الفصل السادس

(١) في الصانع

إنَّ الصنَّاع هم العدد الأكثر والسواد الأعظم في كلِّ الحرف والكارات، وعليهم مداد العمل، ومن أجلهم وُضِعَت هذه التراتيب التي نحن بصددها، وبهم تتوارث وثيقة العمل في كلِّ الأزمنة، ويُحفظ سرُّ المعرفة في الفنون والصنائع. وهم كالأرض ينبوع ثروة البلاد، ومصدر كنوزها الثمينة، بل لولاهم لما كنَّا نحصل على كبير نفع مما تنبته الأرض لنا من مواد الغذاء والكساء. أجل، إنَّ الصانع والفلاح هما القوتان الماديَّتان اللَّتان عليهما يتوقَّف نجاح الأمم أو تأخرها. ومع أنَّ هذا الأمر بديهي لا ريب فيه لم يُلتفت إليه من زمن طويل، وقد أهملت جدَّا آداب الصانع وتعليمه، حتى فُقِد بالكلية بعض الصنائع — كما سبق الإيماء إليه — وبعضها الآخر كاد يبيد لولا أنْ يتقيَّد بالسلطة المتسلسلة في الحِرَف. فالآن لا يطلب من الصانع أنْ يكون عارفًا القراءة والكتابة، بل يكفيه أنَّه قد حصل درجة المهارة في صنعته مع أنَّه كان من جملة الشروط الموضوعة ألَّا يُقْبَل بشدِّ أحد في الكار ما لم يكن قد تاب عن المنكرات ورخى ذقنه «أي التحى».

(٢) في شدِّ الصانع

عندما يبرع الأجير في المهنة التي امتهنها ومارسها منذ حداثته، يأخذ زملاؤه وشاويش الكار بالإلحاح عليه بأن يشُدَّ بالكار — أو أنْ يُمَلِّح — أمَّا الشاويش فلأنه ينتظر ما يصيبه من رسومات الشدِّ، وأمَّا زملاؤه فلأنهم يبتغون ازدياد عددهم وربط الدَّاخل الجديد بعهود الإخاء، فيحاول تأجيل الأمر إلى وقت آخر، ويساعده حينئذ على ذلك معلِّمه بالتردَّد عن القبول بشدِّة، قائلًا للملحِّين: «لسَّا ما حلَّه هدا دِبْساته مراق» Lissâ mâ ḥâllo hàdâ dibsâto mrâq.

وهذا من كلام العامَّة، ومعناه أن أجيره للساعة الحاضرة لم يأتِ الوقت الملائم لشدِّه، وأنَّ دراهمه عزيزة لا تحتمل مصروفًا غير عادي.

وحالما يقبل الأجير بالشدِّ يسرع الشاويش أنْ يهديه على الفور عرقًا أخضر، وهذه إشارة معناها أن وجب عليه أن يولم وليمةً لرفقائه. ويكون على الغالب العرق الأخضر من الريحان، ويجوز أنْ يكون من نوع آخر حتى ومن أغصان الشجر أيضًا؛ لأنَّ الشاويش يقطع عرقًا نضرًا من أول ريحانة، أو شجرة يصادفها ويسرع بتقديمها للمزمع أن يُشدَّ. فيأخذ ذاك منه العرق بكلِّ قبول وشكر، ويبوسه ويضعه على رأسه. فيذهب حينئذٍ الشاويش إلى شيخ الحِرفَة ويخبره بأمره، فيقيِّد اسمه مع المزمعين أنْ يشدُّوا سويَّة إذا كان منهم أحد وإلَّا فيعين له وحده يومًا ليشدَّ به. ثم يرجع الشاويش ويدعو نيابة عن المرشَّح للشدِّ رفقاءه، وشيوخ الحِرفَة وشيخها، ونقيب شيخ المشايخ ومن شاء من عندهم، وفي بعض الأحيان يدعوهم هو نفسه لحضور شدِّه.

الشدُّ يصير إمَّا في أحد بساتين المدينة نهارًا أو في أحد البيوت ليلًا أو نهارًا. ففي اليوم المعيَّن يجتمع الصنَّاع وسائر المدعوِّين في المكان المعَدِّ، ثم يحضر شيخ الحِرفَة والشيوخ والنقيب. وبعد مبادلة السلام والكلام يقول النقيب: «يا إخوان لنبتدئ بشغلنا»، فيصمت الجميع، أمَّا هو فيأخذ الشاويش والطالب إلى غرفة ثانية ويشدَّه هناك بالطريقة التي سيأتي ذكرها، ثم يرجع به إلى مكان الاجتماع، ويكون النقيب متقدِّمًا عن الشاويش والمشدود. وبعد النقيب يمشي الشاويش حاملًا بيده صينيَّة وعليها هدايا الشدِّ كما ستعلم، فيأتي بها ويضعها أمام شيخ الحِرفَة على طاولة صغيرة مربَّعة تسمِّيها العامة «أسكملة»،١ ثم يأتي الطالب مكتوف اليدين على صدره بكلِّ حشمة ومشدودًا بالمحزم، فيوقفه الشاويش في الوسط على بساط أخضر، ويجعل إبهام رجله اليمنى تعلو إبهام رجله اليسرى. وفيما هو على هذه الحالة يطلب النقيب من الشاويش أنْ يقول الفاتحة فيتلوها بصوتٍ عالٍ، ويكون الجميع راكعين على ركبهم وطارقين رءوسهم بالأرض. ثم يطلب النقيب الفاتحة الثانية التي يسمِّيها ثاني شرف، فيقول الشاويش الفاتحة مرَّة ثانية، ثم يطلب الختام بذكر سيد المرسلين، فيتلو الفاتحة دفعة ثالثة. وبعد أن يفرغ منها يأخذ النقيب في السلام على الحاضرين من الزوَّار الكرام،٢ إذا كان أحد منهم موجودًا، وإلَّا فيكتفي بالسبعة السلامات الآتية وهي:
سلامٌ للعموم: «أول سلامي عليكم يا حضَّار، السلام سُنَّة وردُّه فرض،٣ يا أخيار في إذن أفتح بساط الطرق باذدكار. أو أخلِّيه مَطْوِي يا أُهَيْل الحي. الفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم للنبي المختار»، فكلٌّ من الحضور يتلو الفاتحة بصوت منخفض، أمَّا الشاويش فيتلوها بصوت عالٍ.

سلامٌ ثانٍ لأهل الصدر وهم شيخ الحرفة وشيوخها:

ثاني سلامي على أهل الصدر أسيادي
وأهل الجناحين بهم زاد إرشادي
من قبل ما أدخل وسمعكم بإنشادي
يا من حويتم المكارم والذكا والذوق
والفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم
إلى النبي الهادي

(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)

ثالث سلامي على أهل الميمنة بالحي
وأركان هذه المجالس وكل من بالحي
كم حيٍّ ميت وكم ميت خرج من حي
واقرءوا الفاتحة معي أنتم بأجمعكم
إلى نبي شرَّف لِيثرب مع الحجرة وذاك الحي

(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)

رابع سلامي على أهل الميسرة بقبول
عبير تلك السلام يجي عرضها والطول
والفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم
إلى نبي أتى لنا رحمة ورسول

(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)

خامس سلامي عليكم سادتي أحسن
عبير تلك السلام كالعطر بل أحسن
نظمت من بحر فكري ما لقيت أحسن
إلا امتداحي بأهل الفضل بل أحسن
كل فاتحة اقرءوها معي بأجمعكم
إلى النبي أحسن

(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)

سادس سلامي عليكم أيُّها الأصلاح
سلام نشره عبق الأرياح
نقيبكم واقف ينشد كلام وضَّاح
والفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم
إلى نبي بالشفاعة أنسج الأرواح

(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)

سابع سلامي عليكم أيُّها الأحباب
السلام سُنَّة وردُّه فرض يا أنجاب
غريب ومسكين ودمعه غرق الأثياب٤
في قصده يلتطخ في زعفرانكم
في إذن يدخل ولَّا٥ يلزم الأعتاب
والفاتحة اقرءوها معي بأجمعكم
إلى نبي بمعجزاته حَيَّر الكتَّاب٦

(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)

وبعد فراغ النقيب من هذه السلامات يتلو بعض نشائد نبويَّة منها:

يا أهل بيت رسول الله حبُّكمُ
فرض عليَّ وبالقرآن أنزله٧
كفاكم من عظيم القدر أنكمُ
من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

(الفاتحة وغيرها.)

رسول الله ضاق في الفضاء
وجلَّ الخطب وانقطع الرجاء
فجاهك يا رسول الله جاهٌ
رفيعٌ ما لرفعه انتهاء
رسول الله إنِّي مستجير
بجاﻫك والزمان له اعتداء
وبي وجلٌ شديدٌ من ذنوب
وما أدري أعفو أم جزاء
وما كانت ذنوبي عن عناد
ولكن بالقضا غلب الشقاء
وظنِّي فيك يا طه جميلٌ
ومنك الجود يُعهَد والسخاء
وحاشا أنْ أرى ضيمًا وذلًّا
ولي نَسَبٌ بمدحك وانتماء٨

ثم ينتقل بعد ذلك إلى فتح الأشغال فيقول منشدًا:

فتحت باب الطريقة أرتجي مِنَنًا
من خالق الخلق ربي بارئ النسم
وجئت مستأذنًا أرجو بفاتحةٍ
غفران ذنبي وما قد كان من إثمي
وذلك من أجل إجراء العهو
د هنا وحفظها فيه غاية النعم
من حيث ما كان أصل العهد جاء إلى
أبيك آدم يا ذا الحرِّ فافتهم
منه لشيث وإدريس كذاك سرى
إلى أنبياء الله٩ كلِّهم
ختْمهم سيِّد الكونين أحمدنا
نور الشريعة سامي الفخر والهمم
وجاء بالعهد آيات مكرَّمة
فحافظ العهد في خيرٍ وفي نعم
وخائن العهد لم تربح تجارته
وﻫو بالحشر كم يلقى من النقم

ثم يلتفت قائلًا إلى المشدود:

أوصيك يا من تخاوى أو تعاهد اختشِ من فرض ربِّ العالمين
إنَّ عهدك ثم شدَّك في غدٍ يشهد عليك يومًا نقف حائرين
من يحفظه يحفظهُ رب السماء، ومن أضاعه ينكتب من المبْعدين
وأختم نظامي بمدح أحمد المختار إمام العالمين
آمين، الفاتحة.

أمَّا ربط المحزم — وهذا يكون إمَّا من المحازم الاعتيادية أو من الشالات — فهو حق النقيب، فيرفع يدي الطالب من على صدرهِ إلى قمَّة رأسه جاعلًا بطن كفِّه اليمنى يعلو ظهر كفِّه اليسرى وأصابعه ملتصقات — سألتُ لماذا لا تكون الأصابع العشر مشتبكات بعضهن ببعض؟ فقيل لي: إنَّ ذلك لا يوافق لئلا تتعربس الأمور على المشدود، فالتسريح أولى — ثم يفرد النقيب المحزم، ويلف المشدود به من وسطه إلى قرب قدميه، ويعقد طرفيه الأعليين من الخلف إلى الأمام ثلاث عُقَد؛ الواحدة احترامًا لشيخ الحرفة والثانية لمعلم المشدود والثالثة للشاويش. وتفسير ذلك أنَّ الشيخ له وحده القدرة أن يحل الأولى من الثلاث عُقَد؛ لأنَّه رئيس الحرفة؛ كي يعلم المشدود ما له وعليه من واجبات الخضوع. وأمَّا الثانية فيحلها المعلِّم ليفتخر أنَّه أخرج تلميذًا ماهرًا أو كما يقولون سراقًا «جراق» من تحت يده، ويحلُّ الشاويش الثالثة؛ لأنَّه أحد السلطات الثلاث التي على المشدود أنْ يخضع لها في كاره.

إنَّ التفسير المارَّ ذكره تلقَّنتُه من شاويشية بعض الحرف، إنما لا أظنُّه صحيحًا؛ لأنَّ النقيب أخبرني أنَّه في شدِّ بعض الحرف يجعل العُقَد ثلاثًا، وفي بعضها خمسًا، وفي بعضها سبعًا، ويراعى بذلك شدَّة تمسك أهل تلك الحرفة بحفظ العهود والأمانة أو عدمه.

وتدلُّ هذه العُقَد على عَقد العهد والميثاق بالإخاء، فيعتبر حينئذٍ أهل حرفة المشدود كأخٍ لهم، لا بل يفضلونه في بعض الظروف على الأخ الطبيعي. وربما من ذلك أُطلق القول بعَقْد العهد؛ أي تعهد بحفظه.

وقد لاحظتُ أنَّ أكثر المحترفين من الأوروبيين يربطون مئزرهم من الأمام إلى الخلف؛ أي إنَّهم يجعلون عقد المئزر وراء ظهورهم بعكس محترفي بلادنا السورية الذين في وقت الشد وغيره، لا يربطون المحزم إلَّا من الخلف إلى الأمام ربما تذكارًا بوقت شدِّهم.

وبعد أنْ يتم النقيب النشائد والفواتح يعيِّن أبًا بالكار للمشدود أحدَ الحاضرين من المعلِّمين، وعلى الغالب يكون معلِّم ذاك المشدود أبًا له بالكار، ويجوز أنْ يتخذ خلافه؛ لأنَّه لما كان يعد الأب بالكار بمنزلة كفيل فهو مطالب بما يقع من المشدود من الخلل، فإذا كان المشدود غير ممدوح السيرة يتمنَّع معلِّمه من قبوله ابنًا له — وهذا نادر الحدوث — فيعين حينئذٍ خلافه. ثم يأخذ شيخ الحرفة بأن يقدم للمشدود النصائح الآتية: «يا بني إنَّ جميع الحرف هي كارات أمانة على الأموال والأعراض والأرواح. والأمانة هي الدين، فإذا نفق كارك احفظ دِينك. كن صادقًا وأمينًا واعلم أنَّ كارك مثل عرضك، حافظ عليه بمقدرتك. وإذا استلمت أموال الناس فلا تفرط بها. وإياك أن تخون أهل الحرفة، والخائن قبيله الديان … إلخ»، ثم يلتفت إلى الحاضرين ويسألهم قائلًا: «ما قالت الإخوان إخوان وصنايعيَّة،١٠ ومعلِّمين، هل هذا المشدود يستحق مصانعة؟»، فيجيبونه «نعم، مستأهل ومستحق.»
فيتقدم حينئذٍ أبوه بالكار ليبايعه، ويأخذ عليه العهود فيركعا سويَّة الواحد إزاء الآخر نصف ركعة؛ أي إنَّ ركبتيهما اليسريين تمسَّان الأرض، وأمَّا رجلاهما اليمنيان فينثنيان نصف ثنية ويقتربان من بعضهما حتى يتلاصق الإبهامان اليمنيان وأعلى الركبتين، ويمسك الأب بالكار بيده اليمنى يدَ المشدود اليمنى مسكة الإخاء المعروفة، ما عدا أنَّ إبهام يد الواحد والشاهدة يتلاصقان حول إبهام يد الآخر، فيستر الشاويش أيديها بمحرمة أو منشفة؛ كي لا يطَّلع الحاضرون من الخارجين على الإشارة التي تتبادل بينهما، ويقول حينئذٍ الأب للطالب: «عاهدني بعهد الله ورسوله أنَّك لا تخون أهل الحرفة ولا تغش الكار.» فيعاهده بقوله «أعاهدك بعهد الله١١ ورسوله أنِّي لا أخون الكار، ولا أغشُّ الصنعة بشيء.» فيتلو النقيب فوق رأسَيْهما الفاتحة ثم ينهضان. ويطوف بعد ذلك الشاويش على مشايخ الحرفة بالمشدود، فيحلُّ كلٌّ منهم عقدةً كاملة من عقد المحزم إذا كانت كثيرة، أو نصف عقدة إذا كانت قليلة. وأمَّا آخر عقدة فيحلُّها الشيخ ويسلِّم المحزم إلى الشاويش الذي يضعه على كتف المشدود، ويقول له مهنئًا إياه: «جعله الله مباركًا.»

(٣) الهدايا المرسومة

ثمَّ تُوزَّع الهدايا التي ذكرنا أنَّها موضوعة في صينيَّة على أسكملة أمام شيخ الحرفة وقت الشدِّ. وهي لكلِّ من شيخ الحرفة وشيوخها والنقيب لوح صابون مطيَّب، وشورة شاش مطرَّزة وخلال وعرق أخضر، ومنهم من أضاف إليها كيسًا لوضع التمباك١٢ ومسبحة.

وقد بحثت جدًّا لأقف على معنى هذه الهدايا فما أخذت جوابًا يقنعني، وأظنُّ أنها هدايا تتعلَّق بالوليمة؛ لأنَّ الصابون يصلح لتنظيف اليدين بعد الأكل، والشوْرة لمسح الفم ووقاية الأثواب، والخلال لأجل تنظيف الأسنان الأمامية من طرفه الواحد، وتنظيف الآذان لسماع آلة الطرب من طرفهِ الآخر، والعرق الأخضر لتزال به رائحة الأكل من اليدين بعد التغسيل — والله أعلم — وبعد توزيع هذه الهدايا يتلو النقيب الفاتحة فتكون خاتمة العمل.

(٤) الوليمة

من الحضور مَن يأخذ بتهنئة المشدود بعد شدِّه، ومنهم من يباشر بالعراضة، وهي رفع الأصوات بتهليل، حيث يقولون مرارًا عديدة: «صلُّوا على عيسى وموسى، ومكحول العين ومن يقدر يعادينا هه …»

Şàllû-û-û ‘ala ‘Îsâ u Mûsâ u makḥûl el-‘ên! u men yeqder yi‘âdinâ! – hé é é é é é?

وإنْ كانت الوليمة قد أُعِدَّت في ذلك النَّهار فيجلسون حالًا على الطعام، وإنْ كان تعيَّن لها اليوم الثاني أو يوم آخر فينصرفون ويحضرون بالوقت المعيَّن. ومن المشدودين من يكون قد أعدَّ أيضًا آلة للطرب قبل الأكل. أمَّا المُسكرات فلا دخل لها أصلًا في هكذا احتفالات، وإذا أراد أحد أنْ يحضر شيئًا منها فيفعله سرًّا.

أمَّا الأكل فيكون من أبسط المأكولات، وعلى الغالب صفيحة وشُعَيْبيَّات بسكر، يصطلح أهل هذه المدينة على استحضارها عند الفرَّانة؛ ليخفِّفوا بذلك الثقلة عن أهل بيوتهم.

ويسمُّون الوليمة «التمليح»؛ أي إطعام الأصحاب من الخبز والملح، ومنه يستعمل الفَعَلة فِعْلَ ملَّح يملِّح بمعنى عمل وليمة الشدِّ، ومنه «بعدهُ» أَكَلَ الوليمة. ومنه معنى نَصَبَ عليه وأخذ منه دراهم، فيقولون: فلان ملَّح له بألف غرش؛ أي أكل عليه ألف غرش.

ولا يخفى أنَّ الخبز والملح أو الملح وحده، هو من الموادِّ التي يرمزون بها من أقدم الأزمنة على حسن السجايا وحفظ العهود.

هكذا ورد في الإنجيل قول المسيح إلى تلاميذه: «أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح بماذا يُملح.» وهكذا أوميروس يتكلَّم باحتقار عن الناس الذين لا يمزجون الأكل بالملح.١٣
Oύδέ ϑ’ ãλεσσι μεμιγμέυου εĭδαρ έδουσιυ.
وأفلاطون يسمِّي الملح في تيماون έυ Tιμαiίῳ محبوبًا عند الآلهة ϑεοφίλές ومن الأقوال الدارجة العربيَّة «الحُكْم ملح الأرض» و«ابن الترك ملحه على ذيله»؛ أي إنَّك طالما تُطعمه يحفظ ما يقع على أذياله من خبزك وملحك، «وإذا قام يقع ملحك من عليها»؛ أي إنَّه ينسى ما أنعمتَ عليه به، وأيضًا «يا خَوينة الخبز والملح الذي أكلته عندي» و«تذكر يا فلان الخبز والملح»، والخلاصة أنَّ الملح له عند العرب واليهود واليونان كما وعند الروسيين شأن عظيم. ولا أعلم إذا كان١٤ هكذا الحال عند باقي الشعوب الشرقيَّة والغربيَّة.

(٥) كلفة الشدِّ

إنَّ كلفة الشدِّ تختلف بحسب درجة غناء المشدود من أربعين فرنكًا إلى مئة فرنك، وهاك تفصيل ذلك:

إلى الشيخ من ٤ فرنكات إلى ١٠.

إلى النقيب من ٢ فرنكات إلى ٦.

إلى الشاويش من ٢ فرنكات إلى ٣.

أجرة الجنينة ومصروف الوليمة من ٢١ فرنكات إلى ٨١.

(٦) ملاحظات

  • أولًا: إنَّ الروايات تختلف كثيرًا في ترتيب الشدِّ، فمنهم من قال لي إن توزيع الهدايا يسبق الشدِّ وأخذ العهود، ومنهم من قدَّم أخذ العهود على تقديم النصائح. وقد اعتمدتُ فيما ذكرت على ما ظننته أقرب للصحة.
  • ثانيًا: إنَّ شدَّ المعلِّم؛ أي انتقال الصانع المشدود إلى درجة معلِّم يختلف عن شدِّ الصانع بما يأتي: أولًا إنَّهم لا يسمُّون له أبًا بالكار. ثانيًا إنهم لا يربطون له المئزر. ثالثًا إنهم لا يأخذون منه العهود بركوعه، بل يُكتفى بأخذ قول منه أنَّه يحافظ على أصول الكار والحرفة.

    ومن الصنَّاع من يُشدُّ في النهار ذاته صانعًا ومعلِّمًا، والطريقة بذلك أنَّهم عندما يسأل الشيخ قائلًا: «ما قالت الإخوان، هل يستحق مصانعة؟» يضيف إليه سؤالًا آخر قائلًا: «هل يستحق معلِّميَّة؟»، فإن كان مستحقًّا يجيبوه بالإيجاب وإلَّا فيقولون للطالب «حاجتك هلق مصانعة إنشا الله سنة الجايَّة تصير معلِّم»؛ أي يكفيك الآن أنْ تشد صانعًا فإن شاء الله في السنة الآتية تصير معلِّمًا.

  • ثالثًا: إذا كان المشدود لا يستحق أنْ يأخذ المصانعة فعندما يقول شيخ الحِرفَة «ما قالت الإخوان؟»، فمعلِّمه أو الذي يريد أنْ يعارض بشدَّة يطرح بين أيدي الحاضرين صايةً أو عملًا من شغله، ويقول للشيخ ومعلِّمي الحِرفَة «احكموا بذلك إنْ كنتم منصفين، هل يستحقُّ هذا الرجل الشدَّ أم لا؟» فيفحصون العمل، وإذا كان فيه ما يوجب تأخير المشدود فيُؤخِّرونه ولا يخشون بذلك لومة لائم؛ لأنَّهم يفضِّلون أنْ يبقى الكار سالمًا من السقط والشوائب أكثر مما يحرصون على خاطر أحد الصنَّاع.
  • رابعًا: من الممكن أنْ يشدَّ كثيرون دفعة واحدة، والعمل بذلك هو أنَّهم يوقفونهم بالوسط بالقرب من بعضهم، ويشدُّون كلًّا منهم بمحزم ويجرون باقي الترتيب كما لو كان المشدود واحدًا. أمَّا الهدايا وسائر المصروف والرسوم فتدفع محاصَّة، أي كل بقدر ما ينوبه منها.
  • خامسًا: إنَّ المحترفين من كلِّ المذاهب يشتركون بالشدِّ. أمَّا المسيحيُّون واليهود فلا يعطون شيئًا من العهود والإشارات، بل يكتفى بشدِّهم بالمحزم وبتلاوة «أبانا الذي في السموات … إلخ»، وهم يسمُّونها فاتحة النصارى، أو بتلاوة الوصايا العشر في شدِّ اليهود، ويسمُّون لهم آباء بالكار من المسلمين، ويأخذون منهم العهد والميثاق بألَّا يخونوا الحِرفَة، ولا يضروا بالأموال والعباد.
  • سادسًا: إنَّ حرفة البنَّائين والنحَّاتين الذين جميعهم من المسيحيِّين لا يعرفون الشدَّ، ولا لهم علاقة بشيخ المشايخ، فيقيمون منهم شيوخًا معلِّمين ويضعون روابط لأنفسهم يصونون كارهم بها، ولهم الآن جمعيَّة معلِّمين مؤلفة من اثني عشر عضوًا تجتمع بالشهر مرَّة، وتعيِّن رئيسًا لها في كلِّ ثلاثة أشهر تبدله بسواه، ومن أخصِّ واجباتها حفظ رابطة الكار. وقد أفادني أحدهم أنهم إذا لم يقدروا على أنْ يصونوا رابطة كارهم من الإخلال، ففي نيَّتهم أنْ يذهبوا إلى شيخ المشايخ؛ ليقيم عليهم شيخًا ويتردَّدون بذلك هربًا من الدخول تحت قيد استئسار لا يسهل عليهم التَّخلُّص منه فيما بعد.

    إنَّ النقيب نقض ما بلغني عنهم بأنَّهم لا يشدُّون قط، وقال: إنهم كانوا يشدُّون قبلًا ثم تملَّصوا من سلطة شيخ المشايخ، وسأبحث عن ذلك.

  • سابعًا: أذكر على سبيل التفكيه — ولعل في ذلك أيضًا منفعة — أنَّ صنف المُسْخِنين والمهرِّجين، أو الطفيلية أو الظرفاء كما يقولون عن أنفسهم، يدَّعون أنَّهم حرفة منتظمة لها مشايخ معلِّمون وشاويشيَّة. وكان قبل سنة ١٨٦٠ شيخ المسلمين منهم أمين أغا خُمْخُم، وشيخ المسيحيِّين يوسف شاتيلا، وشاويش الكار جبران سبانخ. وأمَّا بعد ذلك التاريخ فلت الكار، ولم يعد له رابطة ولا أصول. وكانوا يُجرون شدَّهم على طُرُق هزليَّة مغلقة.
    وقد وقفت على بعض ما كانوا يتفنَّنون به في هذا الموضوع، فإنَّ الشدَّ عندهم هو تمثُّل لما هو جارٍ في سائر الكارات، إنما النصائح التي يعطونها للمشدود هي: «يا بني إذا فرغ جيبك استر عيبك، واعلم أنَّ المهرِّج الشاطر مَن كان مثل الرماح على أكتاف الأجاويد، فيقتضي أنْ تكون كالذئب تأخذ الريح عن الأعراس والولائم والسهرات، فتذهب في كل مساء لقرب باعة الحلويات والمعجَّنات والقشطة، فتترصَّد مَن أتى وابتاع شيئًا منها فتعلم من ذلك أنَّ عنده وليمة، فتسرع حالًا إليها وتدخل على القوم بوجه شاويش، ويكون في جيبك ألف قصَّة مُضحكةٍ؛ حتى لا ينشف وجه صاحب البيت منك، وإنْ كان بخيلًا. وإذا صادفت أحد أولاد الكار فإياك أنْ تعاكسه، بل اتَّفقْ معه على شيَّات١٥ «أكلات» الغير. وانتقل من القاعة إلى المطبخ بخفَّةٍ حتى تعلم ما الأكل المطبوخ وما الحلو المعدُّ، فإذا علمت أنَّ الأكل أطيب من الحلو، فقُلْ لرفيقك عند جلوسك على الطعام: «الصلاة على الحاضر»، وإذا كان الحلو أفضل فقل له رامزًا بدون أنْ يفهمك سائر الحاضرين: «أيُّها الناس إنَّ الدنيا لا تغني عن الآخرة»، واعلم أنَّ اسم الكنافة عندنا «مُخَيْطَنة»، والقطائف «لُزيقيَّات»، والمعمول «ضربات الأنجق»، والهيطليَّة «ستِي أزْمُقي»، والعنب «فُقِّي»، والعوامة «رصاص الأنبياء»، والكوسا «مدافع الجوع» إلخ.» انتهى. ويرفق الشيخ أو أحد المعلِّمين كلًّا من هذه النصائح والتعاليم بصفعة على رقبة المشدود يتلقَّاها بالشكر، وهو صاغر إلى أنْ يتمَّ الشدُّ على هذا المنوال، ولا ينفعه الشدُّ شيئًا سوى أنَّه يُعَد حينئذٍ من معلِّمي التهريج والإسخان لا ينازعه على كاره منازع.
١  O. I. P. 62.
٢  إنَّ السلام على الزائرين هو: أزكى السلام التام عليكم جميعًا يا ذوي المكارم والعلو والافتتاح. أنتم حويتم الفضل يا سادتي، وجمعكم معروض بأصلح الصلاح. أزكى السلام التام على أهل الوفا ذوي المكارم سالكين الطريق. معدن الأفضال ومَن لهم طلعة نورها شَريق، ما مثلكم يوجد في الوجود على ما يليق. انتهى. ثم بعد أن ينتهي منه النقيب يتلو الشاويش الفاتحة.
٣  Allusion à Qorân IV, 88.
٤  كثيرًا ما يصدف أنَّ المشدود حين شدِّه يكون مغروقًا بالدموع من شدة التأثير.
٥  Gloss. Cont. arabes mod. De Spitta, S. v.
٦  كناية إلى النبي الذي كان أمِّيًّا، ومع ذلك حيَّر بمعارفه أهل المعارف.
٧  إنَّ أكثر هذه النشائد مخلولة الوزن؛ لأنَّ الذي تلقيتها منه غير عالم بأصول العربية.
٨  Cette poésie est de Moh. eI-Kâzarûnî, voyez mon catalogue de la collection Brill n°. 161.
٩  On pourrait lire دعوا لله pour compléter le vers.
١٠  O. I. p. 305, 1. 2.
١١  Dans Ie IIème volume de mes “Proverbes et Dictons” on trouvera un article détaillé sur عهد الله chez les Bédouins.
١٢  O. I. s. voce.
١٣  Odyss. XI vs. 123.
١٤  Je laisse cette construction, qui est pour le classique، هل Elle est la seule employée dans la langue parlée.
١٥  Sing. شِيَّة (sur شية، v. o. 1-Gloss. s. v. سود) qui à Damas a La même signification et le même emploi que بتاع sur le littoral et en Egypte. C’est un nom. Quai. De شيء. En Palestine on se sert souvent do leur synonyme قية، pl. قِيَّات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤