحقك قدره
    معد بن عدنان فداك ويعرب

    •••

    أبلى الأجلة مهري عند غيركم
    وبدل العُذر بالفسطاط والرسَن
    عند الهمام أبي المسك الذي غرِقت
    في بحره مضرُ الحمراء واليمن

    وفي البيتين الأولين موضع للمؤاخذة لا يشفع فيه مقام المدح، واقتضاء الصنعة إذا شفعا في مثل قوله:

    ومن قول سام لو رآك لنسله:
    فدَى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
  • (جـ)

    وقال في مدح ابن العميد:

    أرأيت همة ناقتي في ناقةٍ
    نقلت يدًا سُرُحًا وخفًّا مجمرا

    •••

    تركت دخان الرمث في أوطانها
    طلبًا لقوم يُوقدون العنبرا

    •••

    من مبلغ الأعراب أنِّي بعدهم
    لاقيت رسطاليس والإسكندرا
    ولقيت بطليموس دارس كتبه
    متملكًا متبديًا متحضرا

والظاهر أن الشاعر يصف انتقاله من البداوة إلى الحضارة فقد ذكر دخان الرِّمث، وهو من شجر البادية، وذكر الأعراب، ثم قابل هذا بالعنبر وأرسطاليس والإسكندر، فكلام الشاعر عن الأعراب لا العرب، فليس فيه قياس أمة بأمة بل قياس حال بحال: بداوة وجهالة بحضارة وعلم، ولكني مع هذا لا أبرئ الشاعر من أنه وقف نفسه موقف التهمة، وكان خيرًا له ألا يقول هذا.

هذا ما يمر به القارئ أثناء قراءة الديوان من العصبية والخروج على العصبية.

والحق أن أبا الطيب لم يمثل العرب بأقواله كما مثلهم بأفعاله، إنما كان أبو الطيب شاعر العرب بما مثلهم في عيشه وخلقه وفعله وقوله كما قدمت في أول الفصل.

•••

ولا يقاس أبو الطيب في الإشادة بالعرب والفخر بهم والدفع عنهم، ودعوتهم إلى استعادة مجدهم، بشاعر العرب الحق الذي فاض شعره في القرن الخامس الهجري بالعزة العربية، والعصبية للعرب والإشادة بمجدهم، وذلكم الشاعر الأموي النابغ الأبيوردي.

الحق أن أبا الطيب لا يُقاس بالأبيوردي في هذا الشأن، بل لا يستحق أن يذكر معه في هذا الصدد، ولا يتسع المجال للتمثيل بروائع الأبيوردي، ولكن ينبغي أن نذكر أن أبا الطيب عاش في بلاد العرب، والأبيوردي عاش في ديار العجم؛ فكان كل ما حوله يثير عصبيته، كما فعل المتنبي حين ذهب إلى بلاد العجم.٤

هذا؛ ولأبي الطيب، غير ما بينت، آراء منثورة ترجع إلى أمور شتى لا تبين عن مذهب مكين في النفس، ويستطاع تعدادها هنا.

١  مجلة المقتطف: عدد المتنبي.
٢  مجلة المغرب الجديد: عدد المتنبي.
٣  انظر [الفصل السابع عشر من الباب الثاني].
٤  [الفصل السابع عشر من الباب الثاني] وما بعده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤