الفصل الحادي عشر

ترك شاور بعد هزيمته جيشه بالفرما، واتجه مع أخيه نجم، وابنه شجاع، وبعض خاصته إلى دمشق، فدخلها في أصيل يوم من أيام الصيف، ورأى جنود ابن زنكي منتشرين بخيامهم وأثقالهم وخيولهم في أرباضها، ولهم ضجيج وعجيج وحركة. وما زال يسأل عن خيمة العادل محمود نور الدين حتى بلغها، وكانت في غوطة دمشق بين أشجار الفاكهة والرياحين، فنزل شاور ومن معه بخيمة الحاشية، وطلب من حاجب نور الدين أن يعلمه بقدومه، فجاء الإذن بعد ساعة.

ودخل شاور فرأى نور الدين جالسًا القرفصاء في صدر الخيمة، وفي يده سبحة تتحرك حبّاتها بحركات لسانه، وقد جلس إلى يمينه العلماء والفقهاء والمحدثون، وإلى يساره القواد وكبار الجند، وكان نور الدين طويل القامة، أسمر اللون، وسيم الطلعة، فأدى شاور التحية فحياه العادل ورحب بمقدمه، وأخذ العلماء يتناقشون في تفسير آيات في الجهاد، ونور الدين يشاركهم بعض المشاركة، حتى عجب شاور وكاد يظن أنه في صومعة زاهد لا في عرين قائد، حتى إذا انفض المجلس؛ التفت نور الدين إلى شاور وقال: كيف حال مصر؟؟

– مصر يا مولاي في اضطراب مستمر، وأخشى أن ينتهز الإفرنج فرصة ضعفها فينقضوا عليها من الساحل، فإن ضرغامًا اللخمي — وهو نصير الفاطميين وعدو أهل السنة — غدر بي وأخذني على غرة، ففزعت إليك، وقد علمت من أيام وأنا في الطريق أنه يراسل الإفرنج ليمدوه بجيش يستعين به على محاربة كل من تحدثه نفسه بإنقاذ مصر.

– لا حول ولا قوة إلا بالله!! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. صدق الله العظيم.

– ثم إن الخليفة العاضد ضعيف الرأي، مهزول العزيمة، وعمَّته سيدة القصور تسيطر على الدولة، وهي حقود مستأثرة، تنظر إلى انتصارات مولاي هنا على الإفرنج بعين البغض والضغينة، وكأن الإفرنج أبناء عمومتها، أما العقيدة الفاطمية التي أكرهت عليها العامة إكراهًا، فسيدي أعلم بدخائلها وبدعها، وإذا كان مولاي العادل قد وقف حياته على الجهاد في سبيل الله، ومحاربة أهل الزَّيغ، فمصر تدعوه لإنقاذها من الظلم والإلحاد، ومصر تدعوه لحمايتها من غزو الإفرنج، الذي أصبح منها قاب قوسين.

– ولكني في شغل شاغل بمحاربة الإفرنج، ولو أرسلت معك جيشًا إلى مصر لوثب علينا الإفرنج هنا، واستعادوا ما استنقذناه من أيديهم من البلاد. لا يا ابن مجير … كل إنسان أولى بمداواة جراحه.

– إني لا أطلب إلا جيشًا صغير العدد، ينضم إلى جيشي المرابط في مدينة الفرما.

– ولا هذا يا ابن مجير، فقد جئت في وقت توالت فيه الأمداد على أصحاب الصَّليب وقويت شوكتهم.

– ما كنت أحسب قبلك يا سيدي أن إنسانًا يرفض ملك مصر!! لأكن معك صريحًا … أتحب أن أكون نائبًا عنك في حكم مصر، وأن أبعث إليك بخراجها في كل سنة، وأن يخطب الخطباء باسمك فوق كل منبر؟؟

فحملق نور الدين في وجه شاور، ولكنه رأى وجهًا سمحًا متواضعًا، ليس فيه أثر للكذب ولا للخديعة، فأطرق وقال: يكون خير إن شاء الله!! وفي الصباح دعا نور الدين أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين، وأخبرهما بما كان من أمر شاور، وأمرهما بتجهيز جيش للذهاب إلى مصر بعد أربعة أيام، وقد حاول صلاح الدين أن يدعو نور الدين إلى التريث في الأمر؛ حتى يظهر صدق شاور، أو إلى أن يطلب من شاور ودائع ثمينة لتكون ضمانًا لصدقه، ولكن هيبة ابن زنكي والرهبة منه حبستا لسانه فلم يستطع تكلمًا.

سافر الجيش الشامي مع شاور وعلى رأسه أسد الدين، وصلاح الدين، والتقى عند الفرما بجيش مصر، ووثب الجيشان على القاهرة، وجمع ضرغام جموعه ووثب في مقدمة جيشه على جيش شاور، فطالت الحرب بينهما، ودمر كل منهما كثيرًا من مباني المدينة، وأحرق كثيرًا من قصورها، وظفر شاور في النهاية بضرغام فقتله، وشتت جموعه، واستولى على القاهرة.

وقبل أن يدخلها اختلى بأسد الدين وصلاح الدين، وقال لهما: إن من الخير لكما ألا تدخلا القاهرة الآن؛ لأن القاهريين إذا رأوا جنود الشام ظنوهم غزاة فاتحين، فجمعوا لهم وقتلوهم، وليس لكم من كثرة العدد ما يمكنكم من المقاومة، والرأي عندي أن تعودا إلى دمشق، وأن تحملا إلى مولاي الملك العادل كريم تحياتي وجزيل شكري. فقال صلاح الدين: إن هذا يخالف ما اتفقت مع الملك العادل عليه.

– هو نفس ما اتفقت عليه معه يا قائدي الصغير … لم تتعدّ المسألة أن تكون مجاملة بين أميرين … لقد استنجدت بالعادل ليساعدني على إطفاء ثورة في مصر فساعدني، وهذا يحصل بين الملوك كل يوم. فقال أسد الدين: ألم تتعهد بأن يكون له ملك مصر، وأن تكون نائبه عليها؟؟ فابتسم شاور ابتسامة دهاء وسخرية وقال: ملك مصر الذي باهى به فرعون ملوك الدنيا، يمنح في مقابل خمسة آلاف جندي يسيرون من دمشق إلى باب الفتوح؟! لا يا سيدي … إن مصر أغلى من ذلك جدًّا … لم يحصل اتفاق على شيء من هذا، وحينئذ ظهر الغضب على وجه صلاح الدين وقال: إننا سنعسكر في «بلبيس»، وسننتظر أوامر مولانا نور الدين، وربما التقينا قريبًا يا شاور، ولذلك نرجئ تحية الوداع إلى تحية القدوم!!

دخل شاور القاهرة فاتحًا منصورًا، ولكن القاهرة لم تستقبله استقبال الفاتح المنصور، وللقاهريين غريزة صادقة في الحكم على الرجال، ومقابلة الحوادث.

وأرسلت سيدة القصور تحياتها للقائد العظيم، فمثل شاور بين يديها، وشكت إليه ما لاقت مصر أيام ضرغام من الظلم والعسف والاضطراب، وخلع عليه الخليفة العاضد خلعة النصر، وقلده سيفًا أثريًّا كان لجوهر الصقلي فاتح مصر، ثم ذهب إلى داره فقابلته «باسمة»، وابنه شجاع، واختليا به، فقال شجاع: أين أسد الدين، وصلاح الدين؟ فقال شاور: أرسلت بهما إلى الجحيم.

– أين هما حقًّا؟؟

– رجعا إلى الشام، فقالت باسمة: يا للعار!! أيطرد العربي أضيافه عند باب داره؟! فظهر الغضب على وجه شاور، وقال: نعم يا حاتمتي الرعناء، يفعل العربي ذلك إذا رأى أن أضيافه سينقلبون لصوصًا. وقال شجاع: هذا خطأ يا أبي، قد كان يجب، وقد تعجلت في تعهدك لنور الدين أن تكرم قواده، تزودهم بالهدايا والأموال، وتعدهم وتمنيهم، ثم تتخلص من عهودك في لطف لا يحس. أما الآن، فأخشى أن يعود إليك القائدان بجيوش لا قبل لك بها، فلا نكون قد ضعنا وحدنا، بل ضيعنا مصر معنا. فقال شاور: إن هذه أوهام يا فتى … فإن الإفرنج بالشام لم يتركوا لنور الدين لحظة يفكر فيها في فتح مصر.

وتركهم شاور غاضبًا، ودخل حجرة، فرأى أخاه نجمًا، فنفض إليه الأمر كله. فقال له نجم — وكان ألأم من شاور، وأشد خبثًا: عملت كل ما يجب أن يعمل، ولو أن هؤلاء الجنود وضعوا أقدامهم في القاهرة ما استطاعت قوة أن تخرجهم منها.

– ولكن ماذا نعمل يا نجم إذا بعث القائدان رسولًا من بلبيس إلى نور الدين، وبالغا في الشكوى مني، ومما قد يسميانه خيانتي، فأرسل إليهما جيشًا جرارًا لا نستطيع له دفعًا؟؟

– هذا صحيح يا شاور … وإن له عندي دواء، ولكنه قد يكون مرًّا!!

– ما هو؟؟

– أن نرسل في الخفاء رسولًا إلى القائد مرّي ملك الإفرنج بساحل الشام، لنطلب منه أن يزحف بجيوشه على مصر لطرد الغُزّ من بلبيس، وأن نغريه بقدر كبير من المال … هذا هو الدواء … وهو مرّ حتمًا، ولكن ألا تظنه قاتلًا؟؟

– لا … إن الإفرنج نستطيع أن نخدعهم، أما هؤلاء الغزُّ: فلا … أين ثعلبة الشماخ؟؟ فدخل فتى قصير القامة، متين العضل تدل ملامحه على الشراسة والقسوة.

فكتب شاور رسالة طويلة وسلمها إليه، وقال: تسير الليلة مبالغًا في الاختفاء، ولن تستريح حتى تصل إلى عسقلان، فتقدم هذه الرسالة إلى الملك مري، ثم نزع خاتمه وقال: وهذا علامة صدقك إن شك الملك في رسالتك … خذ أسرع خيلي، وعد إلي بعد عشرة أيام.

وذهب الرسول، وقدم الإفرنج إلى مصر في جيش لُهام، ووثبوا على أسد الدين ببلبيس فصالحهم بمال، وعاد أدراجه إلى دمشق، ولكنهم لم يقفوا عند بلبيس، بل أخذوا طريقهم إلى القاهرة، ودخلها قائدهم بقسم من جيشه، فأكرم شاور وفادتهم، وأعد لهم منازل وأسواقًا، وقرر لهم مائة ألف دينار في السنة، فأقاموا إقامة المحتل، وطغوا وظلموا، وعاثوا في القاهرة فسادًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤