الفصل السادس

غادر عمارة وأهله مكة، ومعه كتابا الأمير: قاسم بن هاشم، وسارت به النجائب تشق أديم الصحراء، كأنها ساريات الأحلام في الليل البهيم، وقد بدت الكثبان وسني يوقظها وخد الإبل، وأراجيز الحُداة، فتصحو قليلًا ثم تُغفِي.

هدوء وسكون، وصمت، وجلال ورهبة.

هذه هي الصحراء … من صخورها خلقت أخلاق العرب، ومن أطيافها تلقوا وحي شعرهم، ومن مداها الفسيح المترامي استمدوا خيالهم، وفي جدبها نبت الإباء العربي، والاعتزاز بالنفس، والكرم، والحمية، والصبر على المكاره.

نظر عمارة أمامه — وهو فوق قتب بغيره — فرأى بحرًا مائجًا من الكثبان والرمال، ورأى فضاءً لا تبلغ العين غايته، ورأى نجوم ليل الصحراء وقد زدن لألاء والتماعًا وقربًا، كأنها اللؤلؤ اللمَّاح علق بخيوط القدرة بين الأرض والسماء؛ فتنهد وقال: آه أيتها الصحراء!! أين أبطالك الذين ملأوا الدنيا عمرانًا وعلمًا، وشرائع وفنونًا؟! أين أبطالك الذين كانوا ملائكة العروش، وشياطين الهيجاء!!

علّميني يا صحراء تلك الدروس التي تلقاها خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح!! بُوحِي أيتها الصحراء لي بسرك الدفين … فإني عليه جدّ أمين!!

إني يا صحراء أودّ أن أكون لك ابنًا، فأوصيني بما تشائين … لي آمال أوسع من مداك، ومطالب صعبة المرتقى كجبالك، فهل أنا بالغ آمالي، فائز بمطالبي؟؟ قولي يا صحراء ماذا يجب أن أفعل!! واهمسي في أذني كما همست في آذان أبنائك الأوَّلين …

وهكذا ظل عمارة يحدِّث نفسه، وظلت الإبل تطوي الفلاة، حتى بلغت جدَّة، فنزل الركب، وتقدم من عمارة نائب الأمير قاسم — وقد سبق إليه خبر قدومه — فأنزله خير منزل، وغمره بصنوف من الحفاوة والإكرام، ثم أعدَّ له سفينة تنقله إلى مصر فأبحر بها في بحر «القلزم»، وكان الجو صحوًا، والريح رُخاءً، فوصل بعد أيام إلى مدينة القلزم «السويس»، ومن ثَمَّ استأجر إبلًا تحمله، وتحمل أهله ومتاعه إلى القاهرة، وكانت القاهرة في هذا العهد تمتدُّ من ناحية الشمال إلى باب النصر وباب الفتوح، ومن ناحية الجنوب إلى باب زويلة الجديد، ومن الشرق إلى باب البرقية، والباب المحروق، ومن الغرب إلى خليج أمير المؤمنين، وبهذه الجهة باب سعادة، وباب الفرج، وباب القنطرة.

وكانت مزدحمة السكان، واسعة العمران، بها كثير من الجوامع، والربُط، والدور العظيمة، والمساكن الجليلة، والأسواق المملوءة بأنواع التجارات، والخانات، والفنادق المكتظة بالمسافرين.

وصل عمارة إلى القاهرة في ظهر يوم من ربيع الأول، سنة خمسين وخمسمائة، وهو شاب في الثلاثين، وسيم الطلعة، مشرق الديباجة، رائع القسمات، معتدل الطول، شديد الأسر، قوي العضل، فسار بأهله من الريدانية إلى باب الفتوح، ونزل في دار تشرف على جامع الحاكم بحارة الريحانية، حتى إذا استراح من لغوب السفر أيامًا بعث برقعة إلى الوزير ابن رزيك، يطلب فيها شرف المثول أمامه، وأمام الخليفة الفائز، وكتب في آخرها:

دعوا كل برق شِمتُمُ غير بارق
يلوك على الفسطاط صادق بشره
وزوروا المقام الصالحي فكل من
على الأرض يُنسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى
فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها
فكل امرئ يُرجى على قدر قدره

فأرسل إليه ابن رزيك رسولًا يخبره بأن المقابلة يوم الاثنين بالقصر الكبير، فأعمل عمارة خياله، ودعا إليه شيطان شعره، وكتب قصيدة طويلة أعدها للإنشاد أمام الخليفة.

فلما جاء الموعد استأجر بغلة أوصلته إلى القصر الكبير، فرأى من عظمته، وضخامة بنائه، وإبداع نقوشه، ما أدهشة وأطار لبه، وقصور الفاطميين وما كان لها من سموق بنيان، وبراعة نقوش، وجمال أثاث، وحسن تنسيق — يكل القلم دون وصفها، ويعجز البيان أمام سناها وسنائها — فليس في طوق الخيال أن يلم بما كانت توحي به من عظمة ملك، وقوة سلطان، وضخامة ثروة، وسطوة دولة، وإسراف في الترف، وإغراق في النعيم.

لا يستطيع القلم أن ينقش، ولا البيان أن يرسم، ولا الخيال أن يصور، فخير لنا أن نلقي القلم، ونسكت البيان، ونحبس الخيال، ونترك للقارئ أن يتخيل ما يشاء ويرسم من صور العزّ والملك والسلطان ما يريد.

وصل عمارة إلى القصر الكبير، فاستقبله الأستاذون المحنكون، وعلى رأسهم مؤتمن الخلافة، يتسلمه أستاذ ليوصله إلى آخر حتى انتهى إلى قاعة الذهب، وكأنها بنيت من الذهب حقًّا؛ لكثرة النقوش الذهبية التي تملأ حيطانها وسقفها، وهي قاعة العرش التي يستقبل فيها الخليفة رجال دولته في أيام المحافل والأعياد والمواسم.

دخل عمارة خاشعًا مطرقًا، وكلما حاول أن يرفع من طرفه قليلًا رأى مهابة وجلالة، وملكًا يبهر العيون، ويهول النفوس. رأى الخليفة الفائز على العرش في أثواب كلها ذهب وديباج، رآه صغيرًا لا يتجاوز السادسة، نحيل الجسم، مصفر الوجه، له عينان واسعتان كعيني النمر كلهما بريق والتماع، ورأى الأستاذين المحنكين حوله في رهبة وخضوع، كأنهم يحرسون سرًّا سماويًّا مقدسًا، ورأى وزيره الصالح بن زريك واقفًا إلى يمينه في خشية وقنوت، كأنه في معبد صلاة وتبتل، وإلى يساره داعي الدعاة، وقاضي القضاة، والأمراء، وكبار الرؤساء والقواد، وفيهم الأوحد بن تميم، وشاور بن مجير، وضرغام اللخمي، ومجد الإسلام بن صالح، ونقباء المعلمين.

أما كبار الكتاب، ورجال القصر فجلسوا خلف هؤلاء، وكان بينهم: ابن الخلال صاحب ديوان الإنشاء، والجليس بن الحباب، والمهذب أبو محمد الأسواني، وزين الدين بن نجا، وإبرهيم بن دخان، رئيس ديوان الرواتب.

وكان الصمت يملأ النفوس هيبة، فتقدم عمارة من الخليفة، فقبل يديه وقدميه، ثم تقهقر قليلًا، وأنشد بصوت نديّ، ونبرات ساحرة أخاذة:

الحمد للعيس بعد العز والهمم
حمدًا يقوم بما أولين من نعم
قربن قرب مزار العز من نظري
حتى رأيت إمام العصر من أمم
فهل درى البيت أني بعد فرقته
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
بين النقيضين: من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوار … مقدسة
تجلو البغيضين: من ظُلْم ومن ظُلَم
وللعلا ألسن تُثنى محامدها
على الحميدين: من فعل ومن شيم
أقسمت بالفائز المعصوم معتقدًا
فوز النجاة وأجر البر في القسم
لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما
وزيره الصالح الفراج للغمم
اللابس الفخر لم تنسج غلائله
إلا يد الصانعين: السيف والقلم
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

وكان الصالح شديد التأثر بالشعر الرائع، يؤديه صوت رائع، فاهتز طربًا، وأخذ يطلب الإعادة بين بيت وبيت، وملك حسن الشعر على الأستاذين، ورجال الدولة وأدبائها شعورهم، فلم يستطيعوا إلا أن يجهروا بالاستحسان والإطراء.

وكان بقاعة الذهب باب عليه ستار من الحرير المطرز بالذهب، كان ينفرج أحيانًا فتطل منه عينان ساحرتان، في وجه يمتزج فيه ماء النعيم بماء الفتنة والجمال، وما كاد عمارة يتم إنشاده، حتى أفيضت عليه الخلع المذهبة من أثواب الخلافة، ووصله الملك الصالح بخمسمائة دينار، وجاء بعض الأستاذين إليه يحمل صرة بها خمسمائة دينار، وهو يقول: إن سيدتي سيدة القصور، قد أعجبت بك وبشعرك أعظم الإعجاب، وهي تبعث إليك بصلتها هذه، وقد أمرت أن تخلَى لك «منظرة الغزالة» المشرفة على خليج أمير المؤمنين، ثم ابتسم وقال: على شرط أن تعيد أمامها إنشاد قصيدتك الرائعة؛ لأنها لم تستمتع خلف الستار بكل ما فيها من جمال.

ثم أقبل عليه المهذب أبو محمد الأسواني — وكان زعيم الشعراء بمصر، وسيد كتابها — فشد على يديه مهنئًا، وقال: أيها الشاعر اليمني، هل أطمع في أن أكون لك صديقًا، فإنني عندما رأيتك أحسست بحبِّي لك، وحينما سمعتك أحسست بإكباري لأدبك، لقد ألحَّ عليَّ مولاي الملك الصالح ألَّا تنقطع عنه، وألا تحرمه زيارتك، وأن تنثر عليه من حين إلى حين فرائد شعرك، فإنه كريم أريحيٌّ يهتز للمديح، ويجزل الثواب عليه، وقد أمر أن أن يخلع عليك لقب: شاعر القصر، وأن تمنح راتبًا كل شهر يقرب من رواتب كبار الدولة.

فما استطاع عمارة إلا أن يشدَّ على يدي صديقه الجديد، بحماسة وإخلاص صادق، ورجاه أن يبلغ عظيم ثنائه، وجميل شكره للملك الصالح على جزيل ما وهب، وكريم ما أعطى.

وخرج ابن دخان صاحب ديوان الرواتب، وزين الدين بن نجا، فمال ابن دخان على صاحبه، وقال: ما هذه الشعوذة التي شهدناها اليوم يا سيدي؟! شاعر مستجد متكسب بشعره … يلقي أبياتًا سمجة غثة، فينال من الجوائز والعطايا ما لم يستطع المؤرخون ادِّعاء مثله في عهد الرشيد؟! ماذا قال يا صاحبي بالله عليك …؟! ماذا قال …؟! «بين النقيضين: من عفو ومن نقم»؟! … «تحلو البغيضين: من ظلم ومن ظلَم»؟! … ما أسخف!! … وأنا أقول له: يا ابن الشقيين: من عاد ومن إرم!! … وسارق الهاربين: النوق والغنم. وكان زين الدين مربدَّ الوجه حزين النفس، بعد أن رأى عدوه الذي طالما تمنى له الغوائل، يصل إلى هذه المنزلة، ويحظى بذلك الإقبال، فتكلف الابتسام وقال: ما كنت أظنك شاعرًا أبا الفضائل، يجب أن تحمَد الرجل لا أن تذمه؛ لأنه أول من ألهمك الشعر.

– أحمده؟! أنا لا أطيق يا أخي هؤلاء الأفَّاقين الذين يردون مصر من كل صوب لامتصاص دمائها، واشتفاف لبنها، كأنها بقرة حلوب خلَّفها لهم أبوهم آدم، هذا يأتي ببيت من الشعر فنسميه سيِّد الشعراء، وهذا يجيء بحفنة من علم، فنصيح: إنه أعلم العلماء، وهذا متبتل ناسك قطع الفيافي والقفار إلى مصر، ليزور مشهد الحسين رضي الله عنه فنصبُّ عليه العطايا والنعم حتى ننسيه نسكه وتبتله … ما هذا يا ابن نجا؟! أليس في مصر شاعر يفوق هذا اليمني المحتال؟ أليس بمصر عالم يفوق هؤلاء الذين يسقطون علينا كل يوم من كل نواحي الأرض؟!

وغدًا يا سيدي غدًا، يجيء هذا الصعلوك ليطالب براتبه الذي رتبه له الملك الصالح في كل شهر … وما راتبه؟؟ مائة وخمسون دينارًا، أنت تكدح وتنصب، وتعمل نهارًا وليلًا في خزائن الكتب، ولم يزد راتبك على ثلاثين دينارًا، أنا لا أدري ماذا سيكون من شأن الخزانة إذا استمررنا في هذا الإسراف؟!

فابتلع الحراني ريقه من هول ما دهمه من قدوم عمارة والحفاوة به، وقال: هون عليك أبا الفضائل؛ إن مصر كثيرة الخيرات، واسعة الثروة، وإن من المحتوم عليها أن تكرم أبناء العربية، وأن تحسن لقاء الوافدين عليها، ثم إني لا أعرف سببًا لبغضك هذا الرجل، وهو وسيم الطلعة، خفيف الروح، وإن كان وجهه يدل على الخبث والدهاء واللؤم؟!

– لا أدري لم أبغضه يا ابن نجا؟! لقد سمج في عيني منذ رأيته، وأحسست ببغض له يملأ قلبي، وهذا وحي يا أخي، وإذا كان «لهوى النفوس سريرة لا تعلم» فإن لبغضها سريرة لا تعلم كذلك … لا أدري والله! ولكنني أشعر أنه يجب أن يزول هذا الرجل من طريقي، حتى لكأن غرائز النمر تتحرك في نفسي للوثوب عليه والتهامه.

– هذا ما أحسُّ بقليل منه، ولكن ما لنا وللرجل! دعْه إلى الأقدار … دعْه إلى الأقدار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤