الفصل الخامس

وصل الحراني إلى القاهرة بعد أن أجهده السفر، ونال منه بعد الشقة، إلى ما كان ينتابه من أحزان على ابنه، وأحقاد على عمارة وأهله، وهو بين هؤلاء وأولئك مطرق الرأس دامع العين، يدركه الضعف فيرجع ويحوقل، ويثور به الغضب فيهز قبضته في عنف وقوة: لا … لا … لن أبكي بكاء النساء، ولن أستكين استكانة الإماء، وهذه اليد التي لم تخلق لهز السيوف، ولا للعب بالرماح، أعاضني الله بها عقلًا يهزم الجحافل، ويدك المعاقل. ولأمر ما يقول المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

ولأمر ما يقول:

لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان

إن المستعين بالقوة يحارب بسلاح مكشوف، والمستعين بالعقل يحارب بسلاح خفي مستور، وصاحب القوة قد يزل فيهزم، وصاحب الحيلة إن أخطأ استطاع أن يتدارك خطأه بحيلة أخرى، وصاحب القوة يتقيه عدوه فلا ينال منه منالًا، أما صاحب الحيلة فهو صديق عدوه، وموضع أمانته ومكان ثقته.

إن الله خلق الإنسان، ومنحه القدرة على التشكل، فهو يستطيع أن يكون أسدًا، ويستطيع أن يكون ثعلبًا، ويستطيع أن يكون ثعبانًا، ويستطيع أن يكون ذبابة تطن وتطير، فلم لا نتشكل؟ ولم لا نقابل كل حالة بحيوان مما في أنفسنا؟ إن البُلْه هم الذين لا يستطيعون أن يستروا غضبهم بالضحك، وحزنهم بالسرور، وكراهتهم بالبشاشة والتسليم، والعاقل هو الذي يستطيع أن يقف أمام المرآة، بعد أن يقطع الحبل بين وجهه وقلبه، ثم يصور ملامحه كما يشاء ويهوى.

تجول هذه الخواطر بصدر الحراني، فينتعش ويعود إليه نشاطه، ويثوب إليه أمله في الحياة.

أنزل أهله بدار بحي الروم بالقرب من الباب المحروق، وأول شيء أوحى إليه به دهاؤه أن يغير اسمه، فسمَّى نفسه زين الدين بن نجا، وأن يظهر الزهد والقناعة والتبتل، وأن يدعي أنه من الطائف بالحجاز، ثم رأى أن خير وسيلة تقربه إلى قلوب العامة والخاصة أن يُظهر غيرته على المذهب الفاطمي، وشدة التمسك به، وإذاعة محاسنه وفضائله، فتنقل في المساجد والجوامع يخطب في فضل المذهب، ومناقب آل النبي، وكان فصيح اللسان، قوي الحجة، حاضر البديهة، قصاصًا بارعًا، فكه الحديث جذابًا؛ فالتف عليه الناس، وجاء بعض رجال القصر ليستمعوا له بعد أن طارت إليهم شهرته، وكان أحفل أهل القصر به وأكثرهم به ولوعًا: إبراهيم بن دخان رئيس ديوان الرواتب بالدولة الفاطمية، وكان ابن دخان في نحو الأربعين، معتدل الطول، نحيف الجسم، أسمر اللون، له عينان شديد سوادهما، بيسراهما حول خفيف لم يذهب بما لها من تأثير نافذ وقوة مسيطرة. وكان أنفه كأنوف أكثر المصريين، كاد يكون أفطس، لولا أن تداركه ارتفاع وبعض استواء في قصبته، وكان بشفته السفلي بعض الغلظ دفعها إلى التدلي قليلًا، وكأنه أحس هذا النقص، فهو لا يفتأ يجمع شفتيه كلما خطر له هذا الخاطر. وكان وجهه في جملته يدل على الشره والشهوانية، والختل والأثرة، وكان ابن دخان عارفًا بتاريخ مصر واسع الاطلاع فيه، وكان يحب مصر، أو يحب نفسه، ويحب المذهب الفاطمي، أو يحب نفسه، فكلما استطاعت مصر أن تدر عليه الأموال، وتهيئ له عيشة البذخ والنعيم أحبها، وكلما استطاع المذهب الفاطمي أن يمنحه الجاه والنفوذ أحبه ونافح دونه. دعا ابن دخان مرة الحراني إلى داره أو زين الدين بن نجا — كما اختار أن يسمي نفسه — وبعد أن نالا من طعام العشاء جلسا في روشن يطل على خليج أمير المؤمنين، وتنقلا في ضروب من الحديث، فقال ابن دخان: كيف رأيت القاهرة يا سيدي الشيخ؟

– إنها اليوم زينة العواصم، وموئل الدين، وعش العلماء، وقبلة الشرق.

– إن الفاطمية يا سيدي مظهر تلك العظمة، ومبعث ذلك الجمال، وإن مصر لم تر منذ عهد ابن العاص عهدًا كعهد الفاطميين، فهو عهد رخاء وعدل، وطمأنينة وثروة، وابتهاج وسرور، أتعرف أن خراج الدولة لا يقل عن ألفي ألف ومائتي ألف دينار؟! وأن ما ينفق على القصر ورجال الدولة، وفي الهبات وإظهار عظمة الملك، يزيد على ثمانمائة ألف دينار؟!

– إن مصر يا سيدي هي الجنة التي وعد المتقون، أكلها دائم وظلها، وقد يدهش المرء لما يرى بها من كثرة العلماء والطلاب، وكثرة ما يؤلف من الكتب في العلوم على شتى أنواعها.

– لقد كثر العلماء الوافدون على مصر، حتى تضاعف ما تنفقه الدولة عليهم، ولو كانوا جميعًا مثلك في الزهد والتقشف، والبعد عن مطامع الدنيا، ما أخذت عليهم مأخذًا، ولكن أكثرهم يفد للاستجداء، وانتهاب الغنائم والرواتب!

لم أدعك الليلة للتحدث في شأن الدولة، ولكني دعوتك للائتناس بك، والتمتع بمجالستك، ولأخبرك أن المشرف على خزائن الكتب بالقصر الحسين بن زيد قد انتقل إلى جوار ربه منذ أيام، وأني قد رأيتك خير من يصلح لهذا المنصب؛ لما عرف بين الناس من علمك، وفضلك، وتعصبك للفاطمية.

– إنني أزهد الناس يا سيدي في هذه المناصب، وإني أكره أن يكون رزقي محدودًا معينًا، فأفقد فضيلة التوكل على الله توكلًا مطلقًا خاليًا من الشوائب، ولا أحب من رزق ربي إلا ما كان مجهولًا مغيبًا.

– إن قاضي القضاة، وداعي الدعاة، وجميع زهاد الفاطمية لهم رواتب محدودة معينة، فاقبل هذا الراتب يا مولانا، وتصدق به إن شئت.

– هذا حل معقول.

– لقد أخبرت مؤتمن الخلافة بك، واقترحت أن يسند إليك هذا المنصب، فقبل مسرورًا، ورأى أن يكون الراتب ثلاثين دينارًا.

– أرجو أن نوفق جميعًا إلى الخير.

ثم نهض زين الدين وقال: سبحان الله وبحمده!! اللهم بجاه فاطمة وابنيها الشهيدين، وخلفائك الطاهرين من عترتها أن تملأ هذا المكان أمنًا وإيمانًا ونورًا وبركة.

ثم ودعه وانصرف، وفي الصباح ذهب إلى القصر، وعرّفه ابن دخان بكبار الأساتذة والقواد، وبدأ عمله الجديد.

وكانت خزائن الكتب تشغل بهوًا واسعًا وحجرًا كثيرة، قد قسمت رفوفها أقسامًا: لكل علم قسم خاص به، وكانت تشتمل على أكثر من مائتي ألف كتاب في الآداب والعلوم، كتبها بالذهب كبار الخطاطين كابن مقلة، وابن البواب، وبها أكثر من ألف نسخة من تاريخ الطبري، منها نسخة بخط الطبري نفسه، وأكثر من مائة نسخة من الجمهرة لابن دريد، وأكثر من ثلاثين نسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد، إحداهن بخط الخليل، وجملة القول وقصاراه: أنها كانت أعجوبة الدنيا، بزّت جميع دور الكتب في بغداد والأندلس.

بقي الحراني في هذا المنصب الجديد وادعًا هانئًا، لا يكدر عليه عيشه إلا فجيعته في ابنه، وقصر يده عن أن تنال عمارة أو أحدًا من أهله بانتقام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤