الفصل الأول

كان النهار في صولة شبابه، وكانت الشمس تبعث بأشعتها وهَّاجة ملتهبة تكاد تشوي الوجوه، وكان الجو على حرارته كثير الرطوبة، والندى المتصاعد من البحر، وكأن النسيم الذي أكثر الشعراء من ادعاء أنه عليل، قد طالت علته فقضى نحبه، فلا تسمع له جرة ذيل، ولا همسة أنين.

وقد أضنى الناس بمدينة عدن هذا الوَمَدُ، وهزل أجسامهم القيظ بعد أن توالت عليهم شهور الصيف شديدة لوَّاحة، كأنما كانت تتنافس في مسهم بشُواظها، فلا يجيء شهر إلا وهو أشد وأنكى من صاحبه.

وظن أهل المدينة أن العُرْي يخفف عنهم بعض ويلات الحر، فتسلبوا من الملابس إلا أُزُرًا قصيرة يشدونها إلى أوساطهم، ولو علموا لصانوا أجسامهم من هذا السعير اللافح، الذي كساهم ثوبًا لماعًا من العرق، كلما تساقط نسجت لهم الشمس ثوبًا جديدًا، وكلما مسحوه بأيديهم سال نبعه وتقاطر، حتى كأن كل رجل أصبح إنبيقًا يتحول كل ما فيه ماء بالتصعيد والتقطير.

خلت طرق المدينة من السابلة إلا من دعته شدة الحاجة إلى المسير، وفزع المتعطلون إلى الظل والنجائر يتقون بها شدة الهاجرة، أما الأغنياء والموسرون: فلبسوا البيوت، وزرَّروا الأبواب، والتجأوا إلى سراديب عميقة في الأرض، ينفذ إليها الهواء من بناء إسطواني كالداخنة، يشق طبقات الدار، وتنفذ فوَّهته إلى سطحها، وكان علي بن مهدي — وهو من دعاة الفاطميين، وكبار رجالهم — في داره في هذا اليوم، ومعه جماعة من الأدباء والعلماء، بينهم أبو كاظم الحراني، والفقيه أبو الحسن النيلي، وأسامة الحضرمي. وكانت الدار على سيف البحر، فخمة شاهقة البناء، تدل على عظمة صاحبها، واتّساع جاهه، وقد أسرع العبيد فبلّوا دهاليز السرداب بالماء، حتى بدت فيها بحيرات صغيرة هنا وهناك.

وجلس ابن مهدي وأضيافه في حجرة كان أثاثها غاية في الحسن وجمال التنسيق، وقد كسيت فيها الأرائك بالحرير الأرجواني، واختيرت الستور من الخز التنيسي، وفرشت الأرض بالبسط الهندية، ودلّ كل شيء فيها على ذوق سليم وبذخ وإسراف، وقد وقف في نهاية الحجرة أربعة عبيد، يمسكون بحبال مروحة مستطيلة، عملت من القطيفة الغليظة النسيج، وعُلّقت بسقف الحجرة على طول امتداده، فهم لا يفتأون يجذبون الحبال ويُرخونها، والمِروحة تتحرك إلى الأمام والخلف؛ أملًا في أن تجود على من بالحجرة بنفس من نسيم.

بدأ ابن مهدي فقال: هذا يوم لم ترَ عدن له مثيلًا، وستصبح سنة تسع وأربعين وخمسمائة ذكرى خالدة لأهلها، يوقّتون بها ويؤرخون.

فقال الحراني — وكان فكهًا: سيقولون زار الحراني عدن سنة الحر، فعاجله النيلي، وقال: وسيقولون سُرق خُرج النيلي سنة الحر؛ فضحك القوم، والتفت إليه ابن مهدي وقال: أسرق منك خرج حقًّا؟؟

– لا أدري … أسرق؟! … أم ابتلعته الأرض؟! … أم تخطفته السماء؟! …

وصلت القافلة من زَبيد عند باب المدينة الذي يسمونه هنا (باب الصدقات)، أو هو باب السرقات على الأرجح، وحط رحلي، ووضع ما عليه من متاع وأثقال، وأنا أنظر إليه لا تكاد عيني تذهب عنه، وكان الخرج بين المتاع، وقد ازدحم حول السفّار جماعات من الحمالين والمجتدين، وبينهم امرأة هزيلة شاحبة في أسمال — أو فيما كانت أسمالا — لا تكاد تستر جسمها، وكان وجهها يحكي وهو صامت حكاية مؤلمة للسغب، والفاقة، ومرارة الحاجة، وقد حملت بين يديها طفلًا أو جُعلًا، تركه الجوع عظامًا في جلد، أو جلدًا على عظام، وأخذت تمد ذراعيها به في وجهي، فراعني سوء حالهما، وبحثت في جيبي عن درهم أمسك به رمقهما، وما كدت أمدّ يدي به إليهما، وأعود بعيني إلى أمتعتي حتى وجدت مكان الخرج خاليًا!!

فقال الحراني: هذه هي اللعبة يا سيدي التي لم تدرسها في الكتب، ولم تجد لها مثيلًا في كتاب الحيل الفقهية للخصّاف، وكأنما كان أبو نواس اللئيم يشير إليك بسبابته حين يقول:

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة
حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء

هذه المرأة يا مولانا تعمل مع اللصوص والشطار، وهي آلتهم التي بها يصلون إلى غاياتهم، هي الطعم الذي يقذفون به إلى السمك لاصطياده، هي الحب الذي ينثر حول الفخ ليقع عليه الطائر الغِر، هي البؤس المزوّق الذي جاء يستلب مالك اضطرارًا لما عجز البؤس المحقق عن أخذه منك اختيارًا، هذه المرأة وأمثالها يرسلها العيارون إلى من ينكب بهم؛ ليثير منظرها المؤلم نفسه، فيصرفه عن النظر إلى ما حوله، وقد يكون مقدار ذهوله لحظة أو دونها، وهذه اللّحيظة كافية لأن يسلبوه ما يشاءون.

فقال النيلي — وقد ظهرت في وجهه آلام من يشعر بالتفريط، أو من يتوقع أنه سيوصم بالغلفة والبلاهة: حقًّا إنهم شياطين!!

وهنا سأله ابن مهدي في شيء من الاستنكار: ألم تذهب إلى والي المدينة، وتقص عليه قصتك؟ فلعله يجد سبيلًا إلى الوصول إلى ما سرق منك!!

– ذهبت إلى داره، وهي تقع في محلة الحدادين إلى الجانب الشرقي من المدينة، فوصلت إليها بعد لأي وجهد، فلما طرقت الباب خرج لي أحد غلمانه، فلما سألته عنه، قال: إنه مريض منذ يومين، أكل لحم جزور زَهِمة فأصيب بالزُّحار.

فسألته عن وكيله، وأين مكانه؟ فقال: إنه أعرس بالأمس، وإنه نازل عند أصهاره «بذي جبلة»، وإن المسافة بين عدن وبينها سبعة عشر فرسخًا؛ فحوقلت ورجعت، وقلت لنفسي: ضاع خرجك يا أبا الحسن بين معاناة الزحار، ومناغاة الأبكار!!

فضحك القوم، وأغرقوا في الضحك، ثم قال ابن مهدي في مواربة ودهاء: خلّ عن المزاح الآن أبا الحسن … كيف حال الدعوة الفاطمية بزبيد؟؟ … لقد جاءت رسالة من الخليفة الفائز إلى محمد بن سبأ ينعي عليه فيها التهاون في نشر الدعوة، ويستحثه على أخذ كل من نكل عنها بالبطش وقوة السلطان.

فأجاب الحراني: إن الدعوة الفاطمية بزبيد على خير ما يتمنى لها من القوة والانتشار، فإن الملك فاتكًا لا يفتأ ناشرًا لها، عاملًا على بثها في كل نفس، ونائب داعي الدعاة هناك، ونقباءه، ونوابه لا يتركون سنيًّا حتى يضموه إلى حظيرتهم، فقال ابن مهدي: ذاك كلامٌ أبا كاظم، فإن ما لدينا من الأخبار يجبه ما تقول، ولعل حبك لفاتك هو الذي دفعك إلى الذود عنه!

فأسرع الحراني قائلًا: لقد صدقتك يا سيدي، وإذا كان لا بد من الحق الصريح الذي لا يخالطه استثناء، فإنني أوكد لك واثقًا أن زبيد كلها فاطمية، إلا أسرة زيدان، وأسرة المثيب، وهما أعمام عمارة بن زيدان وأخواله.

فانبري له الحضرمي — وكان صديق عمارة الوفي — قائلًا: ما لك أبا كاظم وعمارة؟! إنك في النيل منه والكيد له جدُّ متّهم … وإن كنت لا أعرف أسباب نقمتك منه وحقدك عليه؟!

وهنا صاح ابن مهدي، وقد رأى الشر يتصاعد شرره: مه أيها الأخوان … فإننا اجتمعنا للمحادثة والمحاضرة، لا للتنابذ والمهاترة … أعلمتم أن عمارة بن زيدان، قدم منذ أيام وافدًا على محمد بن سبأ صاحب عدن؟ أتعرفون سبب هذه الوفادة؟ فأسرع الحراني قائلًا: إنه قناص سديد الرماية، فلعله اشتم هنا رائحة صيد جديد، ثم قال النيلي: إن عُمارة اليوم يا سيدي غيره بالأمس، فقد كنا نعرفه بالمدرسة العصامية بزبيد فقيرًا مملقًا، يعيش عيشة طلاب العلم في عسر وشقاء، ولكنه بعد أن اتصل بأمير زبيد ومدحه أغدق عليه، فأصبح صاحب الحول والطول، وصار موضع الشفاعات، وقاضي الحاجات، ثم إنه تاجر فراجت تجارته، وسارت سفنه بين زبيد وعدن وجدة، لا تكاد تنقطع في ليل أو نهار، حتى لقد قال له يومًا أبو عبد الله الحفائلي — وهو رأس العلم والأدب بزبيد: تِهْ علينا أبا محمد، فقد أصبحت ولا مثل لك في الجاه والعلم والثراء! وليته بعد أن أسبغ الله عليه هذه النعمة الطارئة شكر الله عليها بقليل من التواضع، أو أدى زكاتها بشيء من اللطف والمجاملة! ولكنه صِلف متكبر مغرور — وإن كره الحضرمي،. فأسرع الحضرمي وقال: كفى كفى أبا الحسن؛ لقد أكلتم لحم أخيكم ميتًا، ومزقتم من الرجل وهو غائب ما تخرس دونه ألسنتكم وهو حاضر، إن عمارة لم يكن دعيًّا في جاهه، ولم يكن محدثًا في نعمته، إن عمه علي بن زيدان أكرم من نثر مالًا، وأشجع من جرد سيفًا، وخاله محمد بن المثيب أشرف قومه، وسيد قبيلته، ولولا الجدب المحرق الذي أصاب «مَرْطان» سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فأهلك الحرث والنسل — ما احتاج عمارة إلى السعي في الرزق، والتنقل في طلب المال، وما سمعنا مثل أبي الحسن النيلي يلمزه اليوم بأن نعمته طارئة، وثروته محدثة. فقال ابن مهدي: إن عمارة رجل يجمع كل صفات الرجولة، وقد حادثته بالأمس في دار ابن سبأ، فرأيت فيه علمًا وأدبًا ودهاء، والذي قرأته في وجهه، واستنبطته من خلال حديثه: أنه رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى، وهو يذكرني بالمتنبي شاعر كافور، وأرجو ألا تكون له مثل خاتمته.

ثم مُدت مائدة الطعام، وقام الغلمان بالخدمة، وقدمت الألوان الشهية، وأنواع التوابل الهندية، فأكل القوم وشربوا، وهم يتنادرون ويتسامرون، ثم استراح الضيوف بعد الأكل قليلًا، حتى إذا قاربت الشمس المغيب، ودّعوا ربّ المثوى وانصرفوا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤