الفصل الثاني عشر

مضت أربع سنوات أو تزيد، والقاهرة في هم ناصب، وكوارث متتابعة، تقاسي من ظلم شاور وعسفه، وولعه بسفك الدماء، واغتصاب الأموال، وتقاسي من تحكم الإفرنج، واستبدادهم بالناس، وتسلطهم عليهم بضروب من الأذى والإرهاق.

وكانت «باسمة» حيرى مضطربة النفس، فقد كانت تريد زوال الدولة الفاطمية، ولكنها لم ترد أن تزول بمثل هذا الحكم الأرعن الأحمق، الذي وضع فيه السيف والسوط والنهب، موضع العدل والحق.

وكان شاور إذا اختلى بنفسه، تيقظ في نفسه رسيس من ضمير مهزول، فهمس في أذنه: ماذا فعلت يا ابن مجير؟! … ما هذه الدماء التي لا تزال تقطر من يديك؟! … لقد تثلّم سيفك من قطع الرؤوس، وخدرت يدك من انتهاب الأموال!! … طلبت الحكم بالقوة والخديعة فلم تهنأ به، وهزئت بالغزّ فوقعت في يد الإفرنج الذين دخلوا القاهرة ضيوفًا مناصرين، فأقاموا بها حكامًا غاصبين!

وكانت سيدة القصور وعمارة في ذهول بشبه الحمّى، لما أصاب مصر والدولة الفاطمية من نكبات على يد شاور الشرير المعتوه، كانا يريدان حماية الفاطمية من تسلط الوزراء، وكانا يريدان جمع أمورها بيد الخليفة دون غيره، فكانت المصيبة مضاعفة؛ لأن شاور بن مجير لم يغتصب سلطة الخليفة وحده، بل قاسمه الإفرنج فيها؛ فوقع الشعب المسكين ين براثن قوتين من قوى الشر، تسوقانه إلى الدمار والفناء.

واحسرتاه!! … القاهرة المضيئة، الفرحة المرحة، التي ما كانت تنتهي لها أعياد أو مواسم تصبح مظلمة، حزينة، عابسة، مرتعدة، تخشى في الصباح ما يجئ به المساء، وتترقب مذعورة في المساء ما يجئ به الصباح، القاهرة المعزية التي كانت حاضرة الإسلام، ومعقل المدنية، وأم القرى، وسيدة المدائن، والتي كانت جيوشها لا يفارق النصر راياتها تصير نهبًا مقسما بين الظلم والطغيان، ويصبح أهلها أذل من عَير ووتد!!

فجع القاهريون لهذه النوازل، وتكونت جماعات سياسية خفية، واجتمعت إحدى هذه الجماعات بمنزل عمارة اليمني، وكان من المجتمعين: المهذب الأسواني، ومحمد بن قادوس، وداعي الدعاة ابن عبد القوي، وغيرهم. قال داعي الدعاة: أرأيتم كيف آلت بنا الحال، وكيف أصبحت القاهرة مجزرًا عامًّا تذبح به الناس مرة لشهوات شاور، وأخرى لنزوات الإفرنج؟! فقال عمارة: والمصيبة يا سيدي أن الخليفة أصبح مغلوبًا على أمره، يرى مصر وهي ميراث آبائه الأمجاد تعتصر وتهتضم، ويرى الرعية تسام صنوف العذاب، ثم لا يستطيع أن يعمل شيئًا، وسيدة القصور تنظر بحسرات إلى آمالها الكبار، وقد ذهبت مع الهواء، فلا تستطيع إلا أن تردد الزفرات. وقال ثالث: مررت بالأمس بسوق البزازين، فرأيت الإفرنج وقد انتشروا فيها، وهم سكارى يغتصبون ما في الدكاكين، ويؤذون كل من مر بالطريق، والناس في كرب وذعر، ثم إن النساء في بيوتهن يرتجفن ليل نهار؛ خوفًا من هجمات الإفرنج عليهن. فقال داعي الدعاة: وقد سمعت أن مري ملك الإفرنج بساحل الشام وصل منذ أيام إلى أرض مصر بجيش عظيم؛ به أجناس مختلفة من الإفرنج، وأنه نزل على بلبيس وحاصرها، وأخذها عنوة، وسبى أهلها، وهو الآن قاصد إلى القاهرة؛ لأنه لم يكتف ببقاء بعض جنوده بها، بل طمع في امتلاك ديار مصر كلها.

فقال المهذب: إن الخبر وصل إلى سيدي متأخرًا. فإن جيش مري نزل في هذا الصباح ببركة الحبش، بالقرب من الفسطاط، ولا يخفى على سيدك أن بالفسطاط جميع مخازن الحبوب والغلات التي تمون القاهرة، وأن بها جميع ذخائر الحرب، فإذا استولى مري عليها سقطت القاهرة في ساعات.

وفي هذه اللحظة دخل الشيخ عبد الحكم الغفاري وهو يلهث من التعب، وقد تصبَّب وجهه عرقًا، وأخذ يصيح: ضعنا وضاعت مصر!! … إنها كارثة الكوارث، وفادحة الفوادح! هذا شاور المجوسي، أرسل بعض جنوده ينادون بالفسطاط: بأن يرحل عنها جميع سكانها، وألا يقيم فيها رجل ولا امرأة ولا طفل؛ لأنه عزم على إحراق المدينة، وقد أرسل إليها بالأمس عشرين ألف قارورة من النفط، وعشرة آلاف من مشاعل النار؛ لتنثر في جميع أرجائها. وقد رأيت وأنا قادم إليكم ما يفتِّت الأكباد: رأيت سكان الفُسطاط وقد هرعوا إلى القاهرة، بنسائهم وأطفالهم ومرضاهم، معولين صائحين، كأنهم في يوم الحشر الأكبر، بعد أن تركوا دورهم، ومتاجرهم، وأمتعتهم، وذخائرهم ليحرقها شاور الطاغية بالنار، يا للمصيبة!! ماذا جرى على مصر؟؟ وهل كان ذلك مكتوبًا لها في لوح القدر؟! وإذا احترقت الفسطاط، واستشرت النار، وسرت إلى القاهرة فالتهمتها في طرفة عين، أتجلسون هنا صامتين حتى تأخذكم الصيحة؟! أليس في مصر رجال؟؟ أليس فيها عقول؟ أليس فيها من يرى رأيًا في هذه الداهية الدهياء؟! ليس لنا ملجأ إلا القصر، وإلا الخليفة، وإلا سيدة القصور، فإذا خابت آمالنا في هؤلاء، ذهبنا إلى دورنا، وأغلقنا أبوابها لنكون حطبًا للنيران.

فدهش القوم للخبر المفجع، وكاد يعصف الحزن بقلوبهم، وصاح داعي الدعاة: هلم إلى القصر، دخلوا القصر في صمت وذهول، فرأوا ظلامًا مخيمًا، ورأوا الأستاذين ذاهلين واجمين، يذهبون ويجيئون في اضطراب وحيرة، فتوجهوا إلى غرفة سيدة القصور، فرأوها جالسة وعلى وجهها آثار الغم المكبوت، فأحسنت استقبالهم، ونقلوا إليها ما عندهم من أخبار السوء، فابتسمت ابتسامة اليائس وقالت: علمت كل هذا في الصباح فلم أغادر غرفتي، وبقيت كل هذه المدة أفكر فيما يجب أن يعمل، وقد وصلت في النهاية إلى رأي قد يكون فيه استجارة من الرمضاء بالنار، واستشفاء من الداء بالداء، ولكن تنوع البلاء خير من استمراره، والمصيبة المشكوك فيها خير من المصيبة المحققة. فقال عمارة: على أي شيء عولت يا مولاتي؟؟

– عولت على الاستنجاد بنور الدين بن زنكي. فقال داعي الدعاة: هو خير من شاور، ومن الإفرنج على أي حال، فقال عمارة: هل نضمن بقاء المذهب الفاطمي إذا دخل مصر هذا السني المتعصب؟؟ فقال داعي الدعاة: إنه سيأتي إلى مصر ليحارب الإفرنج لا ليفتح مصر. وقالت سيدة القصور: أرجو ومهما يكن من شيء فبعض الشر أهون من بعض … أتوافقون على الاستنصار بنور الدين.

– نوافق …

دعت سيدة القصور خادمتها «تغريد» وأمرتها بإحضار مقص، فلما أحضرته قصت شعرها، وأمرت أن تقص شعور جميع نساء القصر من شريفات وجوار، وأن ترسل هذه الشعور مع رسالة استغاثة واستصراخ لنور الدين، فكتب عمارة رسالة موجزة مبكية قوية التأثير، على لسان سيدة القصور، يستثير فيها شهامة نور الدين ورجولته وإسلامه، ويدعوه إلى إنقاذ مصر وإنقاذ المسلمين، ثم سلمت سيدة القصور الشعور والرسالة إلى أحد رجال البريد؛ ليستبق الريح في الوصول إلى نور الدين.

ووقفت سيدة القصور أمام نافذتها تنظر إلى النيران مصعوقة باكية، وهي تصعِّد زفرات الغيظ، والحقد، والألم … وتقول: أيتها النيران ماذا تأكلين؟! إنك تأكلين فؤادي وتتأججين في صدري!! أي مسجد تهدمين محرابه، وتحطمين جدرانه؟! وأية دار كان يضيئها الأنس، ويشع في أنحائها السرور، أصبحت بك اليوم ركامًا؟! ويحي لما أصاب قومي وأهلي!! كانوا بالأمس في منازل تسامق السماء وتتحدى الجوزاء، فأصبحوا الليلة ولا مأوى لهم، ولا وَزَرَ. ليت شعري أين الليلة بناتهم المحجبات، وعجائزهم الضعيفات؟؟ وأين ما كان لهم من سعادة وعز ونعيم؟ أيتها النيران، التهميني قبل أن تلتهمي رعيتي، وخذيني قبل أن تأخذي ملكي!! أنا فداء لمصر، وفداء لأهلها البررة الأطهار … ما أشدك أيتها النيران وما أقساك!! كأنك من حقد شاور اشتعلت، ومن لؤمه تأججت … أما تكفي لإطفائك دموعي وهن غزار؟! لا … لا … لن أيأس في حياتي … إن آمالي وآمال مصر تلتهب فيك، وهي ذهب نضار، وستزيدها النار صفاء وخلوصًا من الأوضار!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤