الفصل الرابع

رأيي في شعر أبي الطيب وخصائصه

(١) مقدمة

البيان كله تصوير وتعبير عما يُدرك الإنسان في هذا العالم من أشياء حسية وأمور معنوية، فللبيان أركان ثلاثة: المعنى الذي يُدرك، والصورة التي يُصور فيها، واللفظ الذي ينقل هذا المعنى وصورته إلى السامع والقارئ.

(١-١) الركن الأول: المعاني المدركة

كل ما في هذا العالم سمائه وأرضه من حقائق آفاقية ونفسية، تصلح أن تكون موضوعات للبيان البليغ نظمه ونثره، إن وصلها الإنسان بنفسه فصبغها بعاطفته أو صورها بخياله، أو جلاها وفصلها بصنعته، والناس يختلفون فيما يدركون قلة وكثرة، وضيقًا وسعة، وإجمالًا وتفصيلًا، وكلما اتسع علم الإنسان بحقائق العالم وأحواله اتسع مجال البيان عنده، وكثرت موضوعات البيان ومعانيها لديه، فكان أشمل بيانًا وأقدر على أن يخاطب النفوس المختلفة من العلماء والجهال، والخاصة والدهماء، وكان بيانه أكثر اتصالًا بحقائق العالم، وأوفى نصيبًا من الخلود.

اختلاف الموضوعات في صلتها بالإنسان

ثم الموضوعات التي يعالجها البيان، هذه الحقائق النفسية والآفاقية التي هي مادة النظم والنثر، تختلف في اتصالها بالإنسان: منها ما هو محكم الاتصال بشعوره وعاطفته، ومنها ما هو أضعف صلة بالعاطفة والشعور.

وهي في هذا تتوالى من مركز الدائرة إلى محيطها، والشعر والنثر في هذا مختلفان، الشعر أقرب إلى المركز وأشد اتصالًا بالعاطفة، والنثر أقرب إلى المحيط وأبعد عن المركز، وكلاهما تحيط به هذه الدائرة التي تشمل حقائق العالم كلها موصولةً بعاطفة الإنسان وشعوره.

فقول أبي العلاء المعري:

الخلق من أربع مجمعة
نار وماء وتربة وهوا

دخل في الشعر لأنه لم يُرد تبيين عناصر العالم والإنسان كما يبينها عالم طبيعي؛ بل وصلها برأيه في ضعف تركيب العالم، وتعرضه للانحلال والفناء، كما قال:

وأرى الأربع الطبائع فينا
وهي في جثة الفتى خصماء
إن توافقن صح أو لا فما ينـ
ـفك عنها الإمراض والإغماء

لم يبين هنا أمزجة الإنسان تبيين طبيب، ولكنه جعل هذا البيان وسيلة إلى قوله فيما يقاسيه الإنسان في الحياة من السقام والآلام.

وقول القائل:

منع البقاء تقلب الشمس
وطلوعها من حيث لا تُمسي
وطلوعها حمراء صافية
وغروبها صفراء كالوَرْس

يدخل في الشعر بأن قائله لم يرد بيان المظاهر الطبيعية حين طلوع الشمس وغروبها، ولكن يريد بيان فناء الإنسان على مر الزمان. وإن تكلم جغرافي في طلوع الشمس وغروبها، وبين سبب احمرارها حين الطلوع واصفرارها حين الغروب، وفصل القول في هذا تفصيلًا لم يدخل كلامه في دائرة الشعر، لانفصاله عن الإنسان عاطفته وخياله.

ثم انظر هذه الأمثلة:

قول زهير:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يُستغن عنه ويُذمم

وقول عنترة:

وإذا صحوت فما أقصر عن ندًى
وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي

وقول أبي الطيب:

وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام

تجد في هذه الأمثلة كلها بيان حقائق نفسية واجتماعية لم تخلقها العاطفة والخيال ولكنها متصلة بعاطفة الإنسان مؤثرة في نفسه وإن لم يبين هذا الاتصال وهذا التأثير في الكلام.

ثم انظر في قول بشار:

فراحوا فريقٌ في الأسار، ومثله
غريق، ومثلٌ لاذ بالبحر هاربُه
وقول ابن المقفع:

ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.

وهذه القصة:

دخل أبو العيناء على أبي الصقر فقال له: ما أخرك عنا؟

قال: سُرق حماري، قال: وكيف سُرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك.

قال: فلِمَ لَمْ تأتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذلة المكاري، ومِنة العواري.

لا تجد في هذه الأمثلة إلا أمورًا كشف عنها القائل إخبارًا أو طلبًا وهي، على هذا، بيان جيد ذو أثر في النفس، دعوةً إلى الخير، أو روعة بالحجة القوية والتصوير المبين.

وهذه أمثلة أخرى:

قول عنترة في القصيدة التي فيها البيت الذي أثبتناه آنفًا:

ولقد ذكرتك والرماح كأنها
أشطان بئر في لبان الأدهم
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم

وقول بشار في القصيدة التي منها البيت الذي مثلنا به آنفًا:

وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى
وبالشوك والخطي، حمرٌ ثعالبه
برزنا له والشمس في حجر أمها
تطالعنا والطل لم يجر ذائبه
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجى الفرار مثالبه

وقول أبي الطيب:

وقد تمنوا غداة الدرب في لجب
أن يُبصروك، فلما أبصروك عموا
صدمتهم بخميسٍ أنت غرته
وسمهريته في وجهه غمم
فكان أثبت ما فيهم جسومهم
يسقطن حولك، والأرواح تنهزم

فالتصوير في هذه الأمثلة أروع والعاطفة فيها أبين والخيال فيها عجيب، فهي أقرب إلى مركز الشعر من الأمثلة السابقة، وكلٌّ شعرٌ أو نثر بليغ.

•••

ربما يكون التأثير بغير تخييل، ولا تبيين للعاطفة، ولكن بإثارة العاطفة أو التأثير في النفس بالصورة أو القصة.

انظر قول مجنون ليلى:

وأخرج من بين الجلوس لعلني
أحدث عنك النفس، يا ليل، خاليا
وإني لأستغفي وما بي غفوةٌ
لعل خيالًا منك يلقى خياليا

فهو لم يقل أنا محب موله، ولا شكا تبريح العشق به، ولعله وصف حقيقة ليس للخيال فيها عمل، ولكنه دل بهذه الحركات على ما وراءها من حب وشغف ووله.

وكذلك قول ذي الرمة:

عشية ما لي حيلة غير أنني
بلقط الحصى، والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده
بكفي والغربان في الدار وقع

فهو لم يزد على أن وصف حالًا تقع كثيرًا في البادية، وربما يعانيها كثير ممن لا يستطيعون الإبانة عنها بالشعر، ولكنه دل بهذا الوصف على ما في نفسه، كما يدل الوجه الواجم، والطرف الساجم، والثغر الباسم، وهكذا يطرد القول في هذا الشأن، وتكثر الأمثلة إلى غير نهاية.

ويؤثر عن أبي العلاء المعري أنه قال: أبو تمام والمتنبي حكيمان، وإنما الشاعر البحتري.

وتأويل هذا أن شعر البحتري أدخل في العاطفة وألصق بالوجدان من شعر أبي تمام والمتنبي، فجانب العقل في شعرهما أبين منه في شعر الوليد، والعاطفة في شعرهما لا تبلغ مبلغها في شعره، ويبقى للحكمة قدرها في شعرهما.

ولا ريب أن أبا تمام والمتنبي شاعران كبيران وأبو العلاء المعري أول من يعترف بشعر أبي الطيب، ولكن تأويل كلام المعري ما قلت.

ويمكن أن يقال على نسق ما قلت آنفًا: إن شعر أبي عبادة أقرب إلى مركز الدائرة الشعرية من شعر أبي تمام وأبي الطيب.

اختلاف التأثير باختلاف الموضوع

فموضوعات الأدب تختلف اتصالًا بالنفس الإنسانية فتختلف تأثيرًا فيها، يختلف تأثير الشاعر والكاتب باختلاف الموضوع، فالشاعر الذي يعالج موضوعًا شديد الاتصال بعواطف الإنسان كالرثاء، يؤثر في النفوس أكثر ممن يعالج موضوعًا آخر كالوصف، وإن كان بيان الواصف أقوى وأوضح من بيان الراثي.

فالشاعر الذي يعالج الموضوعات التي لا تثير حزن الإنسان ولا طربه ثم يجيد فيها ويروع بها، هو، في أكثر الأحيان، أشعر ممن يؤثر في الناس بمعالجة الموضوع الذي هو ألصق بالعاطفة، وأكثر إثارة للنفس، فينبغي أن يقدر هذا قدره حين النظر في الشعر، والموازنة بين الشعراء، والذين يعالجون الهزل والفكاهة في الشعر، أو يتناولون موضوع الشهوات فيلمسون مواضع الحساسية في نفس الإنسان، هؤلاء يؤثرون بالموضوع أكثر مما يؤثرون بصنعة البيان.

فأصحاب الأدب الذي يسمى «الأدب المكشوف» لا يثيرون الناس ببلاغتهم، ولكن بموضوعهم، وهذه طريقة يسيرة، ومتاع رخيص للتلبيس على الناس وتزيين الشعر بإحساسهم لا ببلاغة الشاعر.

إن أصحاب الأدب المكشوف يصفون أمورًا وأحوالًا إن وصفها متكلم عيي، في غير صناعة من النظم والنثر، وجد من يصغون إليه ويعجبون بقوله، ويطربون به، فكيف إذا مسها الشاعر بخياله وتصويره وحلاها بالوزن والقافية.

في الموضوعات جليل وحقير، وجميل وقبيح، وجد وهزل، ونافع وضار، ومصلح ومفسد، ولست أعرض هنا لنظريات النقاد في وصل الأدب بالأخلاق وفصله عنها، فليس هذا موضعه؛ ولكن أقول: إن الموضوعات التي يعالجها شاعر لها دخل في تأثيره في النفوس، مع اختلاف النفوس ونزعاتها، وتفاوت هممها ومطالبها.

وفي موضوعات الشعر مألوف مطروق ذللـه الشعراء، وألف الناس معانيه وصوره وعباراته، وفيها الغُفْل الذي لم يصقله الشعر، والأنف الذي لم يسبق إليه شاعر، وفيها ما قل السابقون إليه.

والموضوع الأنف لا يذلـلـﻪ إلا شاعر مبتكر مخترع متصرف في التصوير والتعبير، هو يدرك المعاني، وهو يصورها، وهو يتحيل للإبانة عنها ويتلطف، ولعل الناس يتلقونه بالاستغراب، أو يعدونه غامضًا بعيد المعنى، فإن كثيرًا من معاني الشعر في الموضوع المطروق المعتاد، يعين على فهمها الإلف والتعود وإن قصر اللفظ عنها؛ فالسامع والقارئ يعرفان أن الشعراء في مثل هذا الموضع يقصدون إلى هذا المعنى، وكثيرًا ما يفهم المعنى قبل تمام عبارته، وكثيرًا ما اعترض النقاد على شاعر بأنه لم يجر على ما تعود الشعراء في هذا المقام، ولم يسلك مسلكهم.

وليس الأمر كذلك في شاعر معتد بنفسه يهجم على الموضوع الغريب والمعنى البعيد، ويطوع له الألفاظ، ويبين عنه بحسن تعبيره ولطف تصرفه.

فليقدَّر هذا في الموازنة بين الشعراء كذلك.

اختلاف الإدراك في الشيء الواحد

ثم إدراك الناس مختلف فيما يعرض لهم من المرائي والأفكار، وفيما يفكرون فيه من الحسيات والمعنويات، وفي هذا يمتاز الشاعر والكاتب من غيرهما، فنظرة الشاعر إلى شيء تنفذ إلى معان خفية، وتصل إلى معان أخرى متصلة به، لا يدركها من لم يؤت موهبة الشعر، والشعراء فيما بينهم في هذا مختلفون؛ يختلفون في النفاذ من الظواهر إلى البواطن، وفي سلسلة المعاني بعضها من بعض.

يرى إنسان غرابًا يزق فرخيه في عشه فلا يرى غير الغراب والفرخين والعش، وينظر آخر فيرى ما في فعل الغراب من العناء والكد والإيثار، ويفكر كيف بنى الغراب عشه محكمًا في مهب الرياح، وكيف طلب الرزق بين الآفات والمهالك فرجع به إلى فرخيه، ولعل فكره يمتد إلى قياس هذا الطائر بالإنسان، وإلى ما سلط على الطير من الناس وهلم جرًّا.١

وأضرب مثلًا آخر: حمالًا شيخًا ضريرًا يقوده صبي، وقد انحنى ظهره تحت حمله، رأيته في مدينة بغداد. من الناس من يرى الحمال الضرير فيشفق عليه فحسب، ومنهم من يثير فيه هذا المرأى معاني شتى وينفذ فكره إلى ما وراء هذا المنظر من ضرورات اضطرت هذا الشيخ الضرير إلى الحمل، ويتصور ما يعتلج في نفسه من آلام وهو يفكر في عيشه بين ضرورات قاهرة وشيخوخة وضرارة جديرتين بالراحة، ويتصل فكره بنظام الجماعة التي وكلت هذا الرجل إلى نفسه، وقسوة الناس، وذهاب الرحمة والمروءة من نفوسهم وهلم جرًّا.

ومثل آخر: زهرة ناضرة مشرفة على جدول لا يرى فيها البستاني إلا زهرة قريبة من الماء، ويرى فيها راءٍ آخر نضرة الحياة والشباب ويمتد فكره إلى ما وراء هذه النضرة فيتخيل ذبولها وسقوطها ويرى في صورتها التي تبدو في الماء وتخفى صور الآمال الكاذبة، والخيالات الذاهبة، ويستطيع أن يكتب مقالًا عنوانه «زهرة على جدول» أو ينظم أبياتًا كهذه:

يا زهرة في ضفاف الماء ناضرة
يهتز فيها شباب جد مفتون
وللنسيم على أوراقها عبث
يبين الحسن فيه كل مكنون
تطالع الماء تبغي فيه صورتها
تردها الريح عنه رد مغبون
ويُنفذ الدهر فيها حكمه فإذا
شتى الوريقات بين الماء والطين
أين الشباب الذي راقت نضارته
ورفرفت فوقه أحلام مجنون؟
أنضرة الزهر لم تثبت لناظرها
أم صورة الماء بين الحين والحين

وهكذا يستطيع كاتب أن يوالي الأمثلة في هذا العدد ليبين كيف يتفاوت إدراك الناس، وكيف ينفذ البيان البليغ إلى بواطن الأشياء، وكيف يفسر المرأى المحدود أو الفكرة الصغيرة تفسيرًا يبين عما لا يخطر على بال من لم يؤت النظر الثاقب والطبع الشاعر.

وفي هذا، في الحق، يمتاز الشعراء والكتاب من غيرهم، ويمتازون فيما بينهم، ويرقى بعضهم فوق بعض درجات.

(١-٢) الركن الثاني: التصوير

الشاعر يدرك حقائق كثيرة في هذا العالم، حقائق نفسية أو آفاقية ويعبر عنها كما هي، أو يصورها بخياله صورًا شتى، وهذه الصور معان يقصد إليها الشاعر، وهي مادة شعره وموضع ابتكاره وتصرفه، فلا تحسبن أنها ليست إلا وسائل لبيان معنى أصيل عناه الشاعر، فهي حينًا تشارك المعنى الأصيل في عناية الشاعر واحتفاله، وحينًا تنال من قصد الشاعر واهتمامه النصيب الأوفر، وحينًا تستأثر بقصد الشاعر كله فلا يُعنَى إلا بهذه الصورة المتخيلة.

وأضرب مثلًا قول بشار:

برزنا له والشمس في حجر أمها
تطالعنا والطل لم يجر ذائبه

أراد الشاعر أن يقول: برزنا للقاء عدونا حين شروق الشمس فقال: والشمس في حجر أمها تطالعنا، فهذه الصورة التي تخيلها للشمس وهي في الأفق كالوليد في حجر أمه، وهي تطالعهم كما يطالع الطفل شيئًا كبيرًا رائعًا يستبد بنظره، هذه الصورة أبلغ أثرًا في نفس الشاعر والقارئ.

ومثل آخر قول مسلم بن الوليد:

وطار في إثر من طار الفرار به
خوفٌ يعارضه في كل أخدود

المعنى الأصيل هنا أن جند العدو فروا خائفين، فكلما رأى أحدهم أخدودًا أشفق أن يكون فيه كمين.

فانظر كيف صور هذا في طراد كما يطرد الصقر الحمامة، فهذا طائرٌ خوفًا، والخوف طائر وراءه، وكلما رأى أخدودًا اعترض الخوف طريقه فخيل إليه أن به كمينًا.

فالمعنى الأصيل أفاده الكلام، وكأنه أفاده عرضًا، وشغل السامع والقارئ بهذه الصورة العجيبة المخيفة.

وتأمل في قول مسلم أيضًا:

ومجهل كاطراد السيف محتجز
عن الأدلاء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسرَى مولهة
حيرَى تلوذ بأكناف الجلاميد

فإن يكن قبل الصورة التي في البيت الثاني معنى أصيل فهو اضطراب الرياح في هذا المجهل وحيرتها فيه، وجائز أن يكون الشاعر قصد معنى غير هذه الصورة التي تخيلها، تخيل الرياح في هذا المجهل المشتعل المتشابه ضالة طريقها حائرة، جازعة من حره تلوذ بجوانب الصخور تتقي بظلالها مس الشمس أو تستريح من الكلال والضلال.

وقول أبي الطيب الذي مر آنفًا:

صدمتهم بخميس أنت غرته
وسمهريته في وجهه غمم

إن يكن الشاعر قصد إلى الدلالة على تقدم سيف الدولة الجيش، وعلى كثرة الرماح — ولعله لم يبال بهذين — فلا ريب أن همه الأول كان إظهار هذه الصورة الرائعة التي تمثل الجيش وجهًا غرته سيف الدولة، ورماحه غمم في هذا الوجه، كالوجه الأغم يكثر الشعر على جبهته.

وهكذا تجد هذه الصورة الشعرية لها مكانة في نفس الشاعر والسامع والقارئ مع المعنى الأصيل، أو لها المكانة الأولى، أو قصد إليها وحدها الشاعر، ولم يبال بمعنى غيرها.

ولست في حاجة إلى موالاة الأمثال، وتكثير الشواهد في هذا الشأن.

البلاغة في المعاني أو الألفاظ

ولا أعرض هنا للموضوع الذي طال فيه الجدال بين بعض الأدباء في القديم والحديث، وهو أن بلاغة الكلام في لفظه أو معناه، لا أجد هذه المقدمة القصيرة التي أقدمها قبل الكلام في شعر أبي الطيب، تقتضي الكلام في هذا الموضوع، ولا أراها تتسع له.

وحسبي أن أقول: إن أكبر ظني أن الذين قالوا: إن البلاغة في الألفاظ عدوا من الألفاظ هذه الصور الشعرية التي ذكرت، حسبوا ما عدا المعنى الأصلي الغُفْل، من قبيل الألفاظ فقالوا: إن بلاغة الكلام في اللفظ، وإلا فكيف تسنى لهم أن يدعوا هذه الدعوى فيقطعوا الكلام عن معانيه، ويقوموه بألفاظه.

يقول ابن خلدون في المقدمة:

فالمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى صناعة. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه، وهو بمثابة القوالب للمعاني، فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحدٌ في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء؛ كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد، والمعاني واحدةٌ في نفسها.

لا نقبل قول ابن خلدون: إن المعاني موجودة عند كل واحد … فالناس متفاوتون في إدراك المعاني تفاوتًا لا يُحد، ثم لا نقبل أن جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال والمعاني واحدة في نفسها إلا أن يكون ابن خلدون قد جعل الصور الشعرية التي يفتن فيها الشاعر من قسم الألفاظ، وقصر المعاني على المعاني الأصيلة الغفل، فإذا استوى اثنان في إدراك معنى امتاز أحدهما عن الآخر بالتصوير الذي يعده ابن خلدون ومن ذهب مذهبه، من تأليف الكلام لا من المعاني.

لا يستقيم هذا الكلام إلا على هذا التأويل.

(١-٣) الركن الثالث: العبارة

يبقى من أركان البيان اللفظ بمعناه الحق، أي الأصوات التي يستعين بها الإنسان على الإعراب عما في نفسه، العبارة التي يعبر بها عن المعنى الأصيل الساذج أو المعاني الشعرية التي سميتها الصور آنفًا، يبقى من أركان البيان بعد ما قدمت الركن الذي يتغير بنقل الكلام من لغة إلى أخرى لا المعاني والصور التي يمكن المحافظة عليها في اللغات المختلفة.

لكل لغة ألفاظها، ولكل لغة تركيباتها وأساليبها، ولا يستقيم البيان إلا بأن تسير الألفاظ مفردة ومركبة على سنن لغتها، وبأن تسلم من الحوشية ومن التعقيد ويتوافر حظ الكلام من الدقائق التي يدل عليها نظم الكلام في اللغة التي ينشأ فيها، ولا ريب أن لمفردات الكلام ومركباته وتأليفه نصيبًا من بلاغته كبيرًا.

وقد تبين لي هذا، وانجلى دون حجاب حين قست شعر شاعر واحد في لغتين هو في إحداهما أمكن منه في الأخرى، فعند الشاعر العلم بالحقائق، والقدرة على البيان، والمهارة في التصوير، لا تختلف فيما ينظم بهذه اللغة أو تلك؛ ولكن خبرته باللغة وبصره بدقائقها ودربته عليها، تختلف باختلاف اللغتين، فهذا ثبت أن للألفاظ والنظم مكانتهما في البلاغة.

قرأت شعر الشيخ سعدي الشيرازي بالفارسية، وقرأت قصائد له باللغة العربية فرأيت اختلاف الشعر رصانة وانسجامًا وجمالًا وروعة، وكذلك كل من ينظم في لغتين هو أقدر في إحداهما، تجد في شعره دليل هذه الدعوى، وفي هذا الموضوع دقائق خفية، ومعان بعيدة لا يدركها إلا النظر الثاقب والذوق الدرَّاك.

وبعدُ فالكلام كله ألفاظه ومعانيه الأصيلة، وصوره الشعرية، وحقائقه ومجازاته وألفاظه وأساليبه؛ كل أولئك نغمات في لحن واحد، إن اختلت إحداها وقع الخلل في اللحن كله.

فالمعنى القيم، إن لم يحسن تبيينه، ولم يجوَّد تصويره، أو أحسن تبيينه وأجيد تصويره ولم يُحسَن التعبير عنه بخلل في اللفظ أو التركيب أو التأليف، لم يقع في البلاغة موقع القبول؛ بل البيت القيم الذي استوفى كل الأوصاف المعنوية أو اللفظية إن أنشده منشد فلحن فيه أو أخل بوزنه نفر السامع من الخلل الطارئ على لسان المنشد، وإن كان السامع عرف البيت من قبل وحفظه.

الكلام موسيقى مؤتلفة، وأنغام مجتمعة، يذهب الخلل في جانب منها بجمالها، ويشيع الشذوذ من أحد أجزائها في سائر الأجزاء.

والشاعر المفلق هو الذي تلتئم معانيه ومجازاته وألفاظه وأسلوبه وأوزانه وقوافيه التئام الموسيقى المحكمة، تحس جمالها، وتعترف بروعتها، ولا تقول إن نبرة بعينها أو جرسًا واحدًا أو نغمة مفردة، مصدر هذا الجمال، وتلك الروعة.

(٢) نظرات في شعر أبي الطيب

ننظر، بعد هذه المقدمة، في شعر هذا الشاعر لنرى الموضوعات التي آثرها واحتفل بها وافتن فيها أكثر من غيرها، وهي الموضوعات التي وافقت نفسه، ولاءمت همته وطموحه … ثم نرى كيف عالج هذه الموضوعات إيضاحًا وتصويرًا وتعبيرًا.

(٢-١) موضوعاته

عالج أبو الطيب موضوعات الشعر التي عالجها شعراء العرب، ولكنه آثر من بينها موضوعات برز فيها، وعُرف بها وعُرفت به، وقد ألم بها الشعراء ولم يستوعبوها استيعابه ولم يكلفوا بها كلفه، ولا أجادوا إجادته.

وهي موضوعات ترجع في جملتها إلى القوة والإباء والطموح إلى المعالي، والإقدام والترفع عن الدنايا، كما ترجع إلى الحكمة الأخلاقية والاجتماعية.

الأمثال في شعره

وهذا الشاعر لاعتداده بنفسه، وتعويله على رأيه، واقتداره على البيان والإيجاز، صاغ كثيرًا من أقواله كلمات جامعة وأجراها مجرى الأمثال في الحكم والأخلاق، كقوله:

مصائب قوم عند قوم فوائد
وربما صحت الأجسام بالعلل

•••

وخير جليس في الزمان كتاب
وتأبى الطباع على الناقل

•••

ولكن طبع النفس للنفس قائد
إذا عظم المطلوب قل المساعد

•••

أنا الغريق فما خوفي من البلل
ليس التكحل في العينين كالكحل

وقوله:

وكل امرئ يُولي الجميل محبب
وكل مكان ينبت العز طيب

•••

من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام

وقوله:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعُلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
ومَن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
وقد ألف الصاحب بن عباد، على أنه لم يكن من محبي أبي الطيب، رسالة لفخر الدولة بن بويه جمع فيها من شعر الشاعر زهاء سبعين وثلاثمائة بيت تجري مجرى الأمثال، وقال في مقدمتها:

وهذا الشاعر على تميزه وبراعته وتبريزه في صنعته، له في الأمثال خصوصًا مذهب يسبق به أمثاله.

أدرك أبو الطيب الحكمة بفكره، وصاغها أمثالًا ببيانه فسارت في الأدب ثروة للمتأدبين ومددًا للمتمثلين.

•••

أولع أبو الطيب بهذه الموضوعات وهي في جملتها ترجع إلى الحكمة والحماسة فخص بها قصائد وكررها في قصائد المدح:

فالقصائد التي اختصها بهذه الموضوعات، اثنتا عشرة قصيدة هي أحسن شعره بما كانت أدل على ما في نفسه إذ نظمها للإعراب عما يكنه لا مادحًا ولا هاجيًا وهي:

من قصائد الصبا:

كم قتيل كما قتلت شهيد
لبياض الطُّلَى وورد الخدود

•••

قفا تريا وَدْقِي فهاتا المخايلُ
ولا تخشيا خُلْفًا لما أنا قائل

•••

ضيف ألم برأسي غير محتشم
السيف أحسن فعلًا منه باللمم

•••

عذيري من عذارَى من أمور
سكنَّ جوانحي بدل الخدور

•••

ألا لا أُرى الأحداث مدحًا ولا ذمَّا
فما بطشها جهلًا ولا كفها حلما

•••

إذا غامرت في شرفٍ مروم
فلا تقنع بما دون النجوم

ومن القصائد السيفية:

وا حرَّ قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم

ومن القصائد المصرية:

بم التعلل؟ لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن

•••

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا

•••

ملومكما يجل عن الملام
ووقع فعاله فوق الكلام

•••

ألا كل ماشية الخَيْزَلَى
فدا كل ماشية الهَيْدَبَى

ومن القصائد العراقية:

حتام نحن نُساري النجم في الظُّلَم؟
وما سُراه على خُف ولا قدَم

هذه قصائد نظمها الشاعر للإبانة عما في فؤاده لم يقصد فيها إلى مدح أو هجاء أو رثاء.

وقد ضمنت قصائد أخرى نظمت في موضوع من موضوعات الشعر المعتادة كثيرًا من الحكم والعبر والحماسة والفخر.

فمن قصائد الشباب:

فؤاد ما تسليه المدام
وعمر مثل ما يهب اللئام

والقصيدة:

لا افتخارٌ إلا لمن لا يُضام
مدرك أو محارب لا ينام

التي يقول فيها:

واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تَضْوَى به الأجسام
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
ذل من يغبط الذليل بعيشٍ
رب عيش أخف منه الحِمام

والقصيدة:

أطاعن خيلًا من فوارسها الدهر
وحيدًا، وما قولي كذا ومعي الصبر؟

والقصيدة:

أقل فعالي بله أكثره مجد٢
وذا الجِد منه نلت أم لم أنلْ جَد

بهذه القصيدة وأمثالها يسمو أبو الطيب في موضوعه، وفي اعتزازه بالنفس، وإشادته بالكرامة، ودعوته إلى الحرية والعزة.

وإذا أردنا أن ننشئ شباب العرب على الأخلاق العالية، والشيم العزيزة التي تسمو بهم عن الدنايا، وتثبتهم على زلازل هذا العصر فبمثل هذا الشعر، تستحكم أخلاقهم، وتستحصد عزائمهم، ومثل أبي الطيب فليكن القدوة.

•••

في هذه الموضوعات وهذه المعاني وما يتصل بها، ويمت إليها يسمو هذا الشاعر.

فهو يجيد الكلام في الفخر والحماسة وفي وصف الحرب وعددها من السلاح والخيل ووصف البيداء ومشقاتها وأهوالها ووصف الصيد، وهو ضرب من الحرب، ويعجب بالفتوة والقوة، وبالإقدام والغلب، وبالخشونة واقتحام المكاره، ومعاناة الشدائد.

(٢-٢) معانيه وصوره

أعرض هنا لبراعة أبي الطيب في إدراك المعاني وتصويرها، صلة بما قدمت في هذا الفصل.

ولا أستوعب الموضوعات التي شعر فيها أبو الطيب، بل أكتفي بموضوعين: موضوع يلائم طبعه وخلقه، وقد برز فيه وشهر به، وموضوع لا يجانس ما أثر من سيرته وطبعه. الأول الوصف عامة وفيه وصف الحرب، والثاني الغزل.

الوصف

الوصف، ولا سيما وصف الحسيات، من أصعب موضوعات البيان، الموصوف معروف بهيئته وأشكاله وألوانه، وعلى الواصف أن يبين عنه إبانة تمثله لمن لم يره، فهو ليس طليقًا يسير مع خياله، ويتجنب وعر الكلام إلى سهله، ويفزع من ضيقه إلى سعته، بل خياله وصنعته في حدود من هذه الصورة الماثلة.

في الوصف يتفاوت الشعراء؛ يتفاوتون في إدراك دقائق الموصوف الحسية، ثم إدراك ما تبعثه في النفس من خيال وعاطفة سرور وحزن وعبرة، كما أبدع البحتري في وصف إيوان كسرى في القصيدة السينية النابهة، فأجال طرفه وقلبه في صور الإيوان، وغِيَر الزمان.

لا بد للواصف من حس مرهف، وخيال واسع، وفكر منظم، وبيان قوي.

وأبو الطيب يساير كبار الشعراء في الوصف حينًا، ويتخلف عنهم حينًا، حاشا وصف الحرب وما يتصل بها، وقد أخذ عليه الواحدي تخلفه في قطع عدها عليه مثل أبياته في وصف مجلس الورد عند ابن العميد، وأبياته في وصف رسالة جاءت من ابن العميد إلى أبي الطيب.

واعتذر العكبري عن أبي الطيب فيما آخذه به الواحدي بأن هذه المآخذ كلها في أبيات أنشئت ارتجالًا ولو لم تثبت في الديوان لكان خيرًا للشاعر.

وقد عُرف الأعراب بإجادة الوصف، وقوة الإبانة عما يرون، لحدة إحساسهم وسلامة فطرتهم ولحاجتهم إلى معرفة ما يحيط بهم، معرفة تمكنهم من سلوك السبل، وتخلل الشعاب والاهتداء إلى المواطن، وتتبع المياه والمراعي، وتجنب المخاطر.

وفي كتب الأدب من أوصافهم العجيب البليغ، وأكتفي بهذه القصة: روى أبو هلال العسكري في ديوان المعاني أن هشام بن عبد الملك قال لأعرابي لا يقرأ: انظر الميل، يعني كم على الحجر من عدد الأميال؟ فنظر ثم عاد فقال: «رأيت شيئًا كرأس المِحجَن، متصلًا بحلقة صغيرة، تتبعها ثلاث كأطْباء الكلبة تُفضي إلى هَنة كأنها قَطاة بلا منقار.»

ففهم هشام أنها خمسة.

وأبو الطيب، وهو يكاد يكون أعرابيًّا، من أدق الشعراء إدراكًا للموصوف وأقدرهم إبانة عنه، وثبت هذا في أوصافه الكثيرة، وصف بحيرة طبرية في القصيدة:

أحق عافٍ بدمعك الهمم
أحدثُ شيءٍ عهدًا بها القدم

ووصف الأسد في قصيدة بدر بن عمار:

في الخد أن عزم الخليط رحيلًا
مطر تزيد به الخدود محولا

ووصف السيف في قصيدة الروزباري:

كفرندي فرند سيف الجُراز
لذةُ العين عُدة للبراز

وفي قصيدة ابن العميد الدالية، ووصف الصيد في طرديات أبي علي الأوراجي وابن طغج وعضد الدولة، ووصف خيمة سيف الدولة في القصيدة:

وفاؤكما كالربع، أشجاه طاسمه
بأن تسعدا، والدمع أشفاه ساجمه

ولا أتعرض لوصف الجيش والحرب فأمره فيهما بيِّن.

قال يصف السيف:

كفرندي فرند سيف الجُراز
لذة العين عدة للبراز
تحسب الماء خط في لهب النار
أدق الخطوط في الأحراز
كلما رمت لونه منع الناظر
موج كأنه منك هازي
ودقيق قذى الهباء أنيق
متوالٍ في مستو هزهاز
ورد الماء فالجوانب قدرًا
شربت، والتي تليها جوازي
حملته حمائل الدهر حتى
هي محتاجة إلى خراز

فاقرن هذه القطعة بقطعة البحتري:

قد جدت بالطرف الجواد فثنه
لأخيك من أدد أبيك بمنصل
يتناول الروح البعيد مناله
عفوًا ويفتح في الفضاء المقفل … إلخ

أو بقطعة ابن الرومي:

خير ما استعصمت به الكف عضب
ذكر حده، أنيث المهز
ما تأملته بعينيك إلا
أرعشت صفحتاه من غير هز … إلخ

نجد لأبيات أبي الطيب فضلًا عليهما.

وقال في وصف: كلب صيد:

فحل كلابي وثاق الأحبل
عن أشدق مُسَوجر مسلسل
أقب ساط شرس شمردل
منها إذا يُثغ له لا يغزل
مؤجد الفقرة رخو المفصل
له، إذا أدبر، لحظ المقبل
كأنه ينظر من سجنجل
يعدو إذا أحزن عدو المسهل
إذا تلا جاء المدى وقد تُلي
يُقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربع مجدولة لم تجدل
فتل الأيادي ربذات الأرجل
آثارها أمثالها في الجندل
يكاد في الوثب من التفتل
يجمع بين متنه والكلكل
وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالوَلي
كأنه مضبر من جرول
موثَّق على رماح ذُبَّل
ذي ذنب أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل
كأنه من جسمه بمعزل
لو كان يُبلي السوطَ تحريكٌ بَلي
نيل المنى وحكم نفس المرسل
وعُقلة الظبي وحتف التتفل

وكذلك طردية عضد الدولة التي أولها:

ما أجدر الأيام والليالي
بأن تقول ما له وما لي؟

من أبلغ ما قيل في وصف الصيد، فليرجع إليها القارئ في الديوان.

ومن دقته في الإدراك وتلطفه في الوصف ميله إلى التشبيهات اللطيفة المأخوذة من حروف الهجاء وأشباهها كقوله:

وانثنى عني الرديني حتى
دار دورَ الحروف في هَوَّاز

أي كما تدور الحروف في «هوز» من الحلق إلى الشفة إلى الأسنان.

أول حرف من اسمه كتبت
سنابك الخيل في الجلاميد

يعني أول حرف من اسم سيف الدولة وهو «علي» كتبته سنابك الخيل في الصخر، والسنابك تؤثر في الأرض كرأس الحرف ع.

ورب جواب عن كتاب بعثته
وعنوانه للناظرين قتام
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة
جواد ورمح ذابل وحسام

•••

نتاج رأيك في وقت على عجل
كلفظ حرف وعاه سامع فهم

•••

قُشَير وبلعجلان فيها خفية
كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق

•••

وكل فتى للحرب فوق جبينه
من الضرب سطرٌ بالأسنة معجم

•••

دون التعانق ناحلين كشكلتي
نصب أدقهما وضم الشاكل

وأما وصف الحرب فقد أسلفت كلام ابن الأثير في هذا في فصل آراء النقاد.

وقلت في فصل سيف الدولة إن هذا المقدار من الشعر الحماسي في هذه البلاغة لا يعرف لشاعر آخر.

وأبو الطيب في طبعه الحماسة، وفي سجيته الطرب للحرب والضرب والغلب، والإعجاب بالقوة والعزة والمنعة وما إليها.

فكان، لا جرم، مبرزًا في كل ما هو من هذه الأمور، وكل ما يمت إليها.

وحسبي أن أثبت أمثلة من حماسياته، وهي كثيرة، ولا أطيل الكلام بالوقوف عند كل مثال، والإنابة عما فيه من قوة وروعة، والإشادة بما فيه من حسن تصوير، وجودة تعبير، بل أدع هذا كله لتأمل القارئ وتقديره.

شهد أبو الطيب بعض الوقعات فصور ما رآه وما شعر به، ووُصِف له بعضها فوصف عن سماع، وصاغها بما في طبعه من حماسة وما في خياله وبيانه من سعة وقوة. وأمثل بثلاث قصائد:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم

•••

طوال قنا تُطاعنها، قِصار
وقطرك في ندى ووغى بحار

•••

عُقبى اليمين على عُقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسم؟

تأمل في هذه الأبيات من القصيدة الأولى وهي تصف حرب سيف الدولة والروم:

أتوك يجرون الحديد كأنهم
سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تُعرف البيض منهم
ثيابهم من مثلها والعمائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسنٍ وأمَّة
فما تُفهم الحُدَّاث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغش ناره
فلم يبق إلا صارم أو ضُبارم
تقطع ما لا يُقطع، البيض والقنا
وفر من الأبطال من لا يصادم
وقفتَ وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلمَى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضربٍ أتَى الهامات والنصر غائب
وصار إلى اللبات والنصر قادم

وهذه الأبيات ليست أجود من غيرها في القصيدة.

ويقول في القصيدة الثانية وهي تصف حرب بني كعب وغيرهم من الثائرين على سيف الدولة:

فأقبلها المروج مسومات
ضوامر لا هزال ولا شيار
تثير على سلمية مسبطرًّا
تناكر تحته، لولا الشعار
عجاجًا تعثر العقبان فيه
كأن الجو وعث أو خبار
وظل الطعن في الخيلين خلسًا
كأن الموت بينهم اختصار
فلزهم الطراد إلى قتال
أحدُّ سلاحهم فيه الفرار
مضوا متسابقي الأعضاء فيه
لأرؤسهم بأرجلهم عثار
يشلهم بكل أقب نهدٍ
لفارسه على الخيل الخيار
وكل أصم يعسل جانباه
على الكعبين منه دم ممار
يُغادر كل ملتفت إليه
ولبته لثعلبه وجار
إذا صرف النهار الضوء عنهم
دجا ليلان: ليل والغبار
وإن جنح الظلام انجاب عنهم
أضاء المشرفية والنهار

ومن القصيدة الثالثة وهي تصف حرب الروم:

فلم تُتِمَّ سروجٌ فتحَ ناظرها
إلا وجيشك في جفنيه مزدحم
والنقع يأخذ حرانا وبقعتها
والشمس تُسفر أحيانًا وتلتثم
سحب تمر بحصن الران ممسكة
وما بها البخل لولا أنها نِقم
جيش كأنك في أرض تطاوله
فالأرض لا أمم والجيش لا أمم
إذا مضى علم منها بدا علم
وإن مضى علم منه بدا علم
وشُزَّبٌ أحمت الشعرى شكائمها
ووسَّمتها على آنافها الحكم
حتى وردن بسمنين بحيرتها
تنش بالماء في أشداقها اللجم
وأصبحت بقُرَى هنريط جائلة
ترعى الظُّبَى في خصيبٍ نبته القِمم
فما تركن بها خلدًا له بصر
تحت التراب ولا بازًا له قدم
ولا هزبرًا له من درعه لبد
ولا مهاة لها من شبهها حشم
ترمي على شفرات الباترات بهم
مكامن الأرض والغيطانُ والأكم
وجاوزوا أرسناسًا معصمين به
وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم
وما يصدك عن بحر لهم سعة
وما يردك عن طود لهم شمم
ضربته بصدور الخيل حاملةً
قومًا إذا تلفوا قُدْمًا فقد سلموا
تجفل الموج عن لبات خيلهم
كما تجفل تحت الغارة النعم
عبرت تقدمهم فيه وفي بلد
سكانها رِمم، مسكونها حمم
وفي أكفهم النار التي عُبدت
قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
هنديةٌ إن تُصغِّر معشرًا صغروا
بحدها، أو تعظم معشرًا عظموا

•••

وقد تمنوا غداة الدرب في لجب
أن يبصروك فلما أبصروك عموا
صدمتهم بخميس أنت غرته
وسمهريته في وجهه غمم
فكان أثبت ما فيهم جسومهم
يسقطن حولك والأرواح تنهزم
والأعوجية ملء الطرق خلفهم
والمشرفية ملء اليوم فوقهم
إذا توافقت الضربات صاعدة
توافقت قُلل في الجود تصطدم

الغزل

أبادر فأعترف بأن أبا الطيب لم يكن غزلًا، لم يكن رقيقًا يأسره الهوى، يخفق له قلبه، ويسيل دمعه، ويغني لسانه.

وقد تجنب الشاعر الغزل في مطلع كثير من القصائد حيدًا عن سنة الشعراء، وصرح بلومهم على هذا إذا قال في مطلع قصيدة سيفية:

إذا كان مدح فالنسيب المقدم
أكل فصيح قال شعرًا، مُتيم؟

وفي القصيدة التي مطلعها:

مُنًى كُنَّ لي أن البياض خضاب
فيَخفَى بتبيض القرون شباب

قال:

وما العشق إلا غرة وطماعة
يعرض قلب نفسه فيُصاب
وغيرُ فؤادي للغواني رمية
وغيرُ بناني للزجاج ركاب
تركنا لأطراف القنا كل شهوة
فليس لنا إلا بهن لِعاب

وفي القصيدة التي مطلعها:

بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن

يقول:

مما أضر بأهل العشق أنهم
هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعًا وأنفسهم
في إثر كل قبيح وجهه حسن
تحملوا حملتكم كل ناجية
فكل بين علي اليوم مؤتمن
ما في هوادجكم من مقلتي عوض
إن مِت شوقًا ولا فيها لها ثمن

وقال في القصيدة التي مطلعها:

كدعواك كلٌّ يدعي صحة العقل
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
محب كنى بالبيض عن مرهفاته
وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني
جناها أحبائي وأطرافها رسلي
عدمت فؤادًا لم تبت فيه فضلةٌ
لغير الثنايا الغر والحدق النجل
فما حرمت حسناء بالهجر غبطة
ولا بلغتها من شكا الهجر، بالوصل

ليس الشاعر في طبعه ونزوعه من أهل الغزل، ولكنه حينما أراد أن يتغزل تأسيًا بالشعراء، استطاع أن يجيد، وهذه أمثلة من غزله في شبابه تشهد بما أدَّعِي:

لعبت بمشيته الشَّمول وغادرت
صنمًا من الأصنام، لولا الروح
ما باله لاحظته فتضرجت
وجناته، وفؤادي المجروح
ورمى، وما رمتا يداه، فصابني
سهم يعذب والسهام تريح
قرب المزار، ولا مزار وإنما
يغدو الفؤاد فنلتقي ويروح
وفشت سرائرنا إليك وشفنا
تعريضنا فبدا لك التصريح
لما تقطعت الحمول تقطعت
نفسي أسى، وكأنهن طلوح
وجلا الوداع من الحبيب محاسنًا
حسن العزاء، وقد جُلين، قبيح
فيدٌ مسلمة، وطرف شاخص
وحشا يذوب، ومدمع مسفوح
يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى
شجر الأراك مع الحمام ينوح

ومن قصيدة في مدح الحسين الهمذاني:

أسر بتجديد الهوى ذكر ما مضى
وإن كان لا يبقَى له الحجر الصلد
سهاد أتانا منك في العين عندنا
رقاد، وقُلَّام رعى سربكم، ورد
ممثلة حتى كأن لم تفارقي
وحتى كان اليأس من وصلك الوعد
وحتى تكادي تمسحين مدامعي
ويعبق في ثوبي من ريحك الند

ومن غزله في السيفيات:

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
وللحب ما لم يبق مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
وبين الرضى والسخط والقرب والنوى
مجال لدمع المقلة المترقرق
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر فهو الدهرَ يرجو ويتقي

وقوله:

لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مضرجًا بدموعه
مثل القتيل مضرجًا بدمائه
والعشق كالمعشوق يعذب قربه
للمبتلى، وينال من حَوبائه
لو قلت للدنف الحزين، فديته
مما به، لأغرته بفدائه

وقوله:

أيدري الربع أيَّ دم أراقا
وأي قلوب هذا الركب شاقا
لنا ولأهله أبدًا قلوب
تلاقى في جسوم ما تلاقى
وما عفت الرياح له محلا
عفاه من حدا بهم وساقا
فليت هوى الأحبة كان عدلا
فحمَّل كل قلب ما أطاقا
نظرت إليهم والعين شكرى
فصارت كلها للدمع ماقا
وقد أخذ التمام البدر فيهم
وأعطاني من السقم المحاقا
وبين الفرع والقدمين نور
يقود بلا أزمتها النياقا
وطرف إن سَقَى العشاق كأسًا
بها نقص، سقانيها دهاقا
وخصرٌ تثبت الأبصار فيه
كأن عليه من حدق نطاقا

وانظر الغزل في هذه الأبيات:

أما في النجوم الساريات وغيرها
لعيني على ضوء الصباح دليل؟
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي
فتظهر فيه رقة ونحول؟
لقيت بدرب القلة الفجر لقية
شفت كبدي، والليل فيه قتيل
ويومًا كأن الحسن فيه علامة
بعثتِ بها، والشمس منك رسول

يتبين بهذا أن الرجل مجيد في الغزل، متصرف فيه، ولولا طبعٌ شاعر، وبيانٌ قادر ما أحسن هذا الإحسان في موضوع لا يميل طبعه إليه، ولا تخضع كبرياؤه له.

•••

وفي غزل أبي الطيب أمور جديرة بالإثبات هنا:
  • الأول: أن الغزل لا ينسيه الكلف بذكر الحرب فهو يصف منعة الحبيب وما يحيط به من شدائد وأهوال، يقول في قصيدة ابن طغج:
    ديار اللواتي دارهن عزيزة
    بطولَى القنا يُحفظن لا بالتمائم

    وفي بعض القصائد السيفية:

    حبيب كأن الحسن كان يحبه
    فآثره أو جار في الحسن قاسمه
    تحول رماح الخط دون سِبائه
    وتُسبَى له من كل حي كرائمه
    ويُضحِي غبار الخيل أدنى ستوره
    وآخرها نشر الكباء الملازمه

    •••

    وما شرقي بالماء إلا تذكرًا
    لماء به أهل الحبيب نزول
    يحرمه لمع الأسنة فوقه
    فليس لظمآن إليه وصول

    •••

    متى تزر قوم من تهوى مودتها
    لا يُتحفوك بغير البيض والأسل

    وفي قصيدة كافورية:

    سوائر ربما سارت هوادجها
    منيعةً بين مطعون ومضروب
    وربما وخدت أيدي المطي بها
    على نجيع من الفرسان مصبوب
  • والثاني: أن الشاعر الهمام كلف بالحرب حتى تغزل بها، وقد تقدم قوله:
    محب كنى بالبيض عن مرهفاته
    وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
    وبالسمر عن سمر القنا غير أنها
    جناها أحبائي وأطرافها رسلي

    ويقول:

    أعلى الممالك ما يُبنى على الأسل
    والطعن عند محبيهن كالقبل
    والطعن شزر والأرض واجفة
    كأنما في فؤادها وهَل
    قد صبغت خدها الدماء كما
    يصبغ خد الخريدة الخجل
  • والثالث: تغزله بالأعرابيات، وتفضيلهن على الحضريات، والإعراب بهذا عما في طبعه من إيثار الطبيعة على الصنعة، والبداوة على الحضارة.

    وقد بينت هذا في فصل «البداوة في طبعه وشعره» من قبل.

  • والرابع: مزج الغزل بالحزن والنظر في الدنيا والاعتبار بتغيرها.

    قال في القصيدة التي بعث بها إلى سيف الدولة من العراق والتي مطلعها:

    ما لنا كلنا جَوٍ يا رسول؟
    أنا أهوى وقلبك المتبول
    زودينا من حسن وجهك ما دام
    فحسن الوجوه حال تحول
    وصلينا نصلك هذه الد
    نيا فإن المقام فيها قليل
    من رآها بعينها شاقه القُطَّا
    نُ فيها كما تشوق الحمول

    وقال في القصيدة السيفية التي أولها:

    لعينيك ما يلقى الفؤاد ما لقي
    وللحب ما لم يَبق مني وما بقي
    سقى الله أيام الصبا ما يسرها
    ويفعل فعل البابلي المعتق

    وهذا بيت في أبيات من الغزل كثيرة لا ينظر القارئ أن يعقبه هذا البيت:

    إذا ما لبستَ الدهر مستمتعًا به
    تخرقتَ والملبوسُ لم يتخرق

    ولكنها خطرة حزن، ولمحة عبرة أثناء الغزل. وفي القصيدة:

    ليالي بعد الظاعنين شكول

    يقول أثناء الغزل:

    وما عشتُ من بعد الأحبة سلوةً
    ولكنني للنائبات حمول
    وإن رحيلًا واحدًا حال بيننا
    وفي الموت من بعد الرحيل رحيل

    بل نجد خطرات الحزن هذه في غزل الشباب، ففي القصيدة التي أولها:

    أرَقٌ على أرَقٍ ومثلي يأرق
    وحشًا يذوب وعبرةٌ تترقرق

    يقول:

    وعذلت أهل العشق حتى ذقتُه
    فعجبت كيف يموت من لا يعشق
    وعذرتُهم وعرفت ذنبي أنني
    عيرتهم فلقيت منه ما لقوا

    ثم يتبع الغزل هذه الأبيات:

    أبني أبينا نحن أهل منازل
    أبدًا غراب البين فيها ينعق
    نبكي على الدنيا وما من معشر
    جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
    أين الأكاسرة الجبابرة الأُلَى
    كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا

    إلى أن يقول:

    ولقد بكيت على الشباب ولمتي
    مسودة ولماء وجهي رونق
    حذرًا عليه قبل يوم فراقه
    حتى لكدت بماء جفني أشرق

    ثم ينتقل من هذا البيت إلى المدح، فما الذي دس هذه الأبيات التي فيها التفرق والفناء بين الغزل والمدح؟ حزنٌ خفي واكتئاب في نفس الشاعر يظهر بين الحين والحين، ويذكر به كل شيء حتى الغزل.

(٢-٣) التعبير

بقي أن ننظر في تعبير الشاعر، ونعرف كيف يبين عن معانيه بألفاظه.

وكيف تقع مفرداته ومركباته من مفردات الشعر البليغ ومركباته، ثم كيف يستقيم الأسلوب، وتيسر له طرائق البيان.

هذا موضوع واسع بعيد الجوانب، خفي الأعلام، وله في البلاغة مكانته، ولكني لا أحسب الذي يكتب عن شاعر كبير بسبيل من الإفاضة في هذا الموضوع واستقصاء نواحيه، فإن شاعرًا لا يبلغ منزلة عالية بين شعراء أمته حتى يستوفي عدته للبيان، ويبلغ في اللغة — ألفاظها وأساليبها — المنزلة التي تعلو على الجدل في علمه باللغة، ومسايرة قواعدها، والتزام الأساليب المتينة البليغة فيها.

وأبو الطيب شاعر كبير، لا يختلف في هذا اثنان، وإن اختلف الناس في درجات هذا الكبر، فليس لزامًا على من يكتب عنه أن يخوض في بحث الألفاظ؛ ولكن عليه أن يعالج ما عرف به وذاع عنه من عيب أو مزية، غير المزايا التي يشترك فيها الشعراء العظام جميعًا.

لا أنكر أن لأبي الطيب عيوبًا جزئية في أبيات له، لم يؤد إليها جهله باللغة ولا عجزه عن الارتقاء إلى الدرجات العليا فيها، ولا حطه إليها ضعف في الطبع، أو خور في البيان.

وقد أفاض فيها النقاد، وألممت بها آنفًا، أخذوا عليه كلمة حوشية أو تكرارًا ثقيلًا في الكلمات، وحفلت كتب البلاغة والنقد بأمثلة من مثل قوله في سيف الدولة:

كريم الجرشي شريف النسب

وقوله في وصف فرس:

سبوح لها منها عليها شواهد

وقوله:

أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي

وقوله:

لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو
عقمت بمولد نسلها حواء

وهي جزئيات أدى إليها الإدلال بعلمه بغرائب اللغة، أو ميله إلى الإغراب ليوجه الناس إليه ونحو هذين مما يعرض للإنسان في عنفوان شبابه.

وقد قدمت أن الرجل كان من أعلم أهل عصره باللغة، وأنه كان كوفيًّا يؤثر أحيانًا طريقة الكوفيين في النحو على طريقة البصريين التي ألفها المتأدبون. وتبقى بعد هذه المآخذ الجزئية، جمهرة شعر يتصرف قائله في اللغة؛ مفردها ومركبها وأسلوبها، تصرف الخبير القدير، والناقد البصير، والفصيح الذي ملك الزمام، وانقاد له صعب الكلام.

•••

ولأبي الطيب مزية أطلت النظر فيها وأنا أقرأ شعره، هي قدرته على الإبانة عن المعنى الواسع البعيد بألفاظ قليلة قريبة، ولقد مررت في شعره بأمثلة روائع، وكلمات بدائع يطيل القارئ عندها الإعجاب والتعجب … وهذا نصها:

أراد أن يقول: إن الليالي تكلفني سفرًا متصلًا أقطع به مهامه واسعة صابرًا على السير ومصاعبه مستأنفًا رحلة بعد رحلة! حتى تتعجب ناقتي وتحار أهذه سعة البيداء أم سعة عزمي وانفساح همي؟ فانظر كيف وضع هذا المعنى الطويل في عشر كلمات:

شيم الليالي أن تُشكك ناقتي
صدري بها أفضَى أم البيداء

وأراد أن يقول في مدح أبي علي الأوراجي: إن أبا علي كالجبال عظمًا ووقارًا، وإن لي فيه رجاء عظيمًا كالجبال، وإن بيني وبينه جبالًا شامخة لا بد لي من قطعها، فانظر كيف أدى هذا في ثماني كلمات:

بيني وبين أبي علي مثله
شمُّ الجبال، ومثلهن رجاء

وأراد أن يقول إن ممدوحه حسن، ولكنه في عيون أعدائه قبيح، وكذلك ضيفه قبيح في عيون إبله؛ لأنها تعرف في قدوم الضيف نحرها، وهو في عيون أعدائه أقبح من ضيفة في عيون إبله، فأتى بهذه العبارة:

حسنٌ، في عيون أعدائه
أقبح من ضيفه رأته السوام

وإن يكن في هذا البيت شيء من الغموض فبما حُمِّل من معنى كثير في لفظ قليل.

وأراد أن يبين أنه يطرد عن عينه النوم في مسيره إلى رجل جواد يسري معروفه إلى الناس في ديارهم وهم نائمون غير متجشمين نصبًا ولا ملحفين طلبًا لهذا المعروف فقال:

سرَى النوم عني في سراي إلى الذي
صنائعه تسري إلى كل نائم

وأراد أن يصف نساء بالجمال وسعة الأعين وحسنها ويخبر بأنهن يبكين بكاء شديدًا يذهب بجمال أعينهن فأدى هذا المعنى في الشطر الثاني من هذا البيت:

تركت خدود الغانيات وفوقها
دموع تذيب الحسن في الأعين النُّجل

وأراد أن يبين أن سيف الدولة هزم الروم وقتلهم فمنهم من اختفى في المطامير والسراديب وتحت الأطلال كالخُلد الذي يختفي في الأرض، ومنهم من فر مسرعًا كالبازي، فما سلم هؤلاء ولا هؤلاء من القتل، فقال:

فما تركن بها خلدًا له بصر
تحت التراب ولا بازًا له قدم

وأراد أن يقول إنه لا مفر للإنسان من الشيب، فإن سبب الشيب الذي يكرهه الإنسان هو سبب الشباب الذي يبكي عليه، وهو مرور الزمان واستمرار الحياة، فقال:

مُشِب الذي يبكي الشباب مُشِيبه
فكيف توقيه وبانيه هادمه

وأراد أن يمدح سيف الدولة بأنه قتل في الحرب نفوسًا كثيرة لو حواها لخلد، وأن حياته سرور لهذه الدنيا فهي تهنأ بخلده، فقال:

نهبت من الأعمار ما لو حويته
لهُنئتِ الدنيا بأنك خالد

وهذا الذي يسمى المدح الموجه أي ذا الوجهين كالثوب الذي له وجهان كلاهما حسن، كما قال الثعالبي في اليتيمة، وهو في شعره كثير كقوله:

عمر العدو إذا لاقاه في رهج
أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا

•••

تُشرق أعراضهم وأوجههم
كأنها في نفوسهم شيم

•••

إلى كم ترد الرسل عما أتوا له
كأنهم فيما وهبت ملام

•••

كأن ألسنهم في النطق قد جُعلت
على رماحهم في الطعن خرصان

فهذا فن يشهد بالقدرة على الإبانة، والبصر بإبراز المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة، وكم قائل يمد للمعنى أشطانًا من الألفاظ ثم يكون كما قيل: تجئك بحمأة وقليل ماء.

١  انظر ديوان المثاني للمؤلف.
٢  كسر الراء في أكثره هو اختيار أبي الطيب. انظر طبعتي من الديوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤